هي ولاشك خطوة ابتدائية على طريق الألف ميل كما يقولون.. حوالي ألف وخمسمائة شاب مصري في مجموعة على الفيسبوك، يدعون لإضراب يوم رأس السنة القبطية، الموافق الجمعة 11 سبتمبر، وقد أصدروا بيانا مبدئياً هذا نصه:
"تعلن مجموعة "أقباط من أجل مصر" عن عميق أسفه للأحداث المتلاحقة التي تحدث ضد مسيحيي مصر والتي تقابل من الدولة باستهانة شديدة وعدم إنصاف وتحيز واضح. في شكل جلسات صلح عرفيه رغم وجود الشبهة الجنائية مما يحفز الجاني على تكرار جريمته طالما لا يÍIacute;اكم على فعلته.
وتدعو مجموعة "أقباط من أجل مصر" لإضراب عام لأقباط مصر يوم الجمعة 11 سبتمبر القادم "عيد رأس السنة المصرية (القبطية)" وذلك تعبيرا عن استياء كل الأقباط من موقف الدولة المخزي تجاه هذه الأحداث ويتمثل إضرابنا في:
1. التزام الجميع منازلهم.
2. فى حالة الاضطرار للخروج من المنزل علينا ان نحرص على لبس ملابس سوداء.
ونناشد كل المنابر الحرة والمؤسسات الحقوقية والقوى الوطنية المصرية المستنيرة وأصحاب الأقلام الجريئة والشريفة مشاركتنا في إضرابنا المشروع ومؤازرنا في مطالبنا العادلة وهى:
1. إقرار قانون موحد لبناء دور العبادة.
2. إلغاء جلسات الصلح العرفية وتقديم الجناة الفعليين إلى المحاكمات العادلة.
وفى حالة عدم الاستجابة إلى مطالبنا الشرعية فسوف لا نرضخ للاساليب المستخدمة حاليا وسنستخدم كل حقوقنا في التعبير عن رأينا بكل الطرق المشروعة.
ليست المطالبة بالحق كفرا وبهتانا
بل هي من الحق حقيقة وبيانا
أقباط من أجل مصر"
لاشك أن أهم ملامح التقدم المصري في الفترة الأخيرة، هي تصاعد الاحتجاجات المدنية السلمية، لمختلف فئات المجتمع المصري، ذلك المجتمع المسجل عليه عبر التاريخ خنوعه وتواكليته، وسهولة انقياده واستسلامه لقدره، مهما كان ظالماً ومتعسفاً، وقد قطع الشعب المصري بالفعل بعض الخطوات المهمة على طريق التأهل للنضال المدني الحضاري، لكن بالطبع مازال الطريق أمامه طويلاً، فتحول مجتمع مستكين إلى مجتمع نشط وفعال لابد وأن يمر بالعديد من الخطوات:
• لابد أولاً أن يستشعر الأفراد ومن ثم المجتمع الظلم الواقع عليهم، والمصريون فيما نزعم لا يستشعرون الظلم إلا فيما يتعلق بانخفاض مستوى المعيشة، ولا يترتب على هذا الشعور لديهم غير التبرم والنقمة الصامتة، التي يمتص الخطاب الديني الرسمي جزءاً كبيراً منها، بحثه على الرضى بالقسمة والنصيب، وبوعود التعويض في جنة الخلد أو ملكوت السماوات (في الخطاب المسيحي).. أما الظلم والتدني فيما يعرفه العالم بحقوق الإنسان، وإهدار شخصية المواطن وكرامته، وسلبه حقوقه الفردية، لصالح جماعية مهيمنة ومنافقة، بالإضافة بالطبع إلى العسف بالحقوق السياسية، كل هذا لا يستشعره المصري، وبالأخص المكون المسيحي (القبطي) في هذا الشعب. . فالجهل بهذه الحقوق يلعب هنا دوراً أساسياً، علاوة على اعتياد الإنسان المصري، والقبطي بالأخص على هذا الهوان، باعتباره أمراً طبيعياً، أو حتى كما لو كان ظاهرة كونية طبيعية، لا يحق لأحد التساؤل عنها أو التبرم منها.
• المرحلة الثانية بعد الشعور بالظلم، هي مرحلة الاقتناع بضرورة السعي لتغييره بالعمل الدؤوب، وليس بالاكتفاء بالدعاء إلى الله، أو بالتماس تكرم الحاكم وتفضله، والاكتفاء بالتلقي السلبي الشاكر أو المتبرم. . الأقباط على وجه الخصوص، قد تمرسوا وفق تربيتهم الكنسية عبر عشرات القرون، على ترك شئونهم بيد البطريرك، فهو المنوط به التفاهم مع الحاكم ومداراته، حتى يتحنن قلبه عليهم، ويأمر بتخفيف بعض ما يثقل كاهلهم. . كان هذا التوجه هو السائد طوال أربعة عشر قرناً من الحكم الإسلامي لمصر، ومازال هو ذات التوجه القبطي في الألفية الثالثة، التي تخرج فيها الشعوب للمطالبة بحقوقها، ومازال الأقباط هانئين مسترخيين تحت عباءة سيدهم البطريرك، متبعين قاعدة أن كل ما يتمكن من الحصول لهم عليه نعمة، وما لم يحصل عليه سيكون مدخراً لحسابهم في ملكوت السماوات.
• المرحلة الثالثة والهامة نحو الفاعلية المدنية، هي تعلم مفاهيم وأساليب النضال المدني السلمي، وفقاً لمفهوم العمل من داخل النظام السائد، كجماعة ضغط على الحاكم، إن لم يكن عبر المؤسسات الرسمية، فباللجوء إلى الشارع بالمظاهرات والاعتصامات. . فمفهوم العمل من داخل النظام باحترام قوانينه ونظمه، يختلف جذرياً عن العمل الجماهيري من خارج النظام، والذي يظهر في تحول التحركات الجماهيرية إلى فعاليات مدمرة وعدائية للنظام وللمجتمع، ولابد في هذه الحالة أن يصاحبها تدمير وتخريب، وعنف مضاد من قبل الحاكم، فيتحول الأمر إلى صراع بين الدولة أو المجتمع، وبين تلك الجماعات الرافضة للوضع القائم. . تدلنا تحركات مختلف فئات الشعب المصري الميدانية في الفترة الأخيرة، علي وعي جدير بالتقدير في هذا الاتجاه، لكن الأقباط كعادتهم بقيوا متخلفين عما يحدث من تطورات بالعالم وبالمجتمع، ونحن نرجع ذلك إلى ميراث القرون الطويلة من القهر، ومن الخوف المبرر تماماً من بطش الحاكم أو بطش الأغلبية، كما يرجع وبنفس القدر وربما أزيد، إلى تلك العزلة داخل الكنيسة القبطية وخطابها التخديري، والمفارق لكل مافي هذه الحياة الدنيا، التي ينظر لها ذلك الخطاب نظرة استعلائية، باعتبار المسيحي هو ابن للسماء، وليس ابناً لهذا العالم الذي وضع في الشرير!!
• المرحلة الرابعة (وربما الأخيرة) في مراحل تفعيل الحراك المدني، هي مرحلة إدراك أهمية عنصر المثابرة (وليس الصبر السلبي)، فالتحرك المدني لا يؤتي أي ثمار من تحرك واحد مهما كان قوته، والعمل في فورات عاطفية متقطعة وفق المناسبات، يعد وعياً جنينياً، يحتاج إلى النمو ليكتمل، ليكون العمل الجماهيري منظماً ومستمراً، دون كلل أو ملل أو تقاعس. . هكذا يمكن أن تتحقق الأهداف المرجوة تباعاً، كنتيجة لنضال طويل، وليس لهبات عاطفية مفاجئة، يعقبها خمود قد يطول.
يرجع ترحيبنا بالتحرك القبطي الداعي لذلك الإضراب الهادئ واللطيف إلى درجة طريفه، إلى أن الأقباط أبعد فئات المجتمع المصري عن أن تكون مؤهلة للدفاع والمطالبة بحقوقها المهدرة بالفعل في هذا العصر السعيد. . وأن يبدأ الأقباط في الحركة، يعني أن يلحق بهم ويقف بجانبهم جميع المستنيرين من أبناء هذا الوطن باختلاف دياناتهم، لمساندتهم في مطالباتهم العادلة، وهذا بالطبع يختلف جذرياً عن السائد حالياً، حيث ينشط المستنيرون من المسلمين في الدفاع عن حقوق مواطنيهم الأقباط، ولا يلتحق بهؤلاء إلا القلة من مثقفي الأقباط، كما نرى من نموذج مجموعة "مصريون ضد التمييز الديني"، فالنشطاء المسلمون في مجال حقوق الإنسان المصري محبطون ولا شك من سلبية الجماهير القبطية وتقوقعها داخل الكنيسة، أو احتشادها كقطيع خنوع تحت أقدام قداسة البابا المعظم، متعلقة عيونه بإشارات عصا رعايته المقدسة.
يحرضنا على التفاؤل الحذر، بدء الأقباط في التحرك ضد ما يمكن تسميته باستبداد قيادات الكنيسة، فلقد صار من الظواهر المتكررة، قيام الجماهير بالدفاع عن كاهن أو مطران، تتصور أنه قد تعرض للظلم وإهدار الكرامة من قبل القائمين على أمور الكنيسة، بغض النظر عن مدى عدالة ما يطالبون به. . ويساعد على تكرار تلك الحالات، ما تفرضه الكنيسة من تكتم على أسباب ما تتخذ من إجراءات ضد هذا الكاهن أو ذالك، متعللة بأنها تفعل ذلك حفاظاً على كرامتهم وسمعتهم، رغم أن ما يحدث بالفعل هو العكس، إذ تهدر كرامة هؤلاء، ويهدر أيضاً حق الأقباط في أن يعرفوا ما يحدث، وفي أن يمارسوا حقهم في تقيم قياداتهم بمختلف مستوياتها، وذلك على أسس عملية حقيقية، وليس على أساس أوهام خطاب مفارق، يمنح للكهنة قداسة لا تمتلكها إلا الملائكة.
فلنأمل أن تكون استجابة الأقباط لدعوة إضراب رأس السنة القبطية هذا محرضة على التفاؤل بقدرة الأقباط والمجتمع المصري عموماً، على التحرك المدني الفعال والمتحضر.. لا أن تضاف إلى قائمة الإحباطات المصرية المكتظة بمحتوياتها.
كما نأمل في تنامي وعي الأقباط بجذور قضيتهم، باعتبارها قضية وطنية بالدرجة الأولى، وليست قضية طائفية منعزلة عما يواجهه المجتمع من إشكاليات، وأن مطالبهم التي صارت معلنة ومحددة بدقة، لا مجال لتحقيقها في ظل أوضاع وطنية متردية في أغلب جوانب الحياة، وأن الطريق للقضاء على معاناة الأقباط هو مجرد رافد من روافد الإصلاح والتحديث لمجمل الحياة المصرية، وإلا فعبث ما تسعى إليه أي فئة أو طائفة منفردة ومنعزلة.