أولا :
من ذكرياتى من أحداث أوائل الثمانينيات أحكى هذه القصة الواقعية .
فى بداية أحد شوارع الاسكندرية ، كان يقع مسجد صوفى ، وفى نهايته مسجد يتبع لأنصار السنة المحمدية ، وبين المسجدين عداء مستحكم ، شأن ذلك العداء المتوارث بين الدين السنى والدين الصوفى . كان مسجد أنصار السنة يشن هجمات عنيفه فى الخطب والندوات على المسجد الصوفى ، وقد أطلق عليه:( مسجد الضرار)، وشاع الاسم وانتشر برعا&;عاية رواد المسجد السنى ، كما سبب الكثير من الأحراج للصوفية القائمين على المسجد .
وجاءت فرصة الأنتقام للصوفية حين وقع خلاف هائل داخل قاعة المسجد السنى . كان الخلاف حول قضية فقهية خطيرة فى نواقض الوضوء ، عن الريح الذى يخرج من الانسان مصحوبا بالصوت ( الضراط ) هل ينقض الوضوء أم لا.!.
ثارت المناقشات والتهبت بين فرقين من أئمة السنيين فى ذلك المسجد ، يؤمن أحدهما بأن (الضراط ) ينقض الوضوء لأنه يدخل ضمن البراز المعروف بمصطلح ( الغائط ) فى الآيه الكريمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا )( النساء 43 ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ)(المائدة 6 ).
وصمم الفريق الأخر على أن ( الضراط) لا يفسد الوضوء لأنه مجرد ريح وليس من (الغائط ) .
وجرت محاولات للتوفيق والصلح بين الفريقين ولكن فشلت بسبب تصميم كل فريق على رأيه ومذهبه ، بل تشعب الخلاف ووصل الى ( الفساء ) هل يلحق بالضراط ، أم له حكم خاص .
وتطور الخلاف ووصل من الغرف المغلقة الى الندوات المعلنة وخطب الجمعه ، وأنقسم رواد المسجد الى فرقيين أحدهما يؤكد أن (الضراط) ينقض الوضوء . والأخر يبرئ (الضراط) من نقض الوضوء .....
ووقف قادة المسجد الصوفى فى الشارع يضحكون ويتندرون ، واطلقوا على المسجد السنى ( مسجد الضراط) رداً على تلقيب مسجدهم ( بمسجد الضرار ))
واشتهر الشارع بوحود مسجدين أحدهما مسجد ( الضراط ) والأخر مسجد ( الضرار ) .
وبعض الظرفاء ممن تحرج من لفظ ( الضراط) أقترح تسمية ( مسجد الضراط ) المسجد (( ط)) ومسجد( الضرار) المسجد ( ر ) وكان يعلق يوميات الصراع بين المسجدين بقوله قال المسجد ( ط ) كذا ورد علية المسجد (ر) بكذا.
بعدها بسنين ظهر إسمى فى مجتمع أنصار السنة داعية للاصلاح السنى من الداخل بعد أن أعطيت للتصوف ضربة قاصية فى رسالة الدكتوراة ، وفى مؤلفات لاحقة ، وأصبحت من قادة جماعة ( دعوة الحق ) السنية ، وأخطب كل شهر فى أحد مساجدها من القاهرة الى دمياط وطنطا والاسكندرية والصعيد.
ودعيت الى الخطبة فى المسجد السنى اياه الذى كان لا يزال يحمل لفظ ( مسجد الضراط) وكانت المعركة قد هدأت ، بعد أن كف السنيون فى المسجد عن الجدال فيها لأنهم لم يصلوا الى حل وسط ولأنهم خرجوا من المعركة بلقب مضحك ( مسجد الضراط) .
وبسبب شهرتى وقتها بين السنيين بالجرأة فى التفكير والنقد ، فقد وجهوا لى نفس السؤال ( هل الضراط ينقض الوضوء أم لا ) وتحفز كل فريق لسماع رأيى ، وكان ذلك بعد خطبة الجمعة وصلاة الجمعة.
فوجئت بالسؤال ، وكانت عندى خلفية عن معركة ( الضراط ) ، ووضح لى أنها ستعود ، وسأكون طرفا فيها حيث تركزت علىّ عيون الفريقين ، و كان موقفا عصيبا إذ بعد الخطبة التى لاقت منهم استحسانا سأتحول الى زعيم لطائفة و عدو للطائفة أخرى فى قضية ( الضراط ) ، وربما يسفر الأمر عن معركة بسبب هذا ( الضراط ) تكون عاقبتها ( ... ).!!..
بسرعة أخذ عقلى يبحث عن ( مخرج ) من هذه الورطة . وبسرعة وجدت ( المخرج ) : أن أتجول بهم فى موضوعات مختلفة لأخرج بهم من موضوع ( الضراط ) وفى ثنايا الحديث أقول رأيي ، وأفلت بجلدى من مسجد الضراط هذا ، ولا أعود له أبدا.
* قلت لهم : فى البداية أرد عليكم بهذه القصة التاريخية : قبيل الحمله الصليبية الاولى على المسلمين (حملة الشعوب) التى قادها بطرس الراهب إنشغل علماء المسلمين بقضية فقهية خطيرة ، اختلفوا فيها وحكم بعضهم بتكفير البعض ، القضية هى ( هل لمس قلامة ظفر المرأة الأجنبية ينقض الوضوء أم لا )، (المرأة الأجنبية مصطلح فقهى مقصود به المرأة التى يحل زواجها أو الزوجة) . فى المذهب الشافعى يجعلون لمس كف المرأة الأجنبية ينقض الوضوء ، والكف يشمل اليد والأصابع وأظافر الأصابع، فهل اذا قامت إمرأة بتقليم اظافرها وسقطت قلامة أظافرها على الأرض ولمسها رجل فهل ينقض وضوؤه أم لا ؟ اختلفوا فى هذا ولم يصلوا الى نتيجة (حتى الآن )، ووصل الخلاف وأهميته الى أن تم تسجيلة ضمن حوادث التاريخ . وغفل الجميع عن العدو الصليبى القادم الذى يطرق عليهم الأبواب.
* وقلت لهم انتم الآن تكررون نفس القصة ... فالمسلمون الآن يعانون فى الداخل من الاستبداد والفساد ، ويعانون فى الخارج من الاذلال والتحقير، وينتقلون من هزيمة الى نكبة الى نكسة، وبدلا من أن نناقش حالنا و نبحث عن الاصلاح تتركون هذا كله للتشاجر حول ( الضراط ).!!
*وقلت لهم آفة الفقة السنى أنه فى العبادات يركز على المظاهر السطحية ويخترع لها التفصيلات التى لم ترد فى القرآن ، لدرجة أن باب الطهارة الذى جاء فى مجرد آيتين فى القرآن الكريم ، كتب فيه الفقهاء آلاف الصفحات . وفى تركيزهم على تللك المظاهر السطحية نسى فقهاء السنة أن العبادات فى الاسلام ليست غاية ، بل هى وسيلة للتقوى، فيقول جل وعلا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )( البقرة 21 ) ، ونسوا أن الهدف من الصلاه هى التقوى والابتعاد عن الفحشاء والمنكر ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ )( العنكبوت 45 ) أى ينبغى أن يكون التركيز فى الفقة السنى على الهدف من الصلاه ، وهو بالتحديد الخشوع فيها والمحافظة عليها بعدم الوقوع فى المعاصى طبقا لما جاء فى أوائل سورة المؤمنون من الحض على الخشوع فى الصلاة و الحض على الالتزام الخلقى بين الصلوات للمحافظة على دور الصلاة كوسيلة للرقى الخلقى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )
* وقلت لهم أنه مقابل الأف الصفحات المكتوبة فى الفقة السنى لغواً عن الطهارة والاستنجاء والوضوء والغسل والأف الصفحات الأخرى عن المظاهر السطحية الأخرى للصلاة لا تجد أدنى إهتمام بموضوع الخشوع فى الصلاة ، ومنع الرياء فيها ، ودورها فى تحسين اخلاق المسلم، وفى حثه على التقوى ...
*وقلت لهم : ترتب على هذا المسلم السنى يعتبر الصلاة هدفاً فى حد ذاته ، لذلك يعتقد أنه طالما يصلى فلا عليه مهما فعل من ذنوب ومهما ارتكب من آثام لأن صلاته الشكلية تغفر كل ذنوبه ، وبذلك تحول دور الصلاة من وسيلة للسمو الاخلاقى والتقوى كما جاء فى القرآن الى وسيلة للفسوق والعصيان كما يظهر من حال المسلمين . ثم لا يكتفى الفقهاء السنيون بهذا،بل يخترعون قضايا جديدة يختلفون فيها مثل لمس قلامة ظفر المرأه ، أو الضراط هل ينقض الوضوء أم لا .
* وقلت لهم : ونسى الفقهاء أيضا قيام العبادات فى الاسلام على التيسير ورفع الحرج ، فالله تعالى يقول (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ( الحج 78) ، والتيسير فى أداء العبادات منصوص عليه فى الطهارة بالذات ، ففى آية الطهارة يقول جل وعلا (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ) ( المائدة 6 ). وطالما سكت الله تعالى عن شىء فلا يصح إضافته للمحظورات ، ولكن فقهاء السّنة قاموا بقياس الضراط والفساء على الغائط وأعطوهما نفس الحكم ، وهذا خطأ ، فطالما لم يأت فى القرآن الكريم نصّ قاطع على شىء فى العبادات المفروضة وفى المحرمات المنهى عنها فلا يجوز إضافته بدعوى القياس . والقياس يفتح باب تحريم الحلال و يفتح باب التزمت فى أداء العبادات ، ويقوم بالتضييق والتعسير خلافا لشرع الله جل وعلا القائل (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ( البقرة 185 ) .
وفى مقابل هذا التزمت فى الشكليات فان الفقهاء حولوا العبادات الى رسوم سطحية وطقوس مظهرية . ومن هنا لا ننتفع بعباداتنا مع كثرتها ، لذا يرتبط المتدين منا بسوء السمعة وسوء الخلق .
أستمعوا الى النهاية ، ثم قالوا: ولكنك لم تجب على السؤال . هل الضراط ينقض الوضوء أم لا .!!..
لم يفهموا ..وهم عادة لا يفهمون.. ولا يزالون .!
ثانيا :
أحكى لكم هذه القصة لأن الانشغال بالقضايا الفرعية التافهة لا يزال ، ويصل هذا الانشغال الى درجة الجدل والحدة فى الإختلاف ، كأننا ندارى عجزنا عن مناقشة القضايا الحيوية و الخطيرة و التى تنفع الناس بالانشغال بتلك التفاهات .
وفى كل ذلك ننسى أن العبادات هى وسيلة وليست هدفا وان الاسلام مبنى على التيسير ورفع الحرج ، وان الله عز وجل وعلا يعفو عن المخطىء والناسى والذى لا يتعمد الخطأ ، وانه جل وعلا لا يكلف نفسا الا وسعها ، وانه جل وعلا أمرنا أن نكون خير أمة للناس ليس بتحرى وقت الإفطار بالضبط والدقيقة والثانية وليس بالتشدد فى الطهارة وتحرى نواقص الوضوء،وليس بالجدل المستميت حول حكم (إتيان الزوجة فى الدبر ) ولكن بأن نتمسك بالقيم العليا والدفاع عنها ، وبتغيير ما بأنفسنا من خنوع وخضوع لتخضع لله تعالى وحده ، وان تتواصى بالامر بالمعروف والنهى عن المنكر بعد ان نعرف ان المعروف هو قيم الحرية والسلام والعدل والاحسان والتسامح والكرم والشجاعة والرحمة والعطف ، وأن المنكر هو الظلم والبغى والاسراف والبخل والفسوق والعصيان والاستبداد والفساد ، وأن نحقق الايمان باليوم الآخر عمليا بأن نكون أفضل الناس خلقاً وعلما وحضارة ، ولا يمكن أن نكون خير أمة اخرجت للناس ونحن مستعبدون فى بلادنا ويتحكم المستبدون فينا؛ يذيقوننا الذل والعذاب والهوان ، ثم نخشاهم ولا نخشى الله .
أخيرا ...
كل عام وانتم بخير .