تقدم خاطف لليرة السورية... عودة الثقة تدفع العملة إلى التعافي

في الإثنين ١٦ - ديسمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

سجلت الليرة السورية تحسناً كبيراً خلال الأيام الأخيرة، في تقدم خاطف شبيه بما حققته قوات المعارضة خلال أيام قليلة انتهى بسقوط النظام وهروب بشار الأسد، يوم الثامن من ديسمبر/كانون الأول الحالي، إذ يسيطر التفاؤل على الكثيرين بعودة الاستقرار إلى الاقتصاد والأسواق، على الرغم من حالة الانهيار المالي والاقتصادي التي خلفها النظام وراءه، لتنتقل انعكاسات التحسن سريعاً إلى أسعار السلع لتسجل هبوطاً لافتاً وصل في بعضها إلى 33%.

وتشهد العملة السورية تحسناً متتالياً على مدار الأيام الماضية، مسجلة نحو 11 ألف ليرة مقابل الدولار في المتوسط، وفق متعاملين في سوق الصرف، بينما كان سعرها يدور في نطاق بين 11.5 ألفاً و12.5 ألف ليرة للدولار الواحد، السبت الماضي، وبين 14 ألفاً و15 ألف ليرة خلال تعاملات الخميس الماضي، وذلك بعد أن تجاوز سعر صرف الدولار 30 ألف ليرة في دمشق ونحو 40 ألف ليرة في حلب قبل عشرة أيام.

يرى الخبير الاقتصادي نعمان أصلان من دمشق أن "العامل النفسي" يأتي في مقدمة أسباب تحسن واستقرار سعر أي عملة، مضيفاً "في الوقت الذي تعززت خلاله الثقة في الوضع الاقتصادي والأمني في سورية، رأينا قفزات سريعة لليرة.. ما يحدث ربما لا يخضع لقوانين الاقتصاد لكن أمل السوريين، وفق ما يرون بعد سقوط النظام المخلوع، من استقرار وتشاركية وبدء دوران عجلة الاقتصاد، دفع كثيرين لشراء الليرة بعد النفور والهروب من اكتنازها، الأمر الذي حرك الطلب بالأسواق عليها، فتحسنت وما تزال".

يلفت أصلان في تصريحات لـ"العربي الجديد" إلى ضرورة إصدار بعض القرارات من المصرف المركزي، كإلغاء قرارات تجريم التعامل بالدولار وتوحيد سعر الصرف وقوننة عمل شركات الصيرفة، منبهاً إلى أن فترة المخلوع الأسد شهدت ملاحقات للمتعاملين بالعملات الأجنبية، ما زاد من السوق السوداء والتلاعب بالأسعار، كما أن انتشار شركات الصرافة غير المرخصة، قد يعيق خطط السلطات النقدية مستقبلاً لضبط سعر الصرف وتوحيده.

ويكشف عن أن سورية وحتى سقوط الأسد فيها خمسة أسعار للدولار "دولار التصدير، دولار بدل التجنيد، دولار الرسمي عبر النشرة، دولار السوق السوداء، دولار الموازنة.. وربما غيرها". ولا يستبعد زيادة الإقبال على شراء العملة السورية، ولو من قبيل التجارة والربح، إلا أن عدم تحديد زمن لتبديل الأوراق النقدية، خاصة التي تحمل صورة بشار وأبيه، ربما ما يزال عامل توجس في السوق السورية.وربما الغريب واللافت، في رأي اقتصاديين، أن هذا التحسن الكبير بسعر الليرة تحقق، قبل ظهور ملامح انفراج حقيقي، سواء مساعدات دولية أو دعم المصرف المركزي بإيداعات خارجية أو حتى إقلاع الإنتاج وبدء التصدير وقدوم السياح، بل يشيرون إلى أن الأسباب الحقيقية وراء تدهور سعر الصرف "لم تزل قائمة"، ربما أهمها إغلاق الحدود والعقوبات الأوروبية والأميركية التي تخلق مخاوف لدى أي مستثمر أو مضارب، كذلك نفاد الاحتياطي الأجنبي والذهب من المصرف المركزي في دمشق، بعد التبديد خلال الثورة وسرقة ما تبقى وإخراجه إلى حيث هرب رأس النظام.

يؤكد الخبير الاقتصادي السوري عماد الدين المصبح، أن الثقة أساس سعر النقد، ولطالما بدأت تتزايد بعد هروب الأسد، وبدء مؤشرات مد اليد لسورية سياسياً ودبلوماسياً وفي صورة إعانات، فهذه مؤشرات تلتقطها السوق النقدية والمتعاملون في سوق الصرف، وتؤدي إلى قفزات سريعة في سعر العملة.

ولا يستبعد المصبح استمرار التحسن ليهبط سعر الدولار إلى نحو 5 آلاف ليرة خلال أسبوعين، إن استمر الاستقرار الأمني وتتالى فتح الشركات والمؤسسات، مؤكداً أن بدء عودة الاستثمارات المهاجرة ورجل الأعمال من الخارج، وإعلانهم ذلك، سيكون بداية تأريخ للاقتصاد السوري ومرحلة جديدة للإنتاج والليرة، لأنه وقتذاك، سيعطي انطباعاً عاماً للأموال الخارجية التي تراقب بحذر هذه الفترة، إلى أين ستؤول الأمور.

ويقول: "عودة رؤوس الأموال والاستثمارات، ثقة ودليل على الأرض، وهي تختلف عن الثقة المتولدة عن القرارات أو الخطابات الرسمية". ويضيف أن استشعار المضاربين، وحتى المدخرين، أن المعونات والمساعدات الخارجية آتية إلى سورية، وستبدأ الاحتياطيات تعود إلى المصرف المركزي، فهذا يعطي ثقة للاكتناز وادخار الليرة السورية.

وعن الأسباب الاقتصادية، عدا النفسية والثقة والتوقعات، يشير المصبح إلى أن "زيادة ضخ العملات الأجنبية، خلال عودة السوريين إلى بلدهم سبب مهم، لأنه توازى مع زيادة الطلب على الليرة.. في جميع الأحوال، ما يجري أكثر من مبشر ولا بد أن تبدأ آثاره تنعكس على أسعار السلع والمنتجات وبالتالي تحسين معيشة السوريين".

وكان رئيس الحكومة الانتقالية في سورية، محمد البشير قد كشف عن "خلو المصرف المركزي من الاحتياطي الأجنبي"، مضيفاً لصحيفة كورييري ديلا سيرا الإيطالية قبل أيام "في الخزائن لا يوجد سوى الليرات السورية التي لا تساوي شيئاً تقريباً. دولار أميركي واحد يشتري 35000 من عملتنا. ليس لدينا احتياطيات أجنبية، أما القروض والسندات فلا نزال نجمع البيانات. لذلك نعم، مالياً، نحن في حالة سيئة للغاية".إلا أن البشير بث الأمل لدى السوريين، داعياً الجميع إلى العودة والعمل قائلاً: "أناشد كل السوريين في الخارج، سورية الآن بلاد حرة استحقت فخرها وكرامتها.. عودوا"، موضحاً أن أولى أوليات الحكومة الانتقالية هو إعادة الأمن والاستقرار إلى كافة المدن السورية.. لقد أرهق الناس الظلم والطغيان، ولا بد من إعادة بسط سلطة الدولة للسماح للناس بالعودة إلى أعمالهم واستئناف حياتهم الطبيعية".

وأما الهدف الثاني في رأي البشير فهو إعادة ملايين اللاجئين السوريين المنتشرين حول العالم. وسوف يساعد رأس مالهم البشري وخبرتهم في إعادة تشغيل البلاد قائلاً: "عودوا.. نحن بحاجة إلى إعادة البناء، حتى تقف بلادنا على قدميها مرة أخرى، ونحتاج إلى مساعدة الجميع".

ليكون التخطيط الاستراتيجي ثالث أوليات الحكومة التي عبرها سيبدأ العد التصاعدي في سورية، إذ لا يمكن للسوريين أن يعيشوا في ظل عدم استقرار الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والغذاء والمياه، موضحاً: "نحن حكومة انتقالية، لكن يجب أن نبدأ بمعالجة هذه القضايا. عندما دخلنا حلب وحماة ودمشق، كان السوريون يعيشون في ظلام مزدوج، في ظل النظام والانقطاع المستمر لشبكة الكهرباء، وهذا أمر غير مقبول على الإطلاق".

ويعقّب الاقتصادي عماد الدين المصبح، أن بدء عودة الخدمات وإقلاع الإنتاج، سيعززان "فكرة العودة" لدى السوريين، نازحين ومهاجرين، ولكن لا بد من الالتفات إلى أن معظم العائدين هم من العمال والأسر، وليس من رجال الأعمال والمستثمرين، لذا، لا بد أن تفكر الحكومة الانتقالية في مؤتمر وطني، مؤتمر استثمار أو أي حل تراه، لتعود الأموال وتشغل العائدين".

بدوره، يقول الإعلامي الاقتصادي قاسم الشريف من دمشق: "منذ ليلة سقوط الأسد، بدأ التعافي المستمر لليرة، لا سيما مع عودة لاجئين من لبنان وتركيا وبعض الدول الأخرى، وكلهم يحملون نقداً غير سوري، الأمر الذي زاد الطلب على الليرة، فضلاً عن قرار الحكومة الانتقالية بالبقاء بالتعامل بالليرة كان مهماً".

وعن انعكاس ذلك على السوق والأسعار والخدمات، يضيف الشريف لـ"العربي الجديد" أن زيادة ساعات وصل الكهرباء وعرض المحروقات، كانتا الأساس، كما أن تسارع التعافي أخاف المحتكرين من خسائر فزاد الطرح السلعي في السوق، ولعل زيادة عدد العائدين والزوار زاد من الاستهلاك وحركة الأسواق، "المشهد العام مشجع".وحول أسعار السلع الأساسية في السوق، أمس الأحد، يوضح أن الأسعار "بشكل عام" تشهد انخفاضاً، أولها التي كانت بالمخازن، فالسكر على سبيل المثال هبط سعر الكيلوغرام من أكثر من 15 ألف ليرة قبل أسبوعين إلى 13 ألفاً، يوم الخميس الماضي، ثم إلى نحو 10 آلاف ليرة، أمس. والسكر، في رأي الشريف مؤشر يطاول السمن والزيت والمنظفات، وحتى الخضروات والفواكه والتي ربط زيادة عرضها بتراجع التصدير إلى دول الخليج عبر معبر نصيب الحدودي مع الأردن.

ويضيف أن تراجع الطلب على الذهب والدولار، هو مؤشر الثقة الأهم الذي بدأت آثاره تنعكس على الأسواق، وذلك على عكس ما كان خلال الأعوام الأخيرة من حكم الأسد المخلوع، وقت كان الطلب على العملات والتخلي عن الليرة، ميزة الأسواق.

وبدأ تراجع سعر الليرة، بالتزامن مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وقت لم يزد فيه سعر صرف الدولار عن 50 ليرة، حيث أخذت الليرة مع نهاية كل عام تستنزف من قيمتها، لتسجل نهاية عام 2012 نحو 97 ليرة للدولار. لتبدأ التراجعات الكبيرة منذ عام 2013 حيث وصل سعر صرف الدولار في مارس/آذار إلى نحو 120 ليرة وتجاوز سعر الدولار 300 ليرة بنهاية العام.

وتعافت الليرة قليلاً عام 2014 فراوح سعر الصرف بين 170 ليرة منتصف العام و220 ليرة نهاية 2014، لتعاود التراجع في 2015 إلى 380 ليرة للدولار، وتستمر في الهبوط صوب 640 ليرة للدولار في 2016، قبل أن تعاود التحسن في العام اللاحق لتسجل 500 ليرة للدولار في المتوسط وتحافظ على استقرارها هذا في 2018، لتبدأ بعدها مشوار التهاوي الكبير خلال الأعوام الأخيرة، إذ هوى سعر الصرف عام 2020 من 900 ليرة مقابل الدولار إلى 2800 ليرة واستمر التراجع عام 2021 ليصل سعر الدولار إلى 3600 ليرة. ويقفل عام 2022 على سعر صرف بنحو 6 آلاف ليرة مقابل الدولار.

وتلقّت العملة السورية صفعة الانهيار الأكبر عام 2023، بعد أن تراجعت من نحو 6 آلاف ليرة مطلع العام إلى نحو 14.2 ألف ليرة مقابل الدولار. واستقر سعر الصرف خلال عام 2024 بين 14 و15 ألف ليرة للدولار، إلى ما قبل هروب الأسد، وقت بدأت عمليات تحرير البلاد من حلب "عاصمة سورية الاقتصادية" لتهوي الليرة إلى نحو 40 ألفاً مقابل الدولار، ويبدأ التعافي من بعد سقوط النظام.
اجمالي القراءات 179