وظيفة القضاء بين الاسلام و المسلمين (6 )
( المقال السادس ) منصب القضاء ونزوات الخلفاء
مقدمة : لمجرد التذكير نقول :
1 ـ سبق هذه السلسلة من المقالات البحثية عن (القضاء بين الاسلام و المسلمين ) مئات من المقالات ، معظمها مقالات بحثية ، وفى كل بحث جديد نكتبه فإننا نبنى على هذا التراكم السابق ، وبالتالى فالقارىء لنا لأول مرة قد يفاجأ بما يقرأ ، وطبيعى أن تتقافز الى رأسه عشرات الأسئلة والاعتراضات . ويمكنه أن يجد الاجابات فيما سبق لنا نشره فى موقعنا (أهل القرآن ) وفى موقع ( الحوار المتمدن ). لذا ننصح بقراءة ما سبق نشره . وسيأتى مقال خاص عن البحث فى السيرة النبوية بين القرآن الكريم و كتابات المسلمين لتكون ردا أخيرا على صداع مزمن يتجدد مع كل بحث لنا يتناول تاريخ الخلفاء الراشدين بالتحليل والنقد .
2 ـ فيما يخص هذه السلسلة عن القضاء بين الاسلام و المسلمين ، فالنظام القضائى هو إنعكاس لنظام الحكم ، إن كان ديمقراطيا أو استبداديا ، وقد بدأت هذه السلسلة بتوضيح الجذور وهى نظام الحكم لدى الدولة الاسلامية القائم على الديمقراطية المباشرة ، وتناقضه مع نظم الاستبداد التى أقامها المسلمون بالتدريج بعد موت خاتم المرسلين عليهم السلام. وآثرنا استعمال مصطلح الديمقراطية وهو يعنى نفس المصطلح القرآنى ( الشورى )،لأن مصطلح الشورى قد تم تلطيخه باستبداد الخلفاء وتراثهم ، علاوة على أن المصطلح الحديث (الديمقراطية المباشرة ) يعطى معنى واحدا هو الشورى الاسلامية وفق ما جاء فى القرآن الكريم ، وقد سبق فى بحثنا بالانجليزية تقعيد هذه الشورى وآلياتها .
وقد سبقت تقعيدات وتأصيلات فكرية للديمقراطية المباشرة وممارسات لها فى التاريخ اليونانى، سابقة لدولة خاتم المرسلين عليهم السلام ، ولم تصمد أيضا ـ لأنها كانت جملة اعتراضية فى الثقافة الاستبدادية للعصور الوسطى . وحين أقام المسلمون مع خاتم المرسلين ديمقراطيتهم المباشرة كانت الديكتاتورية مترسخة فى أقوى قوتين فى العالم ( الفرس و الروم ) لعدة قرون سابقة لنزول القرآن الكريم .
3 ـ وكان المقال السابق (الخامس ) فيما أسميناه بالقضاء السياسى ،أى سلطة المستبد فى عقاب خصومه من المعارضة ، وتاثير ذلك على ضياع العدل فى القضاء العادى بين الأفراد ، دليلا على استحالة وجود ( مستبد عادل )لأن الاستبداد يصادر العدل من البداية. وقد بدأنا قصة القضاء السياسى من عصر الخلفاء الراشدين ، وتتبعناه الى عصر الخليفة المأمون أكثر خلفاء بنى العباس ثقافة وتسامحا .
4 ـ منهج البحث فى هذه المقالات لا يتسع للتوقف مع ما تعود الباحثون شرحه من نظم القضاء فى تاريخ المسلمين وبقية الشكليات المظهرية . منهجنا البحثى هنا مرتبط بدعوتنا الى الاصلاح ـ أى بحث نظام القضاء من حيث تحقيق العدل ، وهل أفلحت نظم الاستبداد لدى المسلمين فى تحقيق هذا العدل أم لا ، وهذا بغض النظر عن المسميات الضخمة التى اكتسبت تقديسا كقولهم (الشريعة ) و (الخلفاء الراشدون ) و( الخلافة الاسلامية ). تلك مجرد طنطنات ضخمة عاشت مقدسة مصانة عن النقاش إلى أن جئنا ننزل بها الى أرض النقاش محتكمين فيها الى القرآن الكريم . والقارىء الذكى يعرف أننا نكتب هذا التاريخ والتأصيل لاصلاح حاضر المسلمين ولانقاذهم من سيطرة الديكتاتوريات القائمة أو القادمة .
5 ـ كالعادة ـ فى كل ما نكتب من حيث المنهج ومن حيث الموضوعات ـ فنحن نفتح الطريق تمهيدا لعقول شابة عليها أن تتوسع وتتعمق . وبهذه الطريقة نتجول فى التراث ونتدبر فى القرآن الكريم نكتب فى موضوعات شتى ، نفتح الباب مدخلا للباحثين للمتابعة ، وبعد التمهيد فى الموضوع البحثى نتركه الى موضوع آخر . هذا منهجنا فى مقالاتنا البحثية ، من أبحاث ( المسلم العاصى )و( القرآن وكفى ) و ( الإسناد ) (عذاب القبر) (النسخ) (التأويل)(حد الردة) (أكذوبة الرجم )الى ( ليلة القدر ) .وهو منهجنا أيضا هنا فى هذه السلسلة البحثية عن (القضاء بين الاسلام و المسلمين ).
6 ـ فى كل ما نكتب فهى كتابات بحثية ليست معصومة من الخطأ ، وعلى من يختلف معنا أن يرد بالحجة ، ونحن نحتج بالقرآن الكريم وبكتب التراث السنى المشهورة والمنشورة.
7 ـ ومع أن خطأنا وارد فإن كتاباتنا منذ ربع قرن قد شجعت آخرين على متابعة ما نكتب ، وأوضحت لكثيرين أن الهجوم على السلفيين ليس هجوما على الاسلام بل هو تبرئة للاسلام من تخلف السلفية و تزمتها وتعصبها وتطرفها .يكفى لنا فخرا أننا أزلنا القداسة عن تراث المسلمين البشرى ، وأوضحنا عواره وتناقضه مع القرآن الكريم فى عهد تحكمت فيه ثقافة الوهابية وأرهبت الجميع ـ سوانا ..
8 ـ المقالات التالية من هذا البحث ستتناول بعض مظاهر الفساد فى القضاء العادى فى الدولتين العباسية و المملوكية ، و حتى تكتمل الصورة فلا بد من التعرض لأقلية من القضاة العدول حاولوا الوقوف ضد تيار الظلم والجور.
9 ـ وتبدأ هذه المقالة السادسة عن اسغلال وظيفة القضاء فى إشباع نزوات الخلفاء ، من خلال تحليل قصة حياة أشهر قاضى فى الدولة العباسية ، وهو أبو يوسف . ونحلل تاريخه من خلال المكتوب عنه فى (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادى ( 14 / 242 : 262 ) وتاريخ المنتظم لابن الجوزى ( 9 / 71 وفيات 182) ،وتاريخ ابن كثير :( 10/194) وتاريخ الخلفاء للسيوطى (463).
أولا : أبو يوسف وشيخه أبو حنيفة :
بلا مبالغة نقول إن أبا حنيفة ( ت 150 ) أعظم شخصية علمية و إنسانية فى العصر العباسى . جمع بين الفقه و الفلسفة ، وجمع مع العلم شجاعة الرأى و عفة العلماء وكرم النفس ،وكان سابقا لعصره فى العلم والأخلاق. ومن أسف فلم يأت من تلاميذه من يسير على منهجه العلمى أوالأخلاقى . بل كان أقربهم اليه هو أبعدهم عنهم فى سلوكه وفى اتجاهه العلمى، ونقصد طالب العلم (يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حَبْتة الأنصاري ) المشهور بابى يوسف .
كان أبو حنيفة رافضا لتولى القضاء ولكن كان تلميذه ابو يوسف أشهر وأول قاض للقضاء فى العصر العباسى . كان أبو حنيفة متعففا عن أموال السلطان يعمل بتجارة الحرير ليحافظ على استقلااه وكرامته بينما كان ابو يوسف متسولا لأموال الخليفة ، بل وحاشية الخليفة ، لا يتورع ولا يتعفف ولا يخجل من أخذ الأموال حتى من النساء . كان أبو حنيفة يرفض الاعتراف بالأكاذيب التى يشيعها الرواة ويرفض نسبتها للنبى محمد عليه السلام ، بينما إتجه أبو يوسف ـ بعد موت شيخه أبى حنيفة ـ الى شيوخ (الحديث ) يأخذ عنهم تلك الأكاذيب المسماة بالحديث النبوى . فقيل عنه إنه ( سمع أبا إسحاق الشيباني وسليمان التيمي ويحيى بن سعيد الأنصاري والأعمش وهشام بن عروة وابن إسحاق والليث في آخرين .) ثم قام هو أيضا برواية تلك الأكاذيب أو الأحاديث الى آخرين ، فقيل عنه ( روى عنه: محمد بن الحسن وعلي بن الجعد وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين .)
باختصار كان أبو حنيفة يعيش متساميا فوق عصره بينما غاص أبو يوسف فى أوحال عصره ، لذا اختلف بينهما الحال ، تعرض ابوحنيفة للتعذيب والضرب فى الدولتين الأموية والعباسية ، وصمد إلى أن مات مسموما قتيلا على يد الخليفة أبى جعفر المنصور ـ بينما نعم أبو يوسف بالجاه و المال لأنه باع دينه للخليفة الرشيد .
تبدأ القصة فى الكوفة قبل بناء بغداد، حيث نشأ الصبى (يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حَبْتة الأنصاري المشهور بابى يوسف) فقيرا ، إكتشف أبو حنيفة ذكاءه فتعهده بالرعاية ، ولكن الأم أو الأب ـ تختلف الروايات ـ منعت الصبى من صحبة أبى حنيفة ، وهذا مفهوم ووارد من الخوف من صحبة شيخ مغضوب عليه من الحكام . وتدخل أبو حنيفة فأعطاهم من ماله حتى رضوا بان يتفرغ الصبى للعلم لدى استاذه أبى حنيفة .
ثانيا : أبو يوسف وهارون الرشيد :
بعد موت أبى حنيفة ترك أبو يوسف الكوفة وجاء الى بغداد يبحث عن فرصة للشهرة والمال والجاه . كان ذلك ممكنا بالتفوق فى حلقات رواية الحديث فالتحق بها وصار تلميذا للأعمش أكبر وضّاع للحديث فى خدمة العباسيين . وكان العباسيون قبل وبعد إنشاء دولتهم يعتمدون على تاليف الأحاديث لتمكين سلطانهم ، وتفوق لهم فى هذه المهمة الأعمش كما تفوق محمد بن اسحاق فى تاليف السيرة النبوية بما يخدم الدولة العباسية . وكلاهما ( الأعمش وابن اسحاق ) كانا وثيقى الصلة بالبلاط العباسى . ومن هنا نفهم كيف تمهد الطريق لأبى يوسف للوصول الى حاشية هارون الرشيد ، ومما عزز ذلك قدرته الفائقة على الافتاء بما يعجب السلطان وجرأته الشديدة على التحايل الفقهى أو ما يعرف بفقه الحيل .
من الناحية الأخرى كان هارون الرشيد فى حاجة ماسة لفقيه من أمثال أبى يوسف .
لا يزال الخليفة هارون الرشيد البطل الأسطوري لقصص ألف ليلة وليلة عند الغرب ، ولا تزال صورته وحوله الجواري الحسان وأكداس الذهب تلهب خيال الفرنجة ، ويبقي هارون الرشيد متمتعا بهذه الرتوش حتي في أقاصيصنا الشعبية لأن ذلك يستند إلي أسس تاريخية أشارت لها كتب التراث المكتوب في العصر العباسي نفسه ،ولا يزال هارون الرشيد المثل لكل راغب فى المتعة الجنسية لا يشبع منها ، وهذا الصنف لا يعجبه من النساء إلا من كانت محرمة عليه ،أو كان صعبا الحصول عليها ،لأنه يملّ و يضجر من عشرات النساء اللاتى يتمنين رضاه . الخليفة هارون الرشيد كان متمتعا بزوجته الحسناء زبيدة ، وإلي جانبها مئات الجواري الحسان ، ولكنه ملّ كل هذا الحسن ، وأعجبته جارية كانت من قبل لأبيه الخليفة المهدي ، وراودها عن نفسها ، ومع أنها جارية ومع أنه خليفة إلا أنها كانت صادقة معه ، فأخبرته بأن هذا لا يجوز لأنه طالما نالها أبوه من قبله فلا يصح أن تكون له ، والقرآن صريح في ذلك " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ماقد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا" 4/22.
وزاد رفض الجارية رغبة الخليفة الرشيد فيها ، وانشغل بكيفية استحلالها ، وفي ذلك الوقت كان أبو يوسف هو القاضي ، فاستدعاه وطلب منه الفتوى التي تشفي قلبه فأفتي له بجواز أن ينكح ما نكح أبوه تأسيسا علي أن هذه الجارية لا يؤخذ بشهادتها .
وحتى لا يتهمنا أحد بالافتراء فإننا ننقل القصة من كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطى ص463 يقول " أخرج السلفي الطيوريات بسنده عن ابن مبارك قال : لما أفضت الخلافة إلي الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي ، فراودها عن نفسها فقالت: لا أصلح لك ، إن أباك قد طاف بي !! فشغف بها ، فأرسل لأبي يوسف فسأله : أعندك في هذا شيء فقال : يا أمير المؤمنين أو كلما ادعت أمة شيئا ينبغي أن تصدق ؟ لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة . ويقول الراوي ابن المبارك متعجبا " فلم أدر ممن أعجب !! من هذا الذي وضع يده علي دماء المسلمين وأموالهم لا يتحرج عن حرمة أبيه ، أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين ، أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها الذي قال له : اهتك حرمة أبيك واقض شهوتك وصيره في رقبتي "!! )
من هذا النّص نتعرف على الخليفة الرشيد وقاضى القضاة أبى يوسف ، وكيف كان يتم استعمال القضاء فى إشباع نزوات الخلفاء.
لقد كان العلم والتدوين في خدمة الدولة العباسية وسياستها ونزوات خلفائها ، وكان الرشيد إذا اشتهي جارية ومنعه الشرع كان يرسل إلي القاضي أبي يوسف ليحل له ما يريد ، ونحن نقرأ بعد الراوية السابقة رواية أخري تقول " قال الرشيد لأبي يوسف إني اشتريت جارية وأريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء " أي قبل أن تكمل عدتها ويستيقن من أنها ليست حاملا " فهل عندك حيلة ؟ قال أبو يوسف: نعم تهبها لبعض ولدك ثم تتزوجها" .
وهذه حيلة مفسدة للشرع . فالاستبراء هو باكمال العدة يستوى فيه إن كانت المراة حرة أم جارية لأنها إمرأة وذلك شىء جسدى (بيولوجى ) فكل النساء يتعرضن للحيض والولادة ، والمرأة عدتها بالحيض ثلاث حيضات ، إلا إن الفقه العباسى جعل فارقا بين عدة المرأة الحرة و المرأة المملوكة ، ولا يزال ذلك فى الفقه السلفى حتى الآن ، فيقول الشيخ أبو بكر الجزائرى إن استبراء المرأة المملوكة ملك اليمين يكون بحيضة واحدة ( منهاج المسلم 462 ) .
ونعود الى الرشيد وهو يستدعي أبا يوسف في الليل إذا صادفته مشكلة من هذا القبيل تقول الرواية التالية " دعا الرشيد أبا يوسف ليلا فأفتاه ، فأمر له بأربعة مائة ألف درهم فقال إن رأي أمير المؤمنين أمر بتعجيلها قبل الصبح ، فقال عجلوها ، فقال بعض من عنده . إن الخازن في بيته والأبواب مغلقة ، فقال أبو يوسف : فقد كانت الأبواب مغلقة حين دعاني ففتحت "!!
وبهذه الصفة وبسبب تلك المهمة تم تعيين ابى يوسف فى القضاء ،وتمت ترقيته وتعاظم جاهه وتكاثرت ثروته.
ثالثا : كيف تولى القضاء
تقول الرواية : (كان سبب اتصال أبى يوسف بالرشيد أنه قدم بغداد بعد موت أبي حنيفة ، فحنث بعض القوَّاد في يمين ، وطلب فقيهًا يستفتيه فيها ، فجيء بأبي يوسف ، فأفتاه أنه لم يحنث ، فوهب له دنانير، وأخذ له دارًا بالقرب منه ، واتصل به. )
أى بعد موت أبى حنيفة جاء أبو يوسف يبحث عن مستقبله فى بغداد فى عصر هارون الرشيد . وواتته الفرصة حين حلف احد القادة العباسيين يمينا وحنث فيه ، ويريد فتوى فى الموضوع ، وكان أبو يوسف قد أرسى لنفسه سمعة فى مجتمع الفقهاء فى مجال الفتوى ، فجىء به لذلك القائد ، فأفتى للقائد بما يريد ، وفرح القائد واستبقاه لنفسه (فقيه ملاكى ) أو بتعبير الرواية (فوهب له دنانير وأخذ له دارًا بالقرب منه واتصل به. )
نعود للرواية ، وهى تقول ( فدخل القائد يومًا إلى الرشيد فوجده مغمومًا ، فسأله عن سبب غمه فقال: شيء من أمر الدين قد أحزّنني فاطلب لي فقيهًا أستفتيه ، فجاءه بأبي يوسف ، قال أبو يوسف: فلما دخلت إِلى ممر بين الدور رأيت فتى حسنًا عليه أثر الملك وهو في حجرة محبوس ، فأومأ إليَ بإصبعه مستغيثًا فلم أفهم عنه إرادته ، فأدخلت إلى الرشيد ، فلما مثلت بين يديه سلمت ووقفت فقال لي: ما اسمك ؟ قلت: يعقوب أصلح الله أمير المؤمنين . قال: ما تقول في إمام شاهد رجلًا يزني ، هل يحده ؟ قلت: لا يجب ذلك . فحين قلتها سجد الرشيد ، فوقع لي أنه قد رأى بعض أهله على ذلك وأن الذي أشار إلي بالإستغاثة هو الزاني .)
هذا الجزء من الرواية يتحدث عن وصول ابى يوسف الى الخليفة الرشيد نفسه . فقد رأى الرشيد أحد أبنائه يزنى ، فوقع فى حيرة بين إقامة عقوبة الزنا على ابنه أو الخروج بحيلة ، ومن هو ذلك الفقيه الذى يفتى له بالحيلة الفقهية المريحة . دخل القائد إياه على الخليفة ورأى غم الخليفة وحزنه ، فأتى بابى يوسف للرشيد، وفهم ابو يوسف القصة وعرف المطلوب منه ، وسرعان ما أجاب للخليفة بما يريد :أنه لا عقوبة ولا حدّ لأن الشبهات تدرأ وتمنع إقامة الحدود ، أى ألبس فتواه حديثا مصنوعا كالعادة . وسجد هارون الرشيد شكرا ، ولكن عاوده الشك فعاد يسأل الفقيه.
تقول الرواية ( ثم قال الرشيد: ومن أين قلت هذا ؟ قلت: من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إدرأوا الحدود بالشبهات " وهذه شبهة يسقط الحدّ معها . فقال: وأي شبهة مع المعاينة! قلت: ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى ، والحدود لا تكون بالعلم وليس لأحد أخذ حقه بعلمه . فسجد مرة أخرى وأمر لي بمال جزيل وأن ألزم الدار، فما خرجت حتى جاءتني هدية الفتى وهدية أمه وأسبابه ، فصار ذلك أصلًا للنعمة ، ولزمت الدار ، فكان هذا الخادم يستفتيني وهذا يشاورني وصلاتهم تصل إليً ، ثم استدعاني الرشيد واستفتاني في خواص أمره . ) أى بهذه الحادثة تم تعيين أبى يوسف فقيها ( ملاكى ) للقصر ، ليس فقط للخليفة بل للخدم و النساء ، كل منهم يفعل ما يشتهيه و يأخذ الفتوى من أبى يوسف ، وأبو يوسف يجمع منهم الأموال ويغدق عليهم بالفتاوى الجاهزة الطازجة .
ثم أصبح من مستشارى الرشيد ومن أهم خواصه وحاشيته ، ولأنه القاضى ( الملاكى ) للخليفة فقد جعله الخليفة القاضى الأكبر للأمة والدولة ، تقول الرواية (وهو أول مَنْ دُعِيَ بقاضي القضاة في الإسلام ). بل وصلت رعاية الرشيد للابن (يوسف) بعد أبيه (أبى يوسف ) . كان أبو يوسف قد استخلف ابنه يوسف قاضيا بالنيابة عنه على الجانب الغربي من بغداد ، فأقره الرشيد على عمله . وبعد موت الأب (أبى يوسف ) قام الرشيد بتعيين الابن يوسف فى قضاء القضاة بعده
رابعا : إجتهاده فى تلبية نزوات الخليفة الرشيد
القاضى بشر بن الوليد ـ فى عصر المأمون ـ كان من تلامذة ابى يوسف ، وكان مشغوفا بقص حكايات شيخه أبى يوسف للخليفة المأمون وغيره .
وقد حكى فقال: كنت عند أبي يوسف القاضي وكنا في حديث ظريف فقلت له: حدثني به قال: قال لي يعقوب القاضي: بينا أنا البارحة قد أويت إلى فراشي فإذا داق يدق الباب دقًا شديدًا ، فأخذت عليّ إزاري وخرجت عليه، فقال: أجب أمير المؤمنين . فقلت: يا أبا حاتم لي بك حرمة ، وهذا وقت كما ترى ، فإن أمكنك أن تدفع ذلك إلى الغد؟ . قال: ما لي إلى ذلك سبيل . قلت: وكيف كان السبب ؟ قال: خرج إلي مسرور الخادم فأمر أن آتي بك أمير المؤمنين . فقلت: فأذن لي أن أصب عليّ ماء وأتحنط ، فإن كان أمر من الأمور كنت قد أحكمت شأني ، وإن رزق الله العافية فلن يضر . فأذن لي ، فدخلت ، فلبست ثيابًا جددًا ، وتطيبت بما أمكن من الطيب . ثم خرجنا فمضينا حتى أتينا إلى دار الرشيد)
هنا نتعرف على إرهاب نظام الحكم فى عهد الرشيد ، استدعاء بالليل لواحد من مستشارى الخليفة ، ولأن ذلك المستشار ( أبو يوسف ) يعلم أن حياته معلقة بكلمة ينطقها الرشيد ولأنه يعرف نزق الرشيد وتقلب عواطفه وغضبه السريع و بكاءه السريع وسرعة إقدامه على القتل فإن أبا يوسف تملكه الرعب من هذا الاستدعاء المفاجىء الذى جاء به (الحاجب ) أبو حاتم . لذا كان لا بد من تلبية الأمر الذى يحتمل القتل لأبى يوسف ، لذلك استعد للقتل بأن ( تحنط ) وارتدى ما أراد أن يموت وهو يرتديه من اللباس . ومضى مع (الحاجب ) الى قصر الرشيد .
هناك وجد الرعب فى إنتظاره . وجد مسرور السياف الخاص بالرشيد و الذى يقطف رأس من ينطق الرشيد بقتله . وجود مسرور السياف ألقى الرعب فى قلب ابى يوسف ، وهذا ما نحسّه من قراءة الرواية ، تقول :( فإذا مسرور فقال له هرثمة: قد جئت به. فقلت لمسرور: يا أبا هاشم خدمتي وحرمتي (أى بحق خدمتى لك وحرمتى عندك ) وهذا وقت ضيق فتدري لِم طلبني أمير المؤمنين ؟ قال: لا . قلت: فمَنْ عنده؟ قال: عيسى بن جعفر . قلت: ومَن ؟ قال: ما عنده ثالث .) وبلا شك فهذه الاجابات القصيرة من مسرور أرعبت القاضى أكثر و أكثر وأعلمته أن شرا مستطيرا ينتظره . تقول الرواية إن مسرور السياف قال لقاضى ( مرّ ، فإذا صرت في الصحن فإنه ( أى الخليفة ) في الرواق فحرك رجلك في الأرض فإنه سيسألك فقل: أنا . فجئت ففعلت فقال: مَنْ هذا قلت: يعقوب قال: ادخل . فدخلت فإذا هو جالس وعن يمينه عيسى بن جعفر فسلَّمت فرد عليّ السلام وقال: أظننا روعناك . قلت: أي والله وكذلك مَنْ خلفي .(أى روعتنى وروعت أهلى من خلفى ) قال: اجلس ، فجلست حتى سكن روعي).
وبعد أن هدأ القاضى وذهب عنه الروع و الرعب أعلمه الرشيد بالسبب الهائل فى استدعائه فى منتصف الليل : تقول الرواية ( ثم التفت إليَ فقال: يا يعقوب تدري لِم دعوتك ؟. قلت: لا . قال: دعوتك لأشهدك على هذا أن عنده جارية سألته أن يهبها لي فامتنع وسألته أن يبيعنيها فأبى . ووالله لئن لم يفعل لأقتلنّه .) هذه هى القضية .
الرشيد رأى جارية يملكها ابن عمه عيسى بن جعفر، وأعجبته وأراد أن يتنازل له عنها ابن عمه فرفض ابن عمه ، وأصبحت مشكلة عاتية ، يمكن أن يقطع مسرور السياف رقبة ابن عم الخليفة من أجلها. ولهذا كان لا بد من استدعاء أبى يوسف فى الليل حتى يجد حلا للمشكلة .
بالطبع استراح أبو يوسف ، وعرف أنه فى الأمان ، وعليه أن يجد حلا يشبع رغبة الرشيد فى تلك الجارية. ( قال: فالتفتُ إلى عيسى فقلت له: وما بلغ اللّه بجارية تمنعها أمير المؤمنين وتنزل نفسك هذه المنزلة ؟ ) أى ما هو قدر هذه الجارية التى تتمسك بها الى درجة أن تعرض نفسك للقتل فى سبيلها ؟ ( فقال لي: عجلت في القول قبل أن تعرف ما عندي . قلت: وما في هذا من الجواب قال: إن علي يمينًا بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك أن لا أبيع هذه الجارية ولا أهبها.)
هنا المعضلة الفقهية ، وهنا يكون أبو يوسف هو ( الحلّ ) . فالجارية إياها لا يمكن لصاحبها أن يبيعها بثمن ولا يمكن أن يهبها لأحد بلا ثمن .أى لا يمكن أن يتنازل عنها لأى أحد حتى لو كان الرشيد ، ولو فعل فعليه كفارة وفدية والتزام إن حنث اليمين بأن يطلق نساءه ويعتق مماليكه و جواريه وأن يتصدق بكذا وكذا.. وهو لا يستطيع دفع تكلفة ذلك كله . فما المخرج ؟ ، يقول أبو يوسف يحكى : ( فالتفت إلي الرشيد فقال: هل له في ذلك من مخرج ؟. قلت: نعم . قال: وما هو؟ . قلت: يهب لك النصف ويبيعك النصف فيكون لم يبع ولم يهب . قال: ويجوز ذلك قلت: نعم .) تلك هى الحيلة العبقرية لأبى يوسف أستاذ علم الحيل الفقهية فى المذهب الحنفى . بهذه الحيلة لا يكون عيسى بن جعفر قد حنث فى يمينه ـ وتكون الجارية ملكا للرشيد بدون مشاكل ، نصفها هبة و نصفها الاخر بالبيع . وسرعان ما استجاب عيسى بن جعفر فقال للقاضى ( فأشهدك أني قد وهبت له نصفها وبعت له نصفها الباقي بمائة ألف دينار) تاتى الخطوة التالية : ( فقلت : عليّ بالجارية ، فأتي بالجارية وبالمال فقال خذها يا أمير المؤمنين بارك الله لك فيها .)
هل انتهى الأمر عند هذا الحد ؟
لا . لأن الرشيد يريد أن ينام مع الجارية فى نفس الليلة ، مع أن الشرع يستوجب إستبراءها قبل الدخول بها ، لذا أسرع هارون الرشيد يسأل القاضى : ( قال: يا يعقوب بقيت واحدة . قلت: وما هي؟ قال: هي مملوكة ولا بد أن تستبرأ ، ووالله لئن لم أبت معها لِيلتي إني لأظن أن نفسي ستخرج .) يعنى إن أمير المؤمنين سيموت إن لم ينم مع الجارية الآن ، ولا بد للقاضى أن يجد له حكما فقهيا حتى لا يموت بحسرته على الجارية ( قلت: يا أمير المؤمنين تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ ) وهذا حكم باطل وضالّ ، لأن الاستبراء واجب قبل عقد الزواج باى إنثى ثيب حتى لا تكون حاملا من زوجها السابق . ولكن هذا الحل وجد قبولا من الخليفة الذى (أنعظ ـ أى إشتدت شهوته وتغلبت عليه ) فاقترح الخليفة أن يعتقها وأن يتزوجها على سنة ابى يوسف :( قال: فإنى قد أعتقتها فمن يزوجنيها ؟ قلت: أنا. ) وتم عقد الزواج الباطل بسرعة ، حضر الشهود ، وتحول مسرور فى لحظة من سيّاف يبث الرعب الى شاهد وديع فى زواج باطل ، تقول الرواية على لسان ابى يوسف ( فدعا بمسرور وحسين فخطبت وحمدت الله ثم زوَّجته على عشرين ألف درهم ودعا بالمال فدفعه إليها ثم قال لي يا يعقوب انصرف ) وانتهى الحفل الذى بدأ فيلما من أفلام الرعب ثم انتهى فيلما من أفلام عادل إمام أو حسن الامام ، و لم يبق إلا مكافاة القاضى الذى جمع رأسين فى الحرام ، يحكى القاضى فيقول عن الرشيد العريس ( ورفع رأسه إلى مسرور وقال: يا مسرور قال: لبيك أمير المؤمنين . قال: احمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم وعشرين تختًا ثيابًا . فحمل ذلك معي ) أى رجع الى بيته وأهله بجراب من المال و تخت من الثياب .
وبعد أن حكى أبو يوسف لتلميذه بشر بن الوليد تلك الحادثة سأله عن رأيه الشرعى : ( فقال بشر بن الوليد: فالتفت إلي يعقوب فقال: هل رأيت بأسًا فيما فعلت ؟ قلت: لا قال: فخذ منها حقك . قلت: وما حقي ؟ قال: العشر . قال: فشكرته ودعوت له ) أى لأن الراوى بشر بن الوليد وافق ابا يوسف على فعلته فقد منحه أبو يوسف مكافاة هى العشر من الجائزة . وربما يكون هذا نوعا من الاحساس بالذنب لدى أبى يوسف ، وهو يعرف أنه استباح شرع الله بما فعل ، ويريد أن يقنع نفسه بأنه ما فعل إثما وذلك بطلب شهادة تزكية من تلميذه ، وليس هذا مألوفا من أستاذ يأخذ تزكية أو تبريرا من تلميذه ، كما إنه لس مألوفا أيضا أن يتنازل أبو يوسف عن عشر الجائزة لهذا التلميذ وهو الذى تشيرالروايات الى بخله الشديد.
وتأتى المفاجأة الأخيرة فى القصة ، فقد بعثت الجارية العروس الى ابى يوسف بنصف مهرها هدية له ، يقول الراوى بشر بن الوليد بعد أن قبض نصيبه من الجائزة ( وذهبت لأقوم فإذا بعجوز قد دخلتَ فقالت: يا أبا يوسف ابنتك تقرئك السلام وتقول لك: والله ما وصل إليَّ في ليلتي هذه من أمير المؤمنين إلا المهر الذي عرفته وقد ضفت إليك النصف منه وخلفت الباقي لما أحتاج إليه)
خامسا : أبو يوسف وأهل الحديث :
كان الحديث المصنوع هو الدين الواقعى للدولة العباسية ، به قامت دولتهم ، وبه استمرت بكهنوتها الدينى و السياسى ، وبه استمتع خلفاؤها بما يشتهون ، ووجدوا من الفقهاء و المحدثين من يصنع لهم من الحديث ما يشاءون فيصبح حديثا نبويا ووحيا من السماء تحت مصطلح (السّنة ).
وقد ذهب أبو يوسف الى بغداد مسلحا بانفتاح عقلى تعلمه من شيخه أبى حنيفة ، وأضاف انفتاحا آخر على قبول الحديث باعتباره شهادة القبول له للوصول الى البلاط العباسى . لذا اختلط باهل الحديث فى بغداد وصار منهم ، فلما وصل ظلت أبوابه مفتوحة أمامهم يروى لهم بعض ما يحدث ، ويصنع لهم ما يشاء من الأحاديث بزعم أنه سمع فلانا يروى عن فلان عن فلان ..الخ ..
وكانت لأصحاب الحديث أسبابهم القوية فى الرد على تحية أبى يوسف باحسن منها ، فقد ترك طريقة ابى حنيفة الرافضة لهم ولأحاديثهم وصار منهم ، ثم إنه صاحب نفوذ وأموال وصلة قوية بالخليفة الرشيد ، ثم هو أكبر رأس فقهية فى عصره باعتباره قاضى القضاة. ولذا صنع أبو يوسف بهم وبأتباعه من المحدثين المذهب الحنفى ، وهو مذهب يحمل من أبى حنيفة الاسم فقط ، بينما يمتلىء بكل سمات المذاهب الأخرى من أحاديث كاذبة و فتاوى باطلة ، بل ويزيد على بقية المذاهب ما يعرف بفقه الحيل ،او التحايل على الشرع بمثل ما كان أبو يوسف يفعل.
ونعطى بعض التفصيلات عن علاقته بفقهاء بغداد معززة بالروايات التاريخية .
حضورهم مجالسه :
ويقولون عن أبى يوسف وهو فى مجلسه وسلطته ( وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم، حتى إن أحمد بن حنبل كان شاباً وكان يحضر مجلسه في أثناء الناس فيتناظرون ويتباحثون، وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضاً.)
رغبتهم فى الحصول على جزء من هداياه :
يروى يحيى بن معين قال: (كنت عند أبي يوسف القاضي وعنده جماعة من أصحاب الحديث وغيرهم فوافته هدية من أم جعفر احتوت على تخوت دبيقي ومصمت وطيب وتماثيل ند وغير ذلك ، فذاكرني رجل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم " مَنْ أتته هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه فيها " فسمعه أبو يوسف فقال: أبي تعرض ؟ ذلك إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " والهدايا يومئذ الأقط والتمر والزبيب " ولم تكن الهدايا ما ترون. يا غلام شل إلى الخزائن .)
سال لعاب الفقيه عندما راى الهدايا تنثال على أبى يوسف فطمع فى جزء منها ، واستشهد بحديث صنعه فى التو واللحظة . لم يدخل أبو يوسف فى جدل معه حول صحة أو ضعف الحديث ، وإنما بادر بتأويله على أنه لا يصح تطبيقه فى عصر الرشيد لاختلاف الظروف واختلاف نوعية الهدايا . ولو أخذنا بتفسير ابى يوسف لقلنا نفس الشىء على كل تفصيلات الشريعة السنية .
أبو يوسف يضيف التأويل والتفسير للحديث المصنوع
كان الأعمش وغيره من رواة وصنّاع الأحاديث يغفلون أحيانا عما يصنعون، وقد استغل أبو يوسف مهارته العقلية فى تأويل واستنطاق أحاديثهم التى يروونها ، روى أحدهم ( قال: سمعت أبا يوسف يقول: سألني الأعمش عن مسألة فأجبته فيها فقال لي: من أين قلتَ هذا قلت: لحديثك الذي حدثتناه أنت ثم ذكرت الحديث فقال لي: يا يعقوب إني لأحفظ هذا الحديث قبل أن يخرج أبواك فما عرفت تأويله حتى الآن .) وبهذه الحاسّة العقلية تميز أبو يوسف حتى عن أستاذه العجوز الأعمش .
* مدحهم أبى يوسف
وكان منتظرا أن يزكوه وان يمدحوه ، قال المزني: أبو يوسف أتبعهم للحديث . وقال عنه ابن المديني: كان أبو يوسف صدوقًا ، وقال عنه يحيى بن معين : هو ثقة .
استخدامهم إسم أبى يوسف للهجوم على الآخرين
بسبب الصيت البعيد لأبى يوسف فقد استخدموا إسمه يهاجمون به الفرق الأخرى كالجهمية ، فقال أبو زرعة عن أبى يوسف : كان سليماً من التجهم.
وظهرت مشكلة القول بخلق القرآن فى نهاية عصر المأمون قبيل موته أى عام 218 ،أى بعد موت ابى يوسف بستة وثلاثين عاما ، ووقف فيها الفقهاء وأصحاب الحديث ضد المعتزلة ، واستخدموا إسم الفقيه أبى يوسف بعد موته فى الدعاية ضد القائلين بخلق القرآن ، فصنعوا إسنادا من رواة زعموا أنه يحرّم الكلام مع من يقول بخلق القرآن ، ويوجب هجرهم ، تلك الرواية تقول ( أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسن بن أبي طالب قال: حدّثنا علي بن عمر بن محمد التمار قال: حدَّثنا مكرم بن أحمد القاضي قال: حدَّثنا أحمد بن عطية قال: سمعت بشارًا الخفاف قال: سمعت أبا يوسف يقول: مَنْ قال القرآن مخلوق فحرام كلامه وفرض مباينته .) وتقول رواية أخرى ( وقال بشار الخفاف: سمعت أبا يوسف، يقول: من قال: القرآن مخلوق، فحرام كلامه، وفرض مباينته، ولا يجوز السلام ولا رده عليه. )
وفى العصر المملوكى اشتهرت ( الكيمياء ) او التحايل بها لتحويل المعادن الى ذهب . ولذا أضيف فى العصر المملوكى كلام آخر منسوب لأبى يوسف فى الهجوم على الكيمياء وعلى علم ( الكلام ) ـ أى الفلسفة (الاسلامية ) والهجوم على من يتتبع الأحاديث المصنوعة الموضوعة ، ولذا روى ابن كثير هذه الرواية قائلا ( ومن كلامه الذي ينبغي كتابته بماء الذهب قوله: من طلب المال بالكيما، أفلس، ومن تتبع غرائب الحديث كذب، ومن طلب العلم بالكلام تزندق. ). وهى رواية لم نعثر على اصل لها فى ترجمة ابى يوسف فى العصر العباسى. أى تم صنعها ـ ربما فى عهد ابن كثير المتوفى عام 774 .
الكذب من أجل أبى يوسف
ولكن مشكلة ابى يوسف لدى الفقهاء السنيين هو حكمه الظالم وموالاته وخدمته لأهل الجور . ولذلك صنعوا روايات تجعله يحكم بالجور على الخليفة ، منها رواية تجعله يحكم بالجور على الخليفة موسى الهادى لصالح خصم مجهول من العوام : ( .. قال: خوصم موسى أمير المؤمنين إلى أبي يوسف في بستانه، فكان الحكم في الظاهر لأمير المؤمنين ، وكان الأمر على خلاف ذلك، فقال أمير المؤمنين لأبي يوسف: ما صنعت في الأمر الذي نتنازع إليك فيه قال: خصم أمير المؤمنين يسألني أن أحلف أمير المؤمنين أن شهوده شهدوا على حق ، فقال له موسى: وترى ذلك قال: قد كان ابن أبي ليلى يراه ، قال فأردد البستان عليه. إنما احتال أبو يوسف . ) والراوى الكاذب لم يكن يعلم أن أبا يوسف لم يتول القضاء فى خلافة موسى الهادى شقيق هارون الرشيد و الخليفة السابق له ، بل تولى القضاء فى خلافة أخيه الرشيد . وما كانت شخصية موسى الهادى القوية الصارمة الباطشة تسمح لأحد أن يتصرف هكذا فى مجلسه .
ونفس الرواية السابقة مع بعض تفصيلات صنعوها وجعلوا فيها أبا يوسف هو القاضى الحاكم بأمره فى حضور الرشيد ، وجعلوه يحكم على الرشيد لصالح واحد مجهول الاسم من الرعية فى نزاع حول بستان أيضا ، وتبدأ الرواية بمقدمة يقول فيها ابو يوسف ( وُلًيت هذا الحكم وانغمست فيه وليس في قلبي منه شيء ، وأسأل الله أن لا يسألني عن جور ولا ميل مني إلى أحد إلا يومًا واحدًا فإنه يقع في قلبي منه شيء) أى لم يظلم فى الحكم إلا فى يوم واحد ( قالوا: وما هو قال: جاءني رجل فقال: لي بستان قد اغتصبني إياه أمير المؤمنين . فقلت: فيِ يد مَنْ هو الآن فقال: في يد أمير المؤمنين . قلت: ومن يقوم بعمارته ومصلحته قال: أمير المؤمنين . فأخذت قصته ودخلت قلت: يا أمير المؤمنين إن لك خصمًا بالباب قد ادعى كيت وكيت . فقال: هذا البستان لي اشتراه لي المهديِ . فقلت: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تدعو خصمك فأسمع منكما . قال: فدعي به فأدخل فادّعى فقلت: يا أمير المؤمنين ما تقول فيما ادعى قال: البستان لي وفي يدي اشتراه لي المهدي . قلت: يا رجل قد سمعت فما تشاء . قال: خذ لي يمينه . قلت: أيحلف أمير المؤمنين قال: لا . قلت: يا أمير المؤمنين أعرض عليك اليمين ثلاثًا فإن حلفت وإلا حكمت عليك . فعرضت عليه اليمين ثلاثًا فأبى أن يحلف فقلت: يا أمير المؤمنين قد حكمت عليك بهذا البستان فإن رأيت أن تأمر بتسليمه إليه . قال: لا أسلم . قلت: يا رجل تعود في مجلس غير هذا فقال: افعل لي ما يجب أن تفعل . قلت: يا أمير المؤمنين بالحبس يعرض . فأمر به فأخرج . فقال الفضل بن الربيع: والله ما رأيت مجلسًا قط إلا وهذا أحسن منه . فقلت: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن يتم حسن هذا المجلس بردٌ هذا البستان . قيل له: فأي شيء في قلبك قال: جعلت أحتال في صرف الخصومة والقضية عن أمير المؤمنين ولم أسأله أن يقعد مع خصمه أو يأذن لخصمه أن يقعد معه على السرير . )
هذه رواية باطلة ظاهرة التصنع لا تتفق مع طبيعة ابى يوسف أو طبيعة الرشيد وسطوته ورهبته و قد خلت من وجود مسرور السياف والرقاب التى كان تتساقط بمجرد إشارة من الرشيد ، ومنها رقبة جعفر ابن خالد البرمكى نفسه .الرواية التى ذكرناها عن استدعاء أبى يوسف ليلا لملاقاة الرشيد ورعبه هى التى تتسق مع العصر وتتناغم مع الشخصيات الموجودة فيها .
يؤكد هذا ندم أبى يوسف عند موته ، وقد تذكر أستاذه الفاضل ابا حنيفة بورعه وتقواه و شموخه فكان يقول (صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ثم انصبت علي الدنيا سبع عشرة سنة فما أظن أجلي إلا قد اقترب ) يقول الراوى بشر بن غياث معلقا : فما مضت شهور حتى مات . ) وعلى فراش الاحتضار كان يقول (يا ليتني مت على ما كنت عليه من الفقر وإني لم أدخل في القضاء ... )
ختاما :
أبو يوسف هو أول من أفسد مذهب ابى حنيفة وطريقته ، وهو أول من تولى منصب قاضى القضاة ، وأول من جعل ابنه يتولى نفس المنصب بالواسطة ، وهو أول من استخدم علمه الفقهى فى إشباع نزوات السلطان ، (قبله رفض أبو حنيفة أن يحكم للخليفة المنصور بالتحلل من عقد عقده مع زوجته يمنعه من الزواج عليها ).
وحين ينهمك قاضى القضاة فى تلبية نزوات الخليفة فلا تسأل عن أحوال العدل بين الناس .