أولا :
اختصت سورة يوسف بألفاظ لم تتكرر ولم ترد إلا في سورة يوسف .. ونتوقف معها بالتدبر والتحليل.
1 ـ يقول تعالى "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ)( يوسف 23 ).
ويبدو لي أن كلمة " هيت " فرعونية الأصل ، وقد حكاها القرآن بالنص الذي قالته امرأة العزيز باللغة التي كانت تتكلم بها ، ولا يزال أ;زال أهل واحة سيوة في الصحراء الغربية المصرية يستخدمون نفس الكلمة في لغتهم الخاصة المنحدرة من أصول فرعونية ، وهم ينطقونها " هت " بكسر الهاء وسكون التاء وهي عندهم تعني الدعوة للمجيء أو" تعال" و " أقبل ".
واستعمل القرآن كلمة " هيت " فأصبح معناها في اللغة العربية " هلم " أي تعال ..
2 ـ ولا يزال أهل سيوة يكررون في حديثهم أيضا " حاش لله " و " حصحص "
و " حاش لله " عندهم بنفس المعنى المعروف فى تأكيد أنه (لم يحدث )، و" حصحص " تعني تأكد .
وورد في سورة يوسف وحدها كلمة (حاش لله): ( " فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ : 31 )، وأصبح في العربية معناها تنزيه الله تعالى ..
وجاء في سورة يوسف وحدها قوله تعالى "قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ)( 51 )، أي ظهر الحق ووضح .. وأصبحت بذلك المعنى في اللغة العربية ..
وتلك الكلمات الثلاث (هيت ، حاش لله ، حصحص) جاءت في كلام المصريين القدماء في قصة يوسف ، وبالتحديد حين قالتها النساء في مواقف شديدة الخصوصية ، وهي بهذا تكون شديدة الدلالة على الموقف الذي تحكى عنه . ثم لم تتكرر في القرآن خارج تلك السورة الكريمة بل لم تتكرر في نفس السورة خارج تلك المواقف بعينها ، وأهل سيوة الذين يحتفظون ببقايا اللغة المصرية القديمة هم وحدهم من بين المصرين اليوم الذين تتكاثر على ألسنتهم تلك الكلمات الثلاث " هيت " حاش لله " حصحص "
وقد أورد القرآن الكريم الكثير من الألفاظ غير العربية ، فارسية وهندية ورومية مثل القسطاس وسندس وإستبرق ، فلا يمنع من كون الألفاظ الثلاثة السابقة من أصول فرعونية .
ثانيا
1 ـ وخصوصية سورة يوسف تنعكس أيضا في قوله تعالى "وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ )( 25 ) . فجاء التعبير القرآني عن الزوج بأنه " سيدها " وذلك تعبير دقيق ينطبق على الوضع الرسمي والاسمي للزوج في مصر القديمة ، وإن كان لا ينطبق تماما على وضع الزوجة المسلمة بالنسبة لزوجها المسلم ..
إن القاعدة العامة في التماثيل الفرعونية أن الزوجة دائما تكون صغيرة بالنسبة لزوجها وحتى بالنسبة لإبنها البكر وذلك يعكس النظرة الرسمية للمرأة حتى لو كانت من الطبقة العليا .. وكان معروفا أنها بعد موت زوجها فإنها تخضع للابن الأكبر أو للوصي على أولادها .. ولذلك فالقرآن يضع التوصيف الحقيقي للزوجة في مصر القديمة حين يقول :( وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ) ، فقد كان سيدا لها وكان ذلك الوضع الرسمي والاسمي ، مع إنه كان خاضعا لها .
وكلمة "سيد " لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة بمعني رفيع القدر وعالي المنزلة ، يقول تعالى عن النبي يحيي : (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ )( أل عمران 39 ).
ولم تأت كلمه " سيد " مضافة إلى ضمير إلا في موضعين ، أحدهما يخص امرأة العزيز: ( وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا) ، والآخر خاص بأصحاب النار : (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا )( الأحزاب 67 )
وحين تضاف كلمة " سيد " إلى ضمير يعود على الغير" سيدها " ، " سيدنا " فهي على الأقل تعني التفضيل وقد تعني كون الأقل قريبا من العبودية لذلك السيد ..
إن الزوج والزوجة جزءان يكمل بعضهما بعضا ، أي متساويان في الإنسانية وليس أحدهما سيدا للآخر بالمفهوم المصري القديم ، والقرآن الكريم يستعمل كلمة زوج ليدل على الذكر كما فى قوله تعالى: ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ )( البقرة 230 ). وتأتي كلمة زوج لتدل على الأنثى أيضا كقوله تعالى : ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ أمسك عليك زوجك)(الأحزاب 37).
صحيح أن للزوج القوامة على المرأة ، ولكنها تعني الرعاية والحماية والإنفاق ولها شروطها (النساء : 34) . فهو نوع من تقسيم المهام بين الزوجين ، ولكن للمرأة شخصيتها وحقوقها وأموالها وميراثها ، بما يجعلها تخالف المفهوم المصري القديم عن المرأة والزوجة . ولذلك كان قوله تعالى " سيدها " تماما في موضعه فى التعبير عن الثقافة المصرية القديمة فى عصر يوسف . ولم يتكرر في موضع آخر في القرآن العظيم . .
ثالثا :
والعجيب أن خصوصية سورة يوسف امتدت لتشمل مصطلحات دينية أساسية ، مثل " رب " و " رسول " و " دين " فاستعمل القرآن تلك الألفاظ الهامة استعمالا خاصا بعصرها التاريخى.
ونتوقف مع كل منها ..
1 ـ يقول تعالى عن يوسف: ( وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) ( يوسف 23 : 24 ).
يوسف يقصد رب العزة حين قال : (إِنَّهُ رَبِّي ) ولم يقصد بالرب هنا عزيز مصر صاحب البيت وزوج المرأة . فالسياق يقضى بذلك حين نقرأه كاملا : (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)
إن كلمة " ربه " ، " ربي " مقصود بها رب العالمين جل وعلا فقط حين تاـى فى سياق حديث يوسف ، حتى في باقي الحديث القرآني عن يوسف : ( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )،( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ( يوسف 6، 100، 101 )
إذن يتحدث يوسف دائما عن " ربه " الله تعالى ..
ويختلف الوضع بالنسبة للمصريين في عهد يوسف ، كانوا يتخذون " الأرباب " مع الله ، وهو يقول لهم يعظهم : (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) ( يوسف 39 ).
وكلمة " الرب " يعني المربَّي المنعم الذي يتولى غيره بالرعاية والتربية والصحبة أويرتبط به ، لذلك يقال "ربات البيوت " أرباب المعاشات ".
ويبدو أن الملك الهكسوسي كان يتمتع بوصف الرب بتلك المقاييس،لذلك يقول يوسف لصاحبيه في السجن : ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ) ( 41 )،أي الملك .. لذا قال يوسف لذلك الساقي : ( وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) ( 42 ).أي قال له اذكرني عند الملك فأنسى الشيطان ذلك الرجل أن يذكر للملك قصة يوسف فلبث يوسف في السجن بضع سنين .. وبعدها جاءه صاحبه بأمر الإفراج عنه ، فقال له يوسف : ( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّلاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) (50) . أذن كلمه : ربك " مقصود بها الملك . وكلمه يوسف " ربي " مقصود بها رب العزة جل وعلا .. وذلك مفهوم حيث كان دين يوسف يخالف دين المصرين ..
والطريف أن امرأة العزيز حين تابت وآمنت تكلمت بنفس الطريقة التي يتكلم بها يوسف: ( قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ )( ـ 53 )
واستعمال كلمة " رب" لغير الله وبهذه الكثرة لم يأت ألا في سورة يوسف فيما يحض الحكاية عن أحوال المصرين وقتها ..
والمؤمن لا يعترف إلا برب واحد هو رب العالمين: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) (الأنعام 164 ).
2 ـ ويقول تعالى يحكي عن يوسف "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ)(50 ).وكلمة الرسول هنا لها استعمال خاص لم يأت في القرآن ألا في ذلك الموضع فقط ، وهى تعني الذي يحمل رسالة من بشر إلى بشر ، بمعنى ساعي البريد .
وذلك يدعونا إلى معرفة المعاني الأخرى لكلمة " رسول " في القرآن الكريم وذلك على سبيل الاختصار
* تأتي كلمة رسول بمعني النبي الذي يرسله الله تعالى للناس .. مثل قوله تعالى "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا )( مريم 51 ).
* وتأتي كلمة رسول بمعني الرسول الذي يرسله الله تعالى للبشر من الملائكة ، والله تعالى يقول عن نوعي الرسل " اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ )( الحج 75 ).
إذن هناك رسل لله تعالى من الملائكة ، ورسل لله تعالى من البشر .
ويقول تعالى عن الرسل الملائكة :(الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا)( فاطر 1) .
والملائكة الرسل أنواع :
منهم ملائكة الوحي يقودهم جبريل : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ
) ( التكوير 19 ـ ) ..
ومنهم الملائكة التي تسجل الأعمال لكل إنسان :( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)( الزخرف 80 )
ومنهم ملائكة الموت : ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) ( الأعراف 37 ).
* ويأتي " الرسول " بمعني الرسالة السماوية أو الكتاب السماوي ..
ويكون متداخلا معناه مع الرسول النبي وذلك ما نفهمه من قوله تعالى: ( وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) (آل عمران 101 ). فالآيات القرآنية هي الرسول القائم بيننا إلى قيام الساعة ، وكانت في عهد النبي أقرب إلى معني الرسول محمد عليه السلام ...
وتأتي كلمة " الرسول " شديدة الوضوح في أنها الكتاب الحكيم : ( وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ )( النساء 100 ) .
فقوله تعالى :( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا) حكم مستمر من عهد الرسول محمد إلى قيام الساعة ، ولأن الرسول محمدا قد مات فأن المقصود هنا بقوله تعالى ( مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي الله وكتابه ورسالته .. لأنه بعد موت النبي فالرسول القائم بيننا هو كتاب الله ورسالته ...
*وتـأتي كلمة الرسول بمعني كلام الله تعالى الإلهي ، وكلامه تعالى صفة إلهية من صفاته جل وعلا ، وقد جاء ذلك المعنى في قوله تعالى : ( لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) ( الفتح 9 ) . فكلمة الرسول هنا تعني كلام الله تعالى فقط ، لذا عاد الضمير على مفرد فقال " وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ " ولو كان الرسول هنا يعنى النبي أو شيئا مع الله لقال " تعزروهما وتوقروهما .." ومعلوم أن التسبيح لا يكون إلا لله تعالى الواحد بذاته الأحد بصفاته ... جل وعلا !!
3 ـ ونعود إلى سورة يوسف وألفاظها الخاصة .. ونأتي إلى كلمة " دين "
يقول تعالي "فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ )(يوسف : 76 )..
كلمة " دين الملك " هنا لها استعمال خاص ، ليس مقصودا به الدين والعقيدة ، وإلا فكيف نتصور أن يأخذ يوسف أخاه إلى دين الملك المشرك ويكون ذلك بتدبير الله تعالى ...
أن كلمة " دين " هنا تعني الطريق ،أي أن يوسف أخذ أخاه في طريق الملك أو إلى الأوساط الملكية بتعبير عصرنا .. " وبنيامين " سار في " طريقه " إلى الملك ولم يأخذ " طريقه " إلى فلسطين ..
إن كلمة " دين "في معناها الأصلي تعني الطريق المادي الذي يسير فوقه الناس ..ثم صار يعني الطريق المعنوي الذي يقطعه الإنسان طيلة حياته إلى الله تعالى واليوم الآخر، ومن الناس من يأخذ الطريق المستقيم فلا يتخذ وسائط بينه وبين الله ، ومنهم يجعل طريقه إلى الله مليئا بالوسائط والشفعاء .. والدين هو ذلك الطريق المعنوي الذي يصلنا بالخالق جل وعلا . سواء كان صراطا مستقيما أو معوجا ..
ولذلك فإن من معاني الدين : السبيل والصراط وهي أيضا بمعني الطريق ..
ولكن " الدين " يأتي دائما في القرآن بمعنى الطريق المعنوي العقيدي، والاستثناء الوحيد هو في سورة يوسف ( مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ )،وفي سورة التوبة:( لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ ) ، فكلمة الدين هنا تعني الطريق الحسي الذي لا علاقة له بدين الله تعالى .
وقد عرفنا موضع كلمة ( الدين) في سورة يوسف .. ونتوقف مع معناها في سورة التوبة ..
إن العادة أن يسيء الناس فهم قوله تعالى ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )( التوبة 122 ) ويرون أن الآية تحث على طلب العلم والتفقه فيه . مع أن ذلك المعنى يناقض العقل والمنطق ، فالآية نزلت على المؤمنين في المدينة فهل كانت تدعوهم إلى أن يطلبوا العلم خارج المدينة ؟ وإلى أين يذهبون وحولهم المشركون الذين لا علم لهم بالإسلام؟ ولماذا يذهبون خارج المدينة والرسول عليه السلام معهم يتلقون عنه الوحي والعلم ؟ لقد كانت المدينة هي بؤرة العلم بالإسلام في عصر النبي ، فكيف ينفرون منها إلى غيرها ؟ .
إن سوء الفهم لكلمة " ليتفقهوا في الدين " هو السبب ، فالدين هنا يعني الطريق المادي الحسّي ، والتفقه يعني التعرف ، وهذه الآية وما قبلها لا تتحدث عن طلب العلم وإنما تتحدث عن القتال وأساليب الحرب ، قبلها آيتان في الحث على الجهاد "مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )
ثم يوضح لهم رب العزة أسلوب الحرب فيأمرهم ألا ينفروا للقتال كافة ، ولكن عليهم أن يرسلوا فرق استطلاع تتعرف على الطريق ثم ترجع لتنذر وتحذر : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) . وتأتي الآية التالية بعدها في قتال الأعداء المتاخمن للمدينة الذين يهددونها : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ذلك هو المعني الحقيقي ، وبؤكده إن كلمة ( نفر ) لا تستعمل في القرآن إلا في القتال والجهاد.
و كلمة " يتفقه" ومشتقاتها تعني التعرف والعلم فاكتسبت في العصر العباسي معني تعلم الشرع ... وأصبحت علوم الشرع تعني " الفقه" وذلك يخالف النسق القرآني لأن الله تعالى يقول عن المشركين "لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)( التوبة 81 ) فهل هي دعوة للمشركين لأن يصيروا أئمة في الفقه ؟ أم هي وصف لهم بعدم العلم والمعرفة على سبيل الإجمال ؟...