من خُرافات المُفسرين
الحرب على القرآن (3)

Ezz Eddin Naguib في السبت ٢٥ - يوليو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

الحرب على القرآن 3
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ولأن الله حفظ كتابه الكريم، فقد اتجهوا إلى تغيير معانى الكلمات حتى لا يفهم الناس ما يقوله رب العزة، ولهم فى هذا مكر عجيب، فقد غيروا معنى كلمة "تمنى" فجعلوها "يتلو أو يقرأ أو يتحدث"، وغيروا كلمة "ينسخ" فجعلوها تعنى "أزال ورفع أو ألغى وشطب" بدلا من معناها الحقيقى وهو "كتب وأثبت"
وإليكم ما قاله المُفسرون فى تفسير الآيتين التاليتين:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُو&aacutute;ٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( الحج53)

تفسير الجلالين
{وما أرسلنا من قبلك من رسول } هو نبي أمر بالتبليغ {ولا نبي } أي لم يؤمر بالتبليغ {إلا إذا تمنى } قرأ {ألقى الشيطان في أمنيته } قراءته ما ليس من القرآن مما يرضاه المرسل إليهم وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم بمجلس من قريش بعد أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى بالقاء الشيطان على لسانه من غير علمه صلى الله عليه وسلم تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى ففرحوا بذلك ثم أخبره جبريل بما ألقاه الشيطان على لسانه من ذلك فحزن فسلي بهذه الآية {فينسخ الله } يبطل {ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } يثبتها {والله عليم } بإلقاء الشيطان ما ذكر {حكيم } في تمكينه منه
{ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة } محنة {للذين في قلوبهم مرض } شك ونفاق {والقاسية قلوبهم } أي المشركين عن قبول الحق {وإن الظالمين } الكافرين {لفي شقاق بعيد } خلاف طويل مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث جرى على لسانه ذكر آلهتهم بما يرضيهم ثم أبطل ذلك

تفسير زبدة التفاسير:
(من رسول ولا نبي) قيل: الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا ومحاورته شفاها، والنبي: الذي يكون الوحي إليه إلهاما أو مناما، وقيل: الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه، والنبي: من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله، ولم ينزل عليه كتاب (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) قال جماعة المفسرين في سبب نزول هذه الآية: إن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- لمَّا شقَّ عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه ألا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه؛ لحرصه على إيمانهم، فكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم، وقد نزل عليه سورة " والنجم إذا هوى" فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله" ( أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى) فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه (تلك الغرانيق العُلَى، وإن شفاعتها لترتجى) فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين، فتفرقت قريش مسرورين بذلك، وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، فأتاه جبريل، فقال ما صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، فحزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخاف خوفا شديدا، فأنزل الله هذه الآية، هكذا قالوا. ولم يصح شيء من هذا، وقال البهيقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وقال ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة. ومعنى تمنى: تلا وقرأ كتاب الله (ألقى الشيطان في أمنيته) أي: في تلاوته وقراءته، أي إن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا جرى على لسانه؛ أي لا يهولنك ذلك ولا يحزنك، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء، فالمعنى: أنه إذا حدث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا جرى على لسانه (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) أي يبطله ويجعله ذاهبا غير ثابت (ثم يحكم الله آياته) أي: يثبتها (والله عليم حكيم) أي: كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله.
(ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة) أي: ذلك الإلقاء الذي يلقيه الشيطان فتنة؛ أي ضلالة (للذين في قلوبهم مرض) أي شك ونفاق (والقاسية قلوبهم) هم المشركون (وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) أي: عداوة شديدة.

مُختصر الطبرى:
{إلا إذا تمنى{ يعني بالتمني: التلاوة والقراءة. وقال ابن عباس: تمنى: تحدث {ألقى الشيطان في أمنيته{ في حديثه {فينسخ الله{ يُبْطِلُ الله {ثم يحكم الله آياته{ يُخلِّصُهَا من باطل الشيطان.
{فتنة للذين في قلوبهم مرض{ المنافقون {والقاسية قلوبهم{ المشركون {لفي شقاق{: في خلاف {بعيد{ من الحق.

المُنتخب:
لا تحزن - أيها النبي - من محاولات هؤلاء الكفار، فقد جرت الحوادث من قبلك مع كل رسول من رسلنا ونبي من أنبيائنا أنه كلما قرأ عليهم شيئًا يدعوهم به إلى الحق تصدى له شياطين الإنس المتمردون لإبطال دعوته وتشكيك الناس فيما يتلوه عليهم، لكي يحولوا بين النبي وبين أمنيته في إجابة دعوته، فيزيل الله ما يدبرون، ثم تكون الغلبة في النهاية للحق حيث يثبت الله شريعته وينصر رسوله، وهو عليم بأحوال الناس ومكائدهم، حكيم في أفعاله يضع كل شيء في موضعه.
وإنما مكَّن الله المتمردين على الحق من إلقاء الشُبه والعراقيل في سبيل الدعوة ليكون في ذلك امتحان واختبار للناس، فالكفار الذين تحجرت قلوبهم، والمنافقون ومرضى القلوب،يزدادون ضلالا بترويج هذه الشُبه ومناصرتها، ولا عجب في أن يقف هؤلاء الظالمون هذا الموقف فإنهم لجوا في الضلال وأوغلوا في العناد والشقاق.
فحتى المنخب فشل فى تفسير الآيتين!

ابن كثير:
قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ولكنها من طرق لها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح والله أعلم قال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم فلما بلغ هذا الموضع " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى " قال فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى قالوا ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا فأنزل الله عز وجل هذه الآية " وما أرسلنا من قبلك رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم " ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة به بنحوه وهو مرسل وقد رواه البزار في مسنده عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب الشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة النجم حتى انتهى إلى " أفرأيتم اللات والعزى " وذكر بقيته ثم قال البزار لا نعلمه يروي متصلا إلا بهذا الإسناد مفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مسهور وإنما يروي هذا من طريق الكلبى عن أبي صالح عن ابن عباس ثم رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية وعن السدي مرسلا وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس مرسلا أيضا وقال قتادة كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان على لسانه وإن شفاعتها لترتجى وإنها لمع الغرانيق العلى فحفظها المشركون وأجرى الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها فذلت بها ألسنتهم فأنزل الله " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " الآية فدحر الله الشيطان ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي حدثنا محمد بن إسحاق الشيبي حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبه وأحزنه ضلالهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله سورة النجم قال " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى " ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال وإنهن لهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه تراب فسجد عليه فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثهم به الشيطان أن رسول الله قد قرأها في السورة فسجدوا لتعظيم آلهتهم ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وحفظه من القرية وقال الله " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم.
" ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد " فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم المسلمين واشتدوا عليهم وهذا أيضا مرسل وفي تفسير ابن جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة فلم يجز به موسى بن عقبة ساقه من مغازيه بنحوه قال وقد رواه عن أبي إسحاق هذه القصة " قلت "وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا وكلها مرسلات ومنقطعات والله أعلم وقد ساقها البغوي في تفسره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك ثم سأل ههنا سؤالا كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلاة الله وسلامه عليه ثم حكى أجوبة عن الناس من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك في نفس الأمر بل.إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن والله أعلم. وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته وقد تعرض القاضي عياض رحمه الله في كتاب الشفاء لهذا وأجاب بما حاصله أنها كذلك لثبوتها وقوله " إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أي لا يهيدنك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء قال البخاري قال ابن عباس " في أمنيته " إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان " ثم يحكم الله آياته " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " يقول إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه وقال مجاهد " إذا تمنى " يعني إذا قال يقال أمنيته قراءته " إلا أماني " يقرءون ولا يكتبون قال البغوي وأكثر المفسرين قالوا معنى قوله " تمنى " أي تلا وقرأ كتاب الله " ألقى الشيطان في أمنيته " أي في تلاوته قال الشاعر في عثمان حين قتل:
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
وقال الضحاك " إذا تمنى " إذا تلا قال ابن جرير هذا القول أشبه بتأويل الكلام وقوله " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " حقيقة النسخ لغة:الإزالة والرفع قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان وقال الضحاك نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وقوله " والله عليم " أي بما يكون من الأمور والحوادث لا تخفى عليه خافية " حكيم " أي في تقديره وخلقه وأمره له الحكمة التامة والحجة البالغة ولهذا قال " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض " أي شك وشرك وكفر ونفاق كالمشركين حين فرحوا بذلك واعتقدوا أنه صحيح من عند الله وإنما كان من الشيطان قال ابن جريج " الذين في قلوبهم مرض " هم المنافقون " والقاسية قلوبهم " هم المشركون وقال مقاتل بن حيان هم اليهود " وإن الظالمين لفي شقاق بعيد " أي في ضلال ومخالفة وعناد بعيد أي من الحق والصواب.

القرطبى:
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {تَمَنّىَ} أي قرأ وتلا. و{أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ} أي قراءته وتلاوته. وقد تقدّم في البقرة. قال ابن عطية: وجاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نَبِيّ ولا مُحَدّث» ذكره مَسْلَمة بن القاسم بن عبد الله، ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس. قال مسلمة: فوجدنا المُحَدّثين معتصمين بالنبوّة ـ على قراءة ابن عباس ـ لأنهم تكلموا بأمور عالية من أنباء الغيب خَطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة فأصابوا فيما تكلموا وعُصموا فيما نطقوا كعمر بن الخطاب في قصة سارية وما تكلم به من البراهين العالية.
قلت: وقد ذكر هذا الخبر أبو بكر الأنباريّ في كتاب الردّ له، وقد حدّثني أبي رحمه الله حدّثنا عليّ بن حرب حدّثنا سفيان بن عُيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نَبِيّ ولا مُحَدّث» قال أبو بكر: فهذا حديث لا يؤخذ به على أن ذلك قرآن. والمحدّث هو الذي يوحى إليه في نومه لأن رؤيا الأنبياء وَحْيٌ.
الثانية: قال العلماء: إن هذه الآية مشكلة من جهتين: إحداهما: أن قومًا يرون أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين. وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال نبيّ حتى يكون مرسلاً. والدليل على صحة هذا قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلآ نَبِيّ} فأوجب للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - الرسالة. وأن معنى «نَبيّ» أنبأ عن الله عز وجل، ومعنى أنبأ عن الله عز وجل الإرسال بعينه. وقال الفراء: الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل عليه السلام إليه عِيانًا. والنبيّ الذي تكون نبوّته إلهامًا أو منامًا فكل رسول نبيّ وليس كلّ نبيّ رسولا. قال المهدوِيّ: وهذا هو الصحيح، أن كلّ رسول نبيّ وليس كل نبيّ رسولا. وكذا ذكر القاضي عِياض في كتاب الشفا قال: والصحيح والذي عليه الجمّ الغفير أن كلّ رسول نبيّ وليس كل نبيّ رسولا واحتج بحديث أبي ذرّ، وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. والجهة الأخرى التي فيها الإشكال وهي:
الثالثة: الأحاديث المروِيّة في نزول هذه الآية، وليس منها شيء يصح. وكان مما تموّه به الكفار على عوامّهم قولهم: حق الأنبياء ألا يعجِزوا عن شيء، فلم لا يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في عداوته؟ وكانوا يقولون أيضًا: ينبغي ألا يجري عليهم سَهْوٌ وغلط فبيّن الرب سبحانه أنهم بَشَر، والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد، ويجوز على البشر السهو والنسيان والغلط إلى أن يُحكم الله آياته وينْسَخ حِيَل الشيطان. روى اللّيث عن يونس عن الزهريّ عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {وَالنّجْمِ إِذَا هَوَىَ} (النجم: 1) فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّىَ وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الاُخْرَىَ} (النجم: 19 ـ 20) سها فقال: «إن شفاعتهم تُرْتَجَى» فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلّموا عليه وفرحوا فقال: «إن ذلك من الشيطان» فأنزل الله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلآ نَبِيّ} الآية. قال النحاس: وهذا حديث منقطع وفيه هذا الأمر العظيم. وكذا حديث قتادة وزاد فيه «وإنهنّ لهنّ الغَرَانِيق العُلآ». وأفظعُ من هذا ما ذكره الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال: سجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة فإنه أخذ ترابًا من الأرض فرفعه إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخًا كبيرًا. ويقال إنه أبو اُحَيْحةَ سعيد بن العاص، حتى نزل جبريل عليه السلام فقرأ عليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «ما جئتك به»! وأنزل الله {لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} (الإسراء: 74). قال النحاس: وهذا حديث منكر منقطع ولا سيما من حديث الواقديّ. وفي البخاري أن الذي أخذ قبضة من تراب ورفعها إلى جبهته هو أمية بن خلف. وسيأتي تمام كلام النحاس على الحديث ـ إن شاء الله ـ آخر الباب. قال ابن عطية: وهذا الحديث الذي فيه هي الغرانيق العلا وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاريّ ولا مسلم، ولا ذكره في علمِي مصنّف مشهور بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقَى، ولا يعيّنون هذا السبب ولا غيره. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة بها وقعت الفتنة. ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - تكلم بتلك الألفاظ على لسانه. وحدّثني أبي - رضي الله عنه - أنه لَقِيَ بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو المعصوم في التبليغ، وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفارَ عند قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّىَ وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الاُخْرَىَ}، وقرّب صوته من صوت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها. وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي. وقيل: الذي ألقى شيطانُ الإنس كقوله عز وجل: {وَالْغَوْا فِيهِ} (فصلت: 26). قتادة: هو ما تلاه ناعسا.
وقال القاضي عِياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدًا ولا عمدًا سهوًا أو غلطًا: اِعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله، والثاني: على تسليمه. أما المأخذ الأوّل فيكفيك أن هذا حديث لم يخرّجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند صحيح سليم متصل ثقةٌ وإنما أولِع به وبمثله المفسّرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقّفون من الصحف كل صحيح وسقيم. قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يُروى عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بإسناد متصل يجوز ذكره إلا ما رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب، الشك في الحديث أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان بمكة... وذكر القصة. ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير. وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فقد بيّن لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبّه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه، الذي لا يُوثق به ولا حقيقةَ معه. وأما حديث الكلبيّ فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذِكره لقوّة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزار رحمه الله. والذي منه في الصحيح: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ «والنجم» بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس هذا توهينه من طريق النقل.
وأما المأخذ الثاني فهو مبنيّ على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة منها الغَثّ والسّمين. والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان كما أمره ربّه يرتّل القرآن ترتيلاً، ويفصّل الآي تفصيلاً في قراءته كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيًا نغمة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار. فظنّوها من قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأشاعوها. ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققِهم من حال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذم الأوثان وعَيْبها ما عُرف منه فيكون ما روي من حزن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة، وقد قال الله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلآ نَبِيّ} (الحج: 52) الآية.
قلت: وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا. وقد قال سليمان بن حرب: إن «في» بمعنى عند أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كقوله عز وجل: {وَلَبِثْتَ فِينَا} (الشعراء: 18) أي عندنا. وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي، وقال قبله: إن هذه الآية نص في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مما ينسب إليه أنه قاله وذلك أن الله تعالى قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلآ نَبِيّ إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ} أي في تلاوته. فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرتِه في أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولاً زاد الشيطان فيه من قِبل نفسه كما يفعل سائر المعاصي. تقول: ألقيت في الدار كذا وألقيت في الكيس كذا فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - تكلم به. ذكر معنى كلام عياض إلى أن قال: وما هُدِي لهذا إلا الطبري لجلالة قدره وصفاء فكره وسَعة باعه في العلم، وشِدّة ساعده في النظر وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوّب على هذا المرمى، وقرطس بعد ما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد.
وأما غيره من التأويلات ممّا حكاه قوم أن الشيطان أكرهه حتى قال كذا فهو محال إذ ليس للشيطان قدرة على سلب الإنسان الاختيار، قال الله تعالى مخبرًا عنه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (إبراهيم: 22) ولو كان للشيطان هذه القدرة لما بقي لأحد من بني آدم قوّة في طاعة، ومن توَهّم أن للشيطان هذه القوّة فهو قول الثّنَوِيّة والمجوس في أن الخير من الله والشر من الشيطان. ومن قال جرى ذلك على لسانه سهوًا قال: لا يبعد أنه كان سمع الكلمتين من المشركين وكانتا على حفظه فجرى عند قراءة السورة ما كان في حفظه سهوًا وعلى هذا يجوز السهو عليهم ولا يُقَرّون عليه، وأنزل الله عز وجل هذه الآية تمهيدًا لعذره وتسلية له لئلا يقال: إنه رجع عن بعض قراءته، وبَيّن أن مثل هذا جرى على الأنبياء سهوًا، والسهو إنما ينتفي عن الله تعالى، وقد قال ابن عباس: إن شيطانًا يقال له الأبيض كان قد أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة جبريل عليه السلام وألقى في قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لتُرْتَجَى. وهذا التأويل وإن كان أشبه مما قبله فالتأويل الأوّل عليه المعوّل، فلا يُعدل عنه إلى غيره لاختيار العلماء المحققين إياه، وضعفُ الحديث مُغْنٍ عن كل تأويل، والحمد لله. ومما يدل على ضعفه أيضًا وتوهينه من الكتاب قولُه تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} (الإسراء: 73)الآيتين فإنهما ترّدان الخبر الذي روَوْه لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبّته لكان يركن إليهم. فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عَصَمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً فكيف كثيرًا، وهم يروُون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه الصلاة والسلام: افتريت على الله وقلت ما لم يقل. وهذا ضدّ مفهوم الآية، وهي تضعّف الحديث لو صح فكيف ولا صحة له. وهذا مِثل قوله تعالى: {وَلَوْلآ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْءٍ} (النساء: 113) . قال القُشَيْرِيّ: ولقد طالبته قريش وثقِيف إذ مرّ بآلهتهم أن يُقبل بوجهه إليها، ووعدوه بالإيمان به إن فعل ذلك، فما فعل! ولا كان ليفعل! قال ابن الأنباري: ما قارب الرسول ولا رَكَن. وقال الزجاج: أي كادوا، ودخلت إن واللام للتأكيد. وقد قيل: إن معنى «تمنّى» حدّث، لا «تلا». روي عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: {إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ} قال: إلا إذا حدّث {أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ} قال: في حديثه {فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ} قال: فيبطل الله ما يلقي الشيطان. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله. وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل بمصر صحيفةً في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرًا. والمعنى عليه: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حدّث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيْلة فيقول: لو سألتَ الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك فيبطل ما يلقي الشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وحكى الكسائي والفراء جميعًا «تمنى» إذا حدّث نفسه وهذا هو المعروف في اللغة. وحَكَيَا أيضًا «تمنى» إذا تلا. وروي عن ابن عباس أيضًا وقاله مجاهد والضحاك وغيرهما. وقال أبو الحسن بن مهدي: ليس هذا التمني من القرآن والوحي في شيء، وإنما كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صفِرت يداه من المال، ورأى ما بأصحابه من سوء الحال، تمنّى الدنيا بقلبه ووسوسة الشيطان. وذكر المهدويّ عن ابن عباس أن المعنى: إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه وهو اختيار الطبري.
قلت: قوله تعالى: {لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ فِتْنَةً} الآية، يردّ حديث النفس، وقد قال ابن عطية: لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة فالله أعلم. قال النحاس: ولو صح الحديث واتصل إسناده لكان المعنى فيه صحيحًا، ويكون معنى سها أسقط، ويكون تقديره: أفرأيتم الّلاتَ والعُزّى وتم الكلام، ثم أسقط (والغرانيق العلا) يعني الملائكة (فإن شفاعتهم) يعود الضمير على الملائكة. وأما من روى: فإنهن الغرانيق العلا، ففي روايته أجوبة منها أن يكون القول محذوفًا كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة، ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخًا لأن قبله «أفرأيتم» ويكون هذا احتجاجًا عليهم فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحًا في الصلاة. وقد روي في هذه القصة أنه كان مما يقرأ: أفرأيتم اللات والعُزّى. ومناة الثالثة الأخرى. والغرانقة العلا. وأن شفاعتهن لترتجى. روي معناه عن مجاهد. وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلا الملائكة وبهذا فسر الكلبيّ الغرانقة أنها الملائكة. وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون (أن) الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله تعالى عنهم، وردّ عليهم في هذه السورة بقوله: {ألَكُمُ الذّكَرُ وَلَهُ الاُنْثَى} فأنكر الله كل هذا من قولهم. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح فلما تأوّله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتُهم ولبّس عليهم الشيطان بذلك، نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللّتين وجد الشيطان بهما سبيلاً للتلبيس، كما نُسخ كثير من القرآن ورفعت تلاوته. قال القُشَيري: وهذا غير سديد لقوله: {فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ} أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة. {وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} «عليم» بما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. «حكيم» في خلقه.
قوله تعالى: {لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ فِتْنَةً} أي ضلالة. {لّلّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ} أي شرك ونفاق. {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} فلا تلين لأمر الله تعالى. قال الثعلبيّ: وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان والغلط بوسواس الشيطان أو عند شَغْل القلب حتى يغلَط، ثم يُنَبّه ويرجع إلى الصحيح وهو معنى قوله: {فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ}. ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلَط أحدنا، فأما ما يضاف إليه من قولهم: تلك الغرانيق العلا، فكذِب على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن ثم ينشد شعرًا ويقول: غلِطت وظننته قرآنا. {وَإِنّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي الكافرين لفي خلاف وعصيان ومشاقّة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد تقدّم في «البقرة» والحمد لله وحده.

تفسير المُصحف الميسر للشيخ عبد الجليل عيسى:
"تمنى" أحب، واجتهد لنجاح دعوته
"ألقى الشيطان" المراد: وضع شياطين الإنس والجن العراقيل فى طريق دعوة الرسول
"ينسخ الله الخ" أى يُزيله ويُبطل مفعوله
فهنا نجح الشيخ فى تفسير كلمة "تمنى"، ولكنه فشل فى التغلب على تعليمه الأزهرى فأخذ بتفسير من سبقوه فى كلمة "ينسخ"

فى عام 1958 كنا ننتقل من منزل إلى آخر، وكانت كتب والدى (رحمه الله إن شاء) مُبعثرة فى منزلنا الجديد، وأخذت أقرأ فى كتاب "الطبقات الكبرى لابن سعد" وقرأت لأول مرة خرافة "الغرانيق العُلى" فانقبضت نفسى. وفى الصباح سألت والدى عنها، فقال لى: "هذه خُرافة، فلا تُصدق كل ما تقرأه أو تسمعه بدون أن تُمرره أولا على عقلك ثم اقبل أو ارفض ما يُشير به عقلك، وكل كتاب فيه الحق والباطل ما عدا القرآن وحده. وهاتان النصيحتان الغاليتان – اللتان قالهما لى قبل وفاته بسنتين – هما إلى الآن نبراسى فى الحياة.
وإليكم ما شرحه لى والدى:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ) أى أن هذا حدث مع كل الرسل والأنبياء وليس مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقط
(إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى) فكلما تمنى الرسول أو النبى، أى أحب أن تتحقق أُمنيته فى هداية قومه
(أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أى وضع الشيطان العثرات والعراقيل فى طريق تحقيق أُمنيته بهداية قومه
(فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) أى فيكتب الله ويُثبت فى كتابه الكريم ما يُلقى الشيطان من حجج يُوحيها إلى أوليائه مثل:
{وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ }الحجر6
{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ }الصافات36
{ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ }الدخان14
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ }الذاريات52
{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }الأنعام25
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ }الأنفال31
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }الفرقان5
وغير هذا كثير، وقد سجل الله فى قرآنه الكريم كل ما قالوا

(ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أى يرد على ما يستحق الرد عليه منها، فمثلا:
{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }القلم2
{وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ }التكوير22
{وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ }الشعراء224
{فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ }الطور29
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ }يس69
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }المائدة67
فقد عصم الله الرسول من الناس وأذاهم وسحرهم حتى يُبلغ رسالة الله كاملة.

لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( الحج53)
فكيف يجعل الله ما يُلقى الشيطان فتنة فى قلوب الذين فى قلوبهم مرض بعد ما نسخها (أى أزالها وألغاها بزعمهم) من القرآن؟
ولكن الله أثبت ما قال الشيطان وأتباعه فى القرآن نفسه، ولذلك فنجد إلى الآن من تفتنه كلمات الشيطان وأتباعه فيقول إن الرسول عليه السلام ألف القرآن من أساطير الأولين وكتبهم، إلى آخر مزاعم من فى قلوبهم مرض من المستشرقين وأذنابهم.
والسلام على من اتبع الهدى
عزالدين محمد نجيب
26/7/2009


اجمالي القراءات 17936