القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون
ßÊÇÈ كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية

في الأحد ٢٤ - نوفمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

عرض مقدمة ابن خلدون:الباب الثالث (ف1: 9): الدولة والعصبية والدعوة الدينية

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية                                         الفصل الأول

                 الملك والدولة العامة إنما يحصل بالقبيلة والعصبية

       التغلب والقوة تكون بالعصبية ، ويتنافس الناس في الوصول إلى الملك ويتنازعون ، والغالب هو الأكثر قوة وإتباعا وعصبية .

     وهذا ما يتناساه جمهور الناس بسبب طول العهد بعد إقامة الدولة . فلا يعرفون ما فعل الله أول الدولة ، وإنما يدركون تسليم الناس لصاحب السلطة الذي ورثها واستغنى عن العصبية ، وحدث ذلك لأهل الأندلس فتلاشى ملكهم .

                                                  الفصل الثاني

                إذا استقرت الدولة وتمهدت فقد تستغني عن العصبية

      في بداية الدولة لاينقاد لها الناس إلا بالقوة والعصبية ، فإذا توطدت الدولة وتوارثها أصحاب الملك تناسى الناس قيامها على العصبية . وأصبح التسليم للدولة عادة والقتال عنها عقيدة ، ولهذا جرت العادة على وضع الكلام في الإمامة بعد العقائد الإيمانية . كأنه من جملة الإيمان . وتدعم  الدولة سلطانها بالموالى والأتباع الذين نشأوا في ظل سلطانها ، أو تستقدم موالي من الخارج .

       وهذا ما حدث للعباسيين ، إذ استعانوا بالعرب ، فلما فسدت عصبية العرب تحولوا إلى الموالى من الترك والديلم ، ثم تغلب عليهم البويهيون ، ثم السلاجقة , وحدث هذا لصهناجة ـ  بعد فساد عصبيتهم منذ القرن الخامس ـ تقلص سلطانهم في  الثغور حتى انقرض وتأسست دولة الموحدين بقوة القبائل المصامدة .

     وحدث هذا للدولة الأموية بالأندلس ، بعد فساد عصبيتها العربية تقسمت بين ملوك الطوائف الذين تحاربوا فيما بينهم ، ودعم كل منهم سلطانه بالموالي ، وحتى غزاهم المرابطون من شمال أفريقيا بعصبيتهم القبلية من لمتونة فاستولوا على الأندلس .

     ويرد إبن خلدون على الطرطوشي في كتابه " سراج الملوك " حيث يرى الطرطوشي أن الجند أصحاب العطاء هم أصحاب العصبية ، ويرى إبن خلدون أن ذلك في الدولة بعد استقرارها ثم ضعفها ، لذا تلجأ إلى إستئجار الجند والموالي والمرتزقة .

                                            الفصل الثالث

       قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية

         إذا تغلبت إحدى العصبيات على الأمم والأجيال إنقادوا لها ، فإذا خرج ثائر ينتمي إلى هذه العصبية وارتحل إلى مكان بعيد عن مقر السلطان ، ولكن يموج هذا المكان بالإنتماء إلى هذه العصبية ودعوتها أصبح ممكنا أن تجتمع حوله عصبية جديدة تقوم معه تنشئ له ملكا جديدا إيمانا بأحقيته في السلطان وفي الإمامة .

     وقد وقع هذا للإدارسة في المغرب الأقصى بعد فرار إدريس من العباسيين , وحدث ذلك للفاطميين في شمال أفريقيا ، وفي كل الأحوال وجدوا في القبائل عصبية لهم ، وهذه القبائل البربرية كانوا منقادين للفاطميين يتنافسون في خدمتهم إعتقادا منهم بأحقية العلويين بالإمامة.

                                      الفصل الرابع

                          الدولة العامة القوية أصلها دعوة دينية

     لأن الملك يتم بالغلبة والعصبية ، ولايتم ذلك إلا باتفاق القلوب على الإيمان بدعوة دينية ، والأمل في عون الله على إقامتها .

    والسبب إن الهدف إذا  كان دنيويا حمل في داخله التنافس والخلاف ، أما إذا كان دينيا اتحدوا جميعا في سبيله ، لذلك تقوم الدولة وتتوسع بالتعاون والتعاضد .

                                    الفصل الخامس

                   الدعوة الدينية تزيد قوة الدولة على قوة العصبية

     لأن الصبغة الدينية للدعوة تمنع التنافس الذي يصاحب العصبية ، وتجعلهم متحدين حول هدف واضح في مواجهة الدولة التي يريدون الوثوب عليها .

     وأهل هذه الدولة وإن كانوا كثرة إلا أنهم متخاذلون مختلفون قد أرهقهم الترف لذا ينهارون سريعا أمام أصحاب هذه الدعوة الدينية . وذلك ما حدث في الفتوحات الإسلامية في القادسية واليرموك ،وحدث في حركة الموحدين وقبائل لمتونة حين هزموا قبائل المغرب وشمال أفريقيا .

      فإذا انتهت الصبغة الدينية وبقيت العصبية يعود الخلاف ، ويتغلب الأقوى ، وقد كانت قبائل زناته أشد توحشا وقوة من المصامدة ، ولكن تغلب عليهم المصامدة لأنهم يحملون دعوة دينية . وقامت دولة الموحدين ، وأصبح الزناتيون أتباعا للمصامدة . فلما خمدت الدعوة الدينية في المصامدة تغلبت عليهم زناته وغلبوهم وانتزعوا منهم الأمر .

                                               الفصل السادس

                            الدعوة الدينية لا تتم إلا بالعصبية

    لأن كل أمر يتم فرضه على الناس لابد له من عصبية ، واستشهد بحديث : ما بعث الله نبيا إلا كان في منعة من قومه ، وقال إذا كان هذا في حق الأنبياء وهم أصحاب معجزات إلاهية فهو في غيرهم أولى .

    وقد ثار الشيخ ابن قسي الصوفي في الأندلس وسمى أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي ، فاستتب له الأمر برهة بسبب انشغال لمتونة بأمر الموحدين ، ولم تكن له قبائل تتعصب له ، فلما استولى الموحدون على المغرب دخل في طاعتهم وكان داعيتهم بالأندلس ، ولو كانت له عصبية لما أصبح تابعا لغيره . ومن ذلك ثورات الفقهاء الداعية إلى تغيير المنكر ، ويتبعهم العوام بدون عصبية قوية ، ويقول إبن خلدون " وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين ، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم " فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب بدون عصبية هلك . واستشهد إبن خلدون بالفتن الأهلية التي وقعت في بغداد بعد خلع المأمون ، وتزعم الفقهاء هذه الفتن تحت شعارات دينية ، وكان منهم خالد الدريوس وأبو حاتم سنة 201 ، ويحدث أن يقتدي بهم بعض الفقهاء في تزعم الفتن دون أن تكون له عصبية وينتهي أمره بالنجاة متهما بالجنون والوسوسة ، أو بالعقاب ، وبعضهم يزعم الإنتساب إلى  المهدي المنتظر كما حدث في أول القرن الثامن الهجري حين زعم  التوبذري الصوفي في سوسه أنه الفاطمي المنتظر ، فتجمع حوله بعض البربر، فأرسل إليه عمر السكسيوي زعيم قبائل المصامدة من اغتاله على فراشه ، وفي نفس العصر ظهر رجل آخر إسمه العباسي في غمارة وادعى أنه المهدي ،واحتل بادس ، ثم قتل بعد أربعين يوما . والسبب هو غفلتهم عن أهمية العصبية أو القوة المؤيدة .

ملاحظة

ينطبق هذا فى عصرنا على الدولة السعودية ، إذ إستعانت بالدعوة الدينية لابن عبد الوهاب ( الوهابية ) وأقامت دولتها الأولى . وقد دمرها الوالى ( محمد على ) عم 1818 ، دمّر محمد على الدولة ولكن ترك الدعوة فاشية ، فاستطاعت الدعوة بأنصارها ( أو عصبيتها بتعبير ابن خلدون ) إعادة إقامة الدولة السعودية الثانية ، وسرعان ما سقطت الدولة فأعاد عبد العزيز آل سعود إقامة الدولة السعودية الثالثة الراهنة عن طريق ( عصبية ) أسسها ، هم شباب الأعراب الذين علمهم الوهابية فى معسكرات منعزلة أسماها ( الهُجر ) . وأسماهم ( الاخوان ). وثار  ( الاخوان ) على سيدهم عبد العزيز فهومهم وأسس فى مصر جمعيات وهابية كان أخطرها ( الاخوان المسلمون ) الذيم نشروا وباء الوهابية دعوة سياسية  دينية ، تسير فى ركابها المذابح وحمامات الدم ..حتى الآن .

                                   الفصل السابع

           إن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها

     لأن عصبية الدولة من أمراء وجند لابد من توزيعهم على أرجاء الدولة من المدن وعلى الحدود ، لإدارة الدولة وحمايتها ، فإذا توزعوا على الحواضر والثغور فلابد من نفاذ عددهم ، فإذا اتسعت الدولة فوق امكانية عصبيتها حدث خلل يمكن أن ينتهزه العدو المجاور لغزو الدولة.     

    وإذا بقيت قوة من عصبية الدولة بعد توزيع الجنود والأمراء للحماية والإدارة ، فإن هذه البقية من القوة تعين الدولة على بلوغ مرادها . والدولة في مركزها أشد قوة عنها في الأطراف . ثم إذا أدركها الهرم فإن الضعف يبدأ من الأطراف إلى أن ينتهي في المركز ، فإذا جاء الضعف في المركز نفسه فلا ينفعها بقاء الأطراف بل تضمحل لوقتها . فالمركز هو القلب ، وحين سقطت عاصمة الفرس في المدائن لم ينفع يزدجر الثالث ما بقي بيده من الأطراف ، وعلى العكس من ذلك دولة الروم ، حين لم تسقط القسطنطينية  إستمر ملكهم بدون الأطراف التي استولى عليها العرب .

    والعرب في الفتوحات توسعوا فيما بين الهند والأندلس . فلما تفرقت قوتهم وعصبيتهم في تلك المساحة ، لم يستطيعوا تجاوز تلك الحدود ، ثم بدأ تراجعهم من الأطراف .وهكذا فإن اتساع الدولة على قدر نسبة عصبيتها وقوتها .

                                    الفصل الثامن

                 عظم الدولة واتساعها وبقاؤها بقدر نسبة القائمين بها

    لأن الملك يقوم على القوة والعصبية ، وهي تتوزع على الدولة ، وكلما ازدادت قوة الدولة إتسعت مساحتها ، وبلغ عدد الجيش الأخير للنبي في تبوك 110 ألف ، فلما جاءت الفتوحات أسقطوا فارس وتوسعوا في ممتلكات الروم ، ووصلوا ما بين الهند والأندلس ، ومن اليمن إلى الترك شمالا .

     وكانت كتامة أكبر من صهناجة والمصامدة فاستطاعت بالدعوة الفاطمية أن تمتد فيما بين المغرب إلى مصر والشام والحجاز . ولأن زناته كانت أقل في العدد من المصامدة فقد قصر ملكهم على ملك الموحدين ، وهكذا تتسع الدولة بقدر تعداد وقوة عصبيتها .

     ويتوقف على ذلك أيضا طول بقائها ،لأن عمر الدولة يتوقف على مدى قوة عصبيتها في النفوس ، والنقص في الدولة يبدأ في الأطراف ،  فإذا تباعدت الأطراف لاتساع الدولة ، فإن النقص في الأطراف يأخذ وقتا حتى يتغلغل ويصل إلى القلب والمركز . مما يجعل أمد الدولة طويلا .

واستشهد بطول مدة الدولة العباسية بالمقارنة بغيرها من الدول اللاحقة .

                                      الفصل التاسع

            الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة

     لأن اختلاف الأراء والأهواء ينتج عنه اختلاف العصبيات وكثرة الفتن والثورات ، لأن كل قبيلة أو عصبية تطمع  في أن تصل بقوتها إلى الإستقلال ، والدليل على ذلك ما وقع في شمال أفريقيا بعد الفتح الإسلامي ، إذ قاوموا الفتح ، وبعد أن أسلموا إستمروا في الثورات على مذهب الخوارج ، ويقال أن البربر إرتدوا إثنتي عشرة مرة حتى إستقر الإسلام فيهم في ولاية موسى بن نصير وذلك بسبب كثرة قبائلها وعصبياتها . واختلف الشام والعراق عن شمال أفريقيا إذ سرعان ما تمهدت أمور المسلمين فيها على عكس البربر وقبائلهم . وقبل ذلك كان صعبا على بني إسرائيل إقامة ملك لهم في الشام الذي تكاثرت فيه القبائل من كل صنف ، وامتد ذلك الخلاف إلى بني إسرائيل أنفسهم فتفرقوا إلى أن غلبهم الفرس ثم الروم .

     وعلى العكس من ذلك ، فالأوطان الخالية من  العصبيات يسهل إقامة وتوطيد الدولة فيها كما في مصر والشام بعد الإسلام وفي عصر إبن خلدون .

مصر مطية راكب

ويقول ابن خلدون إن مصر بالذات في غاية الدعة والرسوخ لقلة أهل العصبيات  ، وإنما هو سلطان ورعية ، ودولتها قائمة بالمماليك يتوارثها الأقوى فيهم ، والخلافة الاسمية لبني العباس ، وكذلك شأن الأندلس في ذلك الوقت .

ملاحظة : ابن خلدون أتم كتابة المقدمة والتاريخ  قبل قدومه لمصر .  ويبدو انه أضاف الحالة المصرية بعد مجيئه الى مصر ، وشعب مصر ليس قبائل مسلحة كما هو الحال فى الصحراء العربية والأفريقية ، بحيث ينطبق عليها وصف العصبية ، لذا هى خارجة عن تأطيره للعصبية .

مصر هى كما قال عمرو بن العاص ( مطية راكب ) أو كما يقول المصريون ( بلد اللى يركب ) ، ومن يركب مصر بعسكره هو الذى يحكم ، حتى لو كان أجنبيا ، أو رقيقا مملوكا ( المماليك ) . و العسكر حتى لو كان مصريا فهو يحكم مصر بنفس الحكم المملوكى العسكرى والأجنبى، يحتكر السلطة والسلاح والثروة ، ومنطق العسكر فى كل عصر أنهم ( السادة ) ، وأن الشعب المصرى مملوك لهم لأن الشعب منزوع السلاح عاجز عن تحرير نفسه من الاستبداد .

 

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب3 :( ف 10 : 20) الاستبداد والترف وأعمار الدُّول

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية

                                               الفصل العاشر

                               طبيعة الملك الإنفراد  بالمجد

    لأن الملك بالعصبية ، والعصبية تتآلف من عصبيات فرعية تخضع لأقواها ، والعصبية الأقوى يكون منها الملك هو صاحب الحسب والأصل فيهم .وإذا انفرد بالحكم أصابه التأله واستبد بالأمر ومنع الآخرين من أن يكون لهم في دولته نفوذ. ودائما ما يحدث ذلك في الملك الأول المؤسس للدولة ، ولايتم للثاني والثالث إلا بقدر تحكمه في العصبيات .

                                                 الفصل الحادي عشر

                                         طبيعة الملك الترف

        لأنه بحصولهم على الملك يتركون الخشونة إلى الترف والتنعم في المطاعم  والمشارب والمساكن والأثاث ، ويتفاخرون في ذلك . وعلى قدر ملكهم يكون حظهم من الترف .

                                                 الفصل الثاني عشر

                                  طبيعة الملك الدعة والسكون

      لأن الوصول إلى الملك هو الغاية ، فإن حصل على غايته لم يعد له هدف أبعد من ذلك ، لذا يؤثر الراحة والتمتع بالدنيا في كل مظاهرها .

                                       الفصل الثالث عشر

                            إذا تحكمت في الملك عوامل الاستبداد

                                والترف والدعة أصيبت الدولة بالهرم

    وذلك لعدة أسباب :

الأول : لأن الإستبداد يجعل الآخرين يتكاسلون ويؤثرون الخنوع ، ثم يأتي الجيل الثاني من الأتباع يحسبون أن ما يأخذونه من السلطان أجرا على الحماية مع أنهم لا يرضون افتداء السلطان بحياتهم ، مما يسرع بضعف الدولة . أما إذا كان الأمر شورى ومشاركة إتحدوا جميعا في تدعيم الدولة والدفاع عنها .

الثاني : إن ترف السلطان يوقعه في الإسراف ، مما يجعل النفقات تزيد على الإيراد ويزداد الفقير فقرا ، ويستهلك المترف ما لديه بإسرافه ، ويزداد ذلك في الأجيال اللاحقة ، فتعجز الدولة عن نفقات الحروب ومرتبات الجند ، وعندها يلجؤون للمصادرات والعقوبات المالية ، ويضيع إيرادها بين أرباب الدولة فلا تستفيد منها شيئا غير الفساد والفوضى . وإذا كثر الترف والسرف في أرباب الدولة لم تعد مرتباتهم تكفي إسرافهم فيحتاج السلطان إلى زيادتها وتعجز موارد الدولة عن ذلك ، فتزداد الضرائب والمكوس ، وقد يلجأ إلى تقليل عدد الجند لتوفير النفقات فتضعف الدولة ، ويطمع فيها أعداؤها وجيرانها . والترف مفسدة للناس إذ يحيي في النفس الشرور ويضيع منها عوامل الخير .

الثالث : إن الملك حين يؤثر الدعة والراحة فإن الجيل الثاني من الملك ينسى الخشونة ، ويزول الفارق بينه وبين العوام ، وينغمس في الترف ويزداد اعتماده على الجند والحراسة من أصحاب البأس والخشونة ليدعم دولته ، وقد يشتري المماليك ليكونوا جندا ، وأبناء أولئك المماليك يكونون أقل خشونة وبسالة من آبائهم ، لأن الأبناء ولدوا وعاشوا وسط الدولة وترفها .

ملاحظة : هذا تأصيل سياسى رائع ، ينطبق على الدول الراهنة فى الشرق الأوسط من مصر الى الخليج .   

                                      الفصل الرابع عشر

                             الدولة لها أعمار طبيعية كالأشخاص

    العمر الطبيعي للإنسان 120 عاما ، ولايزيد عن ذلك إلا نادرا . ويختلف العمر في كل جيل حسب كل قرن . من مائة عام إلى الستين والسبعين . وأعمار الدول أيضا لا تتعدى أعمار ثلاثة أجيال والجيل أربعون عاما .أي أن عمر الدولة 120 عاما . وأخذ إبن خلدون تحديد أربعين للجيل من الأربعين عاما التي قضاها بنو إسرائيل في التيه .

    وعمر الدولة لا يزيد على ثلاثة أجيال ، لأن الجيل الأول يحتفظ بالخشونة والبسالة وبساطة العيش فيحتفظ بالقوة والعصبية والغلبة . ثم يأتي الجيل الثاني وقد تحول إلى الحضارة والترف واستبداد صاحب الأمر وخنوع الأتباع ، ولكن يبقى معهم شواهد عز من الجيل الأول وأهل في الإصلاح والإقتداء ، إلا أن الجيل الثالث يبلغ في الترف غايته ، ويصبح السلطان عالة على الدولة محتاجا إلى حمايتها كالنساء والصبيان ، ولا يتبقى له من الفروسية إلا أن يركب في المواكب والإحتفالات ، ويحتاج إلى إستجلاب الجند البواسل وشرائهم واستئجارهم إلى حين تنقرض الدولة .

   وهكذا لا تعدو الدول هذه الأجيال الثلاثة إلا في ظروف إستثنائية كأن لا تكون هناك قوة أخرى تريد إزالتها .

                                                 الفصل الخامس عشر

                                  إنتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة

     التغلب الذي يكون به الملك يأتي بالعصبية وشدة البأس أي البداوة ، ثم تأتي الحضارة والترف والدعة مع استقرار الملك ، وهذا ما حدث للعرب بعد استقرار الفتوح وبعد أن خدمهم أهل البلاد المفتوحة . ونرى ذلك حين نقارن أحوال العرب عند الفتح وقد رأوا الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في العجين ، بأحوالهم في الدولة العباسية حين تزوج المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وما حدث في هذا الزفاف من ترف وسرف ، وكانت أعطيات بني  أمية من الإبل فأصبحت لدى العباسيين أحمال المال والثياب ومراكب الخيل . ..

    وهكذا تنتقل الحضارة من الدول السالفة إلى الدولة اللاحقة من الفرس لعرب بني أمية ثم بني العباس ثم الديلم ثم الترك ثم السلاجقة ثم المماليك .

     وعلى قدر عظم الدولة يكون حظها من الحضارة لأن الحضارة من توابع الترف ، والترف من توابع الثروة والنعمة ، والنعمة من توابع الملك ، فعلي مقدار الملك يكون ذلك كله .

                                               الفصل السادس عشر

                          الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها

    لأن القبيلة  إذا وصلت إلى الملك كثر التناسل فتكثر عصبيتها ، ويستكثرون أيضا من الموالي والأتباع ، فيزدادون عددا وقوة . فإذا ذهب الجيل الأول والثاني وأصيبت الدولة بالهرم لم يستقل أولئك الموالي بأنفسهم في تأسيس الدولة لأنهم كانوا عيالا على أهلها ، فإذا ذهب الأصل لم يستقل الفرع بالرسوخ.

      واستشهد إبن خلدون على كثرة نسل العصبيات بتعداد بني العباس أيام المأمون وقد وصلوا إلى ثلاثين ألفا في أقل من مائتي سنة . ولم يصل العرب في أول الفتح هذا العدد.

                                                  الفصل السابع عشر

         أطوار الدولة واختلاف أحوالها وأخلاق أهلها باختلاف الأطوار

    تنتقل الدولة في أطوار مختلفة ، وفي كل طور يكتسب أهل الدولة حالات مختلفة ، وهناك خمسة أطوار للدولة :

الطور الأول  : الإستيلاء على الملك ، ومؤسس الملك يكون قدوة في المجد والفروسية وإدارة الدولة ولا ينفرد بالأمر .

الطور الثاني  : الإستبداد والإنفراد بالحكم ، ويهتم الملك باصطناع الأتباع الجدد وإبعاد العصبية التي أقامت الملك ، ويعاني في سبيل ذلك ما عاناه سابقه في الإستيلاء على الحكم .

الطور الثالث : الفراغ والدعة للتمتع بثمرات الملك ، وهنا يكون ضبط الإيراد وتحسينه وتشييد العمران وتفريق الأموال على الأتباع ، وهذا آخر أطوار القوة والإستقلال .

الطور الرابع  : القنوع والمسالمة ، يقنع الملك هنا بما بناه السابقون ويقلدهم في مآثرهم.

الطور الخامس: الإسراف والتبذير : هنا يتلف الحاكم ما جمعه السابقون وينفقه على حاشية السوء ، ويقلدهم الوظائف الخطيرة ، وهنا تصاب الدولة بالهرم والمرض وتنقرض.

ملاحظة : هذا ينطبق  الآن على الأسرات الحاكمة التى تحتكر السلطة والثروة .

                                               الفصل الثامن عشر

                                              آثار الدولة بقدر قوتها

     الآثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولا ، وعلى قدرها يكون الأثر ، فآثار الدولة وهياكلها بقدر قوة الدولة ، لأن ذلك لا يتم إلا بكثرة  العمال والصناع وحسن الإدارة . والدولة العظيمة الواسعة تترك آثارا تدل على عظمتها وسعتها . مثل إيوان كسرى وبلاط  الوليد في دمشق وجامع بني أمية  بقرطبة والأهرام بمصر . ومن تلك الآثار تعرف اختلاف الدول في القوة والضعف .

تصحيح ونقد لبعض الروايات

    والآثار العظيمة القديمة لم تكن لأن الأقدمين كانوا عمالقة ولكنهم أقاموها بالتنظيم والإدارة واجتماع الأيدى العاملة ، وليس هناك فرق بين أحجام البشر ، إلا أن القصاصين حكوا خرافات عن عاد وثمود والعمالقة لا يقبلها عقل . ومنها أن عوج ابن عناق العملاق كان يتناول السمك من البحر ويشويه في الشمس ، ويرد إبن خلدون على ذلك أنهم لا يعلمون أن الحر هو الضوء ، والضوء فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء فتتضاعف الحرارة بسبب ذلك ، وإذا تجاوزت مطارح الأشعة المنعكسة فلا حر هنالك بل يكون البرد حيث يجاري السحب ، وأن الشمس في نفسها لا حارة ولا باردة وإنما هي جسم بسيط مضئ .                   

قوة الدولة بقدر ثرائها الاقتصادي

    ومن آثار الدول أيضا حالها في إعطاء الهدايا ، وأن ذلك على قدرها وغناها وحضارتها ، واستشهد بجوائز المأمون والبرامكة وملوك صنهاجة .

     وذكر إبن خلدون إيراد بيت المال في بغداد في خلافة المأمون بتفصيلاته من كل البلاد والأقطار ، وذكر أن عبدالرحمن الناصر ترك في بيت المال عند موته خمسة مليارات دينار ، وإيراد بيت المال في عهد الرشيد ( 7500) قنطار ذهب سنويا . وقال أن الناس قد يستكثرون ذلك مع أن هذه الثروات على قدر قوة الدول واتساعها . وقال أنهم كذبوا ما أخبر به ابن بطوطه في رحلته عن عجائب وثراء الهند لأنهم لم يروا إلا بلادهم ولا يتخيلون غيرها .

                                    الفصل التاسع عشر

         إستظهار صاحب الدولة على قومه أهل عصبيته بالموالى والأتباع

     يتغلب صاحب الأمر بعصبيته على أعدائه ويقيم دولته ، ويستعين بهم في إدارة دولته وحمايتها ، فإذا جاء الطور الثاني إستبد الملك بالحكم وأقام عصبية جديدة يستعين بها ضد العصبية القديمة التي تتيه بمكانتها وسلطانها ، والتي رأته صغيرا ناشئا حين كانوا يقيمون الأمر لأبيه .

    ولذلك يحتفي الملك بهذه العصبية الجديدة من الموالي والأتباع ويغدق عليهم الأموال والمناصب ، فيدب في الدولة الوهن والحقد والتآمر والفساد .

    وقد حدث ذلك في بداية الأمويين والعباسيين ، إذ استعانوا برجالات العرب في بداية الأمر ثم اصطنعوا بعدها الموالي والأتباع .

                                     الفصل العشرون

                              أحوال الموالى والأتباع في الدول

    يتفاوت الأتباع في التعلق والإلتحام بصاحب الدولة بقدر قدمهم في خدمته، فالعصبية الأولى تكون بالنسب حيث يتناصر الأقربون فيما بينهم للوصول إلى المُلك ( أو التملك) ، وغير ذلك تكون العصبية بالحلف والولاء أي الإسترقاق بلا نسب وهي توجد صلة خاصة هي الإلتحام.

الولاية بين القبيلة وأوليائها أشد قبل حصول المُلك

     والمقصود بالالتحام طول العشرة ودوام المدافعة والصحبة ، وقد يكون ذلك قبل التملك أكثر تعمقا حيث لم تكن التفرقة بين النسب وغيره قد وجدت بعد . أما بعد  التملك فتتميز درجة الملك وأقرب أقاربه عن الآخرين ، ويضعف الإلتحام بمقدار الإبتعاد عن الملك وأسرته . ثم إن الإلتحام واصطناع الأولياء قبل التملك ينساه أهل الدولة بطول الزمان ، وأما بعد التملك فيكون معروفا .

     ولذلك فإن من كان إصطناعه قبل التملك يكون أشد إلتحاما وأقرب قرابة من الملك ، ومن كان إصطناعه بعد التملك والرياسة لا يكون له نفس الدرجة من القرابة والصلة ، حتى أن الدولة في آخر عمرها تصطنع الأتباع ولكن بدون مجد يصل إلى مجد الأتباع الأوائل ، وهذا المجد الذي يناله الأتباع الأوائل يجعل السلطان ينفر منهم وينشئ أتباعا جددا ليحلوا محلهم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 عرض مقدمة ابن خلدون:ب3 : (ف 21 : 26):السلطان والامامة والخلافة

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية

                                      الفصل الحادي والعشرون

                                   الحجر على السلطان

     إذا استقر المُلك في أسرة واحدة وتوارثه الخلف عن السلف فربما يتولى صبي صغير يتغلب عليه الوزير أو الحاشية أو أحد الأقارب ، ويصير ولي العهد الصبي محجورا عليه ، ويعمل المستبد بأمره على أن يلهيه عن الحكم بالمجون ويجعله يعتقد أن حظ السلطان من السلطة هو الجلوس على العرش بدون نفوذ والتفرغ للملذات ، أما الحل والربط والإدارة والحكم إنما يكون للوزير القائم بالأمر المستبد به ، وبعد مدة يستغل ذلك المستبد بالأمر نفوذه ليقفز على السلطة وينفرد بالملك بعد أن يستكثر من الأشياع والأتباع ، وحدث ذلك لكافور الأخشيدي والمنصور  بن أبي عامر وبني بويه .                            

    وقد يبلغ ولي العهد مبلغ الرجال وقد يفطن لما ضاع منه فيحاول إسترداد ما ضاع منه ، وقد ينجح في ذلك نادرا ، والأغلب أنه لا ينجح ، لأن نفوذ الوزراء إذا بدأ فإنما يستمر في الدولة ، ولأن أبناء الملوك إذا تربوا في الترف والكسل تناسوا عهد الرجولة فلا ينزعون إلى رئاسة ، ويخضعون للظروف ولا يحاولون تغييرها .

     وهذا الإنفراد للأتباع والحاشية بالحكم إنما يحدث عندما تستبد عشيرة الملك  على قومها وتنفرد دونهم بالحكم . واستبداد الملك وعشيرته ،ثم استبداد الحاشية من أمراض الدول المستعصية .

                                       الفصل الثاني والعشرون

                     المتغلبون على السلطان لا يشاركونه في لقب السلطنة

     يحصل المُلك لآله بالعصبية والتغلب ، وبها يبقى رسم الدولة . والذي يتغلب على ولي العهد أو السلطان الصغير يتمتع بمظاهر المُلك من الأمر والنهي دون أن ينتزع المُلك نفسه ، لذلك يترك شارات الملك وألقابه حتى لاتهيج عليه عصبية الملك القائم بالإسم والرسم الذي يحكم بإسمه ، وحين حاول حفيد المنصور بن أبي عامر أن يشارك هشام في لقب الخلافة ، ولم يقنع بما قنع به أسلافه من التحكم دون لقب الخلافة خرج عليه بنو مروان وتخربت دولة بني عامر .

                                       الفصل الثالث والعشرون

                                 حقيقة الملك وأصنافه

ضرورة الملك للمجتمع

     الملك منصب طبيعي ، لإحتياج المجتمع إلى رئيس يقيم العدل ويرعى المصالح .

ضرورة العصبية للملك

     والملك يحتاج إلى العصبية التي تعينه في الحكم والإدارة ويصل بها إلى المُلك .

تفاوت العصببيات في قوتها

     والعصبيات متفاوتة في القوة ، وكل عصبية تحكم وتغلب من يليها إلى أن تصل إلى المُلك الذي يحكم الجميع .        

نفوذ الملك بقدر  سيطرته على العصبيات

    والملك يستبعد الرعية ويجبي الأموال ويرسل الجيوش ويحمي الحدود ، والملك الذي تتقاصر قوته وعصبيته عن ذلك يكون ناقص المُلك. والملك الذي تتقاصر قوته عن ضرب العصبيات داخل مملكته  فهو ناقص المُلك وينطبق ذلك على الأمراء  والملوك في النواحي والجهات الذين تجمعهم دولة واسعة مثل ملوك وأمراء العجم والبربر والطوائف في العصر العباسي والأندلس وفي عصر الأسكندر والفرس .

                               الفصل الرابع والعشرون

                    إرهاق الحد " العسف " مضر بالملك ومفسد له غالبا

رأى هام لابن خلدون:  مصلحة (الرعية ) في رفق الملك

    مصلحة الرعية ليست في ذات السلطان وجسمه ولكن من حيث فائدته لهم ،لأن السلطان أو الملك إضافة ، إذ هو المالك للرعية القائم في أمورهم ، فالسلطان من له رعية والرعية من لها سلطان ، ويجمع بينهما كونه يملك الرعية .

رأى هام لابن خلدون : مصلحة الملك في الرفق بالرعية

    إذا ملك الملك الرعية بالرفق والجود كان في ذلك المصلحة ، وإن كان ذلك بالعسف والظلم ففيه الهلاك ، وهربت منه الرعية بالخوف والذل والمكر والنفاق ، وخذلوه وقت الشدة وربما قتلوه إذا استطاعوا . وإذا عجزوا عن قتله واستمر قهره فسدت عصبيته . أما إذا كان بهم رفيقا أحبوه وحاربوا أعداءه . ومن الرفق بهم النظر في معاشهم .

رأى غريب لابن خلدون : من الأفضل أن يكون الحاكم متوسط الذكاء

     والرفق يوجد في المغفل ولا يوجد في شديد الذكاء ، لأن شديد الذكاء من الحكام يكلف الرعية فوق طاقتها . ولذلك إشترط في الحاكم  قلة الإفراط في الذكاء . وعزل عمر زياد ابن أبيه عن العراق لشدة ذكائه حتى لا يحمل الناس على ما ليس في طبعهم . والأفضل في الحاكم أن يتوسط حتى لا يتطرف ولا يتعسف ، لأن الذكاء عيب في صاحب السياسة ولذلك يوصف الذكي الألمعي بصفات الشيطان فيقال إنه شيطان أو متشيطن .

                                           الفصل الخامس والعشرون

                                     معنى الخلافة والإمامة

    لما كان المُلك يعني التغلب والقهر كانت أحكامه جائرة لأنه يحملهم ويرغمهم لتحقيق أغراضه مما يؤدي إلى الثورة والفتن لذلك يجب أن يرجع إلى قوانين السياسة التي  يفرضها العقلاء.

     والسياسة قد تكون عقلية وقد تكون شرعية إلاهية . وهكذا يكون لدينا ثلاثة أنواع من الملك:

     الملك الطبيعي : وهو قهر الناس بالغرض والشهوة . والملك السياسي ، وهو حمل الناس بالنظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار . والملك الديني أو الخلافة ، وهي حمل الناس على مقتضى الشرع لرعاية مصالحهم الأخروية والدنيوية . وهي خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به . وهي الأفضل لأن الدنيا دون الدين مجرد عبث ، ولأن الدين هو طريق السعادة في الدارين ولأن أحكام السياسة العقلية عبارة عن نظر بغير نور الله وذلك مذموم .

ملاحظة : ينحاز ابن خلدون للدولة الدينية متأثرا بثقافة عصره .                                       الفصل السادس والعشرون

                إختلاف الأمة في حكم منصب الخلافة والإمامة وشروطه

معنى الخلافة والإمامة

    الخلافة تعنى النيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به والإمامة تشبيها بإمامة الصلاة من حيث الإقتداء ، ولهذا يقال لها الإمامة الكبرى .

    ويقال خليفة لكونه يخلف النبي في أمته ،ويقال خليفة الله اقتباسا من الخلافة العامة من قوله تعالى " إني جاعل في الأرض خليفة " " جعلكم خلائف الأرض " ومنع جمهور العلماء ذلك لأن الآية لا تدل على ذلك ، ولرفض أبي بكر هذا حين قال " لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله " ولأن الإستخلاف إنما يكون في حق الغائب .

الإختلاف في حكم الإمامة ونصب الخليفة

     ونصب الإمام واجب شرعا بالإجماع لأن الصحابة بايعوا أبابكر وسلموا النظر إليه في أمورهم ، وكذا في كل عصر بعد ذلك .

     وقيل أنه واجب شرعا بالعقل ، والإجماع هو قضاء بحكم العقل . حيث يستحيل الإجتماع بدون حاكم وإلا كانت الفوضى والهلاك ، وحفظ النوع من مقاصد الشرع . وهونفس دليل وجوب النبوة عند الحكماء ، وذلك ما يخالف فيه إبن خلدون الحكماء . ويرى أن وجوب نصب الإمامة بالشرع والإجماع .

    وقال بعضهم أنه لا يجب نصب الإمام لا بالشرع ولا بالعقل ، ومنهم الأصم من المعتزلة وبعض الخوارج ، وقالوا إن الأمة إذا اتفقت على تنفيذ الشرع والعدل لم يكن الأمرمحتاجا إلى إمام .

     ويرى إبن خلدون أن الإجماع حجة على هذا الرأي. وقال أنهم اتجهوا إلى هذا الرأى فرارا من الإستبداد الذي يعطل الشريعة.

     ويرى إبن خلدون أن الشرع لم يذم المُلك ولم يحرمه ، وإنما ذم المفاسد الناشئة  عنه من القهر والظلم ، كما أثنى على العدل وإقامة معالم الدين ، وهي من توابع المُلك ، وكان داود وسليمان من الملوك . ثم إنهم طالما يقولون بإقامة أحكام الشريعة ، فهذا لا يحصل إلا بالعصبية والشوكة ، أي إقامة المُلك .

      وهذا الواجب من فروض الكفاية ويرجع إلى اختيار أهل الحل والعقد فيتعين عليهم نصب الإمام ويجب على الخلق جميعا طاعته لقوله تعالى " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ".

شروط منصب الخلافة

    وشروط المنصب أربعة : العلم والعدالة والكفاية ، وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثر في الرأي والعمل .

    واختلف في الشرط الخامس ، وهو كونه قرشي النسب .

    شرط العلم : أي بأحكام الشرع ، وأن يكون مجتهدا وليس مقلدا.

    شرط العدالة :  لأن الإمامة منصب ديني ، ومن شروط العدالة ألا يقع في المحظورات ، وقيل أيضا ألا يقع في البدع الإعتقادية .

     شرط الكفاية : الجرأة والخبرة بالحرب وأحوال العصبيات وتدبير المصالح .

     وسلامة الحواس والأعضاء في البصر والسمع واللمس والقدمين واليدين والأذنين وألا يكون ممنوعا من التصرف بالقهر كالأسير ، أو بالحجر عليه من بعض المتغلبين عليه .

متى تجوز الثورة على المتغلب على الحكم ؟

     والمتغلب على السلطان تنتقل إليه الإشتراطات السابقة ، فإن تحلى بها جاز إقراره وإلا ثار عليه المسلمون لعزله وإعادة الإمام المغلوب .

شرط النسب القرشي

    بدأ هذا الشرط باجتماع السقيفة وحجب سعد بن عبادة وحديث الأئمة من قريش إلا أن قريش  أصابها الترف وضاعت عصبيتها ، وتلاشت في سائر الأقطار وتغلبت عليها الأعاجم ، فذهب كثير من المحققين إلى نفي شرط القرشية واستدلوا بحديث " إسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبه" .وقول عمر " لو كان  سالم مولى حذيفة حيا لوليته " . ولا يأخذ إبن خلدون بالإستدلال بهذين الحديثين مع وضوح الإستدلال بهما .  ومن القائلين بنفي شرط القرشية أبوبكر الباقلاني والخوارج . أما الجمهور من العلماء فيرى شرط القرشية حتى لو كان عاجزا غير كفء ، ولكن إبن خلدون يتمسك بالكفاءة حرصا على العصبية والقوة .

حكمة إشتراط النسب القرشي

1-  التبرك بنسب النبي. 2- العصبية ، حيث كانت قريش عصبية مضر وأصلها وشرفها وينقاد الناس لهم . وقد استمر هذا في الإٍسلام إلى أن تلاشت عصبية العرب وغلبهم الأعاجم .

إشتراط العصبية بعد تلاشي قريش

    وبعد تلاشي العرب وعصبية قريش يظل الشرط قائما ، وهو أن يكون الحاكم من قوم أولى عصبية قوية غالبة كما كان لقريش.

ابن خلدون مع الثيوقراطية  ( الدولة الدينية )

     وإذا نظرت إلى سر الله في الخلافة يتأكد لك أن الله جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم ، وهو مخاطب بذلك ، ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه ، كما خوطب الرجال وكان النساء تبعا للرجال في الخطاب .

 

 

 

 

 

                                            

عرض مقدمة ابن خلدون: ب3 (ف 27: 28 )الإمامة الشيعية وتحول الخلافة الى مُلك

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية                

 الفصل السابع والعشرون    

                                مذاهب الشيعة في حكم الإمامة                                      الإمامة عند الشيعة

     يتفق الشيعة على أن الإمامة ركن الدين وقاعدة الإسلام ولايجوز لنبي إغفالها . وليست من المصالح العامة التي  تفوض للأمة ، ويجب على النبي تعيين الإمام الذي يكون معصوما من الكبائر والصغائر .

إمامة " علي " عندهم

     ويرون أن عليا هو الإمام الذي أوصى به النبي ، ولهم في ذلك أدلة ونصوص مطعون فيها ، وهذا رأي إبن خلدون .

 أدلتهم على إمامته

    وتنقسم النصوص عندهم إلى نوعين : جلي وخفي

1-  الجلي : أحاديث :" من كنت مولاه فعلي مولاه " ، " أقضاكم على " ، " من يبايعني على روحه وهو وصبي وولى هذا الأمر من بعدي " فلم يبايعه إلا علي .

2-  الخفي : بعثه النبي إلى موسم  الحج لقراءة سورة براءة وإنه لم يعرف أنه قدم أحدا على (علي) ً ، وقد قدم أسامة بن زيد وعمرو بن العاص على أبي بكر وعمر في غزوتين .

الخلافة بين الأمامية والزيدية في علي والشيخين

     الأمامية : يرون أن النصوص السابقة تدل على تعيين " علي " بشخصه وتنتقل بعده إلى الأئمة ، ويتبرأون من أبي  بكر وعمر ، وبعضهم يذم أبابكر وعمر .

     الزيدية : يرون أن النصوص تدل على تعيين  " علي " بالوصف ، ولا يتبرأون من أبي بكر وعمر ويقولون أن علياً أفضل منهما ، ولكن يجوزون إمامة المفضول مع وجود الفاضل .

الخلاف في إمامة ذرية على

    الأمامية : يسوقون الإمامة في ولد فاطمة بالنص عليهم واحدا واحدا .

    الزيدية : يجعلونها في ولد فاطمة بالإختيار من الشيوخ وبشرط أن يكون الإمام زاهدا عالما جوادا شجاعا ثائرا يخرج داعيا إلى إمامته .

    الكيسانية : جعلوا الإمامة بعد علي وابنيه في محمد بن الحنفية ثم إلى ولده .

غلاةالشيعة

    يؤلهون الأئمة على أنهم بشر إتصفوا بصفات الإله أو حل الإله فيها ، وتبرأ منهم علي ومحمد بن الحنفية وجعفر الصادق .

    ومنهم من يقول بالتناسخ ، أي أن كمال الإمام ينتقل منه بعد وفاته إلى الإمام التالي ، ومنهم الواقفية أي يقف بالإمامة عند واحد يراه حيا لايموت وأنه غائب ، وقالوا بأن محمد بن الحنفية بعد موته يعيش في جبال رضوى بالحجاز ، وقال  الإثنا عشرية أن الإمام محمد بن الحسن العسكري المهدي غائب في السرداب في منطقة " الحلة " إلى أن يخرج آخر الزمان لأنه المهدي المنتظر . وبعض الوقفية يعتقد أن الإمام الذي مات  يرجع إلى حياته الدنيا مثل أهل الكهف .

ثورات الأئمة ودول وطوائف الشيعة

     الكيسانية : جعلوا الإمامة بعد محمد بن الحنفية في إبنه أبي هاشم ، ومنهم من قال أن أبا هاشم أوصى بها إلى محمد بن علي بن عبدالله بن عباس ، وانتقلت منه إلى إبنه إبراهيم الإمام ، ولما قتله الأمويون إنتقلت إلى أخيه عبدالله السفاح ، ثم إلى أبي جعفر المنصور ثم خلفاء بني العباس ، وهذا مذهب الهاشمية .

الزيدية : قالوا أن الإمامة باختيار أهل الحل والعقد وليس بالنص ، وجعلوها في علي ثم الحسن ثم الحسين ثم علي زين العابدين ، ثم زيد المقتول بالكوفة بعد فشل ثورته ،وهوصاحب هذا المذهب وبعده ابنه يحيى الثائر في خراسان ، ثم أوصى من بعده لإبن عمه محمد النفس الزكية الذي ثار بالحجاز فقتله عسكر المنصور ، وبعده إبراهيم وعيسى فقتلهما أيضا جند المنصور بالبصرة ، وانتقلت الإمامة في آخرين على اختلاف في المذاهب ، وإليهم تنتسب حركة الزنج .

      ويقال أن الإمام بعد محمد  النفس الزكية أخوه إدريس الذي فر إلى المغرب ومات فيه ، فقام بالأمر إبنه إدريس الذي أقام مدينة فاس وأسس ملك الأدارسة.

     ومن الدعوة الزيدية قامت دولة في  طبرستان يتزعمها الحسن بن زيد وأخوه محمد بن زيد ،وقام بالدعوة الناصر الأطروشي في الديلم ، ومن الديلم جاء بنو بويه الذين سيطروا على الخلافة العباسية .

 الإمامية : جعلوا الإمامة في علي  ثم بالوصية إلى إبنه الحسن ثم إلى أخيه الحسين ثم إلى إبنه على زين العابدين ، ثم إبنه محمد الباقر ، ثم إبنه جعفر الصادق ثم إفترقوا فرقتين : الإسماعيلية ساقوها إلى إسماعيل بن جعفر الصادق ، والإثنا عشرية ساقوها إلى موسى الكاظم بن إسماعيل ،ويقفون عند الإمام الثاني عشر  ويقولون بغيبته إلى آخر الزمان ، أما الإسماعيلية فينقلون الإمامة من إسماعيل إلى إبنه محمد المكتوم ، أو الأئمة المستورين ثم إبنه جعفر الصادق ثم إبنه محمد الحبيب ، ثم إبنه عبدالله المهدي صاحب الدعوة الفاطمية ، والإثنا عشرية ساقوها بعد جعفر الصادق إلى موسى الكاظم ، ثم إبنه على الهادي ، ثم إبنه محمد الحسن العسكري ، ثم إبنه محمد المهدي المنتظر ، وهذه أشهر مذاهب الشيعة .

                                    الفصل الثامن والعشرون

                                     إنقلاب الخلافة إلى المُلك

بين المُلك والعصبية

     المُلك هدف طبيعي للعصبية . وبالعصبية تقام الشرائع على الناس .

المُلك والعصبية لا حرج فيهما إذا كانا في إقامة الشرع

     وهناك من الأحاديث ما يشير إلى أهمية العصبية مثل " ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه"، وهناك ما يذم العصبية مثل " أن الله أذهب عنكم عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء " كما يأتي ذم المُلك والترف والسرف .

ويوفق  إبن خلدون بين هذا وذاك

     ويرى أن الدنيا سبيل للآخرة ، والمراد ليس إقتلاع العصبية أو المُلك وإنما توجيههما لما فيه الخير والحق ، فالشهوات ليست مذمومة في حد ذاتها ، وإنما المذموم إستعمالها في الحرام ، وكذلك فالعصبية المذمومة هي التي تكون في الباطل ، أما العصبية في سبيل الحق فهي المطلوبة لإقامة الشرع ، وكذلك الملك إذا كان للظلم والترف والشهوات فهو مذموم ، وإن كان للتغلب بالحق وقهر الكافة على الدين ومراعاة المصالح فليس مذموما . واستشهد بدعاء سليمان " هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي"  . قال أن عمر إحتج على موكب معاوية حين تشبه بكسرى ، فاحتج معاوية بأنه يريد مباهاة العدو بزينة الجهاد ، أي قصد بذلك وجه الله .

تفسير إبن خلدون ( التبريرى والتلفيقى ) لتاريخ المسلمين السياسي إلى نهاية الدولة العباسية

    قال وهكذا كان شأن الصحابة في رفض المُلك وأحواله . ثم ارتضى الناس أبابكر للخلافة وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة ، ولم يأت ذكر المُلك .

     وسارت الخلافة الرشيدة على الزهد والبساطة في العيش التي اعتادها العرب حتى بعد أن ورثوا مُلك كسرى والروم ، وفي خلافة عثمان إقتنى الصحابة الضياع والمال واستشهد إبن خلدون بما ذكره المسعودي عن ثراء الصحابة ، ولكن إبن خلدون أكد على أنهم كسبوها بالحلال ولم يعرفوا الإسراف ، وكان جمعهم المال في سبيل الحق واكتساب الآخرة .

     فلما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية كان طريقهم فيها الحق والإجتهاد ، ولم يكن ذلك لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لإستشعار حقد كما قد يتوهم متوهم وينزع إليه ملحد ، وإنما اختلف إجتهادهم في الحق وسفه كل واحد منهم نظر صاحبه باجتهاده في الحق فاقتتلوا عليه .. والكل كانوا في مقاصدهم على حق .

    ثم اقتضت طبيعة المُلك الإنفراد بالمجد ، ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه ، فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها ، واستشعرته بنو أمية ، ولو خالف معاوية قومه وعصبيته لوقع في افتراق الكلمة ، وكان عمر بن عبدالعزيز  يتمني أن يولي الخلافة بعده القاسم بن محمد بن أبي بكر لولا خوفه من بني أمية وهم أهل الحل والعقد وحتى لا تقع الفرقة والإختلاف ، وهذا كله حمله عليه منازع المُلك القائم على العصبية.

     ويقول إبن خلدون إن من طبيعة الملك الإستبداد والإنفراد ، وليس ذلك عيبا فقد إنفرد سليمان وداود بمُلك بني إسرائيل . ولذلك عهد معاوية لإبنه يزيد خوفا من افتراق الكلمة ، ولم يكن معاوية يعرف أن إبنه يزيد فاسق ، يقول إبن خلدون " حاشا لله لمعاوية من ذلك " ودافع أيضا عن مروان بن الحكم وإبنه عبدالملك ، وقال أنهما تحريا الحق وخشيا افتراق الكلمة واقتديا بالسلف الصالح ، وقد احتج مالك في الموطأ بعمل عبدالملك ، وكان مروان من التابعين في الطبقة الأولى وعدالتهم معروفة . ثم تدرج الأمر في ولد عبدالملك وكانوا من الدين بالمكان الذي كانوا عليه  ، وتوسطهم عمر بن عبدالعزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصحابة جهده . ثم جاء الخلفاء من بعده واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ونسوا ما كان عليه أسلافهم من تحري الحق ، مما صرف الناس عنهم ، وجاءت الدولة العباسية وتحرى رجالها الحق والعدل ما استطاعوا ، ثم جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح والطالح وجاء بنوهم فانغمسوا في الترف والباطل فتأذن الله بحربهم وأمكن سواهم منهم .

     ويخلص إبن خلدون إلى أن الأمر كان في أوله خلافة ، والدين فيها هو الباعث والوازع ، وكانوا يؤثرون الدين على الدنيا ، ثم صار الأمر ملكا بقيت فيه معاني الخلافة في تحري الحق ، ولكن تغير الباعث أو الوازع فأصبحت العصبية مكان الدين ، وسار على ذلك الأمويون ثم العباسيون في بداية عهد الدولة . ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا إسمها وصار الأمر ملكا بحتا بالقهر والتغلب في الشهوات ، واستمر ذلك ببقاء عصبية العرب وقوتهم إلى أن تلاشت العرب فأصبح الملك البحت في ملوك العجم وظل منصب الخلافة لمجرد التبرك .

    أي أن الخلافة سبقت المُلك ووجدت بدونه . ثم إلتبست معانيهما واختلطت ، ثم بقي المُلك وانفرد ، حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة .

 

 

 

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون:ب3( ف 29 :31)البيعة وولاية العهد والمناصب الكبرى

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية

                                       الفصل التاسع والعشرون

                                        معنى البيعة

معني البيعة عند ابن خلدون

     البيعة هي العهد على الطاعة ، أي يبايع الأمير على التسليم له وتفويضه في النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شئ من ذلك ، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر .

طريقة البيعة

    وكانوا في البيعة يجعلون أيديهم في أيدي الأمير تأكيدا للبيعة.  ومنها بيعة النبي عند الشجرة وبيعة الخلفاء . وكان الخلفاء يستحلفون على العهد بكل أنواع الإيمان والحلف ، وهذا ما يعرف بإيمان البيعة ، واقترنت بالإكراه ، ولهذا أفتى مالك بسقوطها .

البيعة في عصرإبن خلدون

     وأصبحت في عصر إبن خلدون تحية الملوك التي تفيد الطاعة المجازية ، وهي تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل ، وصارت حقيقة عرفية حلت محل المصافحة لحفظ  منصب المملكة من الإبتذال حتى لا يصافح الناس .

                                               الفصل الثلاثون

                                        ولاية العهد

تولية العهد واجب على الإمام

طبقا لإيمانه بالثيوقراطية ( الدولة الدينية ) يرى ابن خلدون أن الإمام ينظر في مصالح الأمة لدينهم ودنياهم لأنه وليهم والأمين عليهم ، وهو ينظر لهم في حياته وبعد مماته بأن يعين لهم من يتولى أمورهم بعده والأمة تثق بنظره لها وفيمن يوليه عليها .

     وذلك تشريع بإجماع الأمة على جوازه وانعقاده ، من خلال عهد أبي بكر لعمر ، وعهد عمر في الشورى إلى الستة وما تمخض عن ذلك من إختيار عثمان .

 لاحرج على الإمام إذا عهد لإبنه بالحكم

      ويرى إبن خلدون أن الإمام إذا عهد لإبنه فليس في ذلك شئ لأنه يؤثر المصلحة في اتفاق أهل الحل والعقد والعصبية وحتى لاتقع الفتنة والخلاف ، واستدل على ذلك بما فعل معاوية ، وسكوت الصحابة على ما فعل دليل الموافقة ، وإن كان عبدالله بن عمر قد هرب حتى لا يبايع فإن إبن خلدون يرى في هروبه تورعا من الدخول في شئ مباح ، أما رفض إبن الزبير للبيعة فهي مخالفة نادرة . وعهد الخلفاء الأكابر في أوائل الدولتين الأموية والعباسية لأولادهم وقد عرفوا بعدالتهم وحسن رأيهم في مصلحة المسلمين ، ولايعاب عليهم إيثار أبنائهم وخروجهم عن سنة الخلفاء الراشدين لأن الشأن مختلف حيث لم يعد الوازع أو الباعث دينيا كما كان ، إذ ظهرت العصبية التي تختار ، وبدونها يقع الإختلاف والإقتتال . ولذلك رفضت العصبية العباسية أن يعهد المأمون لعلى الرضا وتعددت الثورات ، فالعصور تختلف باختلاف في المصالح ، ولكل عصر ما يناسبه من الأحكام . وقال إبن خلدون إن كان القصد بالعهد حفظ المُلك في الأبناء فليس ذلك من المقاصد الدينية .

رأى ابن خلدون التلفيقى والتبريرى فى الصراع بين الصحابة :أنّ  الصحابة إجتهدوا حين عارضوا خلافة يزيد بن معاوية 

     وأكد إبن خلدون أن  معاوية لم يكن يعلم بفسق إبنه يزيد حين ولاه العهد وإنه كان يلومه على سماع الغناء ، وقال إن الصحابة إختلفوا في الثورة على يزيد بسبب فسقه ، منهم من ثار عليه كالحسين ، ومنهم من دعا له بالهداية ، ورفض الثورة وكلهم مجتهدون .

النبي لم يعهد لعلي بالخلافة

     وعن العهد من النبي لعلى بالخلافة ، أنكر إبن خلدون ذلك وأتى بأدلة أهل السنة في الموضوع، وأكد إبن خلدون على أن الإمامة من الشؤون العامة للأمة خلافا للشيعة الإمامية ، وقال إن أمور الدين كانت بخوارق العادات ولم تكن محتاجة للعصبية كالإمامة لأنها من الأمور الدنيوية.

تبرير ابن خلدون للحروب الأهلية بين الصحابة والتابعين

     وعن الحروب بين الصحابة والتابعين قال إن اختلافهم وقع في الأمور الدينية بسبب الإختلاف في الإجتهاد ، ويقول إن الحق واحد لدى كل من الطرفين المجتهدين ولا يأثم واحد منهما ، ولا يتعين المخطئ منهما . وغاية الخلاف أنه إجتهادي في مسائل ظنية دينية . وعن الحرب بين علي ومعاوية فسرها إبن خلدون في ضوء إختلاف وجهات النظر وقال بدفع التأثيم عن كل من الفريقين كالشأن في المجتهدين . وعن الثورة على عثمان قال إبن خلدون" إذا نظرت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين في شأن الإختلاف في عثمان واختلاف الصحابة من بعده ، وعلمت أنها كانت فتنة إبتلى الله بها الأمة " وبعد أن فسر الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان قال " فلكل من هؤلاء عذر فيما وقع ، وكلهم كانوا مهتمين بأمر الدين ولا يضيعون شيئا من تعلقاته ، ثم نظروا بعد هذا الواقع واجتهدوا والله مطلع على أحوالهم وعالم بهم ، ونحن لا نظن بهم إلا خيرا لما شهدت به أحوالهم ".

     وعن ثورة الحسين على يزيد قال إن الحسين غلط  حين توهم أنه يستطيع الإنتصار على عصبية الأمويين ، واستدرك فقال أنه غلط  دنيوي لا يضر ، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه كان يظن القدرة على الأمر . ونهى إبن خلدون عن تأثيم الصحابة الذين تقاعسوا عن نصرة الحسين ، ونهى كذلك عن تصويب قتل الحسين لأن قتاله لم يكن عن إجتهاد ، وقال إن يزيد فاسق لأنه قتل الحسين ، والحسين قتل شهيدا وهوعلى الحق ، والصحابة الذين كانوا مع يزيد كانوا على حق أيضا . وقال إبن خلدون أن القاضي أبابكر بن العربي المالكي قد أخطأ في كتابه العواصم من القواصم حين قال أن الحسين قتل بشرع جده ، وقال إن ابن العربي غفل عن إشتراط الإمام العادل ، وأن الحسين كان أعدل أهل زمانه . 

     وقال أن إبن الزبير أخطأ في تقدير عصبية الأمويين . وقال أن يزيد بن معاوية فاسق . أما عبدالملك بن مروان فأعظم الناس عدالة لأن مالك احتج بفعله ، وكثير من الصحابة لم يتابع ابن الزبير . وقال أن الكل مجتهدون والقتلى شهداء مثابون باعتبار قصد الحق ، وهذا ما ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة والتابعين وهم خيار الأمة . واستشهد بحديث " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم مرتين".

   وبعد هذا التبرير والتلفيق يحذر إبن خلدون من التعرض لهم باللسان أو بسوء الريب وقال " ألتمس لهم مذاهب الحق ما استطعت وما اختلفوا إلا عن بينة وما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق ، وأعتقد أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم ويجعله إمامه وهاديه ودليله ".

                                  الفصل الحادي والثلاثون

 &n">    أنواع المساجد والمساجد نوعان : عظيمة تحت سيطرة الخلافة ، ويكون لها إمام بالتعيين للصلوات الخمس والجمعة والعيدين والإستسقاء والخسوف ، ومساجد محلية يقوم بأمرها أهلها ولاتحتاج إلى إدارة رسمية .

      وكان الخلفاء والولاة يشهدون الصلاة في المساجد ، فلما جاءت الملكية بترفعها وترفها أصبح الملك يستنيب غيره للصلاة .

 2-  الفتيا : وصاحب الحق فيها هو الخليفة ، وهو يعين الكفء فيها ويمنع من ليس أهلا لها ، لأنها من مصالح المسلمين وحتي لا يضلوا بفتاوي باطلة . وأهل الفتوى هم العلماء في المدارس والمساجد ، وإذا كان المسجد جامعا عظيما رسميا فلابد للمفتي فيه أن يكون بإذن السلطان ، وإن كان مسجدا محليا فلا يحتاج إلى إذن ، ويجب على المفتي في كل الأحوال أن يخشى الله في فتواه.   

 3- القضاء : هو الفصل بين الناس في الخصومات بأحكام الكتاب والسنة ، وكان الخلفاء يتولونه بأنفسهم ، وكان عمر أول من استناب في القضاء ، فولى أبا الدرداء في المدينة وشريحا بالبصرة وأبا موسى الأشعري في الكوفة ، وكانوا يقلدون القضاء أصحاب عصبياتهم بالنسب أو الولاء.

    وكان للقاضي في عصر الخلفاء الفصل في الخصومة فقط ، ثم أضيفت لها مهام أخرى فيما بعد مثل إستيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين ، مثل أموال المحجوز عليهم من اليتامى والمجانين وتنفيذ الوصايا والأوقاف وتزويج اليتامى والأيامى عند فقدان الولي ، والنظر في إصلاح الطرقات والمباني والتوثق من صلاحية الشهود والأمناء والنواب . وأحيانا كان يضاف للقاضي النظر في المظالم ، أي ينصف القاضي المظلوم من السلطة أو من أصحاب الجاه ، وذلك ما كان يحدث في العصر الأول للخلافة ، والقاضي هنا يكون صاحب جاه وورع ، وهو ينظر في الأدلة والقرائن ليحكم بالحق وينصف المظلوم . 

     وبعض الخلفاء كان يقضي بنفسه كما فعل أبوبكر والمهتدي العباسي وغيرهما ، وبعضهم كان يعين القاضي كما فعل عمر مع أبي إدريس والمأمون مع يحيى بن أكثم والمعتصم مع أحمد بن أبي داود.

    وبعضهم كان يجعل القاضي قائدا حربيا كما فعل المأمون مع يحيى بن أكثم وعبدالرحمن الناصر مع منذر بن سعيد.

  4- صاحب الشرطة

       ينظر في الجرائم وإقامة الحدود ، وكان ذلك في الدول العباسية والفاطمية والأموية بالأندلس.

      وفي بداية  الأمر كانت تابعة للقضاء ثم إنفصلت عنه ، فأصبح من وظائف صاحب الشرطة إقامة التهمة ، وفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم ، وإقامة الحدود الثابتة على مستحقيها ، والحكم في القصاص والتعزيز والتأديب في حق من لم ينته عن الجرائم .

      ثم إنقسمت وظيفة الشرطة إلى قسمين : وظيفة التهمة على الجرائم وإقامة حدودها وتنفيذ القطع والقصاص ، وذلك بالحكم السياسي دون مراجعة الأحكام الشرعية . ويقوم به الوالي أو صاحب الشرطة . ثم بقي قسم التعازير وإقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعا من إختصاص القاضي ، ولأنها من مهام الخلافة الدينية فكان يباشرها أصحاب العصبيات من أهل الكفاءة .         

      وبعد إنقراض الخلافة وتحولها إلي ملك وسلطنة وبعد إنقراض العرب وعصبيتهم إبتعدت هذه الوظائف عن المملكة وازداد إبتعادها عن العرب ، وأصبح من يتقلد هذه الوظائف من المستضعفين من أهل الأمصار من غير أهل الحل والعقد ، وأصبحوا مجرد رمز يدل على قيام المملكة بأحكام الشريعة ، وأصبح وجودهم مظهريا حيث كانت القوة في يد السلطان وجنده ، وأولئك  كانوا العلماء المستضعفين .

 والقضاة تابعون مأمورون بأوامر السلطان وحاشيته ، وليس لهم نفوذ إلا أنهم يصدرون الفتاوي إذا طلبت منهم في الأمور الشرعية فحسب ، دون السياسية أو أن يكون لهم دور في الشورى ، وبهذا يرد إبن خلدون على من إعترض على الحكام في إخراج الفقهاء والقضاة من الشورى .

 وعلى من إستدل بحديث العلماء ورثة الأنبياء يرد إبن خلدون عليهم بأن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء كانوا من السلف وأهل الدين والورع مثل الذين ترجم لهم القشيري في رسالته . ويرى إبن خلدون أن علماء العصور اللاحقة لا ينطبق عليهم هذا الوصف .  

5-  موظفو الشهادة – العدالة :وظيفة دينية تابعة للقضاء ، وهي تشمل الإشهاد والشهادة  بين الناس عند التنازع وكتابة السجلات لحفظ الحقوق .

 وشرطها العدالة والبراءة من الجروح والنقائص والمهارة في الكتابة والوصف والنقل والخبرة والعلم بالفقه . ويجب على القاضي تفحص أحوالهم ، وتلك مسؤوليته لإقرار العدالة.

ولأولئك الشهود ( العدول) حوانيت في المدن ، ويأتي لهم أصحاب المعاملات للإشهاد لديهم . أي هم بمثابة الختم الرسمى في عصرنا !!

6- الحسبة : وظيفة دينية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والحاكم يعين الكفء لذلك المنصب ، والمحتسب يتخذ الأعوان في البحث عن المنكرات وتعزير أصحابها ( يعنى يقوم بدور الشرطى والقاضى والجلاد )، ويحمل الناس على المصالح العامة في الطرقات والمباني وغيرها . ولا يتوقف على ذلك ، بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه في الغش والتدليس في المعايش والمكاييل والموازين ، وحمل المماطلين على تسوية ما عليهم من ديون ، وغيرها مما ليس فيه سماع بينة ولا إنفاذ حكم ، وهي أحكام يتنزه عنها القاضي لشيوعها وسهولتها ، فهي وظيفة تخدم منصب القضاء . وقد كانت في كثير من الدول مثل الفاطمية والأموية بالأندلس ضمن اختصاصات القضاء ، ثم عندما تحولت الخلافة إلى مُلك إندرجت في وظائف المُلك وصارت وظيفة مستقلة .

7- السًكة : هي النظر في النقود وحفظها من الغش أو النقص وخلافه ، وكانت تتم بوضع خاتم السلطان بنقوشه على الدينار ليصبح عملة رسمية وذلك بالسبك والطرق وتخليص المعيار ليكون أجود وأبعد عن الزيف . وهي وظيفة دينية بهذا الإعتبار وكانت تندرج تحت وظيفة القضاء ، ثم إستقلت كالحسبة .

ما بقي وما إندثر من وظائف الخلافة

    وبقيت من وظائف الخلافة وظائف أصبحت سلطانية كالإمارة والوزارة والحرب والخراج . وهناك وظائف للخلافة اندثرت مثل نقابة الأنساب والحق في بيت المال . وإجمالا ، فقد إندرجت وظائف الخلافة ورسومها في وظائف ورسوم الملك ، حين تحولت الخلافة إلى مُلك .

 

 

 

 

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون:ب3:( ف 32 :33):أمير المؤمنين والبطرك والكوهن  

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية

                                   الفصل الثاني والثلاثون

                            لقب أمير المؤمنين للخليفة

متى بدأ لقب أمير المؤمنين؟

     كان لقب أبي بكر عندما تولى " خليفة رسول الله "، وبعده تلقب عمر بـ" خليفة خليفة رسول الله" ، وكانوا يسمون قادة الجيش بالأمير من الإمارة ، وتسمى سعد بن أبي وقاص أمير المؤمنين حين كان قائدا على جيش القادسية ، ونظرا لطول لقب عمر ، فقد استحسن أن يطلق عليه لقب " أمير المؤمنين " واختلف فيمن نادي عمر بهذا اللقب لأول مرة ، فقيل عبدالله بن جحش، وقيل عمرو بن العاص ، وقيل المغيرة بن شعبة ، ثم أصبح لقبا على كل خليفة .

بين لقب الإمام ولقب أمير المؤمنين

   والشيعة إختصوا علياً بلقب الإمام هو ومن يجعلونه إماما من ذريته طالما يدعون له بالخلافة سرا ، فإذا نجح في إقامة الدولة تحول اللقب إلى أمير المؤمنين ، وهكذا فعل شيعة بني العباس ودعاة الفاطميين في شمال أفريقيا ، والأدارسة بالمغرب .

ألقاب أخرى لأمير المؤمنين

     وكان لقب أمير المؤمنين سمة لمن يملك الحجاز والشام والعراق حيث عصبية العرب ومركز الدولة ، واستحدث العباسيون لقبا آخر للخلفاء يتميزون به عن غيرهم وعن الإمتهان في إستعمال الناس ، فتلقب العباسيون بالسفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد .. وسار على نهجهم الفاطميون . وأعرض عن ذلك بنو أمية في الأندلس لما فيهم من البساطة حيث كانت العروبة والبداوة لم تفارقهم بعد . ثم جاء الناصر ورأي تحكم الموالي في الخلفاء العباسيين فتسمي بأمير المؤمنين وتلقب بالناصر لدين الله ، وصارت عادة في دولته.

ألقاب للحكام المستبدين بالأمر

     ثم انقرضت عصبة العرب فيما بين العراق ومصر وشمال أفريقيا والأندلس وتغلب الموالي على الحكم فاختلفت مذاهب الملوك في الإختصاص بالألقاب بعد أن تسموا جميعا باسم السلطان.

     فملوك الشرق احتفظوا بألقاب تشريفية تعبر عن طاعتهم وحسن ولائهم مثل شرف الدولة وعضد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة .. فلما استبدوا بالخلفاء قنعوا بألقابهم ولم يأخذوا ألقاب الخلافة تأدبا معها .                               

     وحين تلاشت عصبية الخلافة وقوي إستبداد وتمكن المتغلبين أطلقوا على أنفسهم ألقابا ملكية مثل الناصر والمنصور بالإضافة إلى ألقاب دينية كصلاح الدين وأسد الدين ونور الدين . وأما ملوك الطوائف بالأندلس فقد إقتسموا ألقاب الخلافة وتوزعوها بما كان لهم من عصبيات محلية فقال فيهم ابن شرف :  

             مما يزهدني في أرض أندلس           أسماء معتمد فيها ومعتضد            

             ألقاب مملكة في غير موضعها         كالهرّ يحكي إنتفاخا صولة الأسد     

     وفي شمال أفريقيا اقتصر أمراء صنهاجة على الألقاب التي كانت لهم في عصر الدولة الفاطمية ،مثل نصير الدولة ومعز الدولة ، وبعد أن نسوا عهد الخلافة الفاطمية إقتصروا على إسم السلطان . وكذلك فعل ملوك مغراوة بالمغرب .

      ولما ملك إبن تاشفين بقبيلته لمتونة البربرية شمال أفريقيا والأندلس دخل في طاعة المستظهر بالله العباسي فاستخلفه المستظهر على المغرب ، وأعطاه لقب أمير المؤمنين تشريفا له فاتخذه لقبا. 

      ثم جاء المهدي بالموحدين ومذهب الأشعرية وعصمة الإمام ، وأعتقد محمد بن تومرت

 ( المهدي) أنه الإمام المعصوم الذي يحفظ  بوجوده نظام العالم ، وترك لقب أمير المؤمنين ، ثم انتحل خليفته عبد المؤمن لقب أمير المؤمنين ، وسار على ذلك خلفاؤه حيث تلاشت عصبية قريش .

       وبعده جاءت زناته فاتخذت لقب أمير المؤمنين أدبا مع رتبة الخلافة التي كانوا على طاعتها لبني عبد المؤمن ، ثم نزع المتأخرون منهم إلى لقب أمير المؤمنين .

                                    الفصل الثالث والثلاثون

            شرح إسم البابا البطرك لدى النصرانية وإسم الكوهن عند اليهود

تأثرا وإيمانا بثقافة الدولة الدينية القائمة على الاكراه فى الدين التى سيطرت على العصور الوسطى يرى ابن خلدون أن الملة لابد لها من قائم عند غيبة النبي يرغم الناس على أحكامها وشرائعها ، وهو  يخلف النبي في الذي جاء به من التكاليف الشرعية . ويحتاج المجتمع إلى ملك يرغمهم على العدل : والجهاد الإسلامي مشروع لإرغام الناس على الإسلام طوعا أو كرها ، لذلك اتخذت فيها الخلافة والملك لتحقيق ذلك .

     وما عدا ملة الإسلام لم تكن دعوة الملل الأخرى عامة ، ولم يكن الجهاد مشروعا إلا في الدفاع فقط ، فانفصل الدين عن السياسة ، وأقيم المُلك لديهم عرضا ولغرض غير ديني بحكم العصبية الطبيعية لطلب المُلك ، ولم يكونوا كالمسلمين مكلفين بالتغلب على الأمم الأخرى . بل كانوا مكلفين بإقامة دينهم داخلهم ، وهكذا بقى بنو إسرائيل بعد موسى ويوشع لا شأن لهم بالمُلك وإنما بإقامة الدين فقط ، وكان القائم بالدين عندهم يسمى الكوهن لأنه خليفة موسى فقط ، يقيم الصلاة والقربان ويشترط أن يكون من ذرية هارون لأن موسى لم يعقب ، ثم إختاروا لإقامة السياسة سبعين شيخا يتلون أحكامهم ، والكوهن أعظم رتبة في الدين . ولكنه كان أبعد عن شغب الحكام . وظلوا كذلك إلى أن قامت لهم شوكة وعصبية فغلبوا الكنعانيين وأقاموا لهم دولة ، ثم إنقسمت الدولة دولتين ، ثم غلبهم بختنصر . 

     وتتبع إبن خلدون ما حدث لليهود بعد السبي البابلي إلى نزول الإنجيل على عيسى ، وكتابة الأناجيل ، وأعمال الرسل ، وتأسيس المسيحية وإنقساماتها ووظيفة البطرك ، ونائبه أو الأسقف ، ثم القسيس الذي يقيم الصلاة لهم . ثم الراهب الذي يعتكف في الدير والصوامع .

     وعرض إبن خلدون لمجمع نيقيه في عهد قسطنطين والإختلافات بعد ذلك ، وكانوا يدعون البطرك بالأب تعظيما ، ثم سموه البابا أي أبو الأباء ، وظهر هذا اللقب أولا لبطركية هرقل بالإسكندرية ثم نقلوه إلى روما لأنها كرسي بطرس الرسول .

       وعرض إبن خلدون إلى تفرق المسيحية إلى ملكية ويعقوبية ونسطورية ، وطبقا لإيمانه بالثيوقراطية ( الدولة الدينية ) وحروبها الدينية يرى ابن خلدون أن المسيحين واليهود  كلهم كفار ، ولا سبيل أمامهم – حسبما يقول – إلا بالإسلام أو الجزية أو القتل . 

       وقال عن طوائف المسيحية في عصره ، أن بطرك روما على رأي الملكية ( الكاثوليكية ) وبطرك مصر على رأي اليعقوبية ( الأرثوذكسية ) وتتبعه الحبشة ويرسل لهم أساقفة ينوبون عنه . وقال إن بطرك روما اختص بلقب البابا ، وإن مسيحي مصر الأرثوذكس لايسمون بطركهم  بهذا اللقب (البابا) .

       وقال أن بابا روما يحض الفرنجة على الإنقياد لملك واحدا خوف تفرق الكلمة وطلبا للعصبية ، وحتى تكون سيطرته عليهم جميعا . وقال أنه يقوم بتتويج الملك الأوربي ويسمى ذلك الانبرذور (الأمبراطور ).

 

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب3 :(ف 34)الوزارة والحجابة والدواوين والشرطة والأساطيل

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية

                                    

                                        الفصل الرابع والثلاثون 

                                  مراتب الملك والسلطان وألقابهما  

 السلطان راع لله على الناس لذا يحتاج إلى من يعاونه  

       السلطان في نفسه لا يستغني عمن يعاونه في حياته الشخصية ، وبالتالي فهو أحوج إلى من يساعده في الحكم . وطبقا لإيمانه بالثيوقراطية ( الدولة الدينية ) يقول ابن خلدون يعزّز رأيه : ( فما ظنك بسياسة  من استرعاه الله من خلقه وعباده ).!. فالسلطان  عنده وكيل عن رب العزة فى التصرف فى الناس.!

صفات الأعوان   

      والأفضل للأعوان أن يكونوا ذوي قربى من أهل النسب أو الولاء القديم .

 أعوان القلم وأعوان السيف     

       ويستعين في ذلك بقلمه أو سيفه أو رأيه أو معارفه أو حجابه عن الناس . وقد يوجد ذلك كله في شخص واحد ، أو في عدة أشخاص ، وقد يتفرع كل واحد منهم إلى فروع كثيرة فالقلم يتفرع إلى قلم الرسائل والصكوك والإقطاعات والمحاسبات والسيف يتفرع إلى صاحب الحرب وصاحب الشرطة وصاحب البريد أي التجسس وصاحب الثغور .

       والوظائف السلطانية تندرج تحت الخلافة التي تضم الدين والدنيا وحيث يتعلق الحكم الشرعي بها جميعا ، ويتكلم الفقيه في مراتبها وشروطها.

      وأهم الوظائف السلطانية (1) الوزارة  (2) الحجابة (3) ديوان المالية (4) ديوان الرسائل والكتابة (5) الشرطة  (6) قيادة الأساطيل .

    الوزارة : هي أم الوظائف السلطانية ، لأن اسمها يدل على مطلق الإعانة .

وظائف السلطان تدور حول أربعة أشياء

(1) الحماية وأسبابها من الجند والسلاح والمسئول عنها هو الوزير في الدول القديمة بالمشرق ، وفي عصر إبن خلدون في المغرب .

(2) مخاطبة ومراسلة البعيد وتنفيذ الأوامر ، وهذه مسئولية الكاتب .

(3) جباية المال وإنفاقه ، وضبط الإيرادات والمصروفات ، وهي مسئولية الوزير في المشرق في عهد إبن خلدون .

 (4) الحاجب الذي يحول بين الناس والسلطان .

أرفع الوظائف

     وأرفع هذه المناصب هو الحماية العامة ، حيث يقتضي صاحب هذا المنصب أن يشارك السلطان في سلطته . وإما ما كان خاصا ببعض الناس أو بعض الجهات مثل قيادة الجيش ، أو ثغر أو النظر في السًكة (العملة ) فإن صاحب هذا المنصب يكون تابعا لصاحب السلطة العامة ، أو الحماية العامة .

طبيعة الوظائف في دولة المسلمين الأولى

    وبعد الإسلام والخلافة ذهبت تلك الوظائف مع نظم الملك القديمة ، إذ كان النبي يستشير ، وكان أبوبكر من أبرز مستشاريه حتى كانوا يسمونه الوزير ، وكانت نظم الجباية بسيطة وكانوا يستخدمون من يعرف الكتابة والحساب من الموالي ، وكان الحاجب الذي يحول بين السلطان والناس محظورا .

تغير الوظائف بعد الدولة الأولى

     فلما انقلبت الخلافة إلى مُلك كان الحُجاب أول ما تم تنفيذه خشية الإغتيال كما وقع مع معاوية وعمرو خشية أن يحدث لهما ما حدث لعلي وعمر ، فاتخذا الحجاب .

    وعندما تعقدت أمور المُلك ظهر المشير أو المستشار في أمور القبائل والعصبيات وأطلق عليه اسم الوزير ، وبقي ضبط حسابات الدواوين في الموالي وأهل الذمة ، وكان هناك كاتب يختص بأسرار السلطان ، وهو دون الوزير ، وظل الوزير عالي الشأن في الدولة الأموية تتناول سلطاته كل الشئون .

الوزير في العصر العباسي الأول

     وارتفع شأن الوزير أكثر بتعاظم الحضارة ، وأصبحت مرتبته ظاهرة ، وكان له أن ينوب عن الخليفة في الحل والعقد ، وأن يباشر ديوان الحسابات والرسائل وسجلات وخاتم السلطان ، أي جمع الوزير بين السيف والقلم ، حتى لقد تلقب الوزير جعفر بن يحيى البرمكي بالسلطان في خلافة الرشيد ، ولم يخرج عن نفوذه إلا الحجابة أو القيام على باب الرشيد . ثم كان الوزير يستبد بالخليفة ، أو يسترجع الخليفة نفوذه من الوزير وعندما كان يستبد الوزير بالخليفة يحتاج منه إلى إستنابة ليكون حكمه شرعيا .

     ومن هنا إنقسمت الوزارة إلى وزارة تنفيذ حين تكون السلطات كاملة للخليفة وتنحصر مهمة الوزير في تنفيذ أوامره ، ووزارة تفويض حين يستبد الوزير بالأمر .

الوزارة في العصر العباسي الثاني

      وبعد تحكم الموالي العجم في الخلافة العباسية لم يتلقبوا بألقاب الخلفاء واستنكفوا أيضا من لقب الوزير ، والوزراء تابعون لهم ، فاختاروا الإمارة والسلطان . وأصبح المتغلب على الخلافة إسمه أمير الأمراء أو السلطان أو ما يختاره له الخليفة من ألقاب ، وانحصر لقب الوزير فيمن يقوم على خدمة الخليفة العباسي . واختص إسم الأمير بالقائد الحربي وكان صاحب النفوذ الأكبر.

الوزارة في الدولة المملوكية

    كانت الوزارة قد أصبحت رتبة ناقصة ، فترفع عنها أمراء المماليك ، فاقتصرت على النظر في جباية الأموال . أما صاحب النفوذ التالي للسلطان فهو نائب السلطنة الذي ينظر في الأحكام وفي الجند . وبقي اسم الحاجب في مدلوله ، والدويدار هو الذي يقف بالوفود أمام السلطان ويعلمهم الآداب السلطانية " الاتيكيت " ويتبعه كاتب السر والمشرف على البريد .

الوزارة في دولة بني أمية في الأندلس

    أصبح للوزارة أربعة ميادين ، لكل ميدان منها وزير إختص بوظيفة ، فوزير للمالية ووزير للمرسلات ، ووزير للمظالم ووزير للثغور والحراسة الحربية . وجعلوا لهم مجلسا للوزراء ، ويجتمعون فيه ، وهناك وزير منهم يكون صلة بينهم وبين السلطان ولقبه الحاجب ، وهو أعلى منهم منزلة . وبمرور الزمن ازدادت سلطة الحاجب ، حتى كان بعض ملوك الطوائف يحمل لقب الحاجب .

وفي الدولة الفاطمية

    وقلدت الدولة الفاطمية الأمويين في الأندلس ، بعد فترة من البداوة .

في دولة الموحدين

     وهكذا الحال مع الموحدين ، إلا أنهم جعلوا الوزير حاجبا للسلطان .

الحجابة

     كانت في الدولتين الأموية والعباسية مجرد حاجب يعلوه الوزير ، وهي كذلك في الدولة المملوكية حيث يكون نائب السلطنة أعلى من الحاجب .

    أما في الدولة الأموية بالأندلس فقد كان الحاجب واسطة بين السلطان والوزراء, وأعلى قدرا من الوزير . ثم حين إستبد الموالي بالدولة كان المستبد يحمل لقب الحاجب ، مثل المنصور بن أبي عامر وأبنائه ، وبعد أن تم لهم الملك إستمروا يحملون لقب الحاجب ، ويقال لأحدهم أنه الحاجب وذو الوزارتين ، أي الذي يحجب السلطان عن العامة والذي يجمع بين السيف والقلم ، ثم أصبح المختص بديوان المالية يسمى في عصر إبن خلدون بالوكيل . ولم يكن يوجد لقب الحاجب ووظيفته في دول شمال أفريقيا ، وربما كان موجودا لدى الدولة الفاطمية في مصر ولكن بدرجة أقل .

     فدولة الموحدين لم يكن فيها من وظائف سوي الوزير ، وكان في البداية كاتبا يختص بأمور السلطان ، ثم أضيف له ديوان المالية ، ثم عظم شأنه بعد ذلك .

    أما بنو حفص فكانت الرياسة لوزير الرأي ويعرف بشيخ الموحدين ، وله النظر في الولايات والعزل وقيادة الجيوش ، وهناك وزير الأشغال المختص بالأمور المالية ، وكان من بين الموحدين أهل السلطان ، واختص ديوان الرسائل بالأسرار ، ولم يشترط في صاحبه أن يكون من الموحدين ، لأنهم لم يكونوا من أهل الكتابة . واحتاج السلطان إلى حاجب يشرف على أحوال قصره وبيوته ، وأضيفت للحاجب حمل خاتم السلطان على السجلات ، وبعد أن إنعزل السلطان عن الشعب أصبح الحاجب واسطة بينه وبين الناس بما فيهم أصحاب المناصب ، ثم أصبح الحاجب يقود الجيوش, وأصبح صاحب الرأي والمشورة ، وبهذا تحكم الحاجب في السلطنة .

     وعلى العكس من ذلك في دولة بني مرين ، فلا أثر لإسم الحاجب لديهم ، بل كان الوزير هو قائد الجيش ، وكان صاحب القلم من المتخصصين في الرسائل ، أما حاجب السلطان فكان إسمه المزوار ، وهو رئيس المتصرفين على باب  السلطان ، وهو الذي ينفذ عقوبات السلطان ويباشر السجون .

    وفي دولة بني عبد الواد لم تكن تلك الوظائف مميزة بسبب بداوتهم ، وكان الحاجب أحيانا هو خادم السلطان في بيته ، وقد يكون كاتب الدولة .

     والحاجب في دولة المماليك من الأمراء ، ويقوم بتنفيذ الأحكام بين الناس ، ويتبع نائب السلطنة الذي يباشر التولية والعزل ، والحاجب يقوم بتنفيذ أوامر النائب . وللحاجب أن يحكم فقط في العوام والجند عندما يلجأون إليه ، وهو يجبر من يأبي الإنقياد للحكم . أما الوزير فهو المشرف على جباية الأموال وتصريفها ، وله التولية والعزل في الموظفين التابعين له . والمعتاد أن يكون الوزير من الأقباط الذين تخصصوا في الحسابات . وقد يتولاها أحد الأمراء المماليك .

ديوان الأعمال والجبايات : ديوان المالية

     هو حفظ حقوق الدولة في الدخل والخراج ، وتقدير المصروفات حسب القوانين والقرارات الديوانية . ويرى إبن خلدون أن ديوان كلمة فارسية الأصل ثم أصبح يطلق على كتاب الحسابات من الدخل والمنصرف .

بداية الدواوين في دولة المسلمين

    ويوجد ديوان المالية عندما تتوطد أمور الدولة حربيا وسياسيا ، والخليفة عمر هو أول من وضع الديوان ، وقيل أن ذلك باشارة من خالد بن الوليد أو الهرمزان الأمير الفارسي الأسير في المدينة ، وأول تدوين للديوان قام به عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم ، فكتبوا أسماء العسكر على ترتيب الأنساب بدءا من بني هاشم ، وكان ذلك سنة 20هـ .

تعريب الأمويين للدواوين

     وبقى ديوان المالية على ما كان عليه بالفارسية في إيران والعراق ، وباللاتينية في الشام وبالقبطية في مصر يقوم بذلك نفس الموظفين ، إلى أن جاء عصر عبدالملك بن مروان وازداد احتكاك العرب بالحضارة والمهارة في  الكتابة والحساب فأمر عبدالملك والي الأردن بنقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله خلال سنة ، وانتهى توظيف الروم في ديوان الشام . أما في العراق فقد أمر الحجاج بن يوسف كاتبه صالح بن عبدالرحمن بنقل ديوان العراق من الفارسية للعربية ، ففعل ذلك بنفسه وكان يكتب بالعربية والفارسية .

صلة الدواوين بسياسة الملك

      وكتب الأحكام السلطانية تبحث  أحكام هذه الوظيفة وشروط من يتولاها ، ويركز إبن خلدون هنا على صلة هذه الوظيفة بطبيعة المُلك ، أي من الناحية السياسية ، ويرى إبن خلدون أن ديوان المالية ( الأعمال والجبايات ) هو الركن الثالث للملك ، فالملك يحتاج إلى الجند والمال والرسائل ، والأعوان في كل منها ، وفي دولة الموحدين كان " صاحب الأشغال " هو الذي يتولى ديوان المالية ، وكان يتولاها غالبا أحد عصبة السلطان . وفي دولة بني حفص وفدت إليهم جاليات أندلسية كان منها من يتقن هذه المهنة فتقلدها ،  وحين إستبد الحاجب بالنفوذ أصبح صاحب ديوان المالية تحت إمرته . وفي دولة بني مرين تولى هذه الوظيفة رجل بين السلطان والوزير ، وكان خطه أو توقيعه نافذا في صحة الأوراق والحسابات . وفي الدولة المملوكية توزعت هذه الوظيفة بين أكثر من مسئول بسبب عظمة الدولة وإتساعها . فناظر الجيش هو صاحب ديوان العطاء ، والوزير  هو الناظر في ديوان الجباية العامة ، ومعه أحد الأمراء يتابعه ، وناظر الخاص هو المشرف على أموال السلطان وإقطاعاته .ويشرف عليه أحد الأمراء إذا لم يكن من المماليك ، ثم هناك الخازن لأموال السلطان وهو يشرف على ناظر الخاص .

ديوان الرسائل والكتابة

وظيفة توجد في الدولة المتحضرة

    ترتبط هذه الوظيفة بتقدم الدولة وحضارتها ، لذا لا توجد في الدول البدوية والبدائية ، وقد تأكدت الحاجة إليها في الدول الإسلامية بأهمية اللغة العربية وفصاحتها ، ولما دخل اللحن وأفسد السليقة العربية صارت الكتابة صناعة يتعلمها ويحسنها من يريد التوظيف بها ، وصارت وظيفة الكتابة رفيعة الشأن في الدولة العباسية .

طبيعة عمل الكاتب

     والكاتب يصدر السجلات ويكتب عليها إسمه ويضع عليها خاتم السلطان ، وهو ختم منقوش فيه إسم السلطان أو شارته ، ويغمس في طين أحمر مذاب بالماء يسمى طين الختم ، ويطبع به على طرفي السجل عند طيه وإلصاقه . يشبه الشمع الأحمر الآن .

      ثم صارت السجلات تصدر بإسم السلطان ثم يضع الكاتب عليها علامته ، وهذه العلامة على قدر صاحبها ، وقد يلغيها من هو فوق الكاتب ، ويضع علامته دليلا على ذلك ، وكان يحدث ذلك مثلا عندما إستبد الحاجب بالأمر في الدولة الحفصية .

التوقيع       

    والتوقيع من وظيفة الكتابة ، وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجلس الحكم ، وحين يصدر السلطان حكما يقوم الكاتب بتسجيله بأفصح عبارة وأوجز لفظ ، لذا لابد أن يكون بليغا فصيحا ، وقد إشتهر جعفر البرمكي في التوقيع على الشكاوى بين يدي الرشيد ، ويرمي بالشكوى إلى صاحبها ، فكان أصحاب البلاغة يتنافسون في محاكاته وفي شراء الشكاوي التي يوقع عليها .  

 شروط الكاتب القائم بالتوقيع                              

      ويشترط في الكاتب صاحب التوقيع أن يكون من أهل المروءة والحشمة والعلم والبلاغة ومن صفوة المجتمع ، حتى يستطيع أن يعرف آداب الملوك وما يدور في مجالسهم ويعكس ذلك في تعلقياته أو توقيعاته .

الدولة البدوية أو العسكرية تجعل أهل الثقة متحكمين في أهل الخبرة من الكتاب   

    وإذا  كانت الدولة عسكرية بدوية فتسيطرعصبية السلطان على كل شئ من الأموال والعساكر والرسائل ، ولكن يحتاج المسؤول عن الأموال إلى معرفة الحساب ، كما يحتاج المسئول عن الرسائل إلى معرفة البلاغة ، وحين تضطر الدولة العسكرية إلى تعيين آخرين من ذوي الخبرة في هذين المنصبين فهي تجعلهما تحت سيطرة أهل العصبية من الدولة ، ومثلا فإن الدولة المملوكية العسكرية جعلت الأمير المملوكي الداودار – أي حامل الدواة – هو المسيطر على صاحب الإنشاء ، وكان في العادة من غير المماليك .

ملاحظة : رأى ابن خلدون ينطبق على دولة العسكر فى عصرنا .

شروط الكاتب كما جاء في نصائح عبدالحميد الكاتب  

    وأورد إبن خلدون كتاب عبدالحميد الكاتب الذي ينصح فيه الكُتاب ، وقد كان عبدالحميد أشهر كاتب في الدولة الأموية .

    ومن الشروط التي نوه بها عبدالحميد أن يكون الكاتب حليما في موضع الحلم مقداما في موضع الإقدام محجما في موضع الإحجام مؤثرا للعفاف والعدل ، كتوما للأسرار وفيا عند الشدائد ، عارفا بكل فنون العلم متفقها في الدين عارفا بكتاب الله تعالى والفرائض ومتعمقا في اللغة العربية وأسرارها والشعر العربي وأيام العرب ، وأن يستفيد من خبرة الشيوخ فى الكتابة ، وأن يراقب الله عز وجل في تعامله مع الناس ، وأن يكون متواضعا حليما رفيقا في عمله وأن يبتعد عن الدناءة والنميمة والإستكبار والغرور والوقوع في الزلل والإسراف والترف .    

     وهذه النصائح الأخلاقية مطلوبة لكل إنسان في حياته وعمله ، وليست مختصة بالكتاب وحدهم .

 الشرطة 

     هي وظيفة مرؤوسة تتبع قوة الدولة الحربية ، ويتحكم في رئيس الشرطة القائد الأعلى للحرب ، ورئيس الشرطة في شمال أفريقيا يطلق عليه اسم " الحاكم " ، ولقبه في الأندلس " صاحب المدينة " وفي الدولة المملوكية يطلق عليه " الوالي " .

الشرطة في الدولة العباسية  

     وتحددت وظيفتها في الدولة العباسية, في إثبات التهمة على المجرم ، ثم تنفيذ الحكم عليه بعد نطق القاضي بالحكم ، وكان  يتم قهر المتهم على الإقرار بالجريمة إذا إستوجبت ذلك المصلحة العامة . وأحيانا كان من مسؤوليته تطبيق الحدود كلها ، وتقلد وظيفة الشرطة كبار القواد . ووظيفة الشرطة كانت تشمل في حدودها العوام والمشبوهين ، ودون أصحاب الطبقات العليا.

ملاحظة : ابن خلدون لا يرى مانعا من التعذيب للمتهم ، وفقا لثوابت عصره.

الشرطة في الأندلس

      يقول إبن خلدون  " ثم عظمت نباهتها في دولة بني أمية في الأندلس ، ونوعت إلى شرطة كبرى وشرطة صغرى ، وجعل حكم الكبرى على الخاصة والدهماء ، وجعل له الحكم على المراتب السلطانية .. وجعل صاحب الصغرى مخصوصا بالعامة " .

الشرطة في دول شمال أفريقيا ومصر

      ولم تكن عامة في دولة الموحدين ، وفي البداية لم يكن يتولاها إلا رجال الموحدين ولم يكن لهم التحكم في أهل المراتب السلطانية . ثم فسد وضعها وتولاها من لايستحق . وفي دولة بني مرين تولاها أتباع السلطان . وفي الدولة المملوكية والأيوبية قبلها كانوا يتخيرون لها أصحاب الشدة والصلابة .

قيادة الأساطيل

    يرأسها قائد القوات الحربية وتحت سيطرته في أغلب الأحوال ، وتخصصت دول شمال أفريقيا بهذه الوظيفة لوقوعها على البحر المتوسط جنوبا في مقابل الفرنجة في شماله . وسبق للأوربيين من الرومان والقوط أن قهروا سكان شمال أفريقيا على الساحل وأقاموا لهم مدنا ساحلية مثل قرطاجة وسبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة .

     وبعد الفتح الإسلامي لمصر خاف عمر  على المسلمين من ركوب البحر ونهاهم عنه ، ثم أذن لمعاوية بذلك بعد أن إستقر سلطان العرب في الفتوحات .  

    وبذلك قامت الصناعات البحرية للسفن والأساطيل على طول السواحل الإسلامية من الشام إلى الأندلس ، وفي عهد عبدالملك أقام الوالي حسان بن النعمان ترسانة في تونس وبعد ذلك فتح أسد بن الفرات صقلية في عهد زيادة الله الأغلبي .

     وبعدها كانت الأساطيل الإسلامية الفاطمية والأندلسية تهاجم وتخرب الموانئ الأوربية ، وكان أسطول عبدالرحمن الناصر مائتي مركب ، ونحوها في الدولة الفاطمية ، وتحول البحر المتوسط إلى بحيرة إسلامية عربية وتملك المسلمون جزر البحر الأبيض مثل ميورفة ومنورفه وسردينية وصقلية وقوصره ومالطة وكريت وقبرص . وكان الفاطميون في تونس يهاجمون جنوة وينهبونها ، وافتتح مجاهد العامري الأندلسي سردينية سنة 405 ثم إستعادها أصحابها في نفس العام . وبنو الحسن ملوك صقلية التابعون للفاطميين إعتادوا الإغارة على سواحل أوربا الجنوبية مما حصر الأساطيل الأوربية في السواحل الشمالية الشرقية للبحر المتوسط .

    ثم أصاب العرب الوهن ، وضعفت الدولة الفاطمية والأندلسية فاستعاد الأوربيون جزر صقلية وكريت ومالطة . ثم تجاوزوا ذلك إلى إحتلال الموانئ العربية في الشام وأقاموا لهم الممالك والولايات الصليبية ، واحتلوا بعض المدن الساحلية في شمال أفريقيا مثل طرابلس وقابس وصفاقس . ووضعوا عليها الجزية ، وتملكوا المهدية  التي كانت عاصمة الفاطميين في تونس . إلا أن الأساطيل الإسلامية في الساحل المغربي ظلت محتفظة بقوتها وقد سيطر عليها عبدالمؤمن ، وبلغت مائة سفينة بين المغرب والأندلس .

     ولما توطدت دولة الموحدين في القرن السادس الهجري في المغرب والأندلس أقاموا أسطولا قويا قام بقيادته أحمد الصقلي ، وقد كان مسلما من جربة التونسية ولكن أسره الأوربيون وبيع في صقلية وتربى لدى ملكها وصار من قواده . ثم إنقلب عليهم وهرب إلى تونس حيث كان الوالي من الموحدين ، فألحقه بالخليفة يوسف بن عبدالرحمن فعينه قائدا للأسطول فأبلى بلاء حسنا في جهاد الأوربيين ، وبلغ الأسطول في عهده أوج عظمته . 

     وبعد هزيمة الصليبيين في حطين وإستعادة صلاح الدين لبيت المقدس تتابعت الأساطيل الصليبية تهاجم موانئ مصر والشام حيث كانت الأساطيل هناك ضعيفة ، فأرسل صلاح الدين الأيوبي إلى  السلطان المغربي أبي يعقوب المنصور من دولة الموحدين يطلب منه أن يقطع أسطوله الطريق على السفن الصليبية ، وكان رسوله عبدالكريم بن منقذ ، وكتب الرسالة إليه القاضي الفاضل ، إلا أن الرسالة خلت من مخاطبة سلطان المغرب بلقب أمير المؤمنين ، فنقم أبو يعقوب ولم يجبه إلى طلبه .

    وهكذا تخصص المغرب وشمال أفريقيا بالأساطيل ، بينما لم تهتم بها مصر والشام . وعندما ضعفت دولة الموحدين واستولى الأسبان على أكثرية الأندلس تملكوا الجزر الغربية من البحر المتوسط وسيطرت أساطيلهم على البحر المتوسط بينما تضاءلت الأساطيل الإسلامية ، ويقول إبن خلدون ،" فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان ( التنجيم) أنه لابد للمسلمين من الكرة – الإنتصار – على النصرانية وافتتاح ما وراء بلاد البحر من بلاد  الفرنجة ، وأن ذلك يكون في الأساطيل ". فهل تحققت أمنية إبن خلدون ؟   !! 

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون:ب3 :( ف36 :37) شارات السلطة:الرايات ، العُملة،الخاتم والخُطبة ..  

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية

                                 الفصل السادس والثلاثون              

                          التفاوت بين مراتب السيف والقلم في الدول              

      السيف والقلم من أجهزة الدولة ، إلا أن الدولة في بدايتها وتوطيدها تحتاج أكثر إلى السيف ، ويكون القلم خادما للسيف . والدولة أيضا في نهايتها تحتاج أكثر للسيف ، حيث تحتاج إلى من يدافع عنها ، وفي الحالتين يكون أرباب السيف أوسع جاها وثروة .

      أما في وسط الدولة حيث تتوطد الأمور فإن الحاكم يستغنى بعض الشئ عن السيف ويحتاج إلى من يعاونه من أرباب القلم في تنظيم وتكثير الإيرادات ، وحينئذ يكون أرباب القلم أوسع جاها وثروة وأقرب من السلطان مجلسا ، بينما يكون أصحاب السيف مبعدين عن السلطان وتقوى الشكوك بينهم وبينه ، ولذلك قال أبو مسلم الخراساني للمنصور  أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء " .  

                                   الفصل السابع والثلاثون     

                                       شارات الملك خاصة به

     هناك سمات للبذخ خاصة بالسلطان يتميز بها عن غيره .ومنها :

الآلة : أي الموسيقى العسكرية والأعلام الوطنية والرسمية ، أو حسبما يقول إبن خلدون " من شارات الملك إتخاذ الآلة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق ، وذلك لإرهاب العدو في الحرب ، إذ أن للأصوات الهائلة تأثيرا في النفوس يخلق فيها الحماسة ، خصوصا مع الغناء الحماسي ، وكان العجم  يستخدمون الموسيقى العسكرية في حروبهم , واتخذ العرب في حروبهم التغني بالشعر ، وكذلك  كانت تفعل قبائل زناته في حروبها ، وكانوا يسمون الغناء الحماسي " ناصو كايت " .

     أما تكثير الرايات وتلوينها وإطالتها فذلك للتهويل والحماسة . وعلى حسب قوة الدولة واتساعها يكثر ويقل إتخاذ الموسيقى والأعلام والرايات ، وكانت الرايات ولاتزال إشارات الحرب .

     ولم يهتم المسلمون في بداية الأمر  بالموسيقى العسكرية ، فلما إنقلبت الخلافة إلى مُلك تشبهوا بالفرس والروم في البذخ والترف ، وكان منها الموسيقي العسكرية ، فكان قائد الجيش أو الوالي يخرج من دار الخلافة في موكب من أصحاب الرايات  والموسيقى العسكرية.             

  الرايات دليل على أصحابها

     وكانت رايات العباسيين سوداء حزنا على ما أصاب الهاشميين من قتل وبغي ، وصارت كلمة المسودة دليلا على الجيش العباسي في بداية الدولة ، وحين خرج العلويين على العباسيين جعلوا راياتهم بيضاء وسموا المبيضة ، وصارت الأعلام البيضاء دليلا على كل ثائر على العباسيين من كل فرق الشيعة كالفاطميين والقرامطة .ونزع المأمون لبس السواد واختار اللون الأخضر.   

 الإستكثار في الرايات والآلات الموسيقية ليس له حد

      فالعزيز بالله الفاطمي حين خرج إلى فتح الشام كان معه خمسمائة من البنود والأعلام وخمسمائة من الأبواق ، وملوك البربر من صنهاجة لم يقتصروا على لون واحد وكانوا  يحلون الرايات بالذهب ، فلما جاءت دولة الموحدين وزناته بعدهم جعلوا الطبول والبنود قصرا على السلطان في موكب خاص يسمى الساقة .

     وهناك تباين في العدد ، إذ اقتصر الموحدون وبنو الأحمر في الأندلس على سبع تبركا بالعدد سبعة ، ومنهم من بلغ عشرا أو عشرين كما في زناته ، وفي سلطنة أبي الحسن الذي أدركه إبن خلدون كان هناك مائة من الطبول ومائة من البنود من الحرير والذهب ، وهناك رايات ضئيلة من الكتان وطبل صغير في الحرب للولاة والقادة .

الرايات المملوكية

     أما في الدولة المملوكية فهناك راية واحدة عظيمة في رأسها خصلة كبيرة من الشعر إسمها الشالش والجتر وهي شعار السلطان . ثم تتعدد الرايات للصناجق والصنجق تعني الراية باللغة التركية ، أما الطبول فيسمونها الكوسات ، ولكل أمير أن يتخذ ما يشاء من الصناجق والكوسات ما عدا شعار السلطنة أي الشالش .

الفرنجة والأسبان

    أما الفرنجة والأسبان فهم يتخذون الألوية الطويلة ومعها الموسيقي الوترية والمزمار والغناء .

السرير

    هو منضدة جلوس السلطان ، ويطلق عليه أحيانا المنبر ، والتخت والكرسي والأريكة ، وتكون مرتفعة عن كراسي الجالسين مع السلطان . وكان ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وبعده . وقد يتزين بالذهب في عصر ترف الدولة وازدهارها ، وقد يكون بسيطا مع بساطة الدولة وبداوتها .

    ومعاوية هو أول من اتخذ سرير الملك وبرر ذلك باصابته بالبدانة ، أما عمرو بن العاص فكان يجلس في قصره على الأرض مع العرب ، وكان يأتيه المقوقس حاكم مصر السابق إلى مقره ومعه سريره الذهبي محمولا على الأيدي حتى يجلس عليه عند عمرو فيجلس عمرو على الأرض ولا ينكر عليه ما يفعل وفاء بعهد الذمة وهجرا لأبهة المُلك ، ثم أصبح اتخاذ سرير المُلك عادة للعباسيين والفاطميين وسائر ملوك المسلمين .

السّكة

     السك أي ختم الدنانير والدراهم بنقش أو صورة بعد تقدير عيار الفضة في الدرهم  أو الذهب في الدينار عن طريق السبك مرة بعد أخرى . وبها يكون التعامل المالي عن طريق العدد أو القيمة . ولفظ السكة جاء من الحديدة التي كان يتم بها سك النقوش على الذهب أو الفضة . ثم إستعملت في وظيفة أو مصلحة سك العملة.

     وسك العملة من وظائف المُلك ليتميز السليم من المغشوش من النقود ، لذلك كان يتم التأكد بختم السلطان .

سك العملة في الإسلام 

    وكانت نقوش العملة قبل الإسلام وفي غير دول الإسلام بالتصوير والتمثيل ، وجاء الإسلام فكان المسلمون يتعاملون بالدرهم والدينار كما يتعاملون بالذهب  والفضة وزنا ، وعلى أساسها يحسبون قيمة الدينار والدرهم، فلما كثر الغش أمر عبدالملك بن مروان الوالي الحجاج بضرب الدراهم   سنة 74-75 هـ . وتم التعامل بها سنة 76 وكتب عليها " الله أحد الله الصمد " ثم استمرت التحسينات في إصدار العملة في ولاية ابن هبيرة للعراق وخالد القسري ويوسف بن عمر .

    وهناك رأي يقول أن أول من سك العملة في الإسلام هو مصعب بن الزبير في العراق بأمر أخيه عبدالله بن الزبير حين إستولى على الخلافة ، وكتب " بركة الله " على وجه منها ، وعلى الوجه الآخر كتب إسم الله ، ثم غيرها الحجاج . وتقدير وزن الدرهم في عهد عمر كان ستة دوانيق ، فلما أصدر عبدالملك الدرهم العربي التزم بنفس الوزن ، وجعل فيه كلمات وليس صورا لأن العرب أقرب للكلام والبلاغة من الصور ، ولنهي الشرع عن الصور ، وهذا ما سار عليه الناس .

     وكان الدرهم والدينار على شكل دائرة والكتابة في دوائر متوزاية ، ويكتب في وجه اسم الله والرسول مع التسبيح والتحميد والصلاة على النبي ، وفي الوجه الثاني تاريخ الإصدار واسم الخليفة أو السلطان ، وهكذا كان يفعل العباسيون والفاطميون والأمويون بالأندلس . وفي صنهاجة لم يتخذوا عملة إلا متأخرا في عهد المنصور صاحب بجاية كما ذكر ابن حماد في تاريخه .        

    ولما جاءت دولة الموحدين بمحمد بن تومرت المهدي أصدر درهما ودينارا كل منهما في "margin-right:-9pt;"> ديوان الخاتم

    ومعاوية هو أول من اتخذ ديوان الخاتم ، لأنه أرسل مع عمر بن الزبير رسالة لزياد أن يعطيه زياد مائة ألف ، ففتح عمر الرسالة وجعل المائة مائتين ، فأعطاه زياد مائتين ، فلما عرف معاوية استرجع منه المائة ألف ، واتخذ ديوان الخاتم منعا للتزوير .

     وديوان الخاتم يرسل رسائل السلطان وعليها ختمه بالشمع الأحمر أو بالعلامة السرية ، وهناك ما يعرف بطين الختم ، وكان يأتي من سيراف ويغمس فيه الخاتم ثم ينقش به على الورق ، وكان ذلك ساريا في ديوان الرسائل ، وللوزير في العصر العباسي . ثم إختلف العرف ، وأصبحوا في المغرب يستعملون الخاتم الملبوس في الإصبع يلبسه السلطان ويكون مرصعا بالأحجار الكريمة ، ويعدونه من علامات الملك ، كما كانت البردة والقضيب في الدولة العباسية ، والمظلة في الدولة الفاطمية .

الطراز

    كانوا يطرزون أسماءهم وشعاراتهم على ثيابهم الحريرية ، ويأتي التطريز  بلون مختلف للثوب وبخيوط الذهب وعلى أعلى مستوى من المهارة للتنويه بمن يرتدي ذلك من السلطان وأتباعه . وكان ملوك العجم يطرزون بصور الملوك وصور أخرى ، واستبدل الملوك المسلمون هذا بكتابة أسمائهم مع عبارات حسنة متفائلة .

    وأقيمت دور الطراز داخل القصور الملكية ، ويرأسها صاحب الطراز ، وهو يشرف على الآلات والخياطين ومرتباتهم ، ويتولى هذه الوظيفة كبار الموظفين ، وهكذا كان الحال في الدولة الأموية بالأندلس والفاطمية والسلاجقة .

      وتزدهر هذه الوظيفة مع ترف الدولة وثرائها ، وتنكمش مع بساطة الدولة وبداوتها وفقرها .

فدولة الموحدين في البداية مع أول القرن السادس لم تأخذ بذلك إذ كانوا يتورعون عن لباس الحرير والذهب والفضة ، ثم أخذ اللاحقون في التنعم واتخاذ الطراز . وأدرك إبن خلدون في الدولة المرينية بالغرب في عنفوانها وشموخها وهي تأخذ طريقة جديدة في الطراز تأثروا فيها بملوك الطوائف بالأندلس .

    أما في الدولة المملوكية فلا يصنع الطراز داخل القصر السلطاني ، وإنما تصنعه للسلطان المصانع المختصة ، تصنع له " المزركش " من الحرير والذهب الخالص وعليه إسم السلطان أو الأمير .

الفسطاط والسياج

    من شارات الملك وترف المملكة اتخاذ الخيام البديعة أو الفسطاط للسكن فيها أثناء السفر والنزهة ، وهي من ثياب الكتان والصوف والقطن ، وتتنوع الألوان والفخامة حسب ثروة الدولة.

     والعرب حتى دولة بني أمية كانوا يسكنون خيام الوبر والصوف ، وكانت عدتهم في الترحال ، واستمرت عادة الترحال في الجيوش حيث تباعدت المنازل والأحياء ، ولذلك احتاج عبدالملك بن مروان إلى فرقة خاصة تقوم بحشد هذه التجمعات المتفرقة لتجتمع معا عند التحرك الحربي .

     ودخل العرب في الترف وسكنت القبائل في المدن وعاش الأمراء في القصور فتحولت الخيام البسيطة عند السفر إلى فساطيط مختلفة الأشكال والألوان والزينة والأحجام ، وكل أمير يحيط فساطيطه بسياج من الكتان . وفي المغرب يسمي ذلك السياج الكتان " أفراج " ، ويختص به السلطان . وأما في المشرق فكل أمير من  حقه أن يتخذ سياجا .

     وفي البداية كانوا يحملون معهم نساءهم وأولادهم في الخيام ، وفي عصر الترف إستراحت النساء والأولاد في القصور ، وأصبحت الفساطيط قصرا على الرجال لذلك تقاصرت المسافات بينها بحيث أصبحت في معسكر واحد ، وهكذا كان الحال في دولة الموحدين وزناته التي أدرك إبن خلدون عصرها ، وقد كانوا يعيشون في الخيام ثم تطوروا وسكنوا القصور والفساطيط حين يجتمع العسكر معا.

المقصورة للصلاة والدعاء في الخطبة

     وهي تختص بالخلافة والملك الإسلامي . والمقصورة أول من إتخذها معاوية بعد تعرضه لمحاولة إغتيال ، وبها أصبح يصلي في المسجد خلف سياج ، وبعدها أصبحت عادة يتميز بها السلطان عن غيره كإحدى مظاهر الترف التي لازمت الدول والملوك في الإسلام .

الدعاء على المنابر

      وعمرو بن العاص أول من اتخذ المنبر ، وقد إحتج عليه عمر بن الخطاب حين بلغه ذلك . أما الدعاء للسلطان فأول من بدأ به عبدالله بن عباس حين كان واليا لعلي على البصرة فدعا لعلي قائلا: اللهم أنصر عليا على الحق ، يقول إبن خلدون  " واتصل العمل على ذلك ".

     وكان الخليفة هو الذي يؤم الصلاة ، ويخطب بنفسه ، ثم إحتجب الخليفة أو الملك من الناس ، وأصبح يستنيب في الصلاة والخطبة ، فكان الخطباء يمدح أحدهم الخليفة على المنبر ويدعو له ، أو على حد تعبير إبن خلدون " ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم فيه " واستشهد بقول  السلف " ومن كانت له دعوة صالحة فليضعها في السلطان ".

       فلما تغلب الموالي على الخلفاء أصبحوا يشاركون الخليفة في الدعاء على المنبر بعد إسمه ، وبعد إنفراد السلطان بالحكم إستأثر أيضا بالدعوة له على المنبر . وكان يحدث في بداية قيام الدولة وعدم وضوح الرؤية أن يقنع الخطيب بالدعاء بالإبهام وبالإجمال دون تحديد ، وتسمي هذه الخطبة " عباسية " .

     وكان ذكر السلطان على المنبر في خطبة الجمعة دليل الإعتراف بشرعيته وتبعية الدولة له.  وقد ذكر إبن خلدون بعض الأحداث التاريخية التي تؤكد ذلك.

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون:( ف 38 ) عن الحروب والنصر فيها    

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية

                                        الفصل الثامن والثلاثون

                                الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها

أسباب الحروب                                                                      

     الحرب بدأت مع بداية الإنسان ، وتنشأ بدافع الإنتقام وتعصب الناس لأهل عصبيتها ، فإذا نشبت الحرب وانتصرت طائفة فإن المنهزمة تطلب الإنتقام . وسبب الإنتقام يأتي من الغيرة والمنافسة ، والعدوان ، أو الغضب لله ودينه أو غضب للملك أو السعي في تمهيده.

أنواع الحروب عدوان أو جهاد

       والغيرة والمنافسة تأتيان من القبائل المتجاورة والمتناظرة ،ويأتي العدوان من القبائل  البدوية على الآخرين حيث تعيش تلك القبائل الرعوية على السلب والنهب ، والغضب لله ودينه ينشأ عنه الجهاد ، والغضب للملك وتوطيده هو حروب الدول مع الخارجين عليها .

ويرى ابن خلدون أن الحروب القبلية تدخل في إطار الفتنة والبغي ، أما الحرب في سبيل الله أو في سبيل  الملك  فهى حروب جهاد وعدل .

صفة الحروب

     وصفة الحروب على نوعين : حرب بالزحف ، وحرب بالكر والفر ، وحرب الزحف هي طريقة العجم ، أما طريقة العرب فهي الكر والفر .

قتال الزحف

     وقتال الزحف أوثق وأشد من الكر والفر لأن فيه ترتيبا للصفوف ويزحفون بالصفوف نحو العدو كالصف المرصوص الذي أشار إليه القرآن والحديث ، ولذلك حرم الله التولي يوم الزحف .

قتال الكر والفر

     وقتال الكر والفر أقل شدة من قتال الزحف ، إلا أنهم قد يتخذون وراءهم موقعا ثابتا يرجعون إليه في الكر والفر ، ويقوم لهم مقام الزحف.

تقسيم الجيش وتعبئته في قتال الزحف

     وكانوا يقسمون الجيش إلى كراديس أو أقسام . وذلك عندما تكاثرت أعداد الجيش من كل الجهات ، فاحتاجوا إلى تجميع كل نوعية من الجند الذين يعرف بعضهم بعضا في كردوس واحد، ويجري الترتيب بينهم على أساس وجود الملك في قلب الجيش وبين يديه عسكره ، ثم عن يمينه فرقة وهي الميمنة ، وعن يساره فرقة الميسرة ، ثم فرقة أمام الملك وهي المقدمة ، وفرقة المؤخرة أو الساقة.

ضرب المصاف في قتال الكر والفر وقتال الزحف

    من طرق الحرب خصوصا الكر والفر اتخاذ ملاجئ وراء العسكر فيها المؤن والخيل والأنعام ، وتسمى المصاف ، وتؤخذ نقطة إنطلاق للهجوم وإعادة الهجوم ، حتى تدوم الحرب .

    ومن ذلك إتخاذ الفرس الفيلة في زحفهم وعليها أبراج الخشب كالحصون مشحونة بالمقاتلين والسلاح، ويجعلونها وراءهم لتثبت الجنود ، وقد إستخدموها في القادسية وكادوا يغلبون بها لولا أن أبطال العرب قتلوا تلك الأفيال .

    وأما الروم والقوط والعجم فكانوا ينصبون سريرا للملك وحوله حرسه ليستميت الجند في الدفاع عنه ، وتحيط بالسرير سياجات ورايات وصفوف من المقاتلة والرماة ، وكذلك فعل رستم قائد الفرس في القادسية ، وأما أهل الكر والفر من القبائل فيصفون الإبل وعليها النساء الظعائن ويسمونها المجبوذة . وانتهى العمل بذلك واستعاضوا عنه بالأنعام التي تحمل الأثقال والفساطيط في المؤخرة ، فصارت العساكر بذلك عرضه للهزائم . وكان الحرب أول الإسلام زحفا لمقابلة العدو الزاحف لكي يستميتوا في الجهاد تقربا لله .

متى بدا نظام الكراديس

     ومروان بن الحكم هو أول من قام بالتعبئة على نظام الكراديس ، وذلك في قتاله للضحاك والجبيري من الخوارج ، وبذلك أبطل قتال الصف ، وتناسوا أيضا اتخاذ المصاف بالظعائن ، حيث عاشت النساء في القصر ، إستبدلوا بهن الفسطاط والترف ، فلم يعد هناك مايدعو للإستماتة في القتال .

ملوك المغرب تستعين بالفرنجة في حروبهم

     وإعتاد ملوك المغرب الإستعانة بجند من الأفرنج الذين تخصصوا في القتال بالزحف ولم يعرفوا الكر والفر ، فكانوا أكثر ثباتا ، وكانوا يستعينون بهم في قتال العرب والبربر ، وليس في الجهاد ضد الفرنج حتى لايمالئوا أهلهم .

طرق الحرب لدى الترك

    ومن طرق الحرب لدى الترك المناضلة بالسهام ، وتقسيم الجيش إلى ثلاثة صفوف ، صفا خلف صف ،وكل صف يحمي الصف الذي خلفه ،ثم يتحاربون جلوسا ،يقول " وكل صف ردء للذي أمامه أن يكبسهم العدو إلى أن يتهيأ النصر لأحدى الطائفتين على الأخرى".

حفر الخنادق

     وكانوا يحفرون الخنادق حول معسكرهم للحماية من الإغارة ليلا ، وكانت لديهم المقدرة على ذلك بكثرة الرجال وضخامة الملك وكثرة العمران . وعندما تخرب العمران وضعفت الدول وقل الرجال انتهى العهد بالخنادق .

وصية " علي " يوم صفين

     وأورد إبن خلدون وصية علي في صفين وقال أن فيها الكثير من علوم الحرب ومنها تسوية الصفوف وتقديم الدروع وتأخير ما ليس مدرعا والثبات عند القتال. وإقامة الرايات بأيدي الشجعان ، والصدق والصبر .

     واستشهد بقول للأشتر النخعي يحرض قومه في الموقعه ، كما ذكر بعض الأشعار .

النصر في الحرب تبعا للحظ !!

     ويرى إبن خلدون أن النصر في الحرب لا يمكن الوثوق به ،وإنما يقع اتفاقا وحسب الحظ حتى لو توافرت كل أسباب النصر.

     ويرى أن أسباب النصرتجتمع في عدد الجيش وقوته ووفرة الأسلحة وجودتها ، وكثرة الشجعان ، وترتيب وتنظيم الخطة الحربية ، والصبر في القتال وجودة الخداع والتجسس وحرب الشائعات ، واختيار المرتفعات عند الهجوم وإقامة الكمائن المفاجئة ، وكلها من الأسباب الجلية ، وقد تأتي الأسباب الخفية من السماء فتقع الرهبة في القلوب ، ووقوع الأشياء الجلية هو معني البخت والمصادفة ، واستشهد بأحاديث :" الحرب خدعة" ، " نصرت بالرعب  " ونصرة المسلمين بعددهم القليل على عدد أكبر منهم ".

     وانتقد إبن خلدون رأي أبي بكر الطرطوشي في أن زيادة الفرسان الشجعان في أحد الجانبين ترجح كفته للنصر ، حتى لو زادوا واحدا ، ويرى إبن خلدون أن الصحيح هو حال العصبية ، فالعصبية الواحدة في جانب واحد تغلب العصبيات المختلفة في الجانب الآخر وليس مهما قيمة العدد.

الشهرة أيضا تأتي بالحظ

     ويرى إبن خلدون أن الشهرة أو الصيت تلحق معنى الغلب في الحروب وأسبابها الخفية ، فالشهرة تأتي لمن لا يستحقها وتتجاوز من يستحقها، لأن الشهرة تأتي عن طريق الأخبار ، والأخبار تتأثر بالتعصب والتشيع ويدخل فيها الوهم والكذب والجهل والتلبيس والثناء والمدح. والنفوس مولعة بتناقل الأخبار المليئة بذلك خصوصا ما يدور منها حول الجاه والثروة ، ولا يرغبون في الفضائل أو في تحري الحقائق في الأخبار . ولهذا لاتتطابق الشهرة مع من يستحقها ، وتأتي بالبخت لمن لا يستحقها شأن النصر في الحرب .

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب3 (ف39 :47)الظلم والاستبداد سبب إنهيار الدولة  

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية

الفصل التاسع والثلاثون

الجباية وسبب قلتها وكثرتها

قاعدة ">ضرب المكوس في آخر الدولة

    الدولة في بدايتها تكون بسيطة لاتعرف الترف والإسراف فتكفيها الجباية القليلة التي تجمعها. وعندما تدخل دور الترف والإسراف تحتاج إلى زيادة الجباية ، ثم تصاب الدولة بالهرم وتضعف عن جباية الأموال مع زيادة النفقات والتعود على الترف فتضطر لإستئجار الحاميات وزيادة من الضرائب وموظفي جمع الضرائب فيعم الخراب والكساد ويختل العمران . وقد وقع هذا أثناء إضمحلال الدولة العباسية والدولة الفاطمية وملوك الطوائف بالأندلس ، وبعد سقوط الدولة تقوم دولة جديدة تبدأ عهدها بالغاء  الضرائب والمكوس الظالمة .

                                       الفصل الحادي والأربعون

               التجارة من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية

الدولة المترفة تلجأ إلى زيادة الضرائب مع عملها في التجارة والزراعة

      إذا وقعت الدولة  في الترف وكثر إسرافها إحتاجت إلى زيادة الضرائب تحت أسماء مختلفة، وتتفنن في محاسبة موظفي الضرائب خشية أن يأخذوا شيئا لأنفسهم ، ثم يقوم السلطان أو الدولة بمباشرة الزراعة أو التجارة.

أضرار عمل الدولة في النشاط الإقتصادي وكيف يؤدي إلى نقص إيراد الدولة

      ويرى إبن خلدون رأيا رائعا ينطبق على كل عصر ، وهو أن عمل السلطان أو الدولة في التجارة والزراعة خطأ عظيم ، لعدة أسباب منها :

     1- منافسة ومضايقة الفلاحين والتجار في شراء البضائع وهم ليسوا أهلا لمنافسة الدولة أو السلطان.

  2-  إستخدام النفوذ السلطاني أو الرسمي في الشراء بثمن بخس . وإستخدام النفوذ في إرغام المزراعين أو التجار على الشراء من السلطان بالسعر الرسمي .

 3- والبضائع تبقى راكدة ، وقد يستخدمون النفوذ في تحميل البضائع الراكدة  وإلزام المزارعين والتجار بشرائها.

4- عند تكرار ذلك تتضاءل أرباح المزارعين والتجار ويقل حماسهم للعمل مما يؤدي إلى نقص مايدفعون من الضرائب ، ثم إلى خراب  الإقتصاد والعمران .

كيفية زيادة الجباية

    وجباية الضرائب بالعدل هي التي تؤدي إلى زيادة إيراد الدولة منها ، وترك الناس يعملون ويدفعون ضرائب عادلة .

                                         الفصل الثاني والأربعون

                      ثروة السلطان وحاشيته وتكون في وسط الدولة

 أحوال السلطان وأعوانه بين الثروة والسلطة من بداية الدولة إلى سقوطها

     في بداية قيام  الدولة يتوزع إيراد الدولة على القائمين بتوطيد سلطانها ، ويكتفي السلطان بسلطته ونفوذه دون حاجة إلى الأموال ، وتكون حاشيته فقيرة المال فقيرة في النفوذ.

    وبعد توطيد الدولة وتأكيد نفوذها ينفرد السلطان بأموال الجباية وتتمتع حاشيته بالثروة والسلطة ، بينما ينكمش نفوذ وثروة الذين أسهموا من قبل في إقامة الدولة .

     وعندما تدخل الدولة في الهرم والشيخوخة يحتاج السلطان إلى تقوية نفوذه بالجنود لمواجهة الثورات المضادة ، ويتعاظم الظلم والإسراف وفرض الضرائب ، ويرى السلطان أنه أحق وحده بالأموال ، فتكثر الثورات وينتشر الخراب ، وتسقط الدولة .

السلطان لايستطيع الفرار بأمواله من بلده

     ولايستطيع السلطان أو صاحب النفوذ أن يفر بالأموال  من بلده إلى بلد آخر ليتمتع بما جمعه من مال بعيدا عن متاعب المملكة الآيلة للسقوط . لأن العصبيات أو أصحاب النفوذ في الدولة لن يسمحوا للملك بالفرار ، كما لن يسمح له بذلك المنافسون له في الملك . أما إذا كان الراغب في الفرار بأمواله صاحب نفوذ أقل من الملك فإن الملك لن يسمح له بالفرار خوفا على مايعلمه من أسرار وعلى مالديه من كنوز وأموال حيث يرون أن تلك الأموال هي أموال السلطان . وكان ملوك الأمويين في الأندلس يمنعون أعيان دولتهم من السفر للحج خوفا من ذلك .

     ثم إذا نجح أحد الملوك بالهرب بما لديه من أموال فإن صاحب المملكة التي يفر إليها ذلك السلطان السابق لن يتركه إلا بعد أن يستنزف مالديه من أموال . وهذا ما حدث من السلطان الناصر محمد بن قلاوون حين هرب إلى الإسكندرية السلطان أبو يحيى اللحياني الحفصي صاحب تونس سنة 718. ذلك أن الناصر محمد بن قلاوون أكرم ضيفه اللحياني الهارب ، ثم إستخلص أمواله شيئا فشيئا حتى لم يبق لديه شئ ومات سنة 728 لايملك سوى المرتب الشهري الذي فرضه له إبن قلاوون .

ملاحظة : ماذا لو عاش ابن خلدون عصرنا ؟ عصر تهريب الأموال وغسيلها ؟

                                       الفصل الثالث والأربعون

                   نقص العطاء من السلطان نقص في جباية الضرائب

    الدولة أو السلطان هي سوق الأموال وأصل العمران ، فإذا إكتنز السلطان الأموال وحجزها عن الدوران – أي دوران رأس المال ، حل بالناس الكساد وتوقف العمل التجاري والإقتصادي وبالتالي قلت الضرائب وقلت إيرادات الدولة ، فالمال يتردد في دورته بين السلطان والحاشية والرعية .. فإذا إكتنزه السلطان وقع الناس في الكساد ولحق الفقر بالدولة وإيراداتها.

                                   الفصل الرابع والأربعون

                                الظلم مؤذن بخراب العمران

 على قدر الظلم يكون التقاعس عن العمل

  من آرائه الرائعة أن العدوان على أموال الناس يثبط آمالهم في الكسب والعمل طالما يرون أن ثمرة عملهم يأخذه السلطان . وعلى قدر العدوان على أموال الناس يكون تقاعسهم عن العمل والسعي ، فإذا كان الإعتداء عاما على كل أبواب المعاش كان القعود عن العمل عاما في الناس .

وعلى قدر العمران يكون السعي للعمل وتناقص الظلم

     وتتوقف درجة العمران على مقدار سعي الناس ونشاطهم ، فإذا قعدوا عن العمل والسعي كسدت الأسواق وحل الخراب وهجر الناس الأسواق وهاجروا من البلدة وإستشهد إبن خلدون بقصة فارسية أوردها المسعودي تؤكد أن  الظلم يخرب العمران . ويؤكد إبن خلدون على التناسب المطرد بين إزدهار العمران وتناقص الظلم والعدوان ، ويقول أنه قد تنهار الدولة الظالمة قبل أن يقع خراب  البلد وتجئ دولة أخرى تحاول الإصلاح .

الظلم هو إغتصاب أي حق مادي أو معنوي

 وفى مواجهة الظلم السائد فى عصره يؤكد إبن خلدون بشجاعةعلى أن  المقصود بالظلم ليس مجرد أخذ المال أو الشئ من صاحبه بدون تعويض بل هو أعم من ذلك ، إذ يشمل إغتصاب الحقوق العينية والمالية والمعنوية ، وكلها تعود على الدولة بالخراب الآجل أو العاجل ، وتلك هي حكمة الشرع في تحريم الظلم حتى لايفنى الجنس البشري ، ولذلك كانت الحكمة العامة في الشرع هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال .

السخرة من أفظع أنواع الظلم

وكانت السخرة عُرفا مشروعا فى عصره ، وقد خرج ابن خلدون على هذا العُرف فقال إن السخرة أفظع أنواع الظلم لأنها إغتصاب لعرق الضعفاء من العمال الذين لا مكاسب لهم إلا من خلال عملهم البدني الشاق ، ويؤكد على أن تكرار السخرة يؤدي إلى خراب العمران.

الإحتكار في البيع والشراء من أفظع أنواع الظلم ويؤدي إلى سقوط الدولة

    وبنفس طريقته يرى أن من أفظع أنواع الظلم إستخدام التسلط والنفوذ في الشراء بثمن بخس وفرض السلعة على الناس بثمن مرتفع وذلك بالاكراه والغصب في الحالتين ، وذلك لتحقيق ربح أو لتعويض خسارة ، وفي كل الأحوال تقع الخسارة على التجار والمزارعين والمنتجين والمستهلكين . ويقع الكساد ويتكاسل الناس عن العمل ويقل الإنتاج، وبالتالي يقل إيراد الدولة ويحدث ذلك بالتدريج ، ويؤدي الظلم والفساد إلى سقوط الدولة . ولذلك حرص الشرع  على القسط في التعامل مع الناس، وحرم أكل اموال الناس بالباطل .

وقال إن الدولة فى ترفها تحتاج الى تغطية اسرافها بكثرة الضرائب وأكل أموال الناس وعرقهم بالسخرة والاحتكار ، مما يؤدى الى سقوطها.

الفصل الخامس والاربعون

كيف يقع الحجاب فى الدولة وكيف يتعاظم عند هرمها

متى يبدأ الحجاب فى الدولة

الحجاب يعنى إتخاذ السلطان حجابا بينه وبين الرعية من الحراسة والحاشية  .

ويقول ابن خلدون ان الدولة تبدأ بسيطة تقوم بالعصبية ، وبعيدة عن أبهة الملك ، سواء إعتمدت على الدين أم على بساطة البداوة .وبعد توطيد الحكم واستقراره ينفرد الملك بالحكم والنعيم ويحتاج الى الحجاب لينعزل عن الناس ، ويبدأ بذلك الحاجب ووظيفة الحجابة .

متى يتعدد الحجاب فى الدولة

وعندما يتسع المُلك تتحول أخلاق السلطان الى ما يسميه ابن خلدون بخُلُق المُلك ، وهى اخلاق غريبة تحتاج الى نوعية خاصة فى التعامل ( الاتيكيت ) ، ومن يجهلها يقع فى المتاعب لأنه لا يعرف آداب التعامل مع الملوك . وهذه الآداب يعرفها الخواص من الحاشية الذين يعرفون كيفية التخاطب مع الملك ، وهم يحجبونه عن الناس ، ثم لا يلبث أن يتخذوا لنفسهم حجابا عن غيرهم من اناس ، وهذا هو الحجاب الثانى . ثم يحدث حجاب ثالث عندما يتم الحجر على صاحب الدولة عند شيخوخة الدولة وتحكم الموالى فى السلطان . ويبدأ المتحكمون فى السلطان بحجب أبناء السلطان وأصدقائه عن الوصول اليه ، بحجة أن هيبة السلطان تستدعى ذلك ، ويكون ذلك إيذانا باضمحلال الدولة وقرب سقوطها .

ملاحظة : ينطبق هذا فى عصرنا على الدولة السعودية الراهنة . مؤسسها عبد العزيز ــ الذى أعطاها اسم اسرته عام 1932 ــ فى بداية عهده كان بابه مفتوحا ويمكن لأى فرد أن يقابله وأن يحادثه . من تولى من اولاده من ( سعود) عام 1953 الى الآن إنعزلوا عن الناس بقصورهم وحواشيهم وحراساتهم ، أو ما يسميه ابن خلدون بالحجاب .  

الفصل السادس والاربعون

إنقسام الدولة الواحدة بدولتين

 الترف هو السبب فى الانقسام .

اول مظاهر الانهيار فى الدولة إنقسامها . ذلك أن الملك عندما يصاب بالترف والاستبداد والاستئثار بالمجد والنعيم يقتل من يشتبه فى إحتمال من يثور عليه من أهله وغيرهم ، وهذا يرغمهم ــ تحت الضغط ــ الى الهرب بعيدا ليؤسّس أحدهم بذرة لدولة صغيرة ، تنقسم بها الدولة الكبرى الى قسمين . وصقر قؤيش عبد الرحمن الداخل هرب من متابعة العباسيين ، وما لبث أن استقل بالاندلس ، ونفس الشىء مع ادريس فى المغرب.

إزدياد التقلص والانقسام بزيادة ضعف الدولة

وعندما يرداد ضعف الدولة يزداد الانقسام ، ولذلك فإن الأغالبة ما لبثوا ان إستقلوا بتونس عن العباسيين، ثم جاء بعدهم الفاطميون فانتزعوا من العباسيين مصر والشام . وانقسمت بذلك الدولة الى ثلاث : العباسية و الفاطمية والأموية فى الاندلس . هذا بالاضافة الى إنقسامات أخرى فى شرق العراق وإيران . وحدث نفس الشىء مع السلاجقة ؛ استولوا على آسيا الصغرى والعراق وايران والشام ، ثم تفككت دولتهم الى دول . وأعطى ابن خلدون أمثلة أخرى فى شمال افريقيا ، من صنهاجة والموحدين وملوك الطوائف فى الاندلس . ويقول فى النهاية: ( وهكذا شأن كل دولة ، لا بد وأن تعرض عليها عوارض الهرم بالترف والدعة . ).

الفصل السابع والأربعون

الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع

شيخوخة الدولة أمر طبيعى ، كما يحدث للإنسان والحيوان  .  والأمور الطبيعية لا تتغير . وقد يحاول بعض السياسيين إصلاح الدولة الهرمة العجوز ، ولكن دون جدوى . فالسلاطين تعود آباؤهم الترف والاسراف ، ولا يمكنهم تغيير تلك العادات الراسخة ، ولأن الترف يكون ضروريا لهيبة الدولة ، فإذا زالت الأُبّهة ضاعت الهيبة . إلا إنه قد يحدث للدولة قبل سقوطها ومضة قوة ، ولكنها صحوة الموت.

 

 

 

 عرض مقدمة ابن خلدون: ب3:(ف 48 :52 )انهيار دولة وقيام أخرى  

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية

الفصل الثامن والاربعون

كيفية طروق الخلل للدولة

يقوم المُلك على أساسين : الجُند والمال . ومنهما يأتى الخلل للدولة ، كالآتى :      1 - الخلل من الجند أو العصبية : يبدأ الملك بعد توطيد دولته بالإستبداد بالنفوذ دون أسرته أو عصبيته الأولى حتى لاينافسونه ، فيقهرهم سياسيا مع مالهم من أموال وترف فيؤثر فيهم القهر والترف ، ويتحول القهر عندهم إلى خوف مستمر من السلطان ثم يتحول خوف السلطان منهم إلى قتلهم ومصادرة أموالهم ، أي القضاء على أسرته سياسيا وإقتصاديا . وهم الدائرة الأولى من عصبيته وقوته .           

     ويستعيض السلطان عنها بالموالي ، وهم ليسوا في نفس إخلاص أسرته وأقاربه مما يجعل أصحاب العصبيات الأخرى تطمع في سلطانه ، وهكذا تتكاثر الثورات ويتكاثر أصحاب الثارات  الطالبين الانتقام من السلطان ، مما يضطره إلى سحب قواته إلى عاصمة ملكه لحمايته ، وهذا يُضعف قبضته على أطراف دولته ،الأمر الذي يهيئ فرصة سانحة للثوار في تكوين مواطئ أقدام لهم في أطراف الدولة ، وتندلع الثورات في الأطراف وربما تنقسم الدولة ، وربما تصل الثورات إلى العاصمة . وتنتهى الدولة بالسقوط أو الإنقسام .

 وضرب إبن خلدون مثالا لذلك بالدولة العربية الأموية ثم العباسية ، كيف قامت بعصبية بني عبد مناف وهو جد الأمويين والهاشميين ، وكيف إستأثر الأمويون بالأمر دون بني عمومتهم الهاشميين ، وإنتهى الأمر بسقوطهم وجاء العباسيون الهاشميون ، ولكنهم طاردوا أبناء عمومتهم أبناء علي بن أبي طالب ، فأدى ذلك إلى إستقلال الأطراف تباعا من الأندلس ثم المغرب ، ثم تونس ، ثم مصر .

وقال إنه قد يطول أمد الدولة الضعيفة بسبب إعتياد التسليم والإنقياد لها خشية النزاع ، كما حدث للخلافة العباسية في ضعفها ، إلى أن سقطت في النهاية .

2 ـ الخلل من جهة المال  

   تكون الدولة في بدايتها بدوية بسيطة متقشفه رفيقة بالناس في فرض الضرائب ، ثم يتضخم ملكها وتدخل في الترف والإسراف وتحتاج إلى المزيد من المال للإنفاق على  الجند وعلى مطالب البذخ ، وتنتشر عادة الترف في المجتمع ، ويتعود السلطان فرض المزيد من الضرائب والظلم في تحصيلها ، ويقترن ذلك بشيخوخة الدولة وحاجتها لإسترضاء الأصدقاء والأعداء ، ومن هنا تنتشر المصادرات والرشاوي والفساد والثورات إلى أن تسقط الدولة.

                                  "right" style="margin-right:-9pt;">       الدول المستجدة نوعان : إمارة قامت على الأطراف وإستقلت عن الدولة الأم وهي تقنع بالإستقلال ولاتريد القضاء على الدولة الأم ، ثم الدولة الخارجية التي تقوم باسقاط الدولة الأم بالحرب المتكررة وبسياسة النفس الطويل.

الدولة الأم المستقرة لا تسقط سريعا

     ويرى إبن خلدون أن الدولة المستقرة أو الدولة الأم لا تسقط سريعا أي بالمناجزة ، وإنما تسقط بالمطاولة أي بالحروب الطويلة التي تدور سجالا بين  الفريقين .

الأسباب

   وفي تعليل رأيه يقول أن النصر في الحرب يقع بالتعبئة النفسية والخداع ، والدولة المستقرة إعتاد الناس طاعتها مما يجعل ذلك عائقا أمام الثوار ، ويكون من الصعب عليهم إقناع الناس بالخروج على دولة إعتادوا طاعتها ، وتظل تلك مشكلة إلى أن يتضخم عجز الدولة وشيخوختها مما يشجع على الثورة عليها .

     بالإضافة إلى أن تلك الدولة المستقرة مع ضعفها تكون قد إكتنزت الأموال وتجيد إستخدامها في شراء الأنصار وفي تدعيم هيبتها ومظهرها الخارجي أمام الناس ، في نفس الوقت الذي يعاني فيه الثوار من نقص المال . ومن هنا يلجأ الثوار إلى سياسة النفس الطويل أو المطاولة حتى يستحكم الخلل في الدولة عن طريق الجند والمال .

     ويضاف إلى ذلك عجز الثوار عن التجسس على السلطان ، وربما يكون أعوان السلطان وجواسيسه هم الأقدر على تتبع الثوار ، ثم إن عجز الثوار عن إختراق حصون السلطان يؤخر مسيرتهم ، إلى أن يظهر انهيار الدولة للعيان فيتشجعون على الحرب السريعة .

إستثناءات

    وإستثنى إبن خلدون من ذلك الفتوحات الإسلامية حيث إعتبرها من الخوارق ومن معجزات النبي ، ولايقاس عليها .

أمثلة

    وضرب أمثلة لنظريته بدعوة بني العباس خلال الدولة الأموية ، والدعوات الأخرى التي أقامت دولا في العصر العباسي على حساب الدولة العباسية ، مثل البويهيين والسلاجقة والفاطميين ، وأمثلة أخرى في المغرب وشمال أفريقيا . وكل دعوة أخذت وقتا حتى أقامت لها دولة .

                                        الفصل الحادي والخمسون

             وفور العمران آخر الدولة ومايقع فيها من الأوبئة والمجاعات

     في بدايتها تكون الدولة رفيقة معتدلة بدعوتها الدينية أو بداوتها ، وهذا الرفق يجعل الناس تنشط للعمران فيكثر النسل بالتدريج ليظهر بعد جيل أوجيلين ، وبعدها تشرف الدولة على نهاية عمرها فيكون العمران وعدد السكان في غايته . وذلك مع وجود الظلم ، إلا أن الظلم يظهر أثره السئ في  تناقص العمران بالتدريج ، وحينئذ يكثر الوباء والمجاعات .

    وتحدث المجاعات بسبب كثرة العدوان والثورات والجرائم والفتن ، مما يعطل الزراعة ، والمجاعات تؤدي إلى الموت والعجز عن دفن المئات من الجثث ، وتحلل الجثث يؤدي إلى انتشار الأوبئة وفساد الجو ، ويكثر الوباء والموت في المدن الكبرى .

                                               الفصل الثاني والخمسون

                        العمران البشري لابد له من سياسة ينتظم بها أمره

السياسة العقلية والسياسية الشرعية

    يحتاج اجتماع البشري إلى حاكم ، وقد يستند الحاكم إلى سياسة شرعية تنفع في الدنيا والآخرة ، وقد يستند إلى سياسة عقلية تنفع في الدنيا فقط ، وما يقال عن عدم حاجة المدينة الفاضلة إلى حاكم إنما هو ضرب من الخيال .

أسس السياسة العقلية

    ويرى إبن خلدون أن السياسة العقلية على وجهين:

    1- رعاية المصالح العامة ومصالح السلطان ، وكانت تلك سياسة الفرس . ويرى إبن خلدون أن الخلافة والأحكام الشرعية تغنينا عن هذه السياسة .

  2- رعاية مصلحة السلطان وإستبداده . وتفسير المصلحة العامة في ضوئها .

ملوك المسلمين يتبعون السياسة العقلية مع تهذيبها بالشرع 

 ويرى ابن خلدون  أن ملوك المسلمين يأخذون من هذه السياسة  ما يتفق مع الشريعة بحسب جهدهم ن وقال إن قوانينها لدى المسلمين تتضمن أحكاما شرعية وآدابا خلقية وقوانين اجتماعية طبيعية، مع مراعاة الشوكة وأصحاب النفوذ والعصبيات والاقتداء فيها أولا بالشرع ، ثم باقوال الحكماء وسيرة الملوك. واستشهد بكتاب طاهر بن الحسين لابنه عبدالله حين عبدالله حين ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما .

 كتاب طاهر بن الحسين في أصول السياسة

وملخص الكتاب : هو  الوصية بتقوى الله والخوف من اليوم الاخر ، وان الله تعالى أوجب عليه بالنسبة للرعيةالعدل والدفاع عنهم وحقن دمائهم وراحتهم . وأكد عليه في الصلوات الخمس في جماعة مع السنن وإسباغ الوضوء وذكر الله الواحد والأخذ بسنة الرسول والسلف الصالح والاستخارة عندما يفكر في امر ، وأن يصحب الفقهاء ومن يحفظ كتاب الله ، وحسن الظن بالله حتى تستقيم له رعيته ، ولا يتهم أحدا قبل أن يكشف حقيقة امره ، وأن يحسن الظن بأعوانه ، وإقامة الحدود في أهل الجرائم وألا يؤخر العقوبة ، والابتعاد عن البدع والشبهات ، والوفاء بالعهد والابتعاد عن الكذب والزور وسماع النميمة واكتناز الأموال ، مع تفريق الأموال في التعمير . وأوصاه بالكرم والتحبب إلى الرعية ورعاية الجند والمسئولين عنده ، مع الاهتمام الكافي بالقضاء والعدل ، وان يلتزم العدل في توزيع الأموال ، وأن يجعل في كل ناحية رجلا يراقب سيرة الولاة والمسئولين ويكتب إليه بخبرهم ، وان يستشير في كل أمر اهل الاختصاص فيه ثم يعزم على التنفيذ ، وأن يكون حازما ،وألا يؤخرعمل اليوم إلى الغد ،وأن يجعل له مجلس شورى من أهل الفضل والعقل ،وأن يجري المرتبات والأموال على أهل البيوت المستورة والفقراء والمساكين،  ويقيم المستشفيات للمرضى.  وأن يقسم يومه على حسب الأعمال المطلوبة منهم ، وقد أعجب المأمون بهذا الكتاب  ـ حسبما يقول ابن خلدون ـ وأمر الولاة بالاقتداء به .

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب3: (ف 53 : 54 )المهدى المنتظر وعلم الغيب

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية

  الفصل الثالث والخمسون  

أمر الفاطمي وما يذهب الناس في شانه وكشف الغطاء عن ذلك

عقيدة المهدي المنتظر

ذكر ابن خلدون عقيدة المهدي المنتظر الذي يأتي من آل البيت في آخر الزمان يقيم العدل ويستولي على بلاد المسلمين وينزل على أثره عيسى ، ويقتل المسيح الدجال ويأتم  عيسى  بالمهدي في صلاته. ولهم في ذلك احاديث ، وعارضها  آخرون ، وللمتصوفة  أخبار ومنامات في هذا الموضوع .

رأي ابن خلدون في في آحاديث المهدي

وقال ابن خلدون ان جماعة من الأئمة أجازوا أحاديث المهدي، وأنكر إسنادها بعض علماء الجرح والتعديل ، وكيف أن الطعن في الأسانيد والرواة لا يصل إلى رواة الصحيحين البخاري ومسلم ، لأن الإجماع قد اتصل في الأمة على قبول الصحيحين والعمل بهما . ولذلك لم يجد ابن خلدون حرجا في الكلام في أسانيد أحاديث المهدي ، حيث لم ترد تلك الأحاديث في الصحيحين ، فلم يذكرها سوى الترمذي وأبي داوود والبزار وابن ماجة والحاكم والطبراني وأبي يعلي الموصلي . وتتبع ابن خلدون أحاديث المهدي التي ذكرها اولئك الأئمة والروايات المختلفة لكل حديث ورواته وما قيل في كل راو من التجريح، وفي النهاية قال " وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل والأقل منه".

أما عن المتصوفة فالأوائل منهم لم ينشغلوا بموضوع المهدي وانشغل الأمامية الشيعة بتفضيل (علي) وإمامته والطعن في الشيخين، ثم قالوا بعصمة الإمام، ثم جاء الإسماعيلية من الإمامية يدعون ألوهية الإمام وبحلول الله –تعالى- فيه ورجعة الأئمة الموتي بالتناسخ، وآخرون ينتظرون مجئ الموتى من الأئمة أو ينتظرون عودة الأمر إلى أل البيت متآثرين بأحاديث المهدي.

تأثر الصوفية بالتشريع

وتأثر الصوفية المتأخرون بذلك فقالوا بالحلول ووحدة الوجود والقطب والإبدال تشبها بالشيعة ، حتى أوصلوا نهاية الخرقة أي السلسلة الصوفية إلى " علي " وأنه ألبسها الحسن البصري . ويرى إبن خلدون أن هذه الطريقة لم تكن خاصة بعلي ، بل الصحابة كلهم أسوة في طريق الهدي ، وذلك دليل على تأثر التصوف بالتشيع ، وقال أن كتب المتأخرين من المتصوفة والإسماعيلية الشيعة مليئة بالحديث عن المهدي المنتظر ، وكان بعضهم يلقنه الآخرين ويستدلون بأدلة واهية ، وأكثرهم إبن عربي في كتابه ( عنقاء مغرب ) وإبن قسي صاحب كتاب (خلع النعلين ) وإبن سبعين .}   ويرون أن النبوة جاء بعدها خلافة ، ثم بعدها المُلك ، ثم التجبر والباطل، وعلى نفس المنوال يرون الولاية بعد النبوة ، ثم الفاطمي بعد الولاية ، ويجعلون خاتم الأولياء في مقابل خاتم الأنبياء ، ومراتب الولاية مثل مراتب النبوة . ويجعلون الإمام المنتظر من أهل البيت ويقولون أن ظهوره بعد مضي ( خ ف ج) وقيمتها بحساب الجمل (خ = 600 ، ف = 80 ، ج = 3) والمجموع 683 ، أي يظهر سنة 683هـ ولم يظهر المهدي في تلك السنة ، فقال آخرون أن ظهوره سنة 743هـ.

     واقترنت تلك الحسابات بأحاديث ومحاولات التوفيق بينها . أما المتصوفة الذين عاصروا إبن خلدون فأكثرهم يشير إلى ظهور رجل يجدد أحكام الملة .

رأي إبن خلدون في المهدي المنتظر

    ويرى إبن خلدون رأيه السابق وهو أن أمر المهدي لا يتم إلا بعصبية قريش وبني هاشم ، وقد إنتهت عصبية قريش والهاشميين ، ومن بقي من بني هاشم يعيش في الحجاز ولايمكن أن تقوم دولة المهدي إلا إذا إستطاع أن يوحدهم ويحولهم إلى قوة تقيم له ملكا . أما ما يحدث من دعوات للمهدية يتبعها الدهماء والرعاع فإن مصيرها الفشل ، وقد ذكر إبن خلدون بعض         الأحداث التاريخية مثالا على ذلك .

    وقال أنه كانت بالمغرب قبيل عهده نزعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدون تشيع للفاطمي أو غيره ، والدافع عندهم فساد الأعراب وغرضهم حمل الأعراب على التوبة ، وكانت العادة أن تنتهي هذه الدعوات إلى لا شيئ .

                                 الفصل الرابع والخمسون

                    فصل في إبتداء الدول والأمم ، وفيه الكلام

                     على الملاحم والكشف عن مسمى الجفر

التشوق إلى معرفة غيب المستقبل

   البشر يتشوقون دائما إلى معرفة غيب المستقبل ، ويتخذون لذلك وسائل كالمنامات وأخبار الكهان ، ومن الناس من ينتحل مهنة علم الغيب ويتردد عليه العوام ، وأولئك أصحاب الرمل والمندل والمرآة.. وذلك أمر قد شاع وانتشر في عصر إبن خلدون الذي يستنكر ذلك ، إذ يؤكد أن البشر محجوبون عن علم الغيب إلا من أطلعه الله عليه في نوم أو ولاية .

    ويقول إبن خلدون أن الملوك والأمراء أكثر الناس إهتماما بمعرفة مستقبل دولهم . لذلك راج إدعاء العلم بالغيب ، وكان لكل أمة كاهن أو منجم أو ولي يتحدث في " الحدثان "

" الحدثان " هو معرفة مستقبل الملوك والدول

    والحدثان هو علم الغيب فيما يخص بقاء الدول وعدد الملوك وأسماء الملوك القادمين ، واشتهر منهم في الجاهلية شق وسطيح ، وفي تاريخ البربر القديم موسي بن صالح من بني يفرن ، وفي الدولة الإسلامية نقلوا أشياء عن الصحابة وعد منهم إبن خلدون كعب الأحبار ووهب بن منبه ، بالإضافة إلى جعفر الصادق .

    ويرى إبن خلدون إحتمال أن يكون كعب الأحبار ووهب بن منبه إقتبسوا ذلك الغيب من ظواهر مأثرة وتأويلات محتملة ، ويرى أن جعفر الصادق وأمثاله من آل البيت يعلمون الغيب بالكشف والولاية ، واستشهد بحديث : إن فيكم محدثين

المنجمون والغيب

    أما المنجمون فيقوم إدعاؤهم بعلم الغيب على القرانات ، أي الإقتران بين الكواكب ، ويقول إن زحل والمشتري يقترنان كل عشرين سنة ، ثم يعود الإقتران بين كوكبين آخرين وهكذا بالترتيب طبقا للحساب الفلكي عندهم ، وعندهم القران الكبير الذي يدل على عظائم الأمور ، والقران الأوسط ، والقران  الصغير ، والأحداث على قدر كل قران .

    وذكر إبن خلدون بعض تنبؤات المنجمين الكاذبة في مقدار مابقي من الدنيا ، وبعض التنبؤات التي صدقت في بعض الأحداث ، كما تعرض للإرتباط بين التنجيم وعلم الحرف . وقال أن المنجمين يستدلون بالقران الأوسط على ما يحدث في الدول وما فيها من ملوك ، وذكر إهتمام الخلفاء العباسيين كالرشيد والمأمون بالتنجيم .

كما ذكر بعض أبيات القصائد الرائجة لدى البربر في الحدثان أو التنبؤ بالغيب كما أشار إلى الباجربقي الصوفي المملوكي ورموزه في الكشف والتنجيم .