بعد ليالى الأنس اللندنية، سافرت إلى المغرب بصُحبة زوجتى، التى تنتهز فرصة اقترابى من مصر، فتطير للقائى، حيث يحُط بى الرحال. ونحن على هذا الحال منذ بداية المنفى، قبل سنتين. وكانت مدينة فاس، إحدى العواصم التاريخية للمغرب، هى محطة اللقاء خلال الأسبوع الأول من شهر يوليو (تموز). وكانت المُناسبة هى انعقاد «المهرجان الخامس للثقافة الأمازيغية». ولم أكن قد سمعت لفظ «أمازيغ»، ومُشتقاته، «أمازيغي»، و»أمازيغية»، إلا منذ ثلاثين عاماً، أثناء إعدادى لدراسة موس&aeliaelig;عية عن الملل والنحل والأعراق والأقليات فى الوطن العربى. وهى دراسة استغرقت عشرة أعوام، برعاية مبدئية من مركز دراسات الوحدة العربية، فى بيروت ولكن هذه الرعاية توقفت فى مُنتصف الطريق، نتيجة حساسيات قومية ووطنية من أطراف عديدة، لذلك حينما اكتملت الدراسة لم نجد من ينشرها سوى مركز ابن خلدون للدراسات الديمقراطية بالقاهرة، عام ١٩٩٥.
وكان بسبب هذه الدراسة، أننى تجوّلت فى كل أرجاء الوطن العربى، من جبال الأطلس والأوراس فى المغرب العربى (المملكة المغربية والجزائر) فى أقصى الغرب على سواحل الأطلنطى، إلى مُرتفعات كُردستان عند الحدود العراقية ـ التركية ـ الإيرانية، فى أدنى الشرق العربى. وكان التقائى بهذا المُصطلح الجديد علىّ أنا، وليس على المغاربة، وهو «الأمازيغ». وكنت قد ذهبت قاصداً «البربر»، الذين كان منهم طارق بن زياد، فاتح الأندلس. وقيل لى فى اليوم الأول لبداية الدراسة إن الذى يستطيع أن يُنير لى الطريق فى فهم «المسألة البربرية»،
هو الأستاذ محمد شفيق، مُستشار العاهل المغربى وقتها، وهو الحسن الثانى، ود. عبد الكبير الخطيبى، أستاذ علم الاجتماع، ود. محمد عابد الجابرى، أستاذ الفلسفة بجامعة محمد الخامس. وقصدت ثلاثتهم، وكانوا كُرماء معطائين حول المسألة البربرية، خصوصاً، والمغرب الكبير عموماً. ولفت انتباهى منذ البداية أن هؤلاء المُثقفين الثلاثة هم ذوو أصول بربرية، ولم يتعلموا العربية إلا فى أعمار مُتأخرة نسبياً « بين التاسعة والثالثة عشرة». وأطرف ما فى هذا الاكتشاف، هو أن ثلاثتهم يكتبون بالعربية الفُصحى السلسة والعذبة،
وأذكر أننى حينما أبديت اندهاشى من هذه المُفارقة، ذكّرنى د. محمد عابد الجابرى، بأن مُعظم عُلماء اللغة العربية وأعظم شُعرائها ـ من سيبويه، إلى المُتنبى، إلى محمود سامى البارودى، والرصافى، وأمير الشُعراء أحمد شوقى، كانوا من أصول غير عربية.
وكان الثلاثى محمد شفيق، عبد الكبير الخطيبى، محمد عابد الجابرى هم من صحّحوا معلوماتى اللغوية والتاريخية والسوسيولوجية حول هؤلاء الذين أتيت لدراستهم فى المغرب والجزائر.
من ذلك أن هؤلاء الذين أتيت لدراستهم، لا يُحبون أن يطلق عليهم الآخرون اسم «البربر»، لأنه ليس الاسم الذى يُطلقونه هم على أنفسهم، فهم يُفضلون، وبعضهم يُصرّون، على التسمية التى اختاروها لأنفسهم منذ قديم الأزل، وهى «الأمازيغ»، وتعنى فى لغتهم، «الإنسان الحُر»، مُجمعها «الشعب الحُر».
ويُقال لأنهم سُكّان جبال، فقد تعودوا على الانطلاق، وقاوموا أى سُلطة مركزية حاولت السيطرة عليهم ـ سواء فى ذلك اليونان أو الرومان، قديماً، أو العرب والعُثمانيون، وسيطاً، أو الفرنسيون حديثاً.
وربما لأنهم دوّخوا الإغريق والرومان، أطلق هؤلاء على «الأمازيغ» وصف «البرابرة»، والتى جاء لفظ «البربر»، وشاعت أكثر مع الاستعمار الفرنسى فى القرنين الأخيرين.
واتساقاً مع السياسة الاستعمارية فى السيطرة على الشعوب المسلوبة من خلال «فرّق تسُد» (Divide and Rule)، فقد حاول الفرنسيون فى بداية احتلالهم لبلاد المغرب العربى، أن يُعاملوا البربر مُعاملة مُختلفة، بإصدار قوانين خاصة بهم، تجلت فيما سُمى «بالظهير البربرى»، والذى كان يُميزهم نوعاً ما عن المواطنين أو السُكّان العرب من أهل البلاد.
ولكن البربر هم أنفسهم الذين رفضوا هذا «الظهير» (القانون)، وتضامنوا مع أشقائهم العرب فى إسقاطه. وظلت الوحدة الوطنية بين العرب والبربر، قوية، لا تنفصم عراها خلال الحركة الوطنية وحروب التحرير من أجل الاستقلال ـ الذى حصلت عليه المغرب وتونس عام ١٩٥٦، وحصلت عليه الجزائر عام ١٩٦٢.
ولكن بعد الاستقلال، بدأ البربر فى التعبير عن آمالهم فى تأكيد وتنمية ثقافتهم الخاصة ـ أى لغتهم وفنونهم وطُرق حياتهم. وفى بداية عهد الاستقلال استنكفت القيادات الوطنية العربية هذه النزعة لدى البربر. فقاومتها حيناً، وتجاهلتها حيناً أخر. وأدى ذلك إلى توترات مُتزايدة تحت السطح.
وكالعادة، سارعت بعض الأصوات العربية داخل المغرب الكبير وخارجه باتهام الاستعمار الفرنسى لشق الصف الوطنى المغاربى. وهو شىء وارد بالطبع. ولكن القضية بالنسبة للبربر كانت أعمق كثيراً، ولا علاقة مُباشرة لها مع الاستعمار بل كان لسان حالهم يقول إننا لم نُطالب بهذه الحقوق الثقافية المشروعة، حينما كان الفرنسيون مُحتلون، وعلى استعداد لتقديم هذه الحقوق على أطباق ذهبية. لذلك لا ينبغى المُزايدة علينا أو ابتزازنا «وطنياً».
وللأمانة والتاريخ كان الملك الحسن الثانى هو أول من بادر بالاعتراف بهذه الحقوق منذ مُنتصف ثمانينيات القرن الماضى. وتلكأت الحكومة الجزائرية عقداً كاملاً، قبل أن تفعل نفس الشىء.
فما الذى يعنيه الاعتراف بالحقوق الثقافية للبربر؟
ـ أول اعتراف بأول حق هو فى الإقرار الرسمى بتسميتهم كما يرغبون، وهو «الأمازيغ» وليس البربر.
ـ وثانى هذه الحقوق هو الاعتراف بلغتهم الأم، وتعليمها فى المدارس كلغة وطنية ثانية، إلى جانب العربية وليس كبديل لها، لمن يرغب فى ذلك.
ـ وثالث هذه الحقوق هو إصدار صُحف وبث إذاعات بلغتهم، ولهجاتهم المُتعددة.
وصدر مرسوم ملكى بإنشاء «المعهد الملكى للثقافة الأمازيغية»، ورأسه فى سنواته الأولى السيد محمد شفيق مُستشار الملك، والذى ذكرته فى مطلع هذا المقال.
وهذه هى الخلفية المُعاصرة لمهرجان الثقافة الأمازيغية. والذى قام على تنظيمه فريق من كبار وشباب المُثقفين المغاربة، فى مُقدمتهم الأكاديمى اللغوى المرموق «د. مُحا النادى»، والناشطة الحقوقية النسوية د. فاطمة صديقى. وحرص مُنظمو المهرجان على تنويع أنشطته الفكرية والفنية والتراثية، وعلى تنويع المُشاركين والمدعوين.
ومن ذلك الحضور الكثيف لأبناء الأقليات من لبنان وفلسطين وسوريا والعراق والجزائر وتونس وموريتانيا. كذلك شاركت من مصر د. هُدى عوض، أستاذة العلوم السياسية. هذا إلى جانب عشرات من أبناء المغرب فى المهجرين الأوروبى والأمريكى.
واكتشف العرب المُشاركون كيف أن الأمازيغ يُشاركونهم فى ثمانين فى المائة من طرائق حياتهم، بما فى ذلك لغتهم العربية، وتركيبتهم المزاجية وإيقاع موسيقاهم، وطرقهم الصوفية. وكنا نسهر مع ألوان من فنونهم ونستمتع بكرمهم ودفئهم كل مساء، إلى مُنتصف الليل، فهؤلاء هم إخواننا الأمازيغ.
والله أعلم