-1-
من خلال معظم التعليقات على كتابات الدعوة الليبرالية، نرى أنها كانت تنمُّ عن جزع وخوف من الليبرالية. وأن هذه الليبرالية شر مستطير، وكارثة عظيمة، يريد الغرب والمستغربون أن يفرضوها على بعض بقاع العالم العربي، لهدم القيم الأخلاقية القائمة، واستبدالها بقيم الغرب الاجتماعية والأخلاقية. وكما نرى، فإن الناحية الأخلاقية والعلاقات الاجتماعية هي ما يهمُّ الحضور العربي، وهو ما يدور النقاش حولها في معظم المجتمعات العربيةe;ة، وينتهي هذا النقاش إلى رفض القيم الأخلاقية والعلاقات الاجتماعية بين الرجل المرأة الغربيين. وكما هو معروف أيضاً وكما سبق ولاحظ المفكر السعودي إبراهيم البليهي، فإننا معشر العرب والمسلمين، ننسى دائماً القيم الأخلاقية الغربية الأخرى، كالحفاظ على المواعيد، وعيار الزمن بمعيار الذهب. فالوقت لديهم من ذهب فعلاً وليس قولاً. ومن قيمهم الأخلاقية كذلك الأمانة، والجدية، والاجتهاد في العمل. فالحضارة الغربية عامة هي نتاج عمل بشري جاد ودءوب ومخلص. وكذلك ننسى قيم أخلاقية واجتماعية أخرى كالنظافة والنظام.. الخ. أما نحن فنركُّز دائماً وفقط على علاقة الرجل بالمرأة، وعلى تموضع المرأة في المجتمع الغربي، هذا التموضع الذي هو نتيجة عدة عوامل اقتصادية، وبيئية، وسياسية، ودينية، وثقافية، مختلفة عما لدينا من هذه العوامل.
-2-
والجمهور السعودي المذعور والخائف والمتردد من الليبرالية كمفهوم عام، معه الحق كل الحق. فهو من أكثر المواطنين العرب خوفاً وذعراً من كل جديد، في المأكل، والملبس، وأدوات الحياة المعاصرة. فالإنسان بطبعه يرفض ويخشى كل جديد. ولكن الجمهور السعودي أشد رفضاً وأكثر خشية من كل جديد، نتيجة أن الجديد في حياة هذا الجمهور في مختلف مناحي الحياة كان قليلاً، إن لم يكن نادراً منذ القرن السادس عشر وحتى مطلع الستينات من القرن العشرين، وربما بعدها بقليل.
-3-
إن هذا الرفض وهذا الخوف من كل جديد، كان نتيجة عوامل جغرافية وسياسية وثقافية كثيرة منها:
1- أن الموقع الجغرافي الصحراوي للمملكة العربية السعودية، أبعدها وعزلها عن كل تيارات الفكر والثقافة العالمية.
2- أن الموقع الديني المميز للمملكة العربية السعودية، جعل الجمهور المتلقي لكل جديد متحفظاً وخائفاً ورافضاً لكل جديد. وهو حال العرب في الجزيرة العربية في بدء الدعوة الإسلامية، ورفض العرب للدين الجديد. كذلك، فإن الأمم ذات التراث العريق، تغدو بنكوصها إلى ماضيها المجيد عاجزة عن قبول التجديد. وقد مرّت السعودية بتجارب كثيرة في رفض الجديد، كرفض استعمال البرق، والهاتف، والسيارة، وجهاز التلفزيون، والصحن اللاقط (الدش)، وغير ذلك. ويقال أن من كان يركب الدراجة الهوائية، التي كان يطلق عليها في بريدة (حمار إبليس)، وتتغطى عنه النساء، ويتعوذ منه الرجال، يعاقب بخمس جلدات ويصادر "السيكل"، وأن مبرر الجلد والمصادرة والمنع، كان من باب رفض الجديد. ويقول عبد الله ناصر العتيبي: "لذلك كانت السعودية حريصة طوال السنوات الماضية على عملية التدرج في عمليات الإصلاح، لضمان تغلغلها بشكل كامل في وجدان المجتمع، خصوصاً أن بعضها يتماس بشكل مباشر مع موروثات خاطئة، كنا نتوارثها كهوية كابراً عن كابر. فالتدرج في التغيير مهم جداً مع الحالة السعودية، فالبيئة المنغلقة التي كانت تضمنا لعقود طويلة، والخصوصية التي نتمتع بها دون سوانا، جعلتا من أمر التغيير المتدرج ضرورة ملحة، وليست ترفاً زمنياً." ويضيف العتيبي قائلاً: "إن رفض الجديد طبيعة من طبائعنا الكثيرة. ورفض التخلي عن القديم أمر مزروع في لاوعينا، والشك والتوجس من كل دخيل جبلة جبلنا عليها." (جريدة "الحياة"، 18/2/2009).
طبعاً، هذا الرفض وهذا الجزع، في تلك الحقبة الزمنية، كان سلوكاً طبيعياً. أما اليوم فهو سلوك مضحك، وباعث على السخرية كذلك. كذلك الحال بالنسبة لليبرالية والحداثة. فما نخشى منه اليوم ونعوذ بالله منه، سوف يصبح غداً من السلوكيات المضحكة، التي تبعث على السخرية. ولنعلم علم اليقين، أننا لن نستطيع الانتقال من خشيتنا ورفضنا لبعض السلوكيات والأفكار، إلى السخرية من هذه الخشية وهذا الرفض، إلا بالمرور بمرحلة الرفض والنبذ والخشية. فالتحقيق شرط شارط للتجاوز. ولكي نتجاوز مرحلة الخشية والرفض، علينا أن نمرَّ بهذه المرحلة لكي نتجاوزها.
إن رفض كل جديد ليس مقصوراً على شعب من الشعوب، أو زمن من الأزمنة. فمعظم شعوب الأرض مرت بهذه المرحلة.. مرحلة رفض كل جديد. ولنا من تاريخنا القديم المثال الحي. فكان الخوف والرفض لكل جديد من طبيعة قريش. فقد رفضت قريش قبل الإسلام الحنيفية، واضطهدتها، ونفت أحد زعمائها من مكة، وهو الشاعر زيد بن نفيل، وذلك حفاظاً على الوثنية وما توفره من ازدهار اقتصادي في ذلك الوقت. كذلك رفضت قريش الدين الجديد حين دُعيت إلى الإسلام خوفاً من فقدان وطنها بسبب الدين الجديد ﴿وقالوا أن نتبع الهدى معك نُتخطَّفُ من أرضنا﴾ (القصص:57).
3- إن التركيب الاجتماعي لسكان المملكة العربية السعودية، قد دفع بالمواطن السعودي في نجد المنعزلة في الماضي البعيد والماضي القريب لأسباب كثيرة، ودفع بالمواطنين في الحجاز الذين جاء معظمهم من جنوب شرق آسيا ومن تركيا وغيرها من البلاد الإسلامية والعربية بقصد الحج أو العمرة، وبقوا في المملكة وتمتعوا بحق المواطنة السعودية بعد ذلك، جعل الجميع في نجد والحجاز يخاف ويرفض كل جديد. ففي نجد كان الخوف من كل جديد، مبعثه ديني- تراثي- اجتماعي. وفي الحجاز كان الخوف من كل جديد مبعثه تجاري- منفعي – ديني. ولكن بعد أن اطمأن الجميع، بدأ الاقتراب والقبول للمرفوض الذي كان يخيف، وكانت الليبرالية مثالاً. فبدأ هذا الاقتراب من الليبرالية الاقتصادية حصراً، والقبول بها. فأنشأ المواطنون، وساهموا بأموالهم في البنوك والبيوتات المالية التي تعمل بالنظام الاقتصادي والمالي الليبرالي الغربي، وحيث لا مفر.