ألا تزر وازرة وزر أخرى

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٦ - أغسطس - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً


ان أنس لا أنسى ما حدث فى قريتى وأنا صغير فى الستينيات.
فى الصباح وجدوا أحد الخفراء مقتولا. تحولت القرية الى ثكنة عسكرية من البوليس والمخبرين، وسيق جيران القتيل ومعارفه الى سلخانات التعذيب التى تم نصبها على عجل فى السواقى حيث تم ربط الرجال مكان الماشية وارغموا على الدوران تحت ضرب الشوم . تحت التعذيب اعترف كثيرون ولكن تبين أن الجانى هو صديق عزيز للخفير كانا يتمازحان فانطلقت بندقية الخفير لتقتله بطريق الخطأ. لم يكلف البوليس المصرى نفسه مشقة التحرى ومعاينة الرصاصة القاتلة ومن كان آخر من التقاهم الخفير. لو فعل لقبض على القاتل بسهولة. الا أن الروتين المعتاد هو تعذيب الابرياء الى أن يعترف أحدهم فتنتهى "مهمة الشرطة"، وهى (ضرب الشعب) وليس ( خدمة الشعب ).
تعذيب الأبرياء هى المهمة الحقيقية لأى بوليس فى دولة استبدادية يسرق فيها المستبد حقوق الانسان السياسية والانسانية ، وحتى لا يطالب الناس بحقوقهم لا بد من ارهابهم بالتعذيب لأتفه الأسباب لكى يعرف المواطن أن الاقتراب من السلطة محفوف بالمخاطر طبقا لامثلة تقول :" سيف السلطة طويل "، " ابعد عن الشر وغنى له" " السلطان من لا يعرف السلطان " " اذا كان دراعك بوليس اقطعه " وذلك الحديث المزيف والقائل : من أكرم شرطيا أهانه الله ".
بالتعذيب العشوائى يتربى الناس على الخوف من السلطة وتتأكد هيبتة الدولة فى نفوسهم، والدولة هنا هى الحاكم المستبد وأعوانه. التعذيب العشوائى يناقض قوله تعالى:"ألا تزر وازرة وزر أخرى " وهى قاعدة تشريعية تكررت فى القرآن الكريم خمس مرات ( الانعام 164 الاسراء 15 فاطر 18 الزمر 7 النجم 38 ) لتؤكد على تحريم وتجريم ظلم البرىء .

فى انتهاك صريح لهذه القاعدة التشريعية القرآنية يتم ظلم الابرياء وتعذيبهم، والأمثلة عديدة :
فى تدريب القوات المسلحة والشرطة هناك قاعدة تقول : " السيئة تعم والحسنة تخص" ، ومعناه اذا أخطأ شخص فى المعسكر فان العقاب يحل بالجميع ، بينما اذا أحسن أحدهم فانه وحده ينال المكافأة. فى هذا التدريب يتعرض جندى الأمن المركزى والطالب فى كلية الشرطة للاذلال ممن هم أعلى منه ويقوم باذلال من هم أحدث منه، ويتعلم فنون الظلم وكراهية المواطنين واعتبارهم مجرمين حتى وان ثبتت براءتهم. ليست وظيفته فى حمايتهم وخدمتهم - كما يحدث فى أى بلد ديمقراطى - بل تعذيبهم واذلالهم وارهابهم حتى يسكتوا على حقوقهم الضائعة ويقنعوا بالنجاة من الضرب والحبس و"وجع الراس" وتسود قاعدة خسيسة تقول : " وانا مالى " وبها يتم وأد القيم العليا من الشهامة والنخوة والمروءة والشجاعة والرجولة والتعاون على البر والتقوى ، ويحل محلها ثقافة العبيد وصفاتهم من الأنانية والكذب والخيانة والنفاق والشك والريبة والخوف والتوجس من كل عمل خيرى ، وفكر المؤامرة وتوقع الشر من الآخرين وعدم الوثوق بهم لأن " من عضته الحية يخاف من جر الحبل" , " اللى لسعته الشربة ينفخ فى الزبادى" والسبب ان القاعدة التشريعية للاستبداد تقول " اضرب المربوط يخاف السايب". والمربوط والسايب كلاهما برىء مظلوم اما الظالم فهو الحاكم المستبد ومن حوله من كهنة وكتبة وجند وحكائين ومشعوذين.
حدثت فى حماة بعض الاضطرابات فقام حافظ الأسد بدك حماة على رءوس اهلها جميعا، وتعرض موكب صدام حسين لاطلاق نار من جهة احدى الأحياء السكنية فتم تعذيب الحى السكنى كله، وتمرد بعض الأكراد فقتل مئات الألوف منهم بكل ما لديه من أسلحة حربية – حتى المحرم دوليا مثل الغازات السامة. لوتعاملت أمريكا واسرائيل بمنطق صدام وحافظ الأسد فى مطاردتها للارهابيين لقتلت مئات الألوف من الابرياء فى كل غارة لأن الارهابيين يكل غارة لأن الارهابيين يذوبون فى محيط سكانى متكاثف يتخذونه درعا بشريا لحمايتهم غير مبالين بالخطر الذى يوقعون الآف الناس فيه. تحاول كل من أمريكا واسرائيل – ما استطاعت – ضرب المجرمين وحدهم دون اصابة ابرياء .هذا هو الفرق بين الدول المتحضرة والدول المتخلفة الارهابية.
تتصرف الدولة الاستبدادية مثل أحقر العصابات ، فعندما تعجز عن القبض على مشتبه فانها لا تتورع عن أخذ اهله رهائن - من النساء والشيوخ والأطفال - الذين لا ذنب لهم. لارغام المشتبه فيه على تسليم نفسه . لا يحدث هذا الا فى بلاد المسلمين وغيرهم من دول الاستبداد والفساد. وظيفة الدولة الوطنية الديمقراطية هى حماية الأبرياء وكفالتهم ، ولكن وظيفة الحكم الاستبدادى الخائن هو تعذيب الابرياء واذلالهم حتى يشعر المستبد بالأمان .

الاستبداد عريق فى تاريخ المسلمين وفى التاريخ المصرى.
وبالاستبداد تم افساد التدين لدى الناس عن طريق كهنة الحاكم الذين يعملون على اخضاع الناس للحاكم بمسوغات دينية تخالف حقائق الدين السماوى. فى المقابل يقوم يلجأ المظلوم دائما للدين طالبا العون فلا يجد امامه الا التدين المغشوش الذى يعطى الجنة بديلا فى الآخرة للمسحوقين فى الدنيا. فى مواجهة الظلم ازدهر التصوف ليعطى للمحرومين سلطانا فى الآخرة بالشفاعات والوساطات فى نظير مقابل بسيط هو طقوس التصوف من الرقص والذكر والوجد والمواكب والولائم، عوضت هذه الاحلام الوهمية بؤس الحاضر والعجز عن تغييره ، وأعانت المصريين على الصبر على الظالم قائلين : "الصبر حرق الدكان "،"اصبر على جار السوء لما يمشى أو تاخده داهية". صبروا على الظلم انتظارا للحور العين وشفاعتهم فى الأحباب . ظل التصوف سائدا الى ان نجح عبد العزيز فى نشر الوهابية فى مصر عم طريق الأخوان المسلمين والجمعية الشرعية وانصار السنة والشبان المسلمين ، وأسهم قطار النفط السريع فى تقديم التطرف الوهابى الدموى بديلا عن التصوف وممثلا للاسلام. وهنا اختلفت النغمة ، فالجهاد الأكبر – الصوفى السلبى – تحول الى ارهاب دموى يقتل الجميع ، ولا يتورع عن قتل المسلمين بذريعة التترس بهم أى أخذهم دروعا بشرية، وأصبح الدخول للجنة والتمتع بالحور العين متاحا لكل شاب محروم – ليس بالرقص والذكر والأوراد الصوفية – ولكن بأن يفجر نفسه فى الآخرين – مسلمين كانوا أم غير مسلمين. وبمجرد موته سيجد الحور العين فى أحضانه.
الاستبداد الحديث هو الذى انتج الارهاب ، وهو الذى يحمى ثقافته الدينية من النقاش العلمى.
المواطنون الغلابة لا يزالون ضحايا الاستبداد والفساد ، وضحايا مستقبل غامض يتردد بين استبداد عسكرى حزبى أو استبداد دينى اسوأ وأضل سبيلا.
نفس المأزق تقع فيه الدول الكبرى التى وجدت نفسها فى حرب ضد الارهاب الوهابى السنى. انها تواجه عدوا لا تستطيع تحديده ولا تعرف متى وأين يضرب ليقتل الأبرياء. وحتى فى العراق والأراضى الفلسطينية المحتلة يكون من المستحيل ضرب الارهابيين الذين يختفون وسط زحام الكثافة السكانية العالية – دون اصابة الأبرياء. الارهابيون – طبقا لعقيدتهم فى التترس – جعلوا مواطنيهم الآبرياء دروعا بشرية ، وهم لا يهتمون يحياة مواطنيهم بقدر ما تتحسب الدول المتقدمة لحياة الأبرياء . وهنا وقعت أمريكا واسرائيل فى مأزق. الأسلحة الحديثة تحاول ما أمكنها أن تصيب الهدف الارهابى وحده وهو فى السوق أو فى الشارع ، ولكن تظل هناك نسبة خطأ . اذا وقع ضحايا من الأبرياء سارع الاعلام العربى الى تضخيمه دون أن يسأل احدهم عن سبب الخطأ ؟.ومن الذى يستبيح دماء الأبرياء ويجعل ذلك دينا ؟ ومن الذى زرع شجرة الارهاب وساعد على انتشارها ؟ ومن الذى يمارس دائما قتل وتعذيب وارهاب الأبرياء ليظل فى الحكم مستبدا ؟ من الذى شوه الاسلام وأضاع تشريعاته الحقيقية التى تحمى حقوق الانسان ؟ اذا حاولت الاجابة بصدق فستكون ضيفا فى سجون دولتك التى تتحدث ليلا ونهارا عن عظمة الاسلام.
اجمالي القراءات 22661