ثالثا : متى وأين نزل القرآن .. ؟؟
هناك إسراء وليس هناك معراج :
المشهور أن آيات سورة النجم تتحدث عما أسموه بالمعراج الذين يزعمون فيه صعود النبي إلى السماء . مع أن الآيات تؤكد أن جبريل هو الذي نزل حيث التقى بمحمد , يقول تعالى عن جبريل ولقائه بمحمد عليهما السلام " وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى " أي أن جبريل هو الذي دنا فتدلى فكان من محمد قاب قوسين أو أدنى . ثم يقول تعالى بعد ذلك عن رؤية محمد لجبريل " وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى : النجم : 13 " أي رآه حين نزل وهبط نزلة أخرى . وكان يمكن أن يقول القرآن " ولقد رآه مرة أخرى " ولكن لكي يؤكد انتفاء المعراج الذي اخترعوه فيما بعد أكد تعالى نزول جبريل للمرة الثانية فقال " وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى " ..
وعموما فإن الروايات التراثية التي تثبت المعراج تقابلها روايات تراثية أخرى تنفي المعراج بل وتجعل الإسراء والمعراج معا مجرد رؤيا منامية يستطيع أي إنسان أن يراها . وروايات أخرى تؤكد على الإسراء وحده وتنفى المعراج بالمنام أو باليقظة. ( ) إلا إن القرآن الذي يؤكد حدوث الإسراء في سورة الإسراء هو نفسه الذي يؤكد في نفس السورة استحالة المعراج ( الإسراء : 93 ) وأيضا في سورة أخرى ( الأنعام : 35 ) وهذا التناقض في روايات التراث يحتم علينا أن نحتكم للقرآن الكريم في موضوع الإسراء وفى موضوع نزول القرآن الوارد في سورة النجم لنتأكد من أن القرآن يربط بين ليلتي الإسراء والقدر , أو بمعنى آخر فان الإسراء حدث ليلة القدر في شهر رمضان وليس في شهر رجب كما تدعي كتب التراث .
ليلة الإسراء هي ليلة القدر
ـ فالذي حدث أن الله تعالى أسرى بعبده ليلا , ليلة القدر ـ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ـ ليريه من آياته . " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ : الإسراء : 1 " وقد أسيء فهم قوله تعالى ( لنريه من آياتنا ) عندما تحولت الرؤيا في روايات الناس إلى فتنة للناس . يقول تعالى " وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ : الإسراء : 60" والناس تقع في الفتنة في هذا الموضوع حين يتكلمون عما رآه النبي من خلال رواياتهم التي ينسبونها كذبا للنبي , ثم يختلفون بشأنها كما هو حادث في روايات الإسراء , وما يسمى بالمعراج . ولذلك فالخير لنا أن نعتصم بالقرآن لننجو من هذه الفتنة .
والمنهج في هذا السبيل أن نتدبر آيات القرآن ونتتبع ما رآه النبي في ليلة الإسراء أو ليلة القدر .
ـ ففي سورة النجم وفى سورة التكوير يتكرر الحديث عما رآه النبي من الآيات , ولكن بتفصيل يتضح منه أنه رأى جبريل , يقول تعالى في سورة التكوير " وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ " ويأتي التفصيل في سورة النجم " مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى " إلى أن يقول تعالى " مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى " وهذا يشرح ما قاله تعالى فى سورة الإسراء " ..لنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا .. " ..
ماهية الرؤيا ليلة الإسراء أو ليلة القدر
ـ ومن خلال القرآن نتفهم ماهية الرؤيا . رؤيا الإسراء ، أو رؤيا ليلة القدر فهي رؤية جبريل وعالم البرزخ .
إن الإنسان ذلك المخلوق المادي لا يستطيع أن يرى الملائكة في هذه الحياة الدنيا . فطالما تظل النفس البشرية مسجونة داخل الجسد فإنه يستحيل عليها أن ترى من خلال ذلك الجسد عوالم البرزخ من الملائكة والشياطين والجن .
آدم وحواء في جنة البرزخ :
ـ وحين كان آدم وحواء في الجنة في مستوى برزخي كان بإمكانهما رؤية إبليس على المستوى الحسي في ذلك العالم . لذا كان إبليس في غوايته لهما بالأكل من الشجرة المحرمة يطوف معهما الجنة ويقسم لهما بأنه لهما من الناصحين , فلما ذاقا الشجرة المحرمة تبدى جسدهما المغطى بنورانية البرزخ وحاولا تغطية جسديهما بأوراق الجنة النورانية فلم يفلحا , بينما إبليس ينزع عنهما لباسهما النوراني ليريهما جسدهما المادي البشرى " السوءة " وهبط آدم وحواء ، إلى الأرض إلى المستوى المادي وأنجبا أبناء آدم . وحرم أبناء آدم مما كان أبوهما آدم وحواء يرونه , أي إبليس وعوالم الملائكة , لذا يقول تعالى يخاطبنا " يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ : الأعراف : 27"
أبناء آدم لا يرون عوالم البرزخ طالما كانوا أحياء في الدنيا
ـ ومنذ ذلك الوقت ـ هبوط آدم وذريته إلى الأرض ـ أصبح الملائكة والجن والشياطين خارج عالم الشهادة ،وأصبحوا في عالم الغيب . ولذلك فإن الإنسان لا يرى الملائكة التي تحيط به أثناء حياته , ولا يراها إلا عند الاحتضار , ثم عند الموت .
يقول تعالى عن الملائكة التي تقترن بكل إنسان تسجل عليه أقواله وأعماله "إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ،مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " إلا أن يقول تعالى عن البعث " وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ، لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ : ق : 17: 20"
أي أن الملكين الموكلين بكل إنسان وهما رقيب وعتيد يتحولان عند البعث إلى سائق وشهيد . والإنسان في الدنيا لا يستطيع أن يراهما , ولكنه عندما يفارق جسده المادي أو ينكشف عنه غطاؤه المادي يراهما ويخاطبهما ويصبح بصره ( بفؤاده أو بنفسه أو بقلبه ) حديدا . والنفس والفؤاد والقلب بمعنى واحد. بل إن الإنسان عندما تبدأ نفسه في مفارقة جسده بالموت يرى ملائكة الموت ويحدث حوار بينه وبينهم , ذكره القرآن , لكن الذين يتحلقون حول فراش المحتضر لا يرون ما يراه الميت ساعة الاحتضار . وفى ذلك يقول تعالى " فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)" الواقعة .
تجسد الملائكة أمام البشر
ـ وفيما عدا الاحتضار واليوم الآخر فلا يستطيع الإنسان أن يرى الملائكة على صورتهم الحقيقية . لذلك كانت الملائكة تتجسد في صورة بشر حين يرسلها الله تعالى في مهمة , كالذي حدث في قصة الملائكة التي أرسلها الله تعالى لتبشر إبراهيم بإسحق ويعقوب ولتدمر قوم لوط ( هود 69ـ 83 ) وكما أرسل الله تعالى الروح جبريل إلى السيدة مريم لتحمل بعيسى عليه السلام فتمثل لها روح القدس بشرا سويا ( مريم ـ 17) .
رفض طلب المشركين لرؤية الملائكة
ـ والمشركون في قريش كانوا يطلبون من النبي محمد أن يروا الملائكة , وكان الرد القرآني ينزل بأنهم لن يروا الملائكة إلا عند الموت وعند اليوم الآخر , وكلاهما حق اليقين . وعندها فلن تكون لهم فرصة أخرى ولن تكون لهم مهلة أخرى , يقول تعالى "
وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ (8)" الحجر: ويقول تعالى " وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ : الفرقان 21،22"
خصوصية رؤيا محمد لجبريل والبرزخ
ـ وإذا كانت الرؤيا التي رآها محمد عليه السلام ليلة القدر أو ليلة الإسراء آية خاصة به , لأنه رأى جبريل على هيئته الملائكية , رآه في البرزخ بعين الفؤاد ، ورأى آيات الله في البرزخ , وذلك ما أشارت إليه سورة الإسراء " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا : الإسراء : 1 " أما سورة النجم فقد تحدثت عن بعض معالم هذه الرؤيا , ومنها أنها رؤيا بالفؤاد وأن المشركين في قريش أخذوا يجادلونه في هذه الرؤيا التي لا يستطيع وصفها لأن معانيها تخرج عن مألوف اللغة والمعنى , وكيف أنه رأى جبريل وهو يهبط مرة أخرى عند سدرة المنتهى عند جنة المأوى التي تعيش فيها أنفس الذين يقتلون في سبيل الله , والتي كان يعيش فيها آدم وزوجه قبل الهبوط إلى الأرض , وما كان يحدث في سدرة المنتهى ورآه النبي لا تستطيع لغة البشر وصفه لذا يقول تعالى " إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى : النجم : 16" , ولأنه عليه السلام كان يرى بقلبه أو بفؤاده فإن بصره المادي كان ثابتا لا يتحرك شأن المبهوت , لذا يقول تعالى " مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ـ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى " النجم 17 ـ 18 "
أهمية الإسراء لهذه الرؤيا المخصوصة
ولأنها رؤيا آية , ورؤيا خاصة لخاتم النبيين وحدثت في ليلة القدر فقد استلزمت استعدادا من نوع خاص , هو أن ينتقل النبي عليه السلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليلا , وهذا هو الإسراء وهذه هي صلة الإسراء بليلة القدر . والجامع بينهما نزول القرآن في نفس الليلة على قلب النبي لأول مرة . وإذا كنا فهمنا الإجابة على سؤال: متى نزل القرآن؟ فإن سورة الإسراء في آيتها الأولى تجيب على السؤال الثاني وهو أين نزل القرآن في ليلة القدر , والإجابة معروفة من الآية , أنه نزل في المسجد الأقصى حيث أسرى الله تعالى بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ..