القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون
ßÊÇÈ كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
الفصل الأول من القسم التحليلى : موقع مقدمة إبن خلدون فى تاريخ الحضارة العربية

في الخميس ٢١ - نوفمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 ( ق 2 ف1 )  المنهج القرآني للفكر الإسلامي

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

  الفصل الأول من القسم التحليلى : موقع مقدمة إبن خلدون فى تاريخ الحضارة العربية

 مدخل:

     مقدمة إبن خلدون قضية فكرية في حد ذاتها ، يمكن أن تثير الكثير من الرؤى والإقترابات الفكرية ، ولكننا آثرنا أن نتعامل معها على مستويين ، مستوى أفقي يحاول تحديد موقعها في تاريخ التطور الفكري للحضارة العربية الإسلامية . ثم مستوى رأسي يناقش أهم الموضوعات التي جاءت فيها . من خلال هذين المستويين ( الأفقي والرأسي ، الشكلي العام ، والموضوعي الخاص) نناقش تأثر إبن خلدون بعصره منهجيا وموضوعيا وما تبقى منه لعصرنا .

     وقد رأينا أهمية بحث الموقع الفكري للمقدمة في تاريخ التطور الفكري لحضارتنا وذلك لتوضيح حقيقة غائبة عن أكثرية المثقفين ، وهي أن عصر إبن خلدون هو عصر التقليد الفكري والجمود العقلي مقارنة بما سبقه من عصور ، ولأنه عصر متأخر زمنيا ( أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع من الهجرة ) ومتأخر فكريا وعقليا يعيش على تقليد الماضي دون ابتكار أو تجديد ، فإن تحديد هذا المناخ يستلزم العودة إلى الماضي ، وفي رصد وتقييم التاريخ الفكري للحضارة العربية الإسلامية قبل وأثناء عصر إبن خلدون ، لنرى موقع المقدمة في هذا السياق التاريخي ، وذلك على المستوى الأفقي ، ثم نتوقف معها بالنقد والنقاش على المستوى الرأسي والموضوعي.

                                              المنهج القرآني للفكر الإسلامي

أولا :

1 ــ     نقطة بالبداية لأي فكر إنساني تتمثل في المنهج الذي يقوم عليه ذلك الفكر ، فالمنهج هو الأساس الذي يقرر منذ البداية مدى صلاح ذلك الفكر ومدى استمراريته . وغالبا ما ينبثق المنهج الفكري لأي حضارة من عقيدة دينية ، فالإنسان حيوان متدين بغض النظر عن نوعية الدين الذي يدين به ، حقا كان أم باطلا توحيدا أو شركا، إيمانا أو إلحادا ، فالالحاد يتضمن بإله أيضا هو الهوى .

2 ـ     والمنهج الفكري للحضارة الإسلامية أتي به القرآن الكريم الذي جاء تبيانا لكل شئ وما فرط الله جل وعلا فيه من شئ ، والمنهج الفكري القرآني للحضارة الإسلامية انبثق من عقيدة الإسلام التي تقصر الإلوهية والتقديس على الله تعالى وحده فلا مجال لتقديس بشر أو حجر أو كوكب أو شجر ، فالله وحده هو الإله القيوم على كل شئ وما من شئ إلا هو آخذ بناصيته مسيطر عليه ، و(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) من مخلوقاته (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) و(لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) الأنعام103. أما باقي الخلق فهم عبيد مشيئته وقدرته وتحكمه كائنا من كانوا، ملائكة أم رسلا أم بشرا أم حيوانات أم جمادات .  فالإنفصال قائم بين وحدة الخالق المهيمن المسيطر الذي ليس كمثله شئ وبين وحدة المخلوقات التي صنعها الخالق ولايمكن أن تشبه الخالق بأي حال من الأحوال وللخالق عليها حق العبودية والخضوع والإستسلام طوعا أو كرها (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ ؟ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ..آل عمران83) فكل ما خلق الله أسلم وخضع له وسجد لعظمته ، سبح بحمده كل المخلوقات ، كل الأشياء من أحياء وجمادات لا خالق لها إلا الله ولايستحق التقديس والعبادة إلا هو تعالى ولا واسطة بين الخالق والمخلوق . ومن هذه العقيدة التوحيدية إنبثق المنهج القرآني للفكر والعلم والتربية ، وقد صاغ ذلك المنهج رب العزة تعالى وهو الأعلم بخلقه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ }الملك14.

3 ــ ويعتمد ذلك المنهج القرآني للفكر الإسلامي على أساس من الحكمة في خلق الإنسان والكون . فالله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض يطبق فيها منهج الله القائم على الحق والخير وعدم الفساد . ولأن الإنسان مخلوق ليكون خليفة في الأرض فإن الله تعالى سخر له كل ما في الأرض وما في السموات{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ...الجاثية13 }.  وسخر بمعنى ذلل وأخضع ، أي فكل ما في السماوات والأرض من جماد وحيوان ونبات وأشعة وطاقة سخره الله للإنسان كي ينتفع بها كيفما يشاء ({هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ.. الملك15} ومن هنا فإن البحث في الأشياء المادية التي يمكن أن تقع عليها حواس الإنسان رهين بسعى الإنسان وكفاحه كي يتمكن من الإستفادة مما سخره الله له على أتم وجه .  من هنا أيضا أمر الله تعالى الإنسان أن يسير في الأرض ويبحث فيها ليرى عظمة الخالق في خلقه . {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ،  قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } العنكبوت19، 20.

4 ــ  فالبحث العلمي في مخلوقات الله التي سخرها للإنسان فريضة إسلامية لها وسائل لها أهداف. فوسائلها السعي والسير والنظر بالعقل والعين واللمس والتحقق والتفكر ، ويستخدم الإنسان في سعيه كل حواسه من يد وعين وأذن وقدم وعقل{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ }يونس 101{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ..}فصلت53  {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ،وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ؟ }الذاريات 20،21  ) (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) ق )  

 والآيات السابقة التي دعت للبحث العلمي في الكون تحوى إعجازا علميا أثبته العصر الحديث بعد أن اتبع المنهج العلمي القرآني في البحث والتجربة والسعي والسير ..

 5 ــ    ويكفي أن الله تعالى جعل من صفات المتقين أولى الألباب والعقول لأنهم يذكرون الله ويتفكرون في خلقه ( آل عمران 190، 191) بينما جعل من صفات المشركين الإعراض عن آيات الله في الكون{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} يوسف105.

6 ــ     باختصار فالإسلام يدعو المسلمين إلى البحث العلمي التجريبي في الكون المادي الذي سخره الله تعالى للإنسان ، وغاية ذلك البحث التجريبي أن يصل الإنسان إلى عظمة الخالق تعالى وابداعه، وأنه يستحيل على من خلق وأبدع أن يكون له شريك أو معه ولي أو معين ، وحينئذ يزداد العالم خشية لله تعالى وخضوعا له . ويعزز ذلك أن القرآن الكريم دعا للعلم واستعمال العقل والنظر ، وتكررت فيه عبارات ( أفلا تعقلون ) ( أفلا تبصرون ) بل وارتبط فيه لفظ العلم بالتقوى والخشية (  {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ،وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. فاطر 27، 28 } أي أن التفكر والبحث العلمي في بديع الخلق من إنزال المطر واختلاف الشجر والبشر والحجر من صفات العالم الحقيقي المؤمن الذي يدعو له الإسلام ، يقول تعالى  {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }الزمر9

  ثانيا

1 ــ  ويلاحظ أن الحضارة الغربية الحديث إتفقت مع الإسلام في وسائل البحث العلمي التجريبي ، فهي تسعى في الكون وتسير في الأرض فتمكنت من اكتشاف آلاء الله في الكون – وكان المسلمون أحق بهذا الإكتشاف لو اتبعوا منهج القرآن الكريم ، ولكن تلك قضية أخرى ، والمهم أن الحضارة الغربية إتبعت المنهج العلمي التجريبي ووسائله ولكن إختلف الهدف ، فالهدف من البحث التجريبي في الإسلام هو الوصول إلى عظمة الله وقدرته ليزداد الإنسان خشية لله وعبادة له وينشر الخير ويكون لله خليفة في الأرض بما وهبه الله تعالى من عقل وفطرة سليمة. أما الهدف من البحث التجريبي في الحضارة الغربية فكان في بعض الأحيان إستخدام العلم في خدمة الشيطان باختراع أسلحة الموت والدمار وتوجيه التقدم العلمي لتدمير الحضارة الإنسانية وإشاعة القلق والخوف والفقر والحروب والدماء والآلام ..

2 ــ وقلنا إن القرآن دعا المسلم إلى البحث فيما سخره الله له ، أي أن الله تعالى جعل تلك الأشياء المادية مسخرة خاضعة لحواس  ذلك الإنسان وعقله وفي إمكان طاقته ، ويستطيع بالعقل الذي وهبه الله له أن يخترع من تلك الأشياء المُسَخّرة ما يمكن أن يفيده أو يضره ، ويتوقف ذلك على الهدف ، فإن كان الهدف طاعة الله كانت المخترعات في صالح الإنسان وسعادته، أما إن كانت الأخرى فهو التدمير والبؤس والفقر .

 ثالثا :

وتبقى قضية أخرى :

1 ـ  إن الله تعالى سخر الكون للإنسان ، ومن هنا كان من حق الإنسان بل من واجبه أن يبحث فيما سخره الله له ، ولكن خلق الله تعالى الإنسان لعبادة ربه فيستحيل أن يتمكن الإنسان المخلوق لعبادة الله من أن يتخذ الله تعالى مادة لبحثه ..

  فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان ويستحيل على المخلوق أن يتعرف على كنه الخالق ، والله تعالى هو الذي خلق عقل الإنسان وصممه على أساس أن يبحث فقط في الأشياء التي سخرها الله له ، وليس بإمكان ذلك العقل كما خلقه الله أن يسمو للبحث في ذات الخالق جل وعلا .

  ويستحيل على الإنسان أن يبحث في ذات الله تعالى والله تعالى وصف ذاته بأن ( ليس كمثله شئ ) ومعنى ذلك أن أي شئ من المخلوقات لايمكن أن يشبه الله تعالى ، وكلمة (شئ) مفعول مطلق من كلمة (شاء) فالله تعالى اراد أو شاء شيئا فكانت كل المخلوقات أشياء، وكل المخلوقات أو الأشياء لا تشبه الله تعالى بأي حال من الأحوال ، فلا يستطيع الإنسان أن يتخيل كنة الله تعالى ، فعقل الإنسان لا يفهم إلا في الأشياء المخلوقة مثله ، والله تعالى أكبر من كل شئ .. وحواس الإنسان لا تدرك إلا ما سمح به الله تعالى ، والله تعالى جل أن تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .

2 ــ بل إن مشيئة الله قضت أن يحجب عن أعين الناس بعض مخلوقاته ، والإنسان الحديث آمن بأنه لايرى كل شئ من الأشعة والموجات وإن أمكنه أن يستغلها في الراديو والتليفزيون واللاسلكي ، والله تعالى يقول للبشر (  فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ  . الحاقة 38، 39) والله تعالى أخبر بأن الشياطين والجن يرون البشر ولا يمكن للبشر أن يروهم (  إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ  .. الأعراف 27).

      وإذا كانت بعض الأشياء المخلوقة محجوبة عن عين الإنسان لا يمكن أن يراها في هذا العالم المادي ولا يمكنه إخضاعها للتجربة المادية فكيف يطمح الإنسان إلى رؤية خالق الأشياء ومبدعها سبحانه وتعالى ؟ وإذا كان ممنوعا من الرؤية فكيف يبحث فيما لايستطيع رؤيته ؟

3 ــ  على ذلك فإن العالم له شقان بالنسبة للإنسان ، عالم الشهادة ، أو المحسوسات المشاهدة من الكون والطبيعة وقد عرفنا منهج الإسلام فيها من حيث الوسائل والهدف ، أما عالم الغيب أو السمعيات فهي خارج نطاق المحسوسات ، وتخرج عن نطاق بحث الإنسان ، ومطلوب من الإنسان ألا يبحث فيها ولكن يؤمن بها ، فالإيمان بالغيب من أولى صفات المتقين ( الم ، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .. البقرة 1، 2، 3 }.

4 ــ      على أن يكون معروفا أن ذلك الغيب الذي نؤمن به هو غيب الله تعالى الذي أخبر به في كتابه الكريم خاصا بالله تعالى والملأ الأعلى من الملائكة والجنة والنار والآخرة والحساب والحشر ثم الجن والشياطين . وكلها أمور غيبية غير مشاهدة أخبر بها الله تعالى ومطلوب أن نؤمن بها .

على أن الإيمان الإسلامي لا يقبل القسمة على اثنين ، فالمؤمن بالله وحده يؤمن بغيب الله وحده ولا مجال لديه للإيمان بخرافات الأولياء وأكاذيب العامة والدهماء هذا هو الإيمان المطلوب ، إيمان بالله وحده وكفر بما عداه ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة 256

 أخيرا

1 ــ    ووضح مما سبق أن القرآن حدد المنهج التجريبي العلمي للبحث في عالم المشاهدة والكون والمادة المسخر للإنسان ، دعا للإيمان والتسليم والتصديق بعالم الغيب الذي يذكره الله تعالى في كتابه فقط وما عداه من كلام في الغيب إنما هو خرافة ، حيث أن النبي محمدا نفسه لا يعلم الغيب ، ومن هنا تضيق فجوة الإيمان بالغيب على قدر ما جاء  في القرآن فقط ، ويتسع المجال أمام العقل كي يخترع ويبتكر في عالم الشهادة .

 2 ــ    ذلك ما ينبغي أن يكون ، وذلك ما كان يجدر بالمسلمين اتباعه ، ولكن المفروض شئ والواقع شئ آخر ، فالذي حدث أن الحضارة الإسلامية لم ترتبط تماما بالمنهج القرآني وإنما سارت على أساس منهج آخر مخالف ، هوالمنهج اليوناني فكانت الحضارة الإسلامية ترديدا في معظمها للحضارة اليونانية أو ترجمة لها بالعربية .

3 ـ     قد أثمر الفتح العربى تكوين إمبراطورية مترامية الأطراف شملت أجناسا متباينة من فرس وأنباط ومصريين ،وأولئك الموالى كانت لهم اسهاماتهم في الحضارة الإسلامية بل هم الذين سيطروا عليها ، وكان من الطبيعي أن يسيروا بالمنهج الفكري الذي تعودوه قبل الإسلام وهو المنهج اليوناني .

4 ــ وأخيرا .. نذكّر هنا ونؤكد أن الحضارة ( الاسلامية ) أو أى حضارة ـ هى منتج بشرى ، شأن التاريخ والتراث ، فيه الخير وفيه الشّر ، شأن من صنعها وهم البشر . ولا يصح أن يكون الاسلام مسئولا عن هذه الحضارة ، بل هى مسئولية من قام بها . ونضطر لاستعمال مصطلح ( الحضارة الاسلامية ) لأنه الشائع ، مع رفضنا نسبة هذه الحضارة ( البشرية ) الى رب العزة جل وعلا ودينه المعصوم .

 

 

(ق2 ف1 ) المنهج الفكري اليونانى وتأثيره فى الحضارة العربية

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

  الفصل الأول : موقع مقدمة إبن خلدون فى تاريخ الحضارة العربية

 

المنهج الفكري للحضارة اليونانية

   تشابهت عقائد الشرق الهندية والغرب اليونانية وأدى غزو الإسكندر الأكبر لامتزاج الحضارتين الشرقية والغربية فيما يعرف بالثقافة الهلينية ، ومن الطبيعي حينئذ ان تتطابق عقائد الشرق والغرب . ووحدة الوجود التي هي أساس عقائدهم الوثنية لا ترى فارقا أساسيا بين الخالق والكون ، والحضارة اليونانية كانت تعلى من شأن العقل بقدر ما تحتقر العمل اليدوي ، من هنا كان العقل أساسا للبحث اليوناني في فترته الأولى .

     فالعقل اليوناني كان الأساس في بحث الطبيعة وما فيها من مواد وأجسام ، كما كان نفس العقل أساسا للبحث فيما وراء الطبيعة من سمعيات كالألوهية والقضاء والقدر ومشكلة الشر ونشأة العالم ..

    ومن الطبيعي أن يفشل العقل في بحث الأمور الطبيعية التي لابد لها من المنهج التجريبي القائم على السير في الأرض والنظر والتفكر وإجراء التجارب كما أشار لذلك القرآن الكريم .

    ومن الطبيعي أيضا أن يفلس العقل في بحث ما هو فوق طاقته من ذات الله تعالى وصفاته وقضائه وقدره وجنته وناره . وأدى إفلاس المنهج العقلي إلى البحث عن منهج آخر ، وكان البديل منبثقا عن نفس عقيدة وحدة الوجود ، وتم ذلك الإنقلاب الجديد على يد افلوطين السكندري الذي نشر مذهب الأفلاطونية الحديثة وقد استوحاها من نظرية الفيض الإلهي التي قال بها أفلاطون .

       فأفلاطون قال بإمكانية صعود النفس للعقل الألهي حيث تخلص إلى عالم البقاء وذلك إذا تخلصت النفس من عجز الجسد والمادة ، وقد استوحى أفلوطين السكندري من تلك المقالة نظريته الجديدة في المنهج الفكري فطالما أن بإمكان النفس أن تتحد بالعقل الإلهي  فيمكنها حينئذ أن تشرق فيها المعرفة الإلهية وتأخذ العلم من لدن الله .

      من هنا بدأت مقولة العلم اللدني في الوسط المسيحي وأدت إلى تعزيز سيطرة رجال الكهنوت المسيحي الذين اتخذهم الناس أربابا من دون الله فأصبح من حقهم وحدهم بالرياضيات(الروحية) والأذكار والطقوس أن يصلوا إلى العلم الإلهي حيث لامجال للإعتراض أو المناقشة أو الحوار مع علم يزعمون أنه من لدن الله تعالى .

    ومن الطبيعي حينئذ أن تتوقف الحياة العلمية العقلية التي أظهرتها مناقشات المنهج العقلي الذي ساد قبلا ، فالعلم اللدني ينظر أصحابه إلى العلم الآخر(العلم الظاهر ) نظرة إحتقار لأنه علم بشري مكتسب ، ويشترطون فيمن يتصدى للحصول على العلم الإلهي اللدني أن يكون قلبه فارغا من العلم البشري وصالحا لتلقي العلم الإلهي وذلك بوسائل أبعد ما تكون عن تحصيل العلم ( الظاهر ) والسعي إليه ، ثم إذا وصل صاحبنا بزعمه إلى العلم الإلهي فلا اجتهاد مع وجود نص ، ولا مجال لمناقشته أو الإعتراض عليه بل يجب أن يؤمن الناس بما يقوله وإن يسمعوا ويطيعوا.

     وهكذا كانت مقولة العلم اللدني هي القاضية على الحياة العلمية ، وحين بدأت الفتوحات الإسلامية كانت المدارس اليونانية في الشام والعراق وآسيا الصغرى تعاني من تسلط الكهنوت المسيحي صاحب العلم اللدني وخرافاته ومزاعمه .

     وبهذا انتهى المنهج اليوناني ، إلى لا شئ . وكان لابد أن ينتهي إلى نفس النتيجة كل من يتأسى بالمنهج اليوناني ، وذلك ما حدث مع الحضارة ( الإسلامية) .

المنهج الفكري للمسلمين

    لم يرتبطوا بمنهج القرآن الذي أوضحناه في بداية المبحث وإنما التزموا منهج اليونان الذي  عايشوه قبل الفتح الإسلامي بقرون .

أثر الموالي :

   ويرجع ذلك إلى أن الموالى – أبناء البلاد المفتوحة هم الذين سيطروا على الحياة العلمية حيث انشغل العرب بالسياسة والحكم والحرب والفتن ، والعرب أساسا ليسوا أصحاب حضارة ومنهج فكري ، أما الموالي فهم اصحاب حضارة قديمة ولديهم الفراغ حيث لا إنقطاع للسياسة أو الحكم ، ولديهم أيضا الدافع للتفوق والإمتياز على العرب في مجال العلم الذي يجيدونه ويتفوقون فيه ، ثم لديهم دافع آخر هو توجيه الحضارة ( الإسلامية ) إلى ما ألفوه في سابق حياتهم ، ولدى بعضهم حقد على الإسلام وحرص على حربه ، ووسيلته للإنتقام هي تحريف عقيدة الإسلام بعقائد الشرك تحت ستار التشيع والتصوف والحب والوجد ، وليس مستغربا أن يكون رواد التشيع والتصوف من الأعاجم بل من أصحاب الحرف أحط  طبقات المجتمع وقتها .

نظرتهم للقرآن

    والموالي قادة الحضارة ( الإسلامية ) سواء كانوا حسني النية أو سيئي النية نظروا للقرآن الكريم نظرة قاصرة ، اعتبروه معجزا للعرب في الفصاحة فقط ، فحولوه إلى نص فصيح يستشهدون به في أمور البلاغة والبيان والاعراب ، ولاتزال تلك النظرة الخاطئة سارية حتى الآن ، وكانت النتيجة أنهم حرموا أنفسهم والعالم والمسلمين من الإستفادة بالقرآن الكريم في منهجه وحقائقه التشريعية والعلمية التي كانت في متناول المسلمين منذ أكثر من عشرة قرون دون أن يستفيدوا منها ، لأنهم استغرقوا في إعراب آيات القرآن الكريم وتبين أوجه البلاغة فيها دون فهم حقيقي لمضمونها ومقصودها .

    ثم كانت المصيبة الأخرى التي فرض بها الموالي آراءهم على القرآن الكريم وتسللوا بها لتحريف معانيه وتشريعاته ، وهي اختراع علم ( التفسير) ومعلوم أن لفظ ( التفسير) لايناسب أن يرتبط بالقرآن الكريم ، فالقرآن الكريم ليس بحاجة لتفسير ، فالتفسير إنما يكون لكلام الغامض المستغلق على الفهم ، أما القرآن فهو ( كتاب مبين ) يسره الله تعالى للذكر ({وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ. القمر }( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ  .. مريم 97)  {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الدخان 58}.

          وحقيقي فإن من إعجاز القرآن هو سهولته واقترابه من مدارك الشخص العادي إذا تدبر وتعقل معناه مع كونه في أعلى درجات الفصاحة المعجزة ، ويكفي أنه أعجز العرب الجاهلين في فصاحته ولايزال بيننا ميسرا للذكر ، هذا مع أننا لو قرأنا شعرا جاهليا رقيقا في الغزل لعجزنا عن فهمه لجزالة لفظه وغرابة معناه ، فاللغة كائن حي يتطور حسب ظروف كل مجتمع ، ولكن القرآن الكريم فهمه العرب الجاهليون كما فهمه أبناء القرن العشرين . والقرآن الكريم لايحتاج إلى تفسير لأنه يفسر بعضه بعضا ، فهو كتاب مثاني يجنح للتكرار المعجز ، يقول تعالى {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً. الفرقان 33 }  فآيات القرآن هي أحسن تفسير لآيات القرآن ، والباحث في القرآن لا يفسره وإنما يتدبر الآيات في الموضوع المبحوث بمنهج عقلي غير منحاز ، وكذلك يجمع الآيات ويستعين ببعضها على البعض ليتوصل إلى حقائق جديدة وليس ذلك بالتفسير ، وإنما هو التعقل والتدبر ، وتدبر القرآن فريضة إسلامية .

      وإذا جاز ـ فرضا ــ التسامح في إطلاق لفظ التفسير على البحث في كتاب الله تعالى فإنه لا يمكن التسامح مع استخدام ذلك التفسير لفرض آراء البشر على كلام الله تعالى ، فهنا يتحول التفسير إلى تحريف ، وذلك مع الأسف هو ما ارتبط بعلم التفسير حيث تسللت الإسرائيليات إليه وأفسدت عقائد المسلمين وافكارهم ، ولازلنا حتى اليوم لا نعترف بالآية القرآنية إلا أذا كانت أقوال المفسرين شفيعا لها ، وذلك منتهى الظلم لله تعالى ولكتابه الكريم ، وإلى الموالي يرجع ذلك التردي الذي لازلنا نعيشه في نظرتنا للقرآن الكريم وتعاملنا معه .

      والموالي ــ قادة الحضارة ( الإسلامية ) ــ طالما نظروا للقرآن الكريم هذه النظرة فلا يمكن أن يخضعوا له في منهجهم العلمي ولابد أن تحدث الفجوة بين منهج القرآن والمنهج الذي سارت عليه الحضارة الإسلامية، بفعل قادتها من الموالي .

تناقص منهج الحضارة العربية مع القرآن الكريم

    وهناك مظاهر عديدة لتناقض المنهج الفكري للحضارة ( الإسلامية ) مع القرآن الكريم أهمها ما يلي :

1-  مخالفة المنهج القرآني في البحث التجريبي:

      فقد رأينا القرآن يدعو للمنهج التجريبي في بحث العالم المادي الذي سخره الله تعالى للإنسان وذلك بالسير والسعي والنظر والتفكر واستعمال الحواس كي يصل الباحث إلى معرفة قدرة الله تعالى في الخلق .

     أما المنهج اليوناني في مرحلته الأولى فقد كان يعول أساسا على البحث العقلي ويحتقر العمل اليدوي وقد تابع رواد الحضارة الإسلامية إتجاه اليونان إذ عكفوا على شرح التراث اليوناني وتأييد نتائجه في العلوم الطبيعية من طب وهندسة وكيمياء وفلك وجغرافيا ، ولم يختلفوا معه إلا بالقدر اليسير ، فكانوا إلى مجتهدي المذاهب أقرب ، أي مثل ذلك الذي يجتهد في إطار مذهب فقهي معين ، قد يأتي بجديد ولكن في إطار المذهب الفقهي الذي يتبعه ، وبالطبع لا يمكن أن يكون ذلك المجتهد في مذهب معين مبتكرا أو عالما مجددا ، وذلك حال علماء العرب والمسلمين في العلوم الطبيعية مثل إبن سينا والإدريسي وجابر بن حيان .

     ولو اتخذ أولئك من القرآن هاديا ومرشدا واتبعوا منهجه لساروا في الأرض ونظروا كيف بدأ الله الخلق وكيف أحكم كل شئ وقدّره تقديرا ، ولجعلوا التجربة العملية الرائد الذي يتبعونه لا التراث اليوناني واساطينه ، ولو فعلوا لكان التقدم العلمي الحديث من نصيب المسلمين .

2-  مخالفة منهج القرآن في البحث في عالم الغيب والسمعيات :

    وعرفنا منهج القرآن في عالم الغيب والسمعيات ، إنه يدعو للإيمان بغيب الله وحده ، ومعنى أن يؤمن الإنسان يعني أنه لا مجال لديه إلا التسليم والإعتقاد بما أخبره به كتاب الله تعالى ، فالمؤمن مطالب بالإيمان بالله وملائكته والجن والملائكة ويوم الدين .

     والله تعالى صاحب الشأن في هذه الغيوب ، وقد خلق العقل الإنساني وهو أعلم بما خلق ويعلم أن العقل الإنساني الذي خلقه لا يستطيع أن يفهم إلا ما سخره الله له في الكون من جماد ونبات وحيوان أما فوق ذلك فلا يستطيع ، والبحث في الأمور الغيبية يؤدي إلى الضلال والتفرق والشقاق .

    ولكن اليهود الذين ضلوا بالعلم البغي حاولوا أن يضلوا المسلمين في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام بأن أوعزوا إلى  بعضهم بالسؤال عن ذات الله ، فكانت إجابة القرآن تنهي عن  الخوض في ذلك   {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ }  {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ   ... البقرة 108 ، 109}  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ  .. المائدة 101، 102}، وسأل بعض المسلمين بإيعاز من اليهود عن جبريل صاحب الوحي وهو روح الله – وهذا لقبه – الروح – فقال تعالى  . {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً.. الإسراء 85} وسألوا عن موعد الساعة ومتى تقوم القيامة فكانت الإجابة ({يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ. 187 الأعراف} ، { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا  فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا  ؟ إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا  . إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا... النازعات 42: 45 }.

إذن فالإبحار في بحر الغيب الإلهي ممنوع – وقد حذر الله تعالى من الخوض في ذات الله تعالى وجبريل – وهو الروح – وموعد الساعة ، وكان القرآن الكريم يخبر الرسول عما يسأله الناس من أمور الدين والدنيا والكون  {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ، وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ.. . يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِير ... البقرة 189، 219، 217 }أما حين يأتي السؤال في المنهي عنه يأتي التحذير كما أشرنا .

     كان أولى بعلماء الحضارة ( الإسلامية ) أن يتبعوا منهج القرآن فلا جدال في الله ( ُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ .الرعد13 } إلا أنهم مع شديد الأسف اتبعوا منهج السلف .. بحثوا في ذات الله وصفاته والقضاء والقدر وعلامات الساعة ، وقد ذكرنا الآيات التي ترجع علم الساعة إلى الله تعالى وحده وحتى فالرسول نفسه لا يعلم علاماتها ، ومع ذلك البيان الصريح بأنه لا يجلي الساعة لوقتها إلا الله وحده والرسول (ص) نفسه لا يعلم شيئا عنها ، فإنهم نسبوا للرسول أقوالا عن علامات الساعة ووقتها ويعتقدون حتى الآن صحتها .

مراحل علم اللاهوت عند المسلمين :

1- وقد بدأ علم اللاهوت – علم البغي – عند المسلمين فيما يعرف بعلم الكلام – أو ما يطلقون عليه علم التوحيد ثم انتهى إلى فلسلفة محضة .

   بدأ علم الكلام فحوّل الفرق السياسية المسلمة إلى فرق مختلفة في العقيدة ، إختلف المسلمون حول الخلافة ومن يستحقها بين شيعة وخوارج ومرجئة فجاء علم الكلام فحول تلك الخلافات السياسية إلى خلافات عقيدية لاهوتية ، وتمت بذلك الكارثة ، فطالما وصل الإختلاف إلى الدين فقد وقع المحظور {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ   مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعا )ًالروم 31 : 32}  {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ..الانعام 159 )

    وكان أثر الفلسفة أكبر في الشيعة وهم فرس وأعاجم ويهود ممن أدمن الفلسفة ، لذا رأينا التشيع المتطرف يظهر منذ البداية في فرقة السبأية التي ادعت ألوهية ( علي ابن أبي طالب ) في خلافة (علي ) نفسه ، فكان أن حرّقهم علي بالنار ، ثم استمر تيار التشيع المتطرف وازداد حتى أقام له دولا كالدولة الفاطمية والدولة الزيدية والقرامطة .

2_وبعد أن استنفذ علم الكلام غرضه من تحويل الفرق السياسية إلى فرق لاهوتية أقام لنفسه فرقا لاهوتية صميمة مثل الأشاعرة والماتردية والمعتزلة ... وكلها فرق فلسفية فرقت وحدة المسلمين وفرقت دينهم ، وإذا راجعت مثلا كتاب أبي الحسن الأشعري ( مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ) وجدت فرقا كثيرة يصاحبها الخلاف حول كل شئ وتبحث في العلم الباغي واستنفذت جهود المسلمين في بحث ذات الله وصفاته وقضائه وقدره دون النظر في الكون والبحث فيما سخره الله تعالى للإنسان ، وكان أولى بالبحث والاهتمام، ولو فعلوا لتجنبوا مشقة الإختلاف ولأحرزوا النهضة العلمية التي دعا إليها القرآن ، وكانت من نصيب أوربا في النهاية.

     وعلى سبيل المثال عرض الأشعري لمقالات فرقة المرجئة ، ونقتطف العناوين فقط

 ( إختلفوا في الإيمان على اثنتي عشرة فرقة .. إختلافهم في الكفر على سبع فرق ، إختلافهم في المعاصي وأصحابها على مقالتين ، قولهم فيمن يقلد الإيمان ، إختلافهم فيما أورده الله تعالى من أخبار على سبع فرق ، إختلافهم في الأمر والنهي .. على مقالتين ، إختلافهم في تخليد الكفار في النار ، إختلافهم في فجار أهل القبلة – هل يخلدهم الله في النار على خمسة أقاويل ... إختلافهم في الصغائر والكبائر والتوبة ومعاصي الأنبياء وكفر المتأولين والعفو عن العباد والتوحيد ورؤية الله والقرآن وماهية البارئ تعالى والقدر وأسماء الله وصفاته ...الخ)

     كلها أقوال واختلافات لفرقة واحدة هي المرجئة بدأت بالسياسة ثم أقحمت نفسها في اللاهوت ، وامتلأت به إختلافا وتفرقا مع غيرها وفي داخلها .

     أما المعتزلة وهي فرقة لاهوتية صميمة فقد بحثت ـ مثلا ــ  في مكان الله تعالى واختلفوا هل هو في مكان أو في لا مكان ، واختلفوا في رؤية الله وعلمه وقدرته ( لم يزل عالما بالأجسام ، وهل المعلومات معلومات قبل كونها ، وهل الأشياء أشياء لم تزل أن تكون ... اختلفوا على سبع مقالات ...) واختلفوا في أفعال الله وصفاته الأزلية وأسمائه وحياته ، وفي القرآن الكريم هل هو صفة من صفات الله ، واختلفوا في صفات فعل الله وفي صفة القدم ، وهل الله تعالى (شئ) وفي صفة (الوجود) و( التكلم ) والسمع والبصر والقدرة ، والإرادة ، وهل الله تعالى جسم أم لا ، وهل يبقى كلام الله أم لا ، وحين يتكلم الإنسان بالقرآن هل يكون كلامه الخارج من لسانه كلام الله أم لا ، وكلام الله هل هو حروف أم لا وهل هو موجود مع كتابته أم لا ... وهكذا اختلاف في كل صفة وبحث في كل ما ينسب لله تعالى من أفعال وصفات ، ويضيق الوقت عن متابعة إختلافاتهم في كل تلك المباحث ...

    ثم إختلف المتكلمون في أمور فلسفية أخرى في ماهية الجسم ( على اثنتي عشرة مقالة ) وفي الجوهر ( على أربعة أقاويل ) وفي الجواهر ( هل كلها أجسام أم لا على ثلاثة أقاويل ) ( وهل الجواهر جنس واحد وهل جوهر العالم جوهر واحد على سبعة أقاويل )( وهل يجوز على جميعها ما يجوز على بعضها ، وهل يتفرق الجسم أو يجتمع . والجزء الواحد هل تحل فيه حركتان أم لا ، وفي السكون والتحرك واجتماعهما أو تفرقهما ، وماهية الإنسان والروح والنفس والحواس ووصف الشئ لنفسه ، والأعراض في رؤيتها وفنائها وخلقها وبقائها وفي الخلق والبقاء والفناء والمعاني وأعراض الأجسام والأضداد ... الخ .

    وتلك أمور أرهقت الفلسفة اليونانية ولم يزدادوا بها إلا تفرقا وجدلا وجهلا لأنهم بحثوها من وجهة نظر عقلية محضة ، ومع قابلية بعضها للتجربة العملية والبحث العلمي المادي إلا أنهم اكتفوا في بحثها بالعقل والجدال والمنطق .

3- وبعد تلك الفرق اللاهوتية المحضة جاء الفلاسفة الذين يتحدثون في العلم البغي جهارا تحت إسم الفلسفة حيث ردد فلاسفة المسلمين أقوال اليونان بحذافيرها وشرحوها واتخذوهم أئمة وأساتذة حتى في الدين والعقيدة ، فكان من الطبيعي أن يعيد التاريخ نفسه ، فكما عرفنا ، أفلس المنهج العقلي المحض في بحث الإلهيات والطبيعيات فجاء على أثره المنهج الإشراقي بعلمه اللدني الخرافي على يد أفلوطين السكندري .

      ولأن الحضارة ( الإسلامية) تابعت طريق اليونان فقد عرفت المنهج العقلي المحض الذي بدأ بتحويل الفرق السياسية إلى فرق لاهوتية وأفرز في النهاية فرقا لاهوتية محضة مثل المعتزلة والأشاعرة والمجسمة والجبرية والجهمية ... الخ ، ثم توجت هذه المرحلة العقلية المحضة بظهور الفلاسفة أمثال الفارابي وإبن سينا وهم تلامذة مخلصون لأرسطو وأفلاطون ..

    وأفلس المنهج العقلي المحض في الحضارة الإسلامية كما أفلس من قبل في الثقافات المسيحية والأثينية ، وكما ظهرت الغنوصية الإشراقية بالعلم اللدني لترث المنهج العقلي المحض قبل الإسلام فبعد الإسلام ظهر الغزالي يكرر نفس المقالة الغنوصية ويدعو للعلم اللدني وتقديس الأولياء أصحاب المقامات والعلم الإلهي اللدني وقفل باب الاجتهاد ويعلن أنه ( ليس في الإمكان أبدع مما كان ..) والعلم إما ظاهر مكتسب وإما باطني لدني إلهي يجب الإيمان به والحرص على اكتسابه بالرياضيات(الروحية) والخلوة والعزلة والجوع وقتل النفس وتنقية القلب والروح حتى يصعد العارف إلى الحضرة فينكشف عن قلبه الحجاب ويعلم الغيب وما كان وما سيكون ..

     إذن لا جديد تحت الشمس ، عاد المسلمون بعد الفتح إلى سيرة آبائهم في عصر المسيحية ، وتابعوهم شبرا شبرا ، وما قاله أرسطو ردده فيما بعد الفارابي وإبن سينا وإبن رشد في المدرسة العقلية المحضة ، وما قاله أفلوطين السكندري والغنوصية ردده الغزالى وإبن عربي .

 

 

(ق2 ف1 ) بعض نواحي الإتفاق بين اللاهوت عند (المسلمين) واليونان

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

  الفصل الأول : موقع مقدمة إبن خلدون فى تاريخ الحضارة العربية

بعض نواحي الإتفاق بين اللاهوت عند ( المسلمين ) واللاهوت عند اليونان   :

    ولسنا في مجال التوسع في هذا الموضوع وإنما نكتفي ببعض الأمثلة يتضح منها التطابق في الفرعيات بين المسلمين واليونان والمسيحيين بعد أن تطابق المنهج لدى الجميع ، واختلف عن القرآن الكريم ..

ففي المرحلة العقلية المحضة :

1_ عكف الفارابي على التوفيق بين أرسطو وأفلاطون وخصص لذلك رسالة خاصة ، مع أنه يستحيل التوفيق بين الفكر الأرسطي والأفلاطوني ، وأصبح الفارابي المعلم الثاني بعد أرسطو المعلم الأول .          وأقوال الفارابي في الألوهية مستقاة من أقوال أرسطو والفلسفة اليونانية ، فالله  تعالى عنده هو الموجود الأول وكل ما عداه صادر عنه ، وتلك الموجودات متفاوتة المراتب والكمال ، فمن أكمل إلى كامل إلى أقل كمالا حتى تصل السلسلة إلى الجرثومية أو الذرة .  

    ويقول أنه نشأ عن الله تعالى ( أو واجب الوجود أو الموجود الأول على حسب تعبيره ) العقل الأول أو الموجود الثاني ، ومن اتصالهما نشأ العقل الثاني أو الموجود الثالث وعن تعقله نشأت السماء الأولى أو الفلك المحيط ، وعنه نشأ العقل الثالث أو الموجود الرابع ، وعن تعقله نشأت الكواكب وهكذا بقية العقول إلى العقل العاشر وبقية الكواكب .

   واعتبر الفارابي واجب الوجود أو الموجود الأول على رأس سلسلة الموجودات في الكون ، وسمي العقل الأول بالموجود الثاني ، والعقل الثاني بالموجود الثالث ، وهكذا إلى أن أطلق على العقل العاشر اسم الموجود الحادي عشر ، وكل هذه العقول ناشئة عن البارئ الأول بطريقة مباشرة ، وكل الموجودات الصادرة عن الخالق أزلية مثله .

     وبهذا يفسرون خلق الأفلاك والسماوات ، وصدق الله العظيم فيهم  { مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً. الكهف51}

     وإبن سينا كرر نفس الأقوال ، فقال أن أول ما صدر عن البارئ عالم العقول أو الصور وتابع الفارابي في مقولة العقل الفعال الموجود الثاني وما صدر عنه بنفس الترتيب اليوناني .

2- وذلك التطابق بين فلاسفة المسلمين ( إبن سينا والفارابي ) وفلاسفة أثينا لم يبدأ بظهور مرحلة الفلسفة (المسلمة) ، وإنما بدأ بظهور الفرق اللاهوتية من الأشاعرة والمعتزلة والمجسمة والجهنية الخ ..

     ويكفي أنهم أهملوا القرآن الكريم في أمور العقيدة والدين واتبعوا المنهج اليوناني فيهما ، فاستدلوا على وجود الله تعالى بالأدلة الأرسطية والأفلاطونية من الأدلة على وجود الله كعلّة فاعلة ، والأدلة على وجوده كعلّة محركة ، والأدلة على وجوده كعلّة غائية ، يقولون مثلا في برهان وجوده كعلّة فاعلة ( إن كل ما يوجد ضرورة بفعل علة ، لأن من المستحيل أن شيئا ينشأ بدون علة ، وما ينتج العلة هو سابق بطبيعته عما ينتجه ...)

    ولازلنا حتى  اليوم نردد كالببغاوات أدلة اليونان على وجود الله تعالى ، مع تعارض ذلك مع منهج القرآن الكريم ومنطق الإسلام وعقله ..

      فالله تعالى ليس محتاجا لشهادة إثبات لوجوده من بعض خلقه ، ففي ذلك سوء أدب مع الله تعالى . ثم أن القرآن الكريم وهو الأولى بالإتباع – أثبت أن الله تعالى فطر الناس على التوحيد منذ أن خلقهم  { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا . الروم 30} ومنذ أن خلق الله الأنفس البشرية إستحضرها وأخذ عليها العهد والميثاق أن لا تشرك به شيئا ، إلا أنهم بعد أن نفخت نفوسهم في الأجساد وعاشوا على وجه الأرض أشركوا بالله واتخذوا معه أولياء وآلهه بسبب الغفلة ومتابعة الآباء في ضلالهم ، يقول تعالى في ذلك   {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ، أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ . الأعراف 172 ، 173 }  .

    فالمشرك مهما بلغ كفره يؤمن بالله ولكن يتخذ مع الله تعالى آلهة أخرى وأولياء آخرين ، فلا حاجة إذن لاثبات وجود الله للناس فهم يؤمنون به ، وذلك تحصيل حاصل ، أما المفيد فعلا فهو البرهان على أنه ليس محتاجا إلى شريك أو ولي أو معين أو نصير او ولد ، وذلك ما أثبته القرآن الكريم .

   فليس في القرآن الكريم آية واحدة تبرهن على وجود الله ، وإنما فيه أدلة عقلية تثبت أنه لا إله معه ، وإقرأ مثلا  {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ   لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ... الأنبياء 21، 22 } أي أن وجود آلهة مع الله يؤدي إلى فساد نظام الكون القائم على الترتيب والنظام ، لأن خالقه واحد والمسيطر عليه هو الواحد { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر. الأعراف 54} وفي تفصيل أكثر يقول تعالى  {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ... المؤمنون 91 }.

     وأحيانا يوجه الله تعالى نظر الإنسان إلى روعة الخلق ليستدل بذلك على أنه لا إله إلا الله وأنه الذي أحسن كل شئ خلقه ولا يمكن أن يحتاج إلى شريك ، واقرأ قوله تعالى   { الله خير أما يشركون؟  أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ . أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.. النمل 60، 61} .

     فالإسلام يبرهن على أنه لا إله إلا الله ، أما الشرك فغاية اهتمامه أن يثبت الوجود للخالق ليساوي بين الله وبين كل موجود طبقا لوحدة الوجود التي كان يدين بها أهل الشرق والغرب .

 وحتى اليوم لازلنا نصف الله تعالى بأنه( موجود ) ويسمي بعض الناس باسم (عبدالموجود ) وإذا حاول أحدنا أن يتدين يقول ( الله موجود ) ويظن نفسه قد حاز الكمال في العبادة ، وليس في  القرآن الكريم وصف لله تعالى بأنه ( موجود)ولا يمكن أن يكون . لأن موجود يعني مخلوق محتاج لمن أوجده ، ولا يمكن أن يوصف الله تعالى بذلك ، ومع ذلك نردد هذه الكلمة على لساننا بعادة التأثر بعقيدة وحدة الوجود اليونانية الصوفية . المعنى القرآنى هو وصف الله جل وعلا بالقيوم القائم على خلقه وعلى كل نفس بما كسبت . وبدلا من أن يقول ( المسلم ) عند العظة والاعتبار : ( الله موجود ) عليه أن يقول ( سبحان الحى القيوم الذى لا تأخذه سنة ولا نوم ) ، يقول جل وعلا فى آية تضم بعض أسمائه الحسنى :  ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) البقرة )

3- وحتى في أسماء الله تعالى الحسنى تركوا كتاب الله واتبعوا أرسطو وأفلاطون، مع أن أي إنسان ذي عقل بسيط يؤمن بأن الله هو صاحب الشأن وحده فيما ينبغي أن يطلق عليه من أسماء وصفات ، ولكنهم تركوا الله تعالى واتبعوا (الشيخ ) أرسطو ومشايخ اثينا وحكماءها .

    فهم يصفون الله تعالى بأنه ( القديم ) ويجعلون من صفاته ( القدم) ويضعون ( للقدم ) تعريفا ، وجاء المعتزلة والأشاعرة وغيرهم فرددوا نفس الأقوال عن ( القدم ) و ( القديم ).

    ووصف الله تعالى بالقديم فيه اساءة لله تعالى ومساواة له بالخلق ، فالقديم يحتمل أن يوجد الأقدم منه. ولو رجعوا للقرآن الكريم لوجدوا الله تعالى يصف ذاته المقدسة في نفس المعنى بصفة اخرى أكثر مناسبة هي (الأول) فالله تعالى {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ٌ. الحديد 3}  والأول معناه الذي لم يسبقه أحد فليس قبل الأول شئ ، فكيف يتركون وصف ( الأول ) الذي جاء به القرآن إلى كلمة ( القديم ) التي جاء بها اليونان ؟ إلا إذا كانوا معرضين عن القرآن !.

4- وبنفس العقلية اليونانية نظر فلاسفة المسلمين إلى المادة ، فبالعقل الذي خاضوا به الألوهية بحثوا به العلم الطبيعي من نبات وإنسان وحيوان وأكوان ، دون تعويل يذكر على التجربة العملية ، أو أن يكلف أحدهم نفسه بالسعي والسير في الأرض واستعمال الحواس مع العقل كما أمر القرآن الكريم .

    ويكفي أن إبن سينا أشهر العلماء على الإطلاق في الطب والفلسفة حاكى اليونان في الطب في كتابه ( القانون ) فشرح ولخص وناقش وعلل في أمور طبية كان الأحرى بها أن تتم بالتجربة المعملية لا بالبرهان العقلي النظري . وإذا قرأت له ( الشفاء ) في المنطق وجدت نفس السمة التي تحسها في كتابه الطبي ( القانون ) أدلة واستنتاجات وبراهين .

    وكان لابد أن تنتهي تلك المرحلة العقلية المحضة بالإفلاس كما أنتهت من قبل في العصر المسيحي الروماني .

وظهر الغزالي خصما عنيفا للفلاسفة العقليين في كتابه ( تهافت الفلاسفة ) ولكن الغزالي لم يأت بجديد فهو لم يزد عن كونه تلميذا لأصحاب فلسفة وحدة الوجود ومذهب الغنوصية .

في مرحلة العلم اللدني :

    الغنوصية كلمة يونانية تعني المعرفة و( الغنوصي) هو الإنسان العارف بالله تعالى ، الذي تمكن بالرياضات(الروحية) من تنقية ( روحه ) فاتحد بالله ، فاشرقت ذاته بالمعرفة الإلهية وعرفت العلم اللدني الإلهي . و( الغنوصية ) لها مرادف آخر هو ( الحكمة: سوفيا )  بالتعبير اليوناني الذي نقله المسلمون كما هو ( صوفي ) وردد ( الصوفية ) آراء الغنوصية في المعرفة وجعلوا الصوفى هو ( العارف بالله ) أو الولي الذي يسلك الطريق لله تعالى ويجذبه الله تعالى فيتحد به ويعلم الغيب والعلم اللدني .     

     والغزالي كبير الصوفية أو العارفين أو الغنوصيين – وكلها مترادفات – كان فقيها متكلما فحاول أن يوفق بين الإسلام والغنوصية القائلة بوحدة الوجود – وتم له ذلك عن طريق تأويل آيات  القرآن الكريم ووضع الأحاديث الباطلة كما يظهر خلال كتابه ( إحياء علوم الدين ) وهو ملئ بالأحاديث الباطلة في أمور الدين والعقيدة ، معظمها من إفتراءاته  .

    والغزالى والصوفية يسمون العلم اللدني بعلم المكاشفة ( أي الذي يكاشفهم به الله حين يتحدون به ويصيرون في الحضرة الإلهية ) فهو علم مخصوص ( على حد قولهم ) بأرباب القلوب والأحوال . أي بالأولياء ( الصوفية ) ( العارفين )وحدهم .

     وحتى يوفق الغزالى ( حجة الإسلام ) كما يزعمون بين الاسلام والغنوصية ووحدة الوجود ، فإنه يجعل للتوحيد أربع مراتب ويجعل عقيدة الإسلام التي جاءت بها الرسالات والرسل من توحيد العوام أما أعلى درجات التوحيد فهي وحدة الوجود أو إتحاد الخلق بالخالق . وفي ذلك يقول في كتابه المشهور (إحياء علوم الدين 4/ 213:  221) ( التوحيد القول فيه يطول وهو من علوم المكاشفة ) . أي العلم اللدني الصوفي ، فلا يصح أن يخوض فيه إلا الصوفية ، ولايجوز أن يعترض على أقوالهم أحد من الفقهاء أو علماء الظاهر .

    ثم يقسم الغزالي درجات التوحيد : ( فنقول للتوحيد أربع مراتب ... فالرتبة الأولى من  التوحيد هي أن يقول الإنسان بلسانه لا إله إلا الله وقلبه غافل أو منكر له كتوحيد المنافقين ، والثانية أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام فالغزالي هنا يجعل التصديق القلبي اللساني بأنه لا إله إلا الله درجة العوام ) ، مع أن ذلك ما كان عليه الأنبياء وأتباعهم ، ثم يتحدث الغزالي عن توحيد الصوفية المزعوم فيقول عن المرتبة الثالثة ( والثالثة أن يشاهد ذلك بطريق الكشف ( أي العلم اللدني ) بواسطة نور الحق وهو مقام المقرببين ، وذلك بان يرى اشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن  الواحد القهار).

    فالغزالي هنا يقرر وحدة الفاعل ، أي فكل ما يصدر في الكون من حركات للإنسان والجماد إنما تصدر عن الله وحده ، وتلك البداية في عقيدة وحدة الوجود التي عبر عنها الهند فلاسفة الهند بأن الإلوهية تكمن في داخل كل كائن ، وهي التي تحركه بل هي الفكرة التي تنشا في كل رأس ، ونفس التعبير الذي قاله فيثاغورث ( فكل شئ ياتي من الأحد ) .

وخطورة هذا القول في أنه ينسب كل شر يقع من الإنسان لله تعالى ، فالله تعالى هو الذي يسرق وهو الذي يفعل الفاحشة والسوء – وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا -  فالله تعالى هو منبع الخير والهدى أما الشرور فمن أنفسنا يقول تعالى {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ . النساء 79 } وذلك خطاب للرسول (ص) نفسه ويقول له أيضا   {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي . سبأ 50} .

ونعود للغزالي ومفترياته على الله تعالى ، فتراه بعد التمهيد لعقيدة وحدة الوجود بتقرير وحدة الفاعل يقول عن وحدة الوجود في المرتبة الرابعة ( والرابعة أن لا يرى في الوجود إلا واحدا ، وهي مشاهدة الصديقين وتسميه الصوفيه الفناء في التوحيد ، لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا فلا يرى نفسه أيضا ) ومعنى أنه لا يرى في الوجود إلا واحدا يعني انه يرى الله في كل شئ ، وكل شئ يراه هو الله ، ويشرح الغزالي ذلك بقوله ( فهو موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد ، فلا يرى الكل من حيث هو كثير ، بل من حيث هو ، من شجر وجماد وكواكب وحيوان ) لا يراها الصوفي إلا واحدا هو الله.

 ويتابع الغزالي فلاسفة اليونان وآسيا الصغرى في العلاقة بين الكثرة والوحدة أو بين وحدة الوجود الإلهي الذي ( يتخذ شتى المظاهر والأشكال على اختلاف أنواعها فكل شئ يأتي من الأحد ، والأحد يأتي من كل شئ ، ولكن الكثرة دون الوحدة في الوجود الحقيقي وهو الله ).

     وسبق أن قال بارمنيدس ( لا وجود لغير الواحد وأن كل وجود غيره وكل ما نراه من التعدد والتغير إنما هو وهم الحس وخداع الظواهر ) ويردد الغزالي نفس الأراء بالشرح والتفصيل فيقول بعد أن قرر وحدة الوجود الإلهي رغم كثرة الأجزاء والمظاهر ( فإن قلت كيف يتصور ألا يشاهد إلا واحدا وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثير فكيف يكون الكثير واحدا ؟) ويجيب الغزالي ( فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفة ) أي العلم اللدني ( وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب فقد قال العارفون افشاء سر الربوبية كفر ) ومعناه أن الغزالي يخشى التصريح العلني بأسرار عقيدته التي جاءت بعد نزول القرآن وموت الرسول (ص) بأربعة قرون . وإذا كان ذلك العلم عقيدة إسلامية فلماذا أهمله القرآن الكريم ولم يتحدث عنه الرسول ، وإذا كان باطلا فإفشاؤه كفر كما اعترفوا بذلك .

ثم يضطر الغزالي إلى بعض التصريح فيقول " الشئ  قد يكون كثيرا بنوع مشاهدة واعتبار، ويكون واحدا بنوع آخر من المشاهدة والإعتبار ، وهذا كما أن الإنسان ( كثيرا ) إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى(واحد) إذ يقول أنه انسان واحد ... فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له إعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة فهو بإعتبار (واحد ) وبإعتبارات أخرى  ( كثير) ،"، وواضح هنا تصريحه بان الخالق مع خلقه وحدة واحدة ، ويضرب على ذلك مثلا بالإنسان وما يجوز على الإنسان يجوز على الله ، فكما أن الإنسان واحد بجملته كثير بأجزائه فكذلك الله تعالى عند الغزالي ، واحد في جملته كثير بأجزائه التي تشمل كل موجود في الكون تراه العين ، وذلك يذكرنا بما قاله الجاهليون حين زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى أي جزءا منه فقال فيهم {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ، أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ. الزخرف 15، 16}.   إلا أن الغزالي جعل الكون كله جزءا من الله تعالى .

    ويظل الغزالي مخلصا لعقيدته فيقول في كتابه مشكاة الأنوار ( من هنا ترقى العارفون – أي الصوفية أو الغنوصيون – من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى .. فيكون الموجود وجه الله تعالى فقط ، فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه ).

    ويقول في نفس الكتاب " العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق ، وانتفت عنهم الكثرة بالكلية ، واستغرقوا بالفردانية المحضة ، فلم يكن عندهم إلا الله تعالى ، فقال أحدهم " أنا الحق " وقال الآخر ( سبحاني ما أعظم شأني ) وقال آخر ( ما في الجبة إلا الله )" ومعناه أن الصوفي إذا عرف أن الله هو كل الموجودات وأنه أي الصوفي ضمن الموجودات فمن حقه حينئذ أن يقول( مافي الجبة إلا الله ) وأن يدعي لنفسه الألوهية ويكفر أو يشطح كيفما شاء .

        وبعد الغزالي جاء إبن عربي في القرن السابع الهجري ، فكان أكثر فصاحة فاستحق من الصوفية أن يجعلوه الشيخ الأكبر ، يقول في كتابه فصوص الحكم تحت عنوان ( فص حكمة إلهية في كلمة آدمية ) عن خلق آدم ( لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى أن يرى أعيانها .. فاقتضى وجود الأمر جلاء مرآة العالم فكان آدم عين جلاء تلك المرآة    وروح تلك الصورة )  وفي مواضع أخرى قول ( ولذلك قال الله تعالى في خلق آدم الذي هو البرنامج الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال أن الله خلق آدم على صورته وليست صورته إلا الحضرة الإلهية ، فأوجدت في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية ) وواضح أن إبن عربي يردد مقالة التوراة المحرفة عن كون آدم صورة من صور الله ..                         

    وبعد أن جعل إبن عربي من الإنسان صورة إلهية توسع فجعل الكون كله وحدة إلهية ، يقول عن الله تعالى ( فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود فالعالم صورته وهوروح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير ) ثم يزاوج بين الله تعالى والخلق فيقول عن رب  العزة ( إن شئت قلت هو الخلق ، وإن شئت قلت هو الحق ، وإن شئت قلت هو الحق والخلق ، وإن شئت قلت لا حق ولا خلق .. ) أي انعدمت الفوارق عنده بين الخالق والمخلوق فلك أن تسمي أحدهما بالآخر .

    وهكذا ردد الصوفية مقالة وحدة الوجود ودعوا إلى مقالة العلم اللدني بنفس الطريقة الغنوصية ، ومن الطبيعي وقد تحول العلم اللدني إلى كهنوت أن تعقم الحياة العلمية  وتنتهي إلى جمود فتأخر وجهل كما حدث في العصر المملوكي وما تلاه ..

 

 

 

 

 

( ق 2 ف1 ) أثر التصوف في الحركة العلمية في العصر المملوكي:عصر إبن خلدون

 

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

  الفصل الأول : موقع مقدمة إبن خلدون فى تاريخ الحضارة العربية

 

         أثر التصوف في الحركة العلمية في العصر المملوكي : عصر إبن خلدون

 

    منطقي أن تعقم الحركة العلمية المملوكية إذ تسيد العصر دعاة العلم اللدني الخرافي ..    والواقع أن انتشار التصوف  وتعاظم تأثيره ونفوذ رجاله وحربه للعلم كلها عوامل حددت مسيرة العلم في العصر المملوكي في اتجاه يخدم التصوف فخف ذلك التعارض الحاد والقديم بين التصوف والعلم إذ لم يعد ثمة علم في العصر المملوكي بالمعنى الحقيقي لكلمة ( علم ) . وذلك ما سنبحثه في هذه العجالة .

     والمهم أن العصر المملوكي – بتصوفه وعلمه اللدني الخرافي – هوالعصر المثالي الذي دعا إليه الغزالي وتمناه حين حمل على العلم ورجاله ودعا للتقليد وأعلن أن ( ليس في الإمكان أبدع مما كان ) ولا أدل على ذلك من أن  العصر المملوكي وصوفيته وعلماءه افتتنوا بتلك الكلمة الغزالية ( ليس في الإمكان ..) فوضعوا عليها الشروح والمصنفات كما فعل محمد المغربي والسيوطي والشعراني .

فرض التقليد ومنع الاجتهاد

   1-  على أن الصوفية المملوكيين لم يكتفوا بنشر العلم اللدني وإيمان العصر بهم وتسليمه لهم وإنما التفتوا للعلم فأوقفوا مسيرته بفرض التقليد وتحريم الإجتهاد .

   والدعوة للتقليد وحجب العقل عن الإجتهاد و التفكير – لازمة من لوازم الشرك وقد نبه القرآن الكريم على  ذلك مرارا .. يقول تعالى في المشركين المقلدين (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ  ،وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ. الزخرف 22: 23 }

2 ـ      وأساطير الشرك لابد أن تتحصن بالدعوة للتسليم والتقليد حتى يؤمن بها الأتباع ، ومعنى ذلك أن تتعطل ملكة العقل في الإنسان حتى لو كان يشار إليه بالبنان ، والغزالي أصدق مثال : يقول ( روي أن كان في بني إسرائيل رجل يتعبد في صومعته ، فمكث كذلك زمانا طويلا ، فاشرف ذات يوم فإذا هو  بإمرأة فافتتن بها ، وهم فاخرج رجله لينزل إليها ، فأدركه الله بسابقة ، فقال ما هذا الذي اريد أن أصنع ، فرجعت إليه نفسه ، وعصمه الله تعالى ، فندم فلما اراد أن يعيد رجله إلى الصومعة قال : هيهات ، رِجْلٌ خرجت تريد أن تعصي الله تعود معي في صومعتي ؟ لا يكون والله ذلك ابدا ، فتركها معلقة في الصومعة تصيبها الأمطار والرياح والثلج والشمس حتى تقطعت ، فسقطت ، فشكر الله له ذلك ).

3 ــ      فهذه الصورة الوهمية لا يجيزها عقل صبي ، ولكن الغزالي يرويها مؤمنا بها وتلك جنايته على نفسه ، وجنايته على تلامذته في العصر المملوكي أشد وأنكى ، إذ جمعوا في مناقب أشياخهم المقدسين كل ما يخزي ويشين من الأقوال ، والأفعال ، ولو كان لديهم عقل ما فعلوا ، إذ أنهم بذلك أظهروا حقيقة أنفسهم واضحة جلية أمام كل ذي عقل . . ولكنه التقديس للأشياخ – تقديس يتوارى معه العقل الفطري ، حتى أن الشعراني صاحب المؤلفات المتنوعة في التصوف يفخر ويعد من منن الله عليه ( تصديقه للصالحين في كل ما يخبرون به وأن أحاله العقل منذ كان صغيرا ) .. أي أنه كان صغيرا – وحتى إن نضج لايزال يتمتع بنفس العقلية ( تصديق الأشياخ ) في كل ما يخبرون به ولذلك حشى كتابه ( الطبقات الكبرى ) بفضائح الأشياخ في عهده على أنها مناقب ومآثر ومفاخر ..

 4 ــ     ويتضح في قول الشعراني أن هدفه الدعوة لتصديق الأشياخ في أقوالهم ودعاويهم ، فهنا دعوة للتقليد موجهه لخدمة التصوف يؤكدها قوله ( أخذ علينا العهود ألا نمكن أحدا من الإخوان ينكر شيئا ما إبتدعه المسلمون على وجه القربة ورأوه حسنا ، فإن كل ما ابتدع على هذا الوجه من توابع الشريعة وليس هو من قسم البدع  المذمومة في الشرع المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم . كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) فهو يخرج ممارسات التصوف عن دائرة البدع ويمنع أخوانه من إنكارها بحجة أن المسلمين ( ويقصد الصوفية ) إبتدعوها على وجه القربة لله ورأوها حسنا ....

5 ــ     ويظهر من النصوص السابقة للغزالى والشعراني أن أساس التقليد هنا ديني وهو الدعوة للتصوف .. وعن الأساس الديني كانت النظرة للعلم فحرم الشعراني على مريديه التفكير وإطالة النظر رغبة في الفهم ( إذ ينبغي أن تتأدب مع الله ولا نتكلم إلا فيما نعلم ، ولا نتجاوز ظاهر الكتاب والسنة .. ومن آثر حكم العقل على حكم الله كان في ضلال مبين ) ( وأخذت علينا العهود ألا نتعب نفوسنا في الفحص عن معاني المتشابه في الكتاب والسنة ) وعد من المنن عدم قوله في دين الله تعالى برأيه فإذا لم يجد في المسألة تصريحا من الشارع توقف عن العمل ولا يقدم عليها إلا أن رأي فيها ( نصا أو إجماعا أو قياسا ، وقد منع بعض العارفين من القياس ).   وأسلوب الشعراني لا يخلو من دهاء حيث يوحي بالتناقض بين العقل وحكم الله في الأمور الدينية ، وذلك مما يخالف منطق القرآن الكريم .

   6 ــ    وفي اسلوب الشعراني رائحة تهديد للمؤمنين العاقلين ، ويتضح التهديد في حكاية رواها أو لفّقها وموجزها أن شخصا تصدى للرد على الإمام أبي حنيفة وعمل في ذلك كراسة جاء بها للشعراني فطرده ، وحدث أن وقع حادث لذلك الشخص اعتبره الشعراني عقابا له ، ورفض أن يزوره في مرضه ( أدبا مع الإمام أبي حنيفة حتى لا يوالي من أساء الأدب معه ) ، وعليه فكل من أراد أن يجتهد بعد الأئمة الأربعة عليه أن ينتظر حادثا مؤسفا ..

 7 ــ    ومع ذلك فقد أباح الشعراني الإجتهاد لأهل الكشف لإطلاعهم على الأسرار الإلهية من غير نظر وتأمل وهو بذلك يتفق مع الدسوقي القائل ( فيض الربوبية إذا فاض أغنى عن الإجتهاد ، فإن صاحب الجهد قاصر ما لم يقرأ في لوح المعاني سر إعطاء القادر ، فقد يعطي المولى من يكون قاصرا ما لم  يعط أصحاب المحابر ، وليس مطلوب القوم إلا هو ، فإن حصلوا على معرفته عرفوا بتعريفه كل شئ من غير تعب ولا نصب ، ثم إذا صحت المعرفة فلا حجاب له بعد ذلك ).

    فالدسوقي يرى أن العلم اللدني الإلهي يغني صاحبه عن الإجتهاد ، فالمجتهد من البشر قاصر لقصور بشريته ، أما الصوفية فمطلوبهم الإتحاد بالله ، وبذلك يعرفون كل شئ ، وحينئذ فلا حجاب ولا داعي لإجتهاد .

8 ــ     واستجاب العصر المملوكي لدعوة أشياخه المقدسين ، وما أسهل أن تشيع الدعوة للتقليد والجمود بين الناس – حتى أن مصر المملوكية برزت على غيرها من البلدان في إتباع التقليد وتقديمه على الشرع الإسلامي وتلك ظاهرة لفتت نظر الفقيه الصوفي المغربي إبن الحاج في القرن الثامن الهجري فقال ( وضعوا تلك العوائد التي أنشئت بها نفوسهم موضع السنن ، حتى أنك إذا قلت لبعضهم كذا يكون جوابه لك على الفور : عادة الناس كذا وطريقة المشايخ كذا ، فإن طالبته بالدليل الشرعي لم يقدر على ذلك ، إلا أنه يقول نشأت على هذا وكان والدي وجدي وشيخي وكل من أعرفه على هذا المنهاج ، ولا يمكن في حقهم أن يرتكبوا الباطل أو يخالفوا السنة ، فيشنع على من يأمره بالسنة ويقول ما أنت أعرف بالسنة ممن أدركتهم من هذه الجم الغفير ) أي : اصبح الشرع لديهم متمثلا –  فقط -- في إتباع الأباء والأشياخ ..

9 ــ     وهذه العقلية تفسر بوضوح اعجاز القرآن الكريم حين يتحدث عن تقليد المشركين    {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ.البقرة 170 }{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ.المائدة 104 } {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِير--لقمان 21}

 10 ــ    وحتى تلتزم الحركة العلمية المملوكية بالطريق الصوفي كان تحريم العلوم العقلية والفلسفية ، فالسبكي أنكر على من إشتغل بالفلسفة وهاجم الفارابي وإبن سينا وألف السيوطي ( الغيث المغدق في تحريم المنطق ) .

     وروى الشعراني أن( شيخ الإسلام ) شهاب الدين الفتوحي الحنبلي قاضي القضاء جاءه مرة شخص يريد أن يقرأ عليه شيئا من المنطق ( فقال له ياولدي قد صار الفقه ثقيلا على قلبي ، فما بالك بعلم أفتى بعض العلماء بتحريم الإشتغال به ) فهذا قاض للقضاء وشيخ الإسلام بزعمهم يقول ( قد صار الفقه ثقيلا على قلبي فما بالك  بعلم أفتى  بعض العلماء بتحريم الإشتغال به ) وتلك هي جناية التصوف على شيوخ الفقه في العصر المملوكي ..

    ونحن لاندافع عن الفلسفة ولكن نقرر بعقلية المؤرخ أنه كان من الإنصاف أن يعامل المنطق والفلسفة معاملة علوم التصوف ويترك لكل إثبات وجوده.

11 ـ     وذلك أنه مع انتفاء صفة العلم عن التصوف ومؤلفاته فإن التصوف أصبح علما في العصر المملوكي يدرس في الخوانق والمدارس والأزهر ،مع الإلتزام  بمنهج التصوف في الحركة العلمية وسيطرته عليها ، ويمكن أن نرمز لخضوع العلم واستكانته للتصوف من تلك المقابلة التي تمت بين شيخ الإسلام شهاب الدين الفتوحي الحنبلي قاضي القضاة سالف الذكر و ( الخواص ) الصوفي الأمي يقول الشعراني ( ولما إجتمع بالخواص إعترف لأهل الطريق بالفضل ، وقال هؤلاء القوم قطعوا مقامنا وقعدوا إلى ما وراءه ، وتأسف على عدم إجتماعه بالقوم ) أي الصوفية .

الحفظ مقياس التفاضل بين (العلماء ) فى العصر المملوكى.

  1-  وفي عصور الإجتهاد يكون الإبتكار والإختراع والتجديد مقياس التفاضل بين العلماء. أما في عصور التقليد فالمقياس هو مجرد الحفظ .. حفظ أقوال السابقين واستظهارها وترديدها بلا زيادة او نقصان وبلا تفكير أو تعقل . وهذا ما كان في العصر المملوكي ، حيث يتردد في ترجمة النوابغ من علمائه مقدرتهم في الحفظ ، ولا شئ غير ذلك إلا المغالاة في مقدار ما حفظه وأن ذلك كان في مدة يسيرة ، فيقال مثلا في ترجمة إبن المرحل (665- 716) أنه ( كان أعجوبة في الذكاء والحفظ ، حفظ المفصل في مائة يوم ، وحفظ ديوان المتنبي في جمعة ، والمقامات في كل يوم مقامة .. الخ ).

      وقيل في محاسن الدميري (805- 842) أن بعض شيوخه سأله في ليلة عيد هل يحفظ فيه خطبة رجاء إستنابته في خطبة العيد فقال له ( لا ، لكن إن كان عندك نسخة بخطبة فأرينيها حتى أمر عليها ، فأخرج له خطبة في كراسة بأحاديثها ومواعظها على جاري خطب العيد فتأملها في دون ساعة ثم خطب بها ).      فالدميرى لم يستطع إرتجال خطبة العيد ، ولم يدر بخلد الراوي أنها منقصة في حقه ، وكل ما أثار إنتباهه هو مقدرة الدميرى على حفظ الخطبة في أقل من  الساعة ( بأحاديثها ومواعظها ).

   وقيل في ترجمة سراج الدين البلقيني (ت805) أنه ( إجتمعت فيه شروط الإجتهاد على وجهها وأنه مجدد القرن التاسع وانه ما رأى مثل نفسه ) ، وتلك أوصاف خطيرة تدل على موهبة فذة إلا أن الترجمة بأكملها إقتصرت على وصف موهبته في الحفظ والإستظهار ، دون أدنى إشارة إلى إبتكار أو تجديد ، أو أنه باختصار ( العلامة الإمام سراج البلقيني – كان أعجوبة في الذكاء والحفظ ) على حد قول أبي المحاسن .. أي إستحق أن يوصف بتلك الصفات لمهارته  في الحفظ  فقط .

2 ـ    وكان الحفظ  بطل المساجلات العلمية والفائز من المتنافسين من العلماء هو أكثرهم حفظا وأسرعهم استحضارا لما يحفظ . .  ورددت المصادر التاريخية مناظرات علمية من هذا القبيل كان يحضرها السلطان وأرباب الدولة ورءوس الفقهاء والعلماء . .

    فقد سرد إبن حجر بإسهاب نزاعا قام بين العلماء في عصره بسبب غيرتهم من الهروي قاضي القضاء الذي ذكر أنه يحفظ (إثني عشر ألف حديث وصحيح مسلم بأسانيده ) وعقد لذلك مجلس حضره السلطان وشهده المؤرخ إبن حجر بنفسه وتبودلت في المجلس الإتهامات  بالكذب في حقيقة حفظ الهروي لهذا الكم من الأحاديث ، وظهر في سرد الواقعة تفاهة الأسئلة والإجابات من مجلس ضم أكثر العلماء شهرة في القرن التاسع . . ونقل  تلك المناظرة بالكامل متعذر فقد بلغت في رواية إبن حجر سبع صفحات . .

   ولعله من المفيد أن ننقل مناظرة أخرى مختصرة رواها أبو المحاسن ، يقول ( وقعت مناظرة بين إبن مغلي والسيرامي بحضرة المؤيد ( شيخ) فقال إبن مغلي للسيرامي : أسمع مذهبك . وسرد المسألة من حفظه ، وهذه كانت عادته ، وبذلك كان يقطع ( أي يغلب ) العلماء في الأبحاث – فجاراه السيرامي في المسألة ولازال يتكلم من شئ إلى شئ حتى دخل به إلى علم المعقول ، فارتبك ابن مغلي واستظهر الشيخ نظام الدين السيرامي وصاح عليه في الملأ : مولانا قاضي القضاة حفظه طاح ، هذا مقام التحقيق ، فلم يرد عليه ).

     ويقول إبن حجر في مناظرة أخرى فاز فيها سراج الدين الضوي ت (801) ( فأبهت الحاضرين من قوة إستحضاره ما يتعلق بذلك النظير ).

3 ــ     ولأن الحفظ مدار التفوق العلمي لجأ العلماء في العصر للأساليب الصوفية ليضمنوا دوام التمتع بنعمة الحفظ ، ووضع الصوفية لهم ( فوائد) أو تعاويذ تمنع النسيان ، ومنها مثلا ( إذا أردت ألا تنسى حرفا فقل قبل القراءة : اللهم إفتح علينا حكمتك وأنشر علينا رحمتك ياذا الجلال والإكرام ، وإذا أردت أن ترزق الحفظ فقل خلف كل صلاة مكتوبة : آمنت بالله الواحد الأحد الحق لاشريك له ، ومن فوائد سيدي الشيخ صالح بن عجيل في الحفظ : يقرأ في كل يوم عشر مرات : ففهمناها سليمان . . إلى قوله تعالى : . . . وكنا فاعلين ، ياحي  ياقيوم يارب موسى وهارون ويارب إبراهيم ويارب محمد ألزمني الفهم وارزقني العلم. . ).

4 ـ        وما معنى  أن يلجأ علماء العصر إلى سيدهم الشيخ صالح بن عجيل وغيره من الصوفية ؟ معنى ذلك ببساطة أنهم يعتقدون في الصوفية ويأتمنونهم على ملكة الحفظ بما لديهم من كرامات شاع في العصر الإيمان بها والخوف من غضب أصحابها ، فإذا نقموا على عالم منكر أضاعوا عليه ( حفظه ) وهو كل ما يملك وإذا ( طاح حفظه ) فقد كل شئ ، فلا عقل لديه ولا فهم ولا تفكير خارج نطاق المحفوظ في الذاكرة ، عندما يسترجعه عند الحاجة بنصه ولفظه ، والذاكرة الإنسانية يعتريها الضعف أحيانا وينتابها النسيان غالبا ، وإذا كانت مطالبة بحفظ كل العلوم – كما حدث في العصر المملوكي – فقد زادت التبعة ، فالعصر المملوكي شهد تسجيل التراث العلمي بعد تدميره بيد المغول ، وانعدم الإجتهاد وتركز جهد العلماء المملوكيين على حفظ ذلك التراث بالذاكرة والقلم ، والعالم الفذ هو من يحفظ في قلبه ويسترجع بلسانه أكبر قسط من ذلك التراث . ويتطلع للأولياء الصوفية و( فوائدهم ) التي تحفظ عليه حفظه وتشحذ ذاكراته.! وانتهز الصوفية الفرصة فأشاعوا مقدرتهم على ( سلب العلم ) للضغط على العلماء ، حتى لاينكروا عليهم ، وتردد في كتب الصوفية كيف أن فلانا كان من أكابر العلماء فأنكر على الشيخ الصوفى الولى  فسلبه الشيخ حفظه وعلمه فتاب . أي تاب من إنتقاد الولي الصوفي .

5 ــ      إذا رجعنا إلى سجل العلماء في ذلك العصر فلن نجد منهم إسم صالح بن عجيل صاحب الفوائد في الحفظ  ذلك الذي عدوه من أكابر العلماء ،على كثرة العلماء في العصر المملوكي وضخامة الألقاب التي تحلوا بها ، والهدف واضح هو إخافة ذلك الصنف من العلماء الذي إستكان للصوفية حتى لا يتحول إلى صف المنكرين على الأِشياخ ،أخافتهم بأسطورة كاذبة وشيخ لا وجود له هو الشيخ صالح بن عجيل ..

6 ــ ولقد افترى الصوفية كرامات فى سلب العلم من المنكرين عليهم من الفقهاء ، وأبطالها شخصيات لا وجود لهم تاريخيا ، وقد ورد أن الشيخ الواسطي كان ( من أكابر أهل العلم ) وينكر على البدوي فسلبه البدوي العلم فتاب وصار من جماعته ، وقيل أن فقيرا صوفيا سلب قارئا للقرآن – ما حفظه – لأنه لم يمتثل لأوامره ثم أعاد إليه حفظه بعد أن تمرغ بوجهه على قدمي الصوفي ، وأن الشيخ أبا أحمد سلب عالما – لم يذكر إسمه – ( جميع ما كان حصله من العلم والقراءة وكان يقرأ – هكذا في الأصل – قراءة معتبرة ) ثم أعاد له ما كان سلبه منه .  وحكى الشعراني نزاعا حدث بين المرسي وأحد الفقهاء ولم يذكر إسمه على العادة – وانتهى النزاع بسلب علم الفقيه ( .. فقال له الشيخ أخرج يا ممقوت ، فأخرجوه فسلب جميع ما كان منه من القرآن والعلم وصار دائرا في أزقة المدينة كل من رآه يمقته ، فدلوه على سيدي ياقوت العرشي رضي الله عنه فشفع فيه عند سيدي الشيخ أبي العباس المرسي رضي الله عنه ، فقال : قد رددنا عليه الفاتحة والمعوذتين ليصلي بهما ، وكان قد حفظ القرآن وثمانية عشر كتاب في العلم . . ولم يزل مسلوبا إلى أن مات . . فإياك يا أخي ثم إياك من مثل ذلك ، والله تعالى يتولى هداك ).

 7 ــ   ولاشك أن تصديق العلماء بتلك الأسطورة ( أسطورة السلب ) دليل على ضعف مستواهم العلمي والعقلي ، أما الأفذاذ من العلماء وهم في نفس الوقت أعداء للصوفية – فقد استعان عليهم الصوفية بالسلطان ، كما فعلوا بإبن تيمية .

  لا إبتكار ولا إجتهاد فى مؤلفات العصر المملوكى على كثرتها

1 ـ - والمؤلفات في العصر المملوكي خير ما يعبر عن الطبيعة العلمية ومستواها .

  فعلى كثرة المؤلفات وتنوعها فقد كانت مجرد شروح وتليخصات للشرح لما سبق تأليفه في عصر الإزدهار العلمي في القرنين الثالث والرابع.

    ونمثل بعلم الحديث وما قام به جهابذة العلم المملوكي من جهد في الشرح والتلخيص يدور حول كتاب واحد ... فالخطيب البغدادي ت 462 ( أول المتأخرين وآخر المتقدمين ) وضع في علم الحديث مؤلفين : ( كتاب الكفاية في قوانين الرواية ) و( كتاب الجامع لآداب الشيخ والسامع ) ، ثم جاء إبن الصلاح قبيل العصر المملوكي فجمع مؤلفات الخطيب في كتاب واحد " مقدمة إبن الصلاح " عكف عليه العصر المملوكي إختصارا وشرحا على النحو الآتي :

   إبن جماعة ت 733: إختصر كتاب إبن الصلاح في كتاب عنوانه ( المنهل الروي في الحديث النبوي) ، إبن أبي بكر ت819: شرح مختصر إبن جماعة في كتابه ( المنهج السوي في شرح المنهل الروي) ، سراج الدين البلقيني ت805 : ألف ( محاسن الإصطلاح في تضمين كتاب إبن الصلاح ) وهو مختصر ، محي الدين النووي ت676: إختصر كتاب إبن الصلاح في كتابين ( تقريب الإرشاد  إلى علم الإسناد) . وهو مختصر ، والثاني ( التقريب والتيسير ) وهو مختصر المختصر ، زين الدين العراقي والسخاوي والسيوطي : قاموا بشرح ( التقريب والتيسير ) للنووي الذي إختصر كتاب إبن الصلاح ، إبن حجر ، كتب تعليقات ونكتا حول كتاب إبن الصلاح وسماه (الإفصاح ) . العراقي : فعل نفس الشئ في كتابه ( التقييد والإيضاح ) ومثله الزركشي ، العراقي أيضا قام بنظم كتاب إبن الصلاح شعرا في كتابه ( نظم الدرر في علم الأثر ) ثم قام بشرح النظم في كتابين أحدهما مطول والآخر مختصر ، البقاعي : قام بتأليف حاشية على الشرح والمختصر سماها ( النكت الوفية بشرح الألفية ) ، السخاوي : شرح نظم العراقي في كتابه ( فتح المغيث في شرح ألفية الحديث ) السيوطي : شرح نفس النظم في كتابه ( لفظ الدرر ) ، قطب الدين الدمشقي : شرحه في ( صعود المراقي ) وزكريا الأنصاري شرحه في ( فتح الباقي بشرح ألفية العراقي ).

    وما حدث في  الحديث حدث نظيره في الفقه والنحو وبقية العلوم ويعرف ذلك المتخصصون في تحقيق التراث لتلك الفروع ، وعليه فالعصر المملوكي ليس عصر العلماء وإنما هو عصر التلامذة للعلماء السابقين ، فالعالم هو الذي يزيد بعقله وبعلمه ويضيف لمستوى العلم في عصره ، وقيمة الإنسان كما يقول جبران فيما يخلقه ولو كان قليلا وليس فيما يجمعه ولو كان كثيرا ، فلا عبرة بالكثرة التي لا تغني بل تعطل الملكة العقلية فيما لا طائل تحته من الإختصار وشرح الإختصار وإعادة إختصاره وهكذا .

2 ــ     ويعلق(أحمد أمين ) على الحالة العلمية للعصر المملوكي فيقول ( كانت حركة التأليف قوية في عصر المماليك حتى ليعجزنا حصر ما ألف في ذلك العصر ، ولكنها كانت قوية من حيث العدد لا من حيث القيمة ، فلا تكاد تستطيع أن تعد كثيرا من أمثال مقدمة إبن خلدون ) ويقول ( ومن الغريب أن عالما يأتي فيختصر ثم يأتي عالم آخر في شرح ما اختصر ، حتى تكون لنا من ذلك ما هو أطول من المطولات ، ولم نكسب من ذلك إلا المجهود الضائع ، وكل يوم يمر يزداد الحال سوءا وركودا ) ويقول يصف العلماء ( قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، مع أن الأحاديث جمعت وتحصيل العلم سهل ، ولكنها النفوس صغرت والهمم إضمحلت ).

 3 ــ    ويشرف أحمد أمين بنظرة شاملة على الحياة العقلية العربية وموضع العصر المملوكي فيها يقول ( يكاد يكون العلم والأدب والفن قد انتهى في العالم العربي بانتهاء القرن الخامس ، وربما وجد شيئ في القرن السادس الهجري من الإبتكار والتجديد ، أما بعد ذلك من إبتداء القرن السابع إلى النهضة الحديثة ( يعني العصرين المملوكي والعثماني ) فيكاد يكون ترديدا لما فات وجمعا لمتفرق أو تفريقا لمجمع ) .

وبذلك ختم أحمد أمين مجموعته( فجر الاسلام ) ( ضحى الاسلام ) بالكتاب الأخير (ظهر الإسلام ) واعتبر فيه أن الحياة العقلية انتهت ببداية العصر المملوكي عصر التصوف ، وهو يضع باختصار – ودون أن يقصد – علاقة للتضاد بين  التجديد العلمي والتصوف ففي الوقت الذي بدأ فيه إنتشار التصوف ووضحت فيه غلبته على الحياة العربية إضمحل فيه العلم والإبتكار ، حتى  إذا تمت له السيادة في العصر المملوكي نضب معين التجديد ودارت الحياة العلمية في إطار التلخيص والشرح ، وحتى ذلك التلخيص والشرح بدأ في الإضمحلال العلمي على نحو ما نشهده في تعليقات المتأخرين في القرن العاشر وما بعده ، حتى عم الظلام تماما في العصر العثماني وتفشت الأمية بين العلماء ، وأحكمت سيطرة التصوف على دقائق الحياة المصرية والعربية بشتى جوانبها حتى كانت مفاجأة المصريين بالحملة الفرنسية .

4 ــ     ونعود للعصر المملوكي ونؤكد حقيقة تفاوت المستوى بين أوائل العصر في القرنين السابع والثامن وأواخر العصر في القرنين التاسع والعاشر مع إشتراكهما في الضعف ، وذلك تبعا للهبوط المضطرد للعلم مع الإزدهار المستمر في نفوذ التصوف .. وأي مقارنة بين مؤلفات العصرين تظهر هذا التفاوت أو على الأقل فاقرأ أسلوب إبن خلدون والعيني وإبن حجر في القرن التاسع وقارنه بأسلوب إبن إياس وإبن زنبل الرمال في القرن العاشر تجد الفارق واضحا في العرض والثقافة والعقلية .

  و يقول باحث يصف عصر الغوري ( لم تكن المعارف منتشرة مزدهرة في مصر في عصر الغوري ، وإذا نظرنا إلى الأبحاث والمجادلات التي كانت في مجالس هذا السلطان عرفنا ضيق الأفكار وقلة المعارف والولع بسفاسف الأمور والقصور عن جلائلها ).

  5- وقد إختلف في تعليل الجمود العلمي للعصر المملوكي فعلله أحمد أمين بإختفاء العنصر العربي وغلبة العنصر الفارسي والتركي عليه وبسقوط المعتزلة حاملى لواء النهضة الفكرية وسلطان العقل ، وبهجوم التتار وتدميرهم بغداد ، ثم إنتشار العصبيات المختلفة بين المسلمين وتفرقهم بين فقهاء وصوفية وسنية ومعتزلة وشيعة وحنابلة وشافعية مما نتج عنه إقفال باب الإجتهاد وانقلب المجتهد المطلق إلى مجتهد مذهب والمؤلف المبتكر إلى مؤلف مفسر .

    والواقع أنه قد ظلم العنصر الفارسي الذي أسهم بدور هام في الحياة العلمية منذ بدايتها ومنهم الخوارزمي والبيروني وسيبويه أما هجوم التتر فلم يمنع الإجتهاد العلمي بل إنه ألهب حماسة العلماء لتعويض ما دمر من مؤلفات ، وكان ممكنا أن يأتي التجديد بأورع من سابقه ، وانتشار العصبيات لا يعوق الحركة العلمية ، بل يدفع للمنافسة العلمية بينها ، وهذا ما حدث في القرن الرابع الهجري في المشرق ، وما ذكره عن سقوط المعتزلة صحيح وإن لم يعلل ذلك السقوط بأنه كان هزيمة للعقل المتطرف أمام الحنابلة ثم التصوف ووجده وعاطفته . فارتضى الناس التصوف بديلا لعقل المعتزلة بعد أن أقحموا العقل في جدل عقيم فأشبهوا اليونان وفرضوا مقولاتهم على التراث الإسلامي.

ويقترب باحث آخر من الحقيقة حين يقول مترفقا ( ومن سمات العصر قوة التصوف . ولعل ذلك كان من عوامل ضعف الحركة العلمية فإن العلم يعتمد على العقل والفكر على حين يعود التصوف ، إن كان تصوفا حقا إلى الذوق والوجدان ) .

6 ــ والحقيقة أن التصوف هو المسئول عن ذلك الجمود إذ كانت العلوم قد جمعت وفصلت واختصرت وشرحت ، ولم يبق إلا الإجتهاد واستعمال العقل فألغى التصوف ذلك وأرسى قواعد التقليد وأعلى من شأن الحفظ كمقياس وحيد للمقدرة العلمية ،ونشر الخرافات وفرض الإيمان بها على أنها ( العلم اللدني ) وربط ذلك كله  بالدين ، وهم على حق إذ كان التصوف هو الدين السائد ، وهو الشرك . والإسلام برئ من الجهل ومن هذا الشرك . ، وإن كان جهدهم في ربط جهلهم بالدين الاسلامى  قد جعل الإسلام مسؤولا عن نشر ذلك الجهل.

ونذكر بالعرفان قول كلوت بك يصف المصريين في العصر العثماني : ( السواد الأعظم من الأمة المصرية هائم في الجهالة وقد حاول البعض إسناد جهلهم إلى الديانة الإسلامية ، وهو خطأ فاحش ومذهب باطل فإن في القرآن آيات كثيرة تدل على شرف العلم والحض على تحصيله ) وكفى بها شهادة للإسلام المظلوم الذي ظلمه الصوفية .

7 ـ    وبعد .. فإن التاريخ العلمي يختلف عن التاريخ السياسي لأي أمة ، ولايعني قوة الدولة المملوكية عسكريا تقدمها علميا ، وبينما يتحتم على التاريخ السياسي لأي أمة أن يبدأ بالطفولة ثم يصل للقوة والشباب ثم ينحدر إلى الضعف والإنحلال ليفسح المجال لأمة شابة ، نجد أن التاريخ العلمي لا يرتبط بهذا الخط البيضاوي البياني تماما كما لا يرتبط تاريخ العلم في أمة ما بقوتها الحربية والسياسية ، بل ربما تزداد  القوة العلمية لأمة ما في عصر ضعفها بل في تفككها السياسي كالعالم (الإسلامي) الذي تفرق دولا وإمارات في القرن الرابع الهجري وهو عصر الإزدهار العلمي ، بل أن الأمة المهزومة قد تنتصر علميا على الفاتحين إذا وصلت إلى الحضارة وكان الفاتحون في طور البداوة والخشونة ، ولايلبث الفاتحون أن يكتسبوا حضارة المهزومين أو ما يعرف بانهزام الفاتحين أمام حضارة الأمم المفتوحة ، وفي التاريخ أكثر من مثل ، فأثينا هزمت إسبرطة بحضارتها وفكرها ، واستفاد العرب من حضارة فارس التي قضوا على ملكها ومن حضارة سوريا ومصر ، ولم يلبث التتار أن خضعوا للحضارة العربية في ا لقرن السابع ودخلوا في الإسلام ، وتأثر الصليبيون بالحضارة العربية الإسلامية في الشام .

  8 ــ    بعد هذه المقدمة الطويلة نقول أن العلم في الطريق الطبيعي يسير في صعود وتقدم طالما لم يقابل بالعوائق وتأسس على منهج صحيح ، فالثورة الصناعية في أوربا في تقدم مضطرد بعد النهضة الأوربية ، واستمرت حتى يومنا هذا ، والعالم العربي الإسلامي ظل في تقدم مستمر إلى إن أصابه الخمول ابتداء  من القرن الخامس تأثرا بدعوة الغزالى لقفل باب الاجتهاد ، ثم توقف نمو العلم نهائيا ابتداء من القرن السابع ثم تراجع العلم أمام ظلمات التصوف ابتداء من القرن الثامن وازداد تقهقرالعلم بازدياد التصوف . إلى أن نمنا في الجهل اللدني في العصر العثماني [1]، حتى أيقظتنا الحملة الفرنسية، واكتشفنا أن الغرب قد تفوق علينا ، ومازال . حيث إتبع المنهج التجريبي الذي دعا إليه القرآن ، وترك المنهج اليوناني الذي أعاق التطور البشري قرونا طويلة – ومنذ الإهتداء إلى هذا المنهج التجريبي ، والبشرية قد عرفت طريقها العلمي الصحيح – تتطور علميا ، من عصر البخار إلى عصر الفضاء ، ثم إلى عصر العولمة وثورة المعلومات والإتصالات  . وتتوالى المخترعات بحيث إنعدم الفارق بين الواقع والخيال ، وبحيث يعجز الخيال عن تصور ماهية المخترعات في المائة عام القادمة وتتطور ثورة المعلومات بحيث تتضاعف بمتوالية هندسية ، يصعب معها التكهن بأبعادها بعد عدة عقود من الآن .

  9 ــ    إذن هو المنهج الذي يحدد إستمرارية الحركة العلمية وتطورها ، أو إضمحلالها وخفوتها . شأن التصميم الهندسي لأي مبنى أوعمارة سكنية ، إن كان صحيحا أصبح أصله ثابتا وفرعه في السماء ، وإذا كان خاطئا فلابد أن يخر عليهم السقف من فوقهم ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون .

   إن المنهج الفكري الخاطئ الذي ساد في العصرين اليوناني والإسلامي لم يقم فقط  بوقف النمو المطرد والمفروض للحركة العلمية ، وإنما قام بتعقيم العبقريات التي ظهرت ، بحيث وضع أمامها الكثير من المحاذير التي تحد من إنطلاقها العقلي .

10 ــ  وهنا ندخل على أزمة إبن خلدون التي ربما لم يحس بها . فعقلية إبن خلدون كانت مرشحة لأن تخرج على عصرها باجتهاد راق ، ولكن هذه العقلية خضعت لمقاييس العصر في أغلب الأحيان ، وتمردت عليه بين السطور في بعض الأحيان . وحتى لانظلم الرجل فلنتذكر أنه عاش في فترة خاملة فكريا فجاء في المقدمة بما يؤهله لكي يكون أحد أعلام الإزدهار الفكري – المؤقت ، في القرنين الثالث والرابع من الهجرة ، ولو جاز لنا الإفتراض لقلنا أنه لو عاش عصرنا ، أو أنه لو إهتدى إلى المنهج الصحيح من خلال القرآن واتخذه نبراسا لحياته لربما تغيرت أمور كثيرة .. نقول هذا ، ونحن نتهيأ لتحسس مدى تأثر إبن خلدون بعصره وماذا بقى منه لعصرنا .

 



[1]
نقل باختصار من كتاب د أحمد صبحي منصور : دراسات في الحركة الفكرية في الحضارة الإسلامية ص20 ، 31، 66، 210 . وهو أحد خمس كتب صدرت للمؤلف سنة 1985 وبسببها عوقب واضطر إلى ترك جامعة الأزهرسنة 1987م