رحيل جماعي للسودانيين من مصر.. السلطات الأمنية شّنت حملات أمنية على مدارسهم وهذه وجهتهم الجديدة
أجبرت التضييقات التي فرضتها السلطات المصرية على المدارس المجتمعية السودانية الكثير من اللاجئين السودانيين في مصر على مغادرة البلاد، إذ اختار بعضهم العودة إلى بلادهم بينما اختار آخرون التوجه إلى بلدان أخرى مجاورة مثل ليبيا، وسط مخاوف من تأثير ذلك على مستقبل الأجيال الشابة من اللاجئين السودانيين.
وقالت قانونية سودانية مهتمة بأوضاع اللاجئين السودانيين في مصر، رفضت الكشف عن اسمها لأسباب أمنية، إن وجود معدلات أمية كبيرة بين السودانيين أثناء تواجدهم في مصر بعد إغلاق المدارس المجتمعية، "أمر لا يصب في صالح الأمن القومي المصري أو السوداني"، وفق ما صرحت به لـ"عربي بوست".
وكشفت القانونية السودانية عن تخوفات لدى الجالية من خروج الأجيال المستقبلية للسودانيين من المنظومة التعليمية المصرية والسودانية بسبب التعنت المصري في السماح بإتاحة عمل المدارس السودانية على أراضيها وقت الحرب، وقد يكون لذلك تأثيرات سلبية على علاقة البلدين مستقبلاً.عودة اللاجئين السودانيين في مصر إلى بلادهم
تشير القانونية إلى أن الشهرين الماضيين شهدا عودة كبيرة من اللاجئين السودانيين في مصر إلى بلادهم ومنهم من بحث عن ملاذات أخرى للجوء، أبرزها إلى ليبيا بسبب التعليمات التي أصدرها وزير التعليم الليبي بتسهيل الإجراءات لدخول الطلاب السودانيين للمدارس الليبية، مشيرة إلى أنه يصعب تحديد أعداد السودانيين الذين عادوا مرة أخرى إلى بلادهم ولكن الكثيرون ممن تعاونت معهم لم يستطيعوا توفير فرص عمل.
وأوضحت المتحدثة لـ"عربي بوست" أن هناك أرباب أسر على صلة بها قرروا العودة للعمل في السودان مع ترك أسرهم في مصر على أمل توفير مصروفات معيشتهم لا تعليمهم، وآخرون رحلوا إلى ليبيا للحصول على فرص عمل تقلل من معاناة أبنائهم في مصر.
وتؤكد القانونية توافد عدد ليس بقليل عليها لمساعدتهم على الهجرة لدول أوروبية أو عربية والتعرف على شروط تلك الدول لاستقبالهم، وأرجعت ذلك لأسباب عديدة شخصية تتعلق بصعوبات الحياة المعيشية في مصر وتراجع القدرة المالية وعدم توفر التعليم الذي يعد أولوية بالنسبة للسودانيين.
بينما أشارت إلى أن العودة الطوعية لآلاف اللاجئين السودانيين في مصر لا ترتبط بتحسن الأوضاع الأمنية في السودان، إذ أن جميع معطيات اللجوء إلى مصر مازالت كما هي في ظل استمرار المعارك المحتدمة والسلب والنهب والاعتداءات ومختلف أشكال الانتهاكات.
وأضافت إلى أن احتياجات الإنسان تتمثل أولاً في البحث عن مناطق آمنة وبعدها التفكير في الطعام والشراب وبعدها توفر سبل الراحة ثم التعليم والعلاج، وحين أدرك السودانيون بأن عملية التعليم أضحت صعبة في مصر جراء الإجراءات الحكومية التي ترفض السماح للمدارس المجتمعية بالعمل وضعف قدرات السفارة السودانية نحو ترخيص أكبر قدر ممكن من هذه المدارس لاستيعاب الطلاب يجعل الحل في الرحيل.
وأشارت إلى أنه رغم أن الظروف غير مواتية لذلك، لكن وجود مناطق لم يصل إليها القتال بعد يشجع على العودة، كما أن دعاوى العودة التي تصاعدت الشهر الماضي إثر تقدم الجيش في العاصمة الخرطوم كانت عاملًا مهمًا كذلك.
كما أوضحت أن السودانيين مهما بحثوا عن أماكن أخرى للجوء فإن مصر تبقى الأفضل حالًا بسبب اللغة والتقارب الفكري والديني، كما أن القاهرة تتيح مساحات كبيرة لحركة اللاجئين، لكن المواطن السوداني "يخونه جيبه" بمعنى أنه يواجه مشكلات مالية نتيجة طول فترة اللجوء ونفاذ المدخرات.
إضافة إلى مشكلات التعليم التي لا يوجد لها حلول سواء من الحكومة المصرية أو السودانية، بعكس الصحة مع إتاحة المستشفيات الحكومية للاجئين السودانيين مقابل رسوم إضافية عن التي يدفعها المصريون لكنها في النهاية ليست مكلفة مثل التعلم.واقع صعب" رغم الحصول على الإقامة
سارة الحلو، مواطنة سودانية كنا على تواصل معها منذ أن وطأت قدميها أرض مصر، وهي ولية أمر لثلاثة أطفال في مراحل التعليم المختلفة، وجدت نفسها أمام خيارات جميعها صعبة مع بدء العام الدراسي الجديد في مصر قبل شهر ونصف تقريبًا.
إذ أنها فشلت في إلحاق أبنائها بأي من المدارس الحكومية المصرية التابعة لإدارة العمرانية التعليمية بمحافظة الجيزة، حيث مقر إقامتها، لعدم وجود كثافات، والأمر ذاته اصطدمت به حينما قررت التقديم لهم بإحدى المدارس التجريبية (حكومية بمصروفات).
ورغم أنه كان عليها أن تدفع 20 ألف جنيه مصري لأبنائها، لكن لم يتم قبول الطلاب أيضًا بسبب الكثافة، ولم يكن بمقدورها دفع مبلغ 150 ألف جنيه مصري (نحو 3 آلاف دولار أمريكي) لإلحاقهم بأي من المدارس الخاصة أو الاتجاه للتعليم الدولي، قبل أن تقرر العودة مرة أخرى إلى السودان.
تروي المواطنة السودانية قصتها منذ أن هربت من الحرب قائلة: "قبل عام تقريبًا قررت أن أترك منزلي في ولاية الجزيرة التي وقعت تحت سيطرة قوات الدعم السريع والاتجاه نحو الحدود المصرية السودانية، ورغم صعوبات الدخول بالطرق الرسمية إلا أنها تمكنت من ذلك بصحبة زوجها وأبنائها الثلاثة".
حافلات لنقل اللاجئين السودانيين في مصر الراغبين في العودة لبلادهم
حافلات لنقل اللاجئين السودانيين في مصر الراغبين في العودة لبلادهم
وأضافت أنه بعد أن وصلت "كان العام الدراسي الماضي قد انطلق بالفعل وألحقت أبنائها بإحدى المدارس المجتمعية التي تقوم بتدريس المنهج السوداني إلى أن حصلت على الإقامة بعد شهور من المعاناة، وكانت تدرك أن مشكلتها قد تم حلها وأنه أضحى بمقدورها توفير فرص تعليم جيدة لأبنائها، لكن ذلك لم يحدث".
وتضيف المتحدثة أنها وجدت في دراسة أبنائها المناهج المصرية حلاً اضطراريًا بعد أن شنت الأجهزة الأمنية بمحافظة الجيزة حملة على المدرسة التي التحق بها أبناؤها لتعليم المنهج السوداني في شهر يوليو/تموز 2024، بمقتضاها تم إغلاقها رغم أنها كانت وعاءً مهمًا لتعليم نحو 400 طالب في مراحل التعليم المختلفة. وبعد أن قررت التوجه إلى المؤسسات التعليمية المصرية لإلحاق أبنائها اصطدمت بالواقع المرير مع زيادة الكثافة وكذلك ارتفاع تكاليف تسجيل الطلاب.
وأشارت إلى أنها وجدت أمامها فرصة وحيدة لإلحاق أبنائها بأي من المدارس الخاصة المصرية، لكن البعض نصحها بالتعليم الدولي ووجدت أن التكلفة ستكون باهظة للغاية لأن أبناءها مازالوا في مراحل التعليم المبكرة، لتقرر في نهاية سبتمبر الماضي العودة مرة أخرى إلى السودان.
عادت سارة إلى مدينة المتمة بولاية نهر النيل في شمال السودان وتحدثنا إليها هاتفيًا لتؤكد لنا أنها استطاعت أن تلحق أبنائها بإحدى المدارس التي تنتظم في الدراسة، وقالت إن التكلفة الباهظة للإنفاق على التعليم في مصر قامت بتوفيرها لإيجار سكن ملائم لها وعائلتها في ولاية نهر النيل.
وأشارت إلى أن رحلة العودة لم تستغرق طويلًا، وأنها انتقلت بالقطار من القاهرة إلى أسوان ومن هناك إلى مدينة أبو سمبل وهناك تواجد حافلات تسهل عملية العودة من خلال عشرات الحافلات التي تتحرك يوميًا لنقل المواطنين الساعين للعودة.
حملات أمنية لإغلاق المدارس
قررت وزارة التربية والتعليم المصرية مضاعفة رسوم تسجيل الوافدين لدى مدارسها، ورصدنا توافد مئات السودانيين يوميًا على إدارة الوافدين لتسديد الرسوم التي تصل للطالب الواحد في المدارس الخاصة والدولية إلى 2500 جنيهًا بخلاف مصروفات المدرسة، وكذلك المبلغ ذاته للتسجيل بالمدارس التجريبية الحكومية التي تقوم بتدريس المواد باللغات الأجنبية، فيما اكتفت برسوم تبلغ 100 جنيه للمدارس الحكومية غير أن المشكلة أنه لا يتم قبول غالبية الطلاب الوافدين بسبب مشكلات الكثافات المرتفعة.
وقال مصدر مسؤول بالسفارة السودانية إن السفارة لم تتوصل بعد إلى اتفاق يقضي بإعادة فتح المدارس السودانية في مصر، وقبل أيام أعلنت المستشارة الثقافية بالسفارة السودانية بالقاهرة عن استمرارها في جهودها لضمان استيفاء المدارس السودانية العاملة في مصر للشروط والمعايير التي حدّدتها وزارة الخارجية المصرية.
وأكدت المسؤولة السودانية أنها تقوم بسلسلة من الزيارات والاجتماعات مع إدارات المدارس للتأكد من التزامها بالمعايير المطلوبة، والتي تشمل الجوانب المتعلقة بالمباني والبيئة المدرسية.
بالتزامن مع مجهودات السفارة، رصدنا تنفيذ السلطات المصرية في محافظة الجيزة بالعاصمة القاهرة، حملة أمنية مكثفة بشارع العشرين بمنطقة فيصل، أسفرت عن إغلاق وتشميع عدد من المدارس السودانية وأخرى يمنية، وذلك لعدم حصولها على تراخيص مزاولة النشاط التعليمي، وقيامها بتغيير الاستخدام من سكني إلى تعليمي دون الحصول على التراخيص اللازمة وعدم توفيق أوضاع هذه المدارس.
في المقابل، كشف مصدر مطلع على صلة برعاية أوضاع الجالية السودانية في مصر أن إجمالي من رحلوا عن القاهرة لبلدهم أو لدول الجوار خلال الشهرين الماضيين تجاوز 200 ألف شخص كان يتركز أغلبهم في العاصمة القاهرة التي تعد الأكثر صعوبة على المستوى المعيشي وتوفير فرص التعليم، لكن المصدر ذاته شدد على أنه من الصعب حصر عدد المغادرين بدقة، خاصة أن بعض السودانيين دخلوا مصر بدون وثائق رسمية، والمتوقع أن يرتفع عدد المغادرين مع تحسن الأوضاع في السودان والتضييق عليهم وملاحقتهم من الجهات الأمنية في مصر.
العودة الطوعية إلى السودان
نظمت السفارة السودانية بمصر رحلات مجانية للسودانيين الراغبين في العودة إلى الخرطوم وفق مشروع العودة الطوعية للسودانيين الذين يرغبون في العودة إلى بلادهم مرة أخرى، وقد قدرت الأعداد التي عادت وفقًا للمبادرة بنحو 12 ألف سوداني خلال شهر سبتمبر فقط.
ويشمل المشروع تقديم تسهيلات للعائدين، مثل وسائل نقل مجانية، وصولًا إلى أسوان (جنوب مصر)، ومن ثم الانتقال إلى المنافذ البرية الحدودية بين مصر والسودان.
وبحسب محامٍ وناشط حقوقي سوداني، فإن إعلان وزارة التربية والتعليم السودانية انتظام شهادة الثانوية العامة السودانية هذا العام جعل البعض يقتنع بأنها مقدمة لانتظام الدراسة في المدارس داخل السودان بوجه عام.
شجع ذلك آلاف الأسر على العودة، خاصة بعدما فشلوا في إلحاق أبنائهم بالتعليم الدولي الباهظ الثمن للحصول على شهادة دولية بدلاً من الشهادة السودانية. غير أن هؤلاء يواجهون الآن مشكلات تتعلق بعدم انتظام الدراسة في جميع الولايات وليس معلومًا ما إذا كانت الحكومة السودانية سوف تتمكن من إقامة الامتحانات لجميع الطلاب أم لا.
حافلات نقل اللاجئين السودانيين في مصر
حافلات نقل اللاجئين السودانيين في مصر
ولفت إلى أن الشهر الماضي كان شاهداً على أكبر عودة طوعية عبر معبر أشكيت الحدودي في وادي حلفا بعد أن تدفق آلاف المواطنين يوميًا عليه. ويمكن القول بأن هناك أكثر من 150 ألف شخص عادوا من خلاله إلى السودان الشهر الماضي فقط، هذا بالإضافة إلى باقي نقاط العبور.
ويتزامن ذلك مع دعم الجيش لمسألة عودة المواطنين للمناطق الواقعة تحت سيطرته، إذ أن الإدارات المحلية في تلك المناطق تدعم التوعية بخطورة التحرك في أوقات احتدام المعارك، وكذلك توعية المواطنين من الإصابة بالأمراض مثل الكوليرا الذي ينتشر في ولايات ويتراجع في أخرى، وهناك نصائح مستمرة بضرورة طهي الطعام في المنازل مع استمرار عمل العديد من الأسواق.
وفي الوقت الذي تؤكد فيه الإحصاءات الرسمية المصرية بأن السودانيين الذين دخلوا البلاد بلغوا أكثر من مليون ومائتي ألف، تقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بمصر إن عدد اللاجئين المسجلين لديها بلغ 469,664 سودانيًا حتى شهر أغسطس، إلا أن الأعداد الحقيقية أكبر من ذلك بكثير.
عودة رغم المخاطر الأمنية
وبحسب مصدر سياسي سوداني فإن العودة الطوعية لآلاف السودانيين إلى بلدهم شهريًا تحدث بالفعل وتزايدت خلال الشهرين الماضيين، وأن غالبية من قرروا مغادرة مصر لديهم أوضاع اقتصادية صعبة وكانوا يتوقعون الإقامة في مصر لشهر أو شهرين على الأكثر، والآن مضى عام ونصف على وجودهم ولم يعد لديهم مدخرات يمكنهم الإنفاق منها.
كما أن المساعدات التي كانت توجه للأسر السودانية من جهات وهيئات مختلفة أيضًا تراجعت بشكل كبير نتيجة لطول أمد الحرب، وما فاقم المشكلة أن الجنيه السوداني تراجع بشكل كبير، مع ارتفاع معدلات الإنفاق في مصر.
وأوضح أن عودة مواطنين إلى بعض مناطق الخرطوم وأم درمان وكذلك إلى الولايات الشمالية شجع آخرين على العودة، وأن بدء استعادة مقومات الحياة الطبيعية في كثير من المناطق التي شهدت اشتباكات في الفترة الماضية يجذب الفارين للعودة مع إدراكهم بحجم المخاطر والصعوبات التي قد يتعرضون لها.
وشدد المصدر على أن الولايات الآمنة في السودان أيضًا تشهد ارتفاعًا باهظًا في قيمة الإيجارات، ولعل ذلك ما دفع الكثيرين للعودة إلى منازلهم في ولايات الجزيرة والخرطوم وسنار وغيرها رغم استمرار الحرب، وأن ولايات مثل نهر النيل والشمالية في الشمال، وكسلا والقضارف شرقًا من الصعب العيش فيها لارتفاع الأسعار.
وأوضح أن البديل يبقى في العودة إلى منازل المواطنين الأساسية والتعايش مع الحرب وأصوات الدانات والمدافع، وقد يكون ذلك رغم خطورته الحل الأسلم، بخاصة وأن بعض الولايات تنتظم فيها الدراسة بعكس من هربوا إلى مصر وفاتهم عامان دراسيان.
لكنه لفت أيضًا إلى أن العودة الآن تمثل خطوة لإلقاء المواطنين أنفسهم نحو التهلكة، لكن هؤلاء ليس لديهم بديل آخر، إذ أن الحرب الدائرة ليس معروفًا موعد توقفها في ظل مساعي إطالتها بحثًا عن الحسم العسكري، وبالتالي فإن البقاء في الخارج من المتوقع أن يكون مقتصرًا على من لديهم إمكانيات مادية تساعدهم البقاء أطول فترة ممكنة أو من استطاعوا التأقلم أو وجدوا أعمالًا يمكن أن تساعدهم على الإنفاق على أنفسهم، وهؤلاء لا يشكلون أغلبية مطلقة خاصة ممن لجأوا إلى مصر.