هل تم ترتيب القرآن بالوحي أم باجتهاد من الصحابة ؟
إن بداية التساؤل عن ترتيب القرآن على هذا النحو- والذي جاء في مرحلة متأخرة - قد ادخل مسألة ترتيب القرآن في دوامة من الآراء والاختلافات لم تخرte;م تخرج منها إلى الآن , بل لقد طغى البحث في تلك الاختلافات على البحث في ترتيب القرآن , بسبب ما حمله التساؤل من توهُّم البعض أن ترتيب القرآن أو بعضه كان من عمل الصحابة واجتهادهم الشخصي .
استبعاد الترتيب كوجه إعجازي :
وقد أدى كل ذلك في النهاية إلي ابتعاد إجباري وشبه كامل عن البحث في الحكمة من ترتيب القرآن على غير ترتيب النزول , واستبعاد الترتيب كوجه من وجوه إعجاز القرآن , وسبب ذلك أن القول : أن ترتيب سور القرآن أو بعضها كان من عمل الصحابة واجتهادهم الشخصي مجردا من التوجيه الإلهي ( من عمل البشر ) أضفى عليه صفة بشرية تحتمل الخطأ والصواب , وبالتالي نفى عنه صفة الإعجاز , وحوله في النهاية إلى مسألة خلافية (موضع اختلاف بين العلماء ) .
ومن الملاحظ في هذه الناحية انتصار أعداء القرآن لهذا الرأي لاحتماله الخطأ والصواب مادام فعلا بشريا .
جمع القرآن وفق ترتيب معلوم :
توفي الرسول صلى الله عليه وسلم , وانقطع الوحي واكتمل نزول القرآن , وجمع القرآن مرتب السور والآيات في زمن الخليفة عثمان بن عفان سنة 25 هـ , ونسخت منه عدة نسخ ووزعت على الأمصار , وقد تمّ كل ذلك وفق ما علمه الصحابة رضي الله عنهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وهو جمع كما نرى قد تم وفق أسس ثابتة ومعلومة تعود إلى ما هو معلوم عن النبي وليس كما فهمه البعض وفسره على أنه اجتهاد شخصي ترتب عليه استحداث ترتيب غير معلوم . فالقول أن ترتيب سور القرآن كان باجتهاد من الصحابة يعني : أنهم بذلوا جهدهم في ترتيب القرآن والمحافظة عليه وفق الصورة المعلومة لديهم لا أنهم جاءوا بترتيب جديد .
إن فهم مسألة الترتيب على النحو الذي يعود بها الى الاجتهاد الشخصي للصحابة دون ربط ذلك الاجتهاد بما كان معلوما لديهم , قد أدى أيضا إلى غياب الإجابة على التساؤل الأهم الذي أثارته ظاهرة الترتيب القرآني ، والسؤال هو : ما الحكمة من ترتيب القرآن على غير ترتيب نزوله ؟.
طريقة نزول القرآن دليل على توقيفية الترتيب :
من المعلوم أن القرآن قد نزل مفرقا ثم رتب على نحو مخالف لترتيب النزول ..وهذا بحد ذاته دليل على أن ترتيب القرآن توقيفي .
كان من الممكن مثلا أن ينزل القرآن مفرقا , آية أو آيات من سورة ... إلى أن تنتهي السورة . ثم سورة أخرى على دفعات تساير الأحداث والوقائع وحاجات الناس , ويتم ترتيب كل ذلك أولا بأول .. مثل ذلك لم يكن . كان جبريل عليه السلام ينزل بالآية أو الآيات من السورة , وقد ينزل بعد ذلك بسورة كاملة , تاركا سورة غير مكتملة , ثم بعدد من الآيات تلحق بسورة سابقة , يحدد جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم موقع الآيات في تلك السورة . من الواضح أن الطريقة التي كان ينزل القرآن فيها تدل على وجود ترتيب مسبق محدد للقرآن يتم نقله وتشكيله بالتدريج , مختلف تماما عن ترتيب النزول . ولا بد أن يكون وراء ذلك حكمة ما .. ولم يكن أحد يعلم ما شكل هذا الترتيب الذي سيكون عليه القرآن في النهاية.
موقف المتأخرين من هذه المسألة :
وانتهى الموقف في عصرنا إلى أنه يجب احترام هذا الترتيب : ( وسواء أكان ترتيب سور القرآن اجتهاديا (من الصحابة) أو توقيفيا ( من عند الله ) فانه يجب احترامه ) .(الزرقاني: مناهل العرفان 1/344 ) .
لاحظ اضطرار العالم المسلم هنا إلى الاعتراف والمساواة بين ترتيبين أحدهما اجتهادي والآخر توقيفي ..
قول ثالث :
وصار من المألوف في أي كتاب يتحدث فيه مؤلفه عن ترتيب القرآن أن يذكر هذين القولين في هذه المسألة ويحشد لكل منهما عددا من الروايات الداعمة . ويضيف البعض قولا ثالثا يقول أصحابه أن ترتيب بعض سور القرآن توقيفي وبعضها اجتهادي , ولعل أصحاب هذا الرأي حسبوا بذلك أنهم قد وفقوا بين القولين السابقين فاتخذوا موقفا وسطا جامعا . وهو رأي لا يستند إلى منطق يقبله العقل : فإذا كان الرسول- صلى الله عليه وسلم - قد قام بترتيب 112 سورة كما يقولون , فهل عجز عن سورتين ؟ ولذلك فأنا أستبعد هذا القول الثالث نهائيا .
فإذا عدنا إلى القولين السابقين وجدنا أنهما حقيقة قولا واحدا يؤديان إلى رأي واحد وهو أن ترتيب القرآن توقيفي وما كان إلا بالوحي .. ولا مبرر لهذه الثنائية .
ونفهم مما سبق : أنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا للصحابة من بعده رضي الله عنهم جميعا أي دور في ترتيب القرآن , اللهم تنفيذ التوجيهات التي كان ينقلها جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم , والنبي بدوره ينقلها إلى كتبة الوحي ..
الترتيل يعني الترتيب :
إن فهمنا لظاهرة الترتيب القرآني يجعلنا نفسر قوله تعالى في سورة الفرقان :
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ( الآية32 ) أي : رتبناه ترتيبا محكما , ونذهب إلى أن الحكمة من ترتيب القرآن على غير ترتيب نزوله هي : التثبيت . وبما أن هذا الترتيب ( ترتيل الآيات وجمعها في تشكيلات محددة ) لن يظهر قبل اكتمال نزول القرآن , وقد يتأخر الكشف عنه إلى زمن ما غير زمن نزول القرآن , فالتثبيت هنا هو " تثبيت مستقبلي " يعنى بالمستقبل والأجيال والمؤمنين في العصور القادمة , وانه مرتبط بالكشف عن أسرار ترتيب القرآن . وفي حالة حدوث ذلك , سيجد فيه المؤمنون " تثبيتا " جديدا لهم , كما وجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون – في الزمن الماضي – في نزول القرآن مفرقا ما يثبتهم .
في المرحلة الأولى : ارتبط نزول القرآن حسب الوقائع والأحداث وحاجات الناس , بما يحقق التثبيت الملائم والمناسب لتلك المرحلة .
في المرحلة التالية : حيث يتم التشكيل النهائــي والموجه للترتيب ( ترتيب التلاوة الآن ) فارتباط الآيات هنا يتجاوز الأحداث والوقائع إلى ارتباطات جديدة وعلاقات جديدة – لم تكن معروفة من قبل -, ويستند إلى قوانين وأسس وقواعد , تناسب هذه المرحلة , والمراحل التالية لها , وتخاطبها بما يلائمها ويحقق " التثبيت " أيضا .هذه القوانين والأسس تحديدا : قوانين رياضية لغتها العد والإحصاء والأرقام لغة هذا العصر .
وبالمنظور نفسه , فان الردّ القرآني على اعتراض المشركين على تنجيم القرآن " نزوله مفرقا " ومخالفته للمألوف, يتسع هو الآخر ويمتد متجاوزا زمن الاعتراض الأول ( زمن النزول ) إلـى زمن الاعتراض التالي ( المستقبلي ) , حيث سيكون ترتيـل القرآن (ترتيبه ) هو الرد القرآني الذي يناسب هذه المرحلة , ويتولى دفع ما يجد من شبهات وافتراءات المشككين بالقرآن .
معجزة الترتيب القرآني :
بعبارة أخرى : لقد ادخر القرآن معجزة ترتيبه للعصور والأجيال القادمة حيث تسمح ظروف العصر ومعارفه بادراك تلك المعجزة وكشف أسرارها . وبذلك يمكننا أن نتصور أن ترتيب القرآن قد تشكل بالتدريج تبعا للتوجيهات التي كان ينقلها جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم , ومراحل إدخالها في التشكيل , واستحداث مواقع جديدة لها , لغايات مستقبلية , وأن المستهدفين بترتيب القرآن هم الناس في هذا العصر على اختلاف مذاهبهم ولغاتهم .ذلك أن لغة الترتيب هي لغة الأرقام لغة هذا العصر , اللغة العالمية التي يشترك فيها الناس جميعا .
الموقف الحالي :
ورغم أن كثيرا من الأبحاث والدراسات المعاصرة تؤكد هذا الرأي وتقوم دليلا ماديا ملموسا على توقيفية الترتيب , إلا أن هناك من لا يرى في هذه الدراسات ما يمكن أن يكون دليلا , ذلك أنها تعتمد الأرقام آلية للبحث وهو مما يرفضه البعض .
ويعلل بعضهم هذا الموقف أن القرآن هو القرآن سواء أكان ترتيبه كذا أو كذا وسواء أكان عدد آياته كذا أو كذا ..وأنه كتاب هداية وإرشاد وليس كتاب رياضيات , إلى غير ذلك من أقوال يظنون أنهم يؤدون بها خدمات جليلة للقرآن وأهله , ويغلقون الباب في وجوه المرتابين والمشككين بالقرآن ..
وهل يتعارض أن يكون القرآن كتاب هداية وإرشاد وأن يكون كتابا محكما منظما مرتبا بقوانين رياضية ؟ أم أن القرآن كتاب فوضوي الترتيب لا يخضع لنظام عقلي أو منطقي كما وصفه آخرون ؟ .
إن سمة النظام والترتيب ظاهرة في كل ما في الكون ولا ينكر ذلك أحد , فلماذا لا يكون القرآن كذلك ؟ أليس خالق الكون هو منزل القرآن ؟ هل يرتب الله كل شيء في هذا الكون ويستثني كتابه الكريم ؟!
إن الحذر الزائد من مسألة الإعجاز المبنية على الأرقام لا مبرر له , وليس من المعقول أن يدفع هذا الحذر البعض إلى التنكر لحقائق لا يمكن إنكارها إلا استكبارا وتعصبا . إن لكل جيل في هذا القرآن العظيم نصيب , ونصيبنا نحن يكمن في ترتيبه , وأرى أن من واجب المسلمين والعلماء والغيورين على القرآن أن يتدبروا هذا الترتيب ويوظفوه في خدمة القرآن وأهله والناس كافة .
في عصرنا هذا سيجد الناس في ترتيب القرآن ما يثبت أن هذا الكتاب هو كتاب الهي وأنه محفوظ بقوانين وأنظمة رياضية , وليس كما يزعم خصوم القرآن والمشككون فيه ,كتاب فوضوي لا ترتيب فيه , من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم,أعانه عليه بعض معاصريه .. إن عدم القدرة على نسبة ترتيب القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم , ستؤدي بالضرورة إلى إسقاط شبهة التأليف والتي هي اكبر من الترتيب .