تونس: وطن وبوليس ورشوة

في الأربعاء ٠٨ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً


بقلم: جيلاني العبدلي

في قلعة سنان

قصدتُ صحبة صديق لي سوق الدّواب بمركز معتمدية " قلعة سنان " من ولاية "الكاف"، على متن شاحنتي الصغيرة "ايسيزي" لشراء مجموعة من الخرفان بمناسبة أحد أعياد الأضحى، ولمّا أنهينا عملية الشراء قفلنا مغادرين المدينة عائدين إلى العاصمة.

حين بلغنا مُفترق "الفالتة" توقّفنا عند علامة "قفْ"، وفسحنا المجال لذوي الأولوية، ثم واصلنا سيرنا، إلاّ أنّ عوْنا من دورية للحرس الوطني كانت مُتمركزة في المكان استوقفنا، وترجّل نحونا، وجعل يُحيط بسيارتنا، ويُدقّق فيها وفي ما كُتب عليها من بيانات، ثمّ اقترب منّي يطلبُ بطاقة هُويتي ورُخصة سياقتي دون أن يتجشم أعباء تحيتنا، فدفعتُ بهما إليه.

قلّبهما مليّا، وتثبّت فيهما جليّا، ثمّ عاد إليّ يطلب أوراق السيارة، فمكنتُه منها الواحدة تلو الأخرى، وقد تهيّأ لي أنّه بصدد البحث عن سبب ما لمخالفتي.

فحص جميع الوثائق، ثمّ انحنى مُطلاّ من النافذة على مُرافقي يطلبُ منه بطاقة تعريفه الوطنية، وبمجرد أنْ تسلّمها منه تأمّل فيها جيدا، ثمّ ضمّها إلى وثائقي ووثائق سيارتي، وقال لي:

" لم تحترم علامة الوقوف يا أستاذُ ونحنُ حاضرون، فماذا لو كنّا غائبين؟"

ودون أن يُعطيني فُرصة دفْع التّهْمة عنّي ولّى دُبُره، وسار مُترجّلا بعيدا نحو سيّارة الأمن أين وضع جميع الوثائق، وتشاغل عنّا باستيقاف سيارات أخرى.

بقينا في حالة من الامتعاض والسُّخط ننتظر ما سيُتخذ ضدّي من إجراءات ظالمة لنواصل طريقنا، وقد انْتابنا استغرابٌ شديدٌ من مُصادرة هُويّة صديقي ضمن وثائقي، وعبثا حاولنا فكّ رُموز تلك العملية.

بعد وقْت قصير جاءنا العونُ الثاني للدورية، وسلّم علينا، ثمّ جعل يلومُنا على عدم احترامنا لقوانين المرور، ويُنبّهنا إلى خطورة ما أقدمنا عليه، منْ عدم الوقوف عند الإشارة وافتكاكنا لأولوية الآخرين، ممّا يُهدّدُ سلامتنا وسلامة غيرنا.

وحين حاولنا التأكيد بأنّنا لم نرتكبْ أيّة مخالفة تُذكر، وأنّه لا أحد يعمدُ إلى تجاوز إشارة المرور أمام أنظار أعوان الأمن، غيّر مجْرى الحديث، واسترسل يسألني عن مشاريعي الفلاحيّة، بما أنّ السيارة ذاتُ صبغة فلاحيّة، وعن الجهة التي نقطنُها من العاصمة، مُعرّجا بالقول على أنّه اشتغل في ولاية بن عروس لمدة سنتين، وأنّ له فيها أحبابا وأصحابا كثيرين، يفرحون به كلّما هاتفهم أو زارهم.

وبعد رحلة فسيحة في مواضيع شتّى، نصحنا بأن نُحاول مع زميله، لعل الله يهديه فيغفر مخالفتنا، ويُعيد وثائقنا، وانصرف هو نفسه يُباشر عمله على شاكلة زميله.

نزلتُ من السيارة، وقصدتُ العون الذي صادر الوثائق، وما إنْ اقتربتُ منه وهو يُحاور أحد السوّاق المُسْتوْقفين وأغلبهم من سائقي الشاحنات، حتى أشار عليّ بالانتظار في سيارتي.

قفلتُ راجعا إلى السيارة، وتواصل انتظارنا من الساعة العاشرة إلى ما بعد منتصف النهار دون أن يعبأ العونان بنا. كنّا تارة نفارقُ مقاعدنا في السيارة، ونظلّ نحومُ حولها أو نتكئ عليها في حيرة من أمرنا، وتارة أخرى نرحمُ سيارتنا من أعبائنا، ونتقرفصُ على حافة الطريق، لا حيلة لنا في سيجارة نُدخّنها من فرْط ما أصابنا من القلق والتوتر، مع أنّنا لا ننتمي إلى مذهب المدخنين.

وقتئذ بدأتْ تنتابُنا المخاوفُ من أن تُنْهي الدوريةُ عملها، وتنصرف بوثائقنا إلى وجهة نجهلُها، باعتبارنا لم نحصلْ منها على وصْل في مُخالفة يتضمنُ المعطيات اللازمة.

لذلك، بدا لي من المفيد أن نعود إلى مركز مدينة قلعة سنان علّي أجد في أحد الزملاء القدامى من أبناء الجهة المساعدة على مُعالجة الأمر قبل استفحاله، ولم يُخالفْني مُرافقي في ما ذهبتُ إليه، مع أنّنا سنُغامرُ، باعتبارنا لم نعُدْ نملكُ ما يثبتُ هُويّتيْنا أو ما يُضفي على سياقتنا للسيّارة مشروعية قانونية.

عزمْنا في النهاية على ركوب المُخاطرة، وعُدنا إلى قلعة سنان. وما إنْ بلغْنا وسط المدينة حتّى ساقتْ إلينا الأقدارُ صديقا قديما لم يكنْ في حسباني، لاقيناهُ مُترجّلا، لمّا كنّا بصدد مُغادرة موقف للسيارات.

تبادلْنا مشاعر المودّة، وانتقلتُ سريعا أُخْبرُه بقصّتنا مع دورية الأمن، فتحمّس لها على الفور، واعتبرها مشكلة بسيطة من منْظور جهويّ، وهو كفيلٌ بمُعالجتها دون أن نكون في حاجة إلى البحث عن وسيط آخر، ورافقنا فعْلا على عيْن المكان حيث كنّا.

حين أدركْنا المُفترق توجّه صديقي إلى عونيْ الحرس الوطني، وتركنا في الانتظار بعيدا، فاسْتقبلاهُ بترحاب واحترام، وبعد لحظات معدودات جاءنا الجماعة تسبقهم البشاشة، وما إنْ وصلوا حتى دفع إليّ العونُ الذي افتعل ضدّي المخالفة بجميع الوثائق وهو يعاتبُني قائلا:

" عيبٌ عليك يا أستاذُ، ما كان عليك أن تجْحد أنّك صهرُ السيد ابراهيم، كان عليك أن تُخبرنا بذلك منذُ البداية، فنحنُ دائما في خدمة أحبابنا "،

وتأسّف لطول انتظارنا الذي كان حسب رأيه في صالحنا، بما أنّه لم يستعجلْ تحرير محضر ضدّنا في مخالفة خطيرة تكبّدُنا خطيّة مُوجعة.

غادرْنا في خاتمة المطاف مُفترق " الفالتة " حوالي الساعة الواحدة، بعد أن تجرّعْنا مرارة الانتظار والإحساس بالقهر لساعات مرّتْ علينا كما لو كانتْ أسابيع، بفعل تلك المظلمة التي سلّطها علينا عونُ مسخّرٌ لخدْمة أحبابه، وليس لخدْمة القانون.

في طريق عودتنا، قلتُ لصديقي جادّا: أنّ المحْنة التي عرفناها بمُفترق " الفالتة " ستقتلُ فينا كلّ رغبة في العودة مُجدّدا إلى مدينة قلعة سنان، لكنّه ردّ عليّ مُمازحا أنّ الخطأ هو خطئي، وأنّه لن يُرافقني مرّة أخرى في سفرة أخرى إلى أيّة مدينة أخرى، إلاّ إذا غيّرتُ نوع شاحنتي، واستند في قراره الطريف على ما كنّا نُلاحظهُ في الطرقات والمُفترقات منْ مُضايقات أمنية عديدة، لسائقي سيّارات "الايسيزي" على وجه التخْصيص، بهدف الابتزاز كما كان يتبادرُ إلى مسامعنا، من قصص غريبة في هذا الاتّجاه.





- يتبع

جيلاني العبدلي: كاتب صحفي

ناشط حقوقي وسياسي

Blog : http://joujou314.frblog.net

اجمالي القراءات 3410