"كلما ازددت علماً، ازدادت مساحة معرفتي بجهلي"
الضحك على الذقون
كثرة عدد السكان مع الجودة فضيلة عند الأمم لكن الخطأ أن يكثر العدد بلا نفع ولا إنتاج، والإسلام يحث على طلب الذرية الطيبة الصالحة، ولكن إذا تحوَّلت كثرة النسل إلى عبء اجتماعي صار هذا خطأ في التقدير، ونحن في الشـرق أكثر الأمم نمواً سـكانياً مع ضعف في التربيـة والتعليم، فقد تجد عند الواحد عشرين ابناً لكنه أهمل تأديبهم وتعليمهم فصار سهرهم في دبكة شعبية مع لعب البلوت وأكل الفصفص بلا إنتاج ولا عمل، بل صاروا حِملاً ثقيلاً على الصرف الصحي والطرق والمطارات والمستشفيات، بينما الخواجة يُنجب طفلين فيعتني بهما فيخرج أحدهما طبيباً والآخر يهبط بمركبته على المريخ، وأنا ضد جلد الذات لكن ما دام أن الخطأ يتكرر والعلاج يستعصي فالبيان واجب.
لا زال بعض العرب يرفع عقيرته عبر الشاشات ويقول: "أنا ابن جلا وطلاع الثنايا"، ثم تجده في عالم الشرع لا يحفظ آية الكرسي، وفي عالم الدنيا لم يسمع بابن خلدون وابن رشد، وتجد الغربي سـاكتاً قابعاً في مصنعـه أو معملـه يبحث وينتج ويخترع ويُبدع، أرجو من شبابنا أن يقرأوا قصة أستاذ ثورة اليابان الصناعية «تاكيو أوساهيرا» وهي موجودة في كتاب «كيف أصبحوا عظماء؟» كيف كان طالباً صغيراً ذهب للدراسة في المانيا، فكان ينسلُ إلى ورشة قريبة فيخدم فيها خمس عشرة ساعة على وجبة واحدة، فلما اكتشف كيف يُدار المحرك وأخبر الأمة اليابانية بذلك استقبله عند عودته إلى المطار إمبراطور اليابان، فلما أدار المحرك وسمع الإمبراطور هدير المحرك قال: هذه أحسـن موسـيقا سـمعتها في حياتي!
وطالب عربي في المتوسطة سأله الأستاذ: الكتاب لسيبويه مَنْ ألَّفه؟ قال الطالب: الله ورسوله أعلم، والتمدد في الأجسـام على حسـاب العقول مأسـاة، والافتخار بالآباء مع العجز منقصـة، لن يعترف بنا أحد حتى نعمل ونُنتج، فالمجد مغالبة والسوق مناهبة، وإن النجاح قطرات من الآهات والزفرات والعرق والجهد، والفشل زخّات من الإحباط والنوم والتسويف، كُن ناجحاً ثم لا تبالي بمن نقد أو جرّح أو تهكم، إذا رأيت الناس يرمونك بأقواس النقد فاعلم أنك وصلت إلى بلاط المجد، وأن مدفعية الشرف تُطلق لك واحداً وعشرين طلقة احتفاء بقدومك.
لقد هجر الكثير منّا الكتاب وأصبح يعيش الأمية فلا يحفظ آيةً ولا حديثاً ولا بيتاً ولم يقرأ كتاباً ولم يُطالع قصة ولا رواية، ولكنه علّق في مجلس بيته شجرة الأنساب؛ ليُثبت لنا أنه من أسرة "آل مفلس" من قبيلة "الجهلة"، والوحي يُنادي: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، والتاريخ يُخبرك أن بلال مولى حبشي، وهو مؤذن الإسلام الأول، وأن جوهر الصقلي فاتح مصر وباني الأزهر أمازيغي كانت أمهُ تبيع الجرجير في مدينة سبتة، ولكن النفـس الوثّابـة العظيمـة لا تعتمد على عظام الموتى، لأن العصامي يُشـرّف قبيلتـه وأمتـه وشـعبـه ولا ينتظر أن يُشـرفـه الناس! لقد كان نابليون شاباً فقيراً لكنه جدّ واجتهد حتى أخذ التاج من لويس الرابع عشر، وفتح المشرق وصار في التاريخ أسطورة، وهو القائل: "الحرب تحتاج إلى ثلاثـة: المال ثم المال ثم المال، والمجد يحتاج إلى ثلاثـة: العمل ثم العمل ثم العمل."
لقد أرضينا غرورنا بمدح أنفسـنا حتى سـكِرَ القلب بخمر المديح على مذهب جرير: أَلَسـتُم خَيرَ مَن رَكِبَ المَطايا؟ وقد ركب الآخر بسـاط الريح وإف 16 والكونكورد! ولو اجتمعنا ما انتجنا سيارة «فولكس فايغن» فضلاً عن "كراسيدا". ورحم الله امرُؤًا عرف تقصيره فأصلح من نفسه ولا بد أن تُقنع المريض بمرضه حتى يستطيع أن يُعالج نفسه على أني أعترف بأن عندنا عباقرة ونوابغ يحتاجون لمراكز بحوث ومؤسسات لرعايتهم ومعامل ومصانع لاستقبال نتاجهم.
لقد تركت اليابان الحرب وتابت إلى الله من القتال وتوجهت للعمل والإنتاج، فصارت آيةً للسائلين! سـوف نفتخر إذا نظر الواحد منّا إلى سـيارتـه وثلاجتـه وتلفازه وجوالـه فوجدها صناعـةً محليـة. وأرجو أن نقتصد في الأمسـيات الشـعريـة، فإن عشـرة دواوين من الشـعر لا تُنتج صاعاً من شـعير! يقول نزار قباني: وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسـكن الكتبا؟
وعلينا أن نُعيد ترميم أنفسنا بالإيمان والعمل وتهذيب عقولنا بالعلم والتفكر، وهذا جوهر رسالتنا الربانية الخالدة وطريق ذلك المسجد والمكتبة والمصنع، والخطوة الأولى مكتبة منزلية على مذهب الخليفة الناصر الأندلسي يوم ألزم الناس بإنشاء مكتبة في كل منزل وقراءة يومية مركزة، وهذا خير من مجالس الغيبة والقيل والقال وقتل الزمان بالهذيان!
((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون))