الإحصاءات الرسميّة غائبة والظاهرة في تنامٍ مستمرّرغم القوانين التي تكفل حقوقهم... أطفال تونس يعملون ويضطهدون
"وهل تظنّ أنني اكسب المليارات يا سيدّي..أنتظر اليوم الذي سأعود به إلى البيت بأكثر من خمسة دنانير تُحسب على الأرباح"، يقول الفتى عبد الناصر لإيلاف و يتابع: انقطعت عن الدراسة خلال السنة الثالثة من التعليم الابتدائي بعد وفاة والديّ في حادث مرور، كفلتني عمتي العجوز و أنا مقيم عندها باستمرار في حين تعيش أخت تكبرني بستّ سنوات مع عمّ آخر رفض إيوائي".
صادقت تونس على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل في 29 نوفمبر من العام 1991، كما تمّ إصدار مجلة حماية الطفل بمقتضى القانون عدد 92 لسنة 1995 و يراها قانونيون مكسبا وطنيا يحسب لأطفال تونس لما تحويه من فصول تكفل حقوقهم. أما" مجلة الشغل" فإنها تتضمن هي الأخرى أحكاما حمائية عدّة تحسب لفائدة الطفل التونسيّ كتحديد سن التشغيل وتحجير التشغيل في بعض الحالات وضرورة تمتع الطفل بالراحة.ويحدّد الفصل 53 من "مجلة الشغل " السن الدنيا لتشغيل الأطفال بـ 16 سنة في القطاعات غير الفلاحية، كما يخول للمؤسسة العائلية تشغيل الطفل دون السن القانونية شريطة أن لا يؤثر ذلك على صحته أو تعليمه. ويسمح الفصل 56 بتشغيل الطفل الذي بلغ 13 سنة في أشغال خفيفة في مجالات غير صناعية وغير فلاحية في حدود ساعتين في اليوم. ولكنه يحجر تشغيل هؤلاء الأطفال خلال يوم الراحة الأسبوعية أو في الأعياد، كما يشترط الحصول على ترخيص مسبق للسماح بتشغيل طفل في السينما أو في العروض الفنية. هذا و يحجر القانون التونسي تشغيل الأطفال دون 18 سنة في أعمال من شأنها أن تهدد صحتهم أو سلامتهم أو أخلاقهم بالخطر، كما يمنع العمل الليلي للأطفال دون 14 سنة من الساعة الثامنة مساءً إلى الثامنة صباحا في النشاطات غير الفلاحية. وعلى الرغم من أنّ معظم تلك القوانين لا تُحترم بالشكل الكافي إلى حدّ اعتبارها من قبل البعض "قوانين مهجورة"، فإنّ عمليات مراقبة تطبيقها تشكو هي الأخرى من خلل كبير. ويبدو أن السيّد المنجي الزارعي صاحب محلّ بيع الأسماك بالسوق المركزيّ وسط العاصمة التونسية لم يسمع بعدد من تلك الفصول التي احتوتها مجلة الشغل، فهو يشغّل طفلين على امتداد 14 ساعة يوميّا و يقول لإيلاف:" أنا لم افرض على أيّ كان الاشتغال معي لا الكبار و لا الصغار، ومن يرفض العمل عندي فليغادر وسآتي بغيره ...كلّ الزملاء يشغلون أطفالا صغار السنّ، فهم لا يطلبون أجورًا مرتفعة".
ويقول غسان صالحي وهو أستاذ متخرّج من معهد التنشيط الشبابيّ والثقافي و يشغل حاليا خطة مدير لمركّب طفولة لإيلاف:"ظاهرة عمل الأطفال متفشية في المجتمع التونسيّ و تفاقمت خلال الثلاث عقود الأخيرة و تعود أسبابها برأيي إلى عدّة عوامل أولها الفقر، والانقطاع المبكر عن الدراسة وضعف التأطير والتكوين و الالتزام بمبادئ حقوق الطفل، علاوة على وجود ما يسمى بالعائلات المنحرفة خصوصا تلك التي تسكن في ما يعرف هنا في تونس بـ"الوكايل" ممن يشغلون أبنائهم مقابل خلود الوالدين للراحة . واستنادا إلى الصالحي فإنه لا غرابة أن يتذمّر المواطن التونسي اليوم من الإلحاح الكبير عليهم من قبل الصبية الذين يبيعُون العلكة و المناديل الورقية وبضائع أخرى،لاقتناء شيء من عندهم، لأن العودة إلى البيت بلا مال يعني تعرّض الفتى إلى التعنيف اللفظي و المادي من قبل مشغله سواء كانوا الوالدين أو احد الأقارب أو شخصا آخر. ويتابع: "نحن على إطلاع على عدد كبير من الشكاوى و الانتهاكات التي يتعرّض لها الأطفال في بلادنا،من ابتزاز وعنف و استغلال اقتصاديّ نتيجة تعسّف الأعراف، خصوصا في محافظات الجنوب حيث يعتبر عمل الأطفال ثقافة كاملة تحت مُسمى "تحمل المسؤولية " و بناء الرجولة" وغيرها من الأوهام". وحول تداعيات العمل على نفسيّة الطفل خصوصا لمّا يكون شاقا يقول الأستاذ غسان المختصّ في الطفولة:"هو قتل للطفولة بكلّ ما للكلمة من معان، فسواء كان الطفل يشتغل عند شخص أجنبيّ عن العائلة أو في إطار عائليّ (فلاحة،صيد،عمل موسميّ...) فإنه يتعرّض لإحباط كبير و فراغ نفسيّ شامل، فجميعنا يعلم أنّ اللعب هو مكون أساسيّ وضروريّ لشخصيّة الطفل السليم، وغياب اللعب و الترفيه و التسلية لساعات محددة سيؤدّي بدوره إلى الفشل الدراسي و ربما الانحراف و تعاطي المخدرات ومعاقرة الخمرة و غيرها من المُحرمات الاجتماعية. كما أنّ الفراغ النفسيّ الذي ينتج عن عمل الأطفال وعدم تمتّعهم بالراحة و المناخ الملائم لنموهم و تكوينهم التربويّ يؤدّي إلى لجوئهم للكذب، فقد عاينت شخصيا حالات يقوم فيها الأطفال بالاشتغال خلال العطل المدرسيّة بإكراه من الوالدين، لكنهم يكذبون بعد العودة المدرسية ويتعمّدون ذلك أمام زملائهم بالقول أنهم كانوا "يقضون عطلة سعيدة في منطقة سياحية راقية أو خارج البلاد"، وهذا عائد إلى خجل كبير من قول الحقيقة و الإفصاح عن معاناتهم خلال زمن من المفروض أنهم ينعمون فيه بالراحة كبقية زملائهم". |
|||||
|