رسالة بلا ضفاف إلى وزير الأوقاف
سعد القرش
سأظل متفائلا، ولن أعلن خيبة أملي في وزير الأوقاف، رغم مرور ثلاثة عشر عاما على توليه منصبه.
لا أخفي أنني فوجئت، عام 1996، باختيار الدكتور محمود حمدي زقزوق وزيرا، ليس لأنه غير مؤهل لهذا المنصب، وإنما لأنه أكبر منه، فالرجل ليس مجرد موظف مثل كثيرين تولوا وزارة الأوقاف.
كقارئ، عرفته مفكرا عام 1983، حين صدر كتابه «الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري» في قطر، وتفاءلت بتوليه الوزارة؛ فعالم مثله قادر على الانتصار في معركة الروتين، والقفز بمسافة محسوبة فوق التروس الشرسة للبيروقراطية في أقدم دولة مركزية في التاريخ.
حين مضى الوقت، وهو في الوزارة ولا شيء يتغير، تراجع أملي، وقدرت أنه هزم واستسلم، راضيا بمصير الموظف، متنازلا عن قلق المفكر وطموح الثائر. لكن صدور طبعة جديدة من كتابه المذكور في القاهرة، كانت رسالة تؤكد أن العافية الفكرية للرجل مطمئنة، وأن شيئا ما لايزال يمنع ظهور بصمته الخاصة في الوزارة أو المجتمع.
مثل ملايين من المصريين الآن أعاني مما بغلناه من تردي الذوق العام، بما يتناقض مع اشتعال الهواء في سماء البلاد بحناجر ملايين الخطباء وعشرات الآلاف من مكبرات الصوت ومئات البرامج الدينية وكافة أشكال النفاق الاجتماعي الذي يحاصرنا، وأصبح سمة مصرية بامتياز.
يعلم الوزير أن «الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولا أثق مثل كثير من العقلاء في العبث الذي يسمونه حوار الحضارات ولقاء الثقافات. وأعلم أن الوزير يؤمن بأن صورة الإسلام لا تتحسن خارج أرضه إلا إذا تحسنت أخلاق المسلمين أنفسهم، ولكي تتحسن فلا بد من «سلطان»، والسلطان هو الوزير نفسه، فماذا لو خصص الوزير العام القادم (2009 ميلادية، 1430 هجرية)، بالأمر المباشر، عاما لتطبيق حديث نبوي واحد فقط: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
كانت مكارم الأخلاق، بذكاء شديد، البوابة أو الأساس العميق الذي شيد عليه الإسلام بنيانه المتين، قبل أن يتحدث عن الفرائض أو القواعد الخمس، وهي أركان الدين الخمسة التي ليست بالضرورة أركان المسلم، لكن للمسلم ركنا مهما لا يستقيم إيمانه إلا به، وهو «مكارم الأخلاق»، بمعنى أهمية أن يتحلى بحد أدنى من الذوق والشياكة، حتى لا ينفر الناس، مسلمين وغير مسلمين، من الإسلام والمسلمين معا.
ماذا لو «فرض» الوزير على خطباء المساجد شرح الجوانب المختلفة لهذا الحديث: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»؟
المزايدة على الله
أول ما أقترحه لتطبيق هذا الحديث أن يكون الأذان بأصوات طبيعية جميلة من فوق المآذن، وترفع مكبرات الصوت من الشوارع، وهي مسلطة ليل نهار، لعقاب أبرياء لا ذنب لهم في أن يعانوا إزعاجا دائما، من كبار السن والمرضى والطلاب، وغير المسلمين. لكن بين الخطباء من يزايدون على الله الذي خلق الناس «شعوبا وقبائل»، و«لو شاء لجعلكم أمة واحدة». في مصر الآن مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، من مكبرات الصوت، وهي تضخ ضخبا لا يفيد أحدا، ولا يخدم الإسلام، إذ تعمل في كل وقت، ولا يفهم كثير من الخطباء ـ وهم يكثفون جهودهم للتأكيد على أن الإسلام هو الحق ـ أنهم يتوجهون أصلا إلى مسلمين لا يحتاجون إلى إعادة إشهار إسلامهم، ولو وعى الخطباء هذا الأمر لوفروا نصف جهودهم الضائعة هباء.
هذه المكبرات بدعة، وضلالة، يحتاج إلغاؤها إلى قرار جريء لن تقوم القيامة بسببه، وسيكون القرار مدعوما بحجة أنه ينطلق من إزالة الغبار والقبح الذي التصق بصورة الإسلام في أرضه، بعيدا عن هذه الهستيريا الصوتية. أكرر ما كتبته من قبل: لم يحدث أن تأثر أحد بالأذان وإقامة الصلاة وإذاعة القرآن في مكبرات الصوت، أكثر من الذين يدخلون المساجد كل صلاة. في قريتنا، كان الشيخ عثمان ذا صوت عذب، يرتل القرآن ترتيلا. وبصوته الطبيعي ـ قبل إرهاب تمثل في غزو المكبرات ـ كان يؤذن من فوق مئذنة، فنسمعه في الغيطان، على بعد ألفين أو ثلاثة آلاف متر، قبل أن تضيق المآذن بالمؤذنين حسني الصوت، وتتسع لمكبرات معدنية يتبارى في زرعها، بلا داع، كثير من الذين لا تعرف مصادر أموالهم. كان أبي حريصا على صلاة الفجر كل يوم، لا يحول دون ذلك برد شديد، ولا مطر تزل بسببه الأقدام. المفارقة أن المكبرات التي تعمل حاليا قبل أذان الفجر بساعة، وينطلق منها الأذان مرتين، لم تفلح في زيادة أعداد المصلين. هم أنفسهم الذين يذهبون إلى صلاة الفجر في ليالي البرد والمطر، حين تنقطع الكهرباء وتتعطل مكبرات الصوت.
إزالة السرطان المسمى بمكبرات الصوت لن يسيء إلى الإسلام، ولن يعطل شعائره، وإنما هو البداية الحقيقية لاختبار قدرتنا ـ وزيرا وشعبا ـ على تحدي التنطع والنفاق السافر. يمكن أن يظل مكبر واحد فقط لكل مسجد، بشرط أن يكون مسجدا حقيقيا له مئذنة يوضع فوقها الميكروفون، لا مجرد زاوية صغيرة أسفل بناية.
هذه المكبرات تدفع كثيرا من المسلمين للنفور من صلاة الجماعة ودخول المساجد، لأن كثيرا ممن يدمنون الزفير في الميكروفون أصواتهم منكرة وجاهلة.. يرفعون المفعول، وينصبون الفاعل، ويخطئون في قراءة القرآن. ليس بعد هذا دليل على أن هذه الأصوات لا تشيع إلا القبح، وتناقض أساس الإسلام الذي بعث نبيه لكي «يتمم مكارم الأخلاق» ويعلم غلاظ القلوب الذوق؛ فبعد أن كان بعضهم يأتيه مناديا من الشارع: يا محمد، اعطنا من مال الله الذي عندك، فإنه ليس مالك ولا مال أبيك. بعد هذا تعلموا الذوق والشياكة، في خفض الصوت عند مخاطبة الآخرين، وبخاصة النبي صلى الله وعليه وسلم، وتدربوا على أن يتجنبوا القبح، ويشيعوا الجمال والرحمة التي ليس من بينها إيذاء الآخرين ـ مسلمين وغير مسلمين ـ بمكبرات الصوت، حتى لو أذاعت القرآن. من أراد الاستماع إلى القرآن فعنده إذاعة القرآن، ومحطات إذاعية تلفزيونية كثيرة، ولن يسهو أحد ويدعي أنه لم يصل في جماعة لأنه لم يسمع الأذان من المسجد، من يزعم هذا يكذب، ويعلم أنه يكذب، والله لا يحب كل كذاب أثيم.
حين استولى هولاكو على بغداد، (عام 1257 ميلادية، 655 هجرية) ذهب إلى قصر الخلافة، إلى المنطقة الخضراء، وسيق إليه الخليفة العباسي المستعصم، وأرشد الغزاة إلى خزائن الأموال وحوض مملوء بالذهب وسط القصر، لكن هولاكو لم يقنع بذلك، وأمر بحرمان المستعصم من الطعام حتى شعر بالجوع، فقدم إليه هولاكو طبقا مملوءا بالذهب. قال الخليفة: «كيف يمكن أن آكل الذهب؟»، فرد عليه هولاكو: «ما دمت تعرف أن الذهب لا يؤكل، فلم احتفظت به، ولم توزعه على جنودك، حتى يصونوا ملكك الموروث من هجمات هذا الجيش المغير؟ ولماذا لم تحول تلك الأبواب الحديدية إلى سهام، وتسرع إلى شاطئ نهر جيحون لتحول دون عبوري؟»، فقال الخليفة: «هكذا كان تقدير الله»، فرد عليه هولاكو: «وما سوف يجري عليك إنما هو كذلك تقدير الله»، وقتل الخليفة، وانتهى أمر الخلافة.
صراخ صراخ
ما أريد قوله إن الاحتفاظ بالأموال والذهب ليس هو الثراء ولا يعني القوة، وإن الصراخ في الناس في مكبرات الصوت ليس هو الدين. فماذا لو تحولت مكبرات الصوت إلى حديد ينفع الناس ويسهم في خفض أسعار الحديد في ظل أزمته الحالية، وأحد أسبابه استهلاكه بلا حكمة في غير ما أنزله الله الذي «أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس»، وليس لتعذيبهم وإصابتهم بأمراض لا يجدون لها علاجا. على الخطباء أيضا توعية المسؤولين، وردهم عن رعونتهم وهم يقيمون أسوارا ضخمة، كأنها متاريس في شوارع القاهرة وميادينها بلا حكمة، لأنهم ببساطة ينقصهم معرفة الحديث النبوي «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
هل يخصص العام القادم لإشاعة روح التسامح والتنازل عن الصراخ باسم الله، وترسيخ فكرة «الهمس» في الخطب «داخل» المساجد، ومنع استخدام مكبرات الصوت في الشوارع.. لإذاعة القرآن أو الخطب أو الأغاني أو الأدعية، ليكن المنع شاملا لتتم مكارم الأخلاق.
يعلم الوزير، والناس جميعا، أن التكرار يؤدي إلى الاعتياد والملل، وأن اعتياد الناس على سماع صراخ الخطباء لم يسهم في زيادة جرعة التسامح، ولا التراحم بين الناس. كما يعلم أن «الأدعية» المنتشرة، كالريح في كل مكان، لم تؤثر عن النبي أو الصحابة، هي مجرد بدعة منكرة، وعصاب جماعي، و«سبوبة» لشركات الكاسيت والاسطوانات، وتخالف قول الله «ادعوا ربكم تضرعا وخفية» و«واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول». والإلحاح عليها في التلفزيون والإذاعة والخطب المخصصة لها ضد فكرة أن الله أقرب إلينا «من حبل الوريد».
نحن بحاجة إلى ترتيب أمورنا، وإعادة النظر في قضايا كثيرة. فلو نظرنا إلى جرائم الشارع المصري في السنوات الأخيرة لوجدنا العجب، فهناك جريمة اغتصاب كل ثلاثين ثانية، أضف إلى هذا التحرش، والقتل لأتفه الأسباب، والاختلاس والسرقة من قبل أثرياء غير مضطرين. لم ينخفض منسوب الجرائم رغم الإسراف في النفاق الاجتماعي المتمثل في هوس بشكليات لم تؤثر في السلوك، وتقديمها على أصول الدين، وأولها «مكارم الأخلاق». فالمليارات المهدرة في تنافس غير معقول، على تكرار أداء في الحج والعمرة، وفيهما حققت مصر أرقاما قياسية، ليس لها تأثير ملحوظ في السلوك العام، فإذا كان الشعب المصري الآن لا يزيد على خطباء، ومن يسمون أنفسهم الدعاة، ورواد صلوات التراويح، وعائدين من الحج والعمرة، ومرتديات الحجاب والنقاب والشادور، ومدمني الاستماع إلى الأدعية في الشارع ووسائل المواصلات، فمن المسؤول عن الجرائم التي تبدأ بالقتل ولا تنتهي بأبواق السيارات في الشوارع.
يعلم الوزير بعقله المتفتح أن الصراخ في مكبرات الصوت هو انتهاك واضح لحقوق الإنسان المسلم وغير المسلم، واعتداء على أمنه النفسي، وأن هذه الهستيريا لا تخدم دينا ولا دولة. أمامنا دول لا يرتفع فيها صوت، لكنها تقدمت لاحترامها حقوق الإنسان، وإعلاء قيمة الفرد كإنسان كرمه الله، بحكم بشريته، قبل إرسال الرسل.
فدولة مثل فرنسا لا تخشى أن تتفكك، أو يرتد مسيحيوها، لأن فيها سيدة مسلمة من أصل عربي هي رشيدة داتي أصبحت وزيرة للعدل، أو بسبب الأم اليهودية والأصل المجري لرئيسها نيكولا ساركوزي. أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد طبقت قاعدة إسلامية صريحة في التساوي بين الناس في الحقوق الواجبات، وأنه لا فضل لأسود على أبيض إلا بالعمل الصالح، وهكذا حققت رقما قياسيا في «مكارم الأخلاق» باختيارها باراك أوباما رئيسا، ولم تبال بأصله، ولا دينه الأول أو الأخير، لأنها بلاد «إنسانية» حقا، لا مكان فيها لزعيم معصوم، أو «ملك أمير للمؤمنين».
عصبيات جاهلية
أما في عالمنا الإسلامي فمازلنا نتفاخر بعصبيات عائلية جاء الإسلام للتخفيف من غلوائها، تمهيدا للقضاء عليها، ونمنع حقوق الإنسان المتمثلة في الجنسية عن مئات الآلاف في الخليج ليظلوا «بدون»، ونمنع حقوق الملايين في اختيار حكامهم، ونحول دون ترشحهم لهذا المنصب «الإنساني»، لنظل عالة على هذا الغرب «الكافر الملحد» الذي يتمتع فيه دعاة مسلمون برواتب شهرية من حزائن الدول النصرانية، ولا يسألون عن مصادرها، وعما إذا كانت قد دخلت فيها ضرائب على الخمور أو لحوم الخنزير، كما يتمتع في هذا الغرب «الكافر الملحد» ملايين المسلمين بكافة الحقوق الدينية والمدنية التي يحرم أمثالهم المسلمون من أي منها في «ديار الإسلام»، ثم ندعي أننا خير أمة أخرجت للناس، وننسى الشرط، فلا نتقدم خطوة، ونشغل أنفسنا بأتفه الأمور، ونتباهى كالبلهاء بإعلان «الفتح المبين» حين يعدل أحدهم عن دينه ويعتنق الإسلام، ناسين أن هذا حق إنساني يحرم المشايخ منه المسلم إذا أراد أن يرتد، كأن الدولة «المسلمة» ستنهار بردته.
يعلم الوزير، ويجب أن يعلم الخطباء أن أي الدين ينتعش ويقوى إذا تقلبت أفكاره على وجوهها، تحت شمس الله، في تربة صحية، فيتعرض للهواء والأفكار، ويتفاعل ويختبر. أما محاولة حماية الدين من أي مؤثر، بأن يحجب عنه الهواء والنور، فتنتجج عنه الهشاشة ولين العظام، بدليل الصراخ العام، كأن القيامة قد قامت ونار جهنم على بعد خطوة، إذا ارتد مسلم، أو أخطأ غير مسلم في حق النبي.
أنتظر أن يكون عام 2009 عاما لتجنب الفخر الزائف بالذات، والحظوة عند الله فقط لأننا مسلمون، وإعادة الثقة للناس في رحمة الله، حتى لا يلجأوا للبحث عن يقين كاذب في الغياب، وعليهم أن يستبدلوا بهذا الوهم يقينا قائما على حب الله بصدق، بعيدا عن هوس الأدعية التي تملأ المساجد والهواتف وقنوات التلفزيون، وتصنع مناخا خانقا يغيب العقل أو يفجره.
لعل الوزير يتفق معي في ضرورة اختبار هذا الأمر: أن يكون عام 2009 للخطب الموجزة، لا تزيد على خمس دقائق، تتضمن قراءة آية واحدة أو حديث، مع شرح موجز للغاية العصرية منه، وتوعية الناس بأمر لا يخص الصحابة ولا السلف، بل ينبع من المشهد اليومي، مثل الدعوة إلى التكافل الاجتماعي فتزويج يتيمة خير من تكرار العمرة والحج، والنهي عن أكل أموال اليتامى، وتحريم البلطجة والرشوة المسماة بالإكرامية، والتذكير بأن «النظافة من الإيمان» لنكف عن إلقاء المخلفات من السيارات في الشارع بعيدا عن الصناديق المخصصة لذلك، والنهي عن رش الشوارع بالمياه، وحظر استخدام نفير السيارات إلا لضرورة، وغض البصر، واحترام خصوصيات الآخرين.