أوسلو في 9 يوليو 2009
يصدر مدير السجن أمرا باجراء انتخابات لتنصيب من سيأتي بعده رئيسا للمعتقل الكبير، لكن ابنه الذي تم اعداده لسنوات طويلة يقرر الترشح أمام منافسَيّن أو ثلاثة بعد اعطائهم حرية الحركة خارج الزنزانة لتكتمل الصورة الهزلية لمسرحيةِ ديمقراطيةِ المعتقلين!
ويكاد يُجمع المعتقلون أنَّ ابنَ مديرِ السجن واحدٌ منهم، وأنه يملك الحقَ المطلقَ بحُكْم المواطنة الزنزانية، وجردل الماء والبول، ومشاركة السجناء في غسل المراحيض، وتلقيه معهم ضربات من كرباج الشاويش ذي الشارب الكث، والكف الغليظة، والعينين الحمراوتين، ولم يبق إلا أن يقولوا بأن المديرَ الشابَ القادمَ لديه أيضا بيجاما حمراء في حالة وقوفه أمام عشماوي!
هذا هو المشهد المصري المغرَق في الكوميديا السوداء فلا تدري إنْ كنتَ في سرادق عزاء لوطن أم أنك تحضر مسابقة أجمل نكتة والتي تقام فوق المقابر !
جمال مبارك ليس مواطنا مثل أبناء مصر، ولا يجلس باكيا يوم السابع من كل شهر لأن مرتبه نفد ولا يستطيع شراء الزيت والسكر والحليب، وهو مضطر لاستخدام لمبة الجاز بعدما تم قطع الكهرباء لعدم قدرته على السداد!
جمال مبارك ليس مواطنا، لكنه سيد، والأسياد لا يترشحون أمام العبيد، وهو الذي يحاسب الآخرين ولا تستطيع جهة واحدة في مصر كلها من باخرتها الغارقة إلى مسرحها المحترَق، ومن مُقَطمها الجاثم فوق أبناء القهر والفقر والبؤس إلى مدافنها التي يحسد أحياؤها أمواتها على الهدوء والسلام أنْ ترفع اصبعها احتجاجا أو تذمُرا أو تلجأ إلى القانون والدستور وشرعة حقوق الانسان، فالرجل الكبير يملك مصر، برا وبحرا وجوا، وهو شريك لله، تعالى، في العبودية، غير أن الله، سبحانه، يرحم ويعفو ويصفح، أما مالك مصر ورقاب شعبها فقد تلقى من المديح والولاء والثناء والاستجداء والاستغفار أكثر مما تلقى العلي القدير حتى لو تنقبت أو تحجبت كل نساء مصر والتحى أبناؤها وكحّلوا عيونهم وضاعفوا صلاة التراويح سبعين ضعفا، فالعبودية عبوديتان، واحدة شكلية لخالق الكون، والأخرى واقعية لسيد القصر وابنه ومن يحملون اسمه!
جمال مبارك ليس مواطنا يقدم الاقرار الضريبي، ولا يستطيع وزير المالية أو الجهاز المركزي للمحاسبات أن يمنع عنه طلبا باستئجار فنادق وسيارات وطائرات ليحتفل بدخوله عش الزوجية، على نفقة الدولة، ولو أراد اصطحاب الأسطول البحري كله معه في رحلة صيد لقال له وزير الدفاع: طلباتك أوامر يا فندم!
لو سافر جمال مبارك إلى أمريكا والمكسيك، وصافح كل مرضى أنفلونزا الخنازير، ثم عانقهم وعاد بعدها إلى مصر فلا يستطيع وزير الصحة أن يطلب منه في مطار القاهرة الدولي الخضوع لفحص طبي، ولو طلب منه ذلك وغضب ابن الرئيس فيمكنه أن يغلق كل مستشفيات مصر، ويلقي بالمرضى والأطباء والممرضات إلى الشارع أو يعتقلهم بغير محاكمة.
جمال مبارك ليس مواطنا مثل أهل مصر، وجواز سفره ممنوع رؤيته على كل أجهزة الأمن والمخابرات، وهو لا يقوم بتجديده مثل بقية خلق الله من المصريين، ولا يذهب إلى البنك ليضع مرتبه في حسابه، إنما يأتي إليه البنك ومديره!
جمال مبارك فوق القانون والدستور، ولا يقف أمام هيئة محكمة ليدلي بشهادته أو يدافع عن نفسه، ولو استدعته محكمة مصرية فإن وزير العدل سيجلس في بيته آخر اليوم تكفكف له زوجته دموعا دافئة على منصب احتفظ به مادام السيّدُ ابنُ السيدِ راضيا عنه، وفقده عندما تصور أن ابنَ الرئيس يتساوى مع المصريين!
صديق لي كان يعمل شقيقه الأكبر في كندا لأكثر من ربع قرن، وكَوّن ثروة لا بأس بها، ثم عاد إلى مصر بفكرة مشروع كبير ومنتج وسيُدِرّ عليه وعلى الدولة أرباحا يسيل لها لعابُ أي رجل أعمال. قضى الرجل ثلاثة أعوام يتنقل ما بين توقيع لموظف وشهادة من هيئة أو مؤسسة اسكانية ويقف عند عشرات التصريحات التي لا يُذيّلها قلم مرتش.
وبعد أن تمّت كل الاجرات القاتلة، وكادت الموافقة النهائية تسقط فوق مكتب المهاجر العائد الذي كان متفائلا، حتى رن الهاتف الأنيق عن يمينه، فإذا المتحدث هو ابن الرئيس، شحما ولحما وصوتا: الآن يمكنك أن تبدأ مشروعَك، وستصلك الموافقة النهائية شريطة أن نتقاسم 50%!
كانت المفاجأة على الرجل كبيرة، فحزم أمتعته، وعاد إلى كندا بعدما أقسم برب العزة أن لا يعود إلى مصر مادام حياً!
جمال مبارك رضع احتقار المصريين في قصر للشياطين، وهو ابن طاغية مجرم دَمّرَ واحدة من أجمل بلاد الدنيا وأكثرها عراقة وضربا في جذور التاريخ، ويعرفها تلميذ الابتدائي في أي مدرسة في العالم، من ريجا إلى بكين، ومن طوكيو إلى بونس آيرس، ومن هلسنكي إلى هراري.
قرأت مؤخرا مقالا لــ ( محمد الباز) عن الدراسة التي صدرت بوصف مشهد قاع المجتمع المصري، ولم أصدق ما يحدث في مصر، فجريمة هتك عرض وطن، ثم نهب خيراته، وتغيير سلوكيات أبنائه، وتوسعة نطاق الفقر حتى بلغت نسبة المصريين تحت خط الفقر87% وهي نفس النسبة التي حصل عليها الرئيس في انتخابات ولايته الخامسة، مكتملة الأركان، ويستحق مبارك الاعدام مئات المرات، وكلما أوشكت الروح على ترك جسده، أعيد مشهد الاعدام حتى يصل إلى عدد أطفال الشوارع الذين أفرزهم العهد الأسود لهذه الأسرة الارهابية.
ماذا تبَقّىَ في مصر؟
ملايين من العاطلين عن العمل، وأطفال الشوارع، والمتسولين، والمسجلين خطرين، ومليون وأربعمئة ألف رجل أمن للحفاظ على عصابة مبارك فوق رؤوسنا، ومرضى الكبد الوبائي، وأشباه الموتى المنهكين تحت خط العوز وقرب هامش المجاعة، ونصف مليون مدمن مخدرات، ومياه ملوثة، وهواء يسمم الرئتين، ومزروعات مسرطنة، ورشوة لا يتحرك مواطن من مكان إلى آخر إلا بعد نفحة اكرامية الفساد، ثم نتحدث عن حق المواطن جمال مبارك في الترشح أمام نفسه مع وجود خيال المآتة كما فعل أبوه الطاغية عندما استدعي عدة متخلفين عقلياً لينافسوه وقال أحدهم بأنه لو نجح فسيهدي النجاحَ للرئيس، وقال ثان بأنه يريد أن يرشح نفسَه حتى يتشرف بمصافحةِ السيد الرئيس، وقال ثالث بأنَّ أهم خطوة في برنامجه لاصلاح مصر هي عودة الطربوش فوق رؤوس ذكور الأمة!
جمال مبارك في حقيقة الأمر سارق لكرسي الحكم، ومتآمر مع والده ووالدته لابعاد المصريين الأكفاء، ثم اعداده ليتسلم عرش أم الدنيا، وتضمن الأسرة الارهابية عدم محاكمة مباركها على كل جرائمه.
جمال مبارك ليس مواطنا، ولا يحق له الترشح ولو خرجت مصر كلها تؤيده، ومكانه الطبيعي مع والده داخل قفص مُحْكَم في محكمة شعبية عادلة يتلو خلالها عشرات القضاة بالتناوب تفاصيل جرائم لثمانية وعشرين عاما لو تفرّغ إبليس بنفسه لتدمير مصر لما فعل نصف ما قام به المجرم الأكبر وابنه.
مصر على شفا بركان، والجيش ينتظر غضبة الشعب، والشعب مُخَدّر بأحاديث وفتاوى فقهاء السلطة، وبوجع الفقر، وبرعشة الخوف، وبأكاذيب السلطة الرابعة، ونفاق السلطة التشريعية، وجبن السلطة القضائية، وصمت أبطال العبور، ومع ذلك فلا يزال جمال مبارك مُصِرّا على أن يقف في شرفة قصر العروبة، وينزل سرواله، ويطرطر علينا جميعا!
قلمي ينزف كما لم ينزف من قبل، ولم أعد أعرف الفارق بين الحبر والدم، وغاضب أشد الغضب على الذين يطلبون مني أن أخفف من حدة كلامي، وأن استعين بمفردات ضادية تكون حانية، ورحيمة، تجمع بين الغزل والهجاء، ولطيفة مع قوات الاحتلال الوطني لبلدي، ومع عصابة تتحرك بثبات لتنهي إلى غير رجعة العصرَ المصري، وتجعل بوركينا فاسو وأوغندا وبنين وجزر القمُر دولا عملاقة مقارنة بأرض الكنانة.
في قلمي وأناملي فوق الكي بورد شحنات غضب جمرية على كل شيء، من الصامتين إلى مبرري جرائم مبارك، ومن زملائي أصحاب مهنة الابتعاد عن المتاعب(!) إلى المحامين والقضاة والأكاديميين والعسكريين وكل رجال الدين الاسلامي والمسيحي، فالأمر لا يحتمل صمتا لشهرين أو لثلاثة أو لنهاية العام، فإما أن نبيع شرفنا وأعراضنا وكرامتنا وديننا ووطنيتنا وأولادنا بثمن بخس، أو نقف مرة واحدة أمام الله مؤكدين له، سبحانه، أننا نستحق نفخة الروح فينا، ثم ننظر في عيون أولادنا ونعيد لهم بلدهم ومستقبلهم وأحلامهم وآمالهم.
هل نحن بلهاء إلى هذا الحد الذي يجعلنا ننتظر(!) حتى تتضح أمامنا معالم مسرحية توريث السلطة، رغم أن الستار تم رفعه منذ سنوات طويلة، ولم يبق على انتهاء المشهد الأخير من الفصل النهائي غير جملة أو جملتين في وجود أو غياب المُلقن؟
تحَدثوننا عن المواطن جمال مبارك، ونحن نحدثكم عن الهاربَيّن من العدالة، جمال مبارك ووالده!
هل صحيح أن الله عندما خلق المشاعر الانسانية في آدم وبنيه جعل الغضب حراما على المصريين ولو من أجل الكرامة ولقمة العيش والشرف والحق والعدل؟
أعياني البحث لأقل قليلا من نصف عمري عن كلمة السر التي يغضب إثرها المصريون، ولا زال البحث جاريا عنها، وأخشى أن أكتشف أنني أبحث عن المصريين أنفسهم!
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
Taeralshmal@gmail.com