في مشهد بالغ التعقيد والمتشابك، تظهر جملة من السياسات الحكومية التي كان لها أثر بالغ في إهدار الموارد الطبيعية لبلد يعاني من أزمة طاقة خانقة.
فقد أصبح ملف تصدير سماد اليوريا أحد أبرز الأمثلة على الخسائر المالية الفادحة التي تكبدتها الدولة المصرية، بما يهدد مستقبل الاقتصاد الوطني في وقتٍ عصيب.
والمثير في هذه القصة هو استمرار هذه السياسات في ظل ما يعانيه قطاع البترول من أزمات مالية حادة قد لا تدركها الجهات المعنية.
الغاز الطبيعي في مصر: بين الاستيراد والتصدير
منذ فترة طويلة، وبالتحديد بعد تراجع الإنتاج في حقل ظهر للغاز الطبيعي، شهدت مصر أزمة خانقة في توفير احتياجاتها المحلية من الغاز.
هذه الأزمة دفعت الحكومة إلى اتخاذ خطوات غير مسبوقة، حيث أوقف قطاع البترول تصدير الغاز الطبيعي واتجهت الدولة إلى استيراد شحنات ضخمة من الغاز والمازوت لتلبية احتياجات السوق المحلي، إضافة إلى توريد الشحنات اللازمة لمحطات الكهرباء.
وفقًا لتقارير رسمية، تجاوزت فاتورة استيراد الوقود خلال الربع الثالث من عام 2024 أكثر من 52 مليار جنيه شهريًا.
ورغم ذلك، ورغم هذه المعاناة، إلا أن المسؤولين بوزارة البترول لم يتخذوا أي خطوات جادة لمعالجة الخسائر الناتجة عن استمرار تصدير سماد اليوريا إلى الخارج.
حيث يتم تصدير الغاز الطبيعي بشكل غير مباشر من خلال تحويله إلى سماد اليوريا، الذي يُصدر بأقل من قيمته الحقيقية مما يكبد الدولة خسائر مباشرة وغير مباشرة.
كيف يتم إهدار الغاز؟
النظام القائم حاليًا في تصدير سماد اليوريا يعتمد على بيع الغاز الطبيعي المستورد لشركات الأسمدة بمعدل 3.7 دولار فقط لكل مليون وحدة حرارية، في حين أن تكلفة الغاز المستورد اليوم تعادل 13.5 – 14 دولارًا للمليون وحدة حرارية.
وهو ما يعني أن الدولة تتحمل خسارة مباشرة تصل إلى 9.8 دولار لكل مليون وحدة حرارية. وعندما يتم تحويل الغاز إلى سماد اليوريا، تُصدر الشركات أكثر من نصف إنتاج مصر للخارج، محققة عائدًا صافيًا لا يتجاوز 4 دولارات للمليون وحدة حرارية، ما يعني أن الاقتصاد المصري يخسر 5.8 دولار لكل مليون وحدة حرارية، وهي خسارة جسيمة لو كانت عوائد تصدير الغاز تعود إلى خزينة الدولة بالكامل.
المفارقة في السياسات الحكومية
بالرغم من الوضع الكارثي في قطاع الغاز والبترول، يصر وزير البترول الجديد على تعزيز الاستثمار في قطاع الأسمدة. الوزير يدعو إلى زيادة إنتاج الأسمدة عن طريق إنشاء شركات جديدة وتطوير الشركات الخاسرة، كما يدعو إلى استقدام ناقلة لإعادة تغييز الغاز بخلاف الموجودة بالفعل في العين السخنة، بينما واردات مصر من الغاز تبلغ 1.2 مليار قدم مكعب يوميًا بسعر 11 دولارًا لكل مليون وحدة حرارية.
في حين أن مصر تقوم بتصدير سماد اليوريا بأسعار أقل بكثير من التكلفة الحقيقية، وهو ما يعكس استمرار الفشل في الاستفادة المثلى من الموارد الوطنية.
أين وزارة التخطيط وأين الرقابة؟
في ظل هذه الفوضى التي تضر بالاقتصاد الوطني، يتساءل كثيرون عن دور وزارة التخطيط ومستشاري رئيس الوزراء في مواجهة هذه الأزمات.
لماذا لا تتخذ الحكومة خطوات عملية لتقليص الفجوة بين الإنتاج المحلي واحتياجات السوق؟ ولماذا لا يتم معالجة الوضع الاقتصادي بشكل شامل لتحقيق نهضة حقيقية؟
حيث لا يجوز أن تظل سياسات الدولة تعتمد على نهج “الجزر المنعزلة”، الذي يسبب المزيد من الأزمات، خصوصًا في وقتٍ تواجه فيه الدولة نقصًا كبيرًا في مواردها الطبيعية.
أين الحلول؟
العديد من الخبراء والمراقبين يطالبون بضرورة إجراء مفاوضات مع شركات الأسمدة ووضع معادلة سعرية عادلة تأخذ في الاعتبار تقلبات أسعار الأسمدة العالمية وأسعار الغاز المحلي.
من الضروري أن تتخذ الحكومة خطوات جادة لتقليص الخسائر الكبيرة التي يتسبب فيها تصدير سماد اليوريا. كما ينبغي تشكيل مجلس أعلى للطاقة يضم كبار الخبراء في صناعة البترول والطاقة، مع التركيز على استراتيجيات جديدة تهدف إلى تحسين استغلال موارد الغاز المصري بشكل كامل.
هل من حلول حقيقية؟
وتبقى تساؤلات مشروعة: هل يعقل أن المسؤولين، مثل المهندس كريم بدوي، لا يدركون حجم الخسارة التي يتعرض لها قطاع البترول في ظل استمرار تصدير سماد اليوريا إلى الخارج؟ ولماذا لا يوجد حل جذري لهذه الأزمة التي تكبد خزينة الدولة مليارات الدولارات؟
الإجابة على هذه التساؤلات تظل غائبة حتى الآن، فيما يظل المواطن المصري هو الأكثر تضررًا من هذه السياسات التي تهدر ثروات الوطن دون أي فائدة حقيقية له.
إن استمرار هذا الوضع يُعد تهديدًا حقيقيًا للاقتصاد المصري، وقد يساهم في تفاقم الأزمات المالية التي تعاني منها الدولة. وفي ظل الظروف الراهنة، فإن الإصلاح الحقيقي يتطلب من الحكومة التحلي بالشفافية واتخاذ قرارات حاسمة لمراجعة السياسات الاقتصادية بما يخدم المصلحة العامة.