(10 ) قواعد الهداية والاضلال فى المشيئة.(فى السياق القرآنى العام )

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١٧ - يونيو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ:
(10 ) قواعد الهداية والاضلال فى المشيئة.(فى السياق القرآنى العام )
مقدمة :
1 ـ سبق القول أن الفرد يشاء الهداية فتأتى هداية الله جل وعلا تؤيد وتؤكد هدايته ، وأنه يشاء الضلال فتأتى مشيئة الله جل وعلا تزيده ضلالا .أى إن مشيئة الفرد سابقة فى الهداية والضلال لمشيئة الرب جل وعلا. وهذا يمكن فهمه بإتباع المنهج القرآنى فى تفهم الآية طبقا للسياق الذى جاءت فيه وما يتصل به ، وأن للسياق القرآنى نوعين متداخلين : السياق الخاص المباشر الذى جاءت فيه الآية ،أى ماجاء فى الآية وما قبلها وما بعدها فى نفس الموضوع ، والسياق العام الذى يتعرض للموضوع فى القرآن الكريم كله .
وكان المقال السابق لمحة عن السياق القرآنى الخاص فى المشيئة فى الهداية والضلال. أما مقال اليوم فهو لمحة أخرى عن السياق القرآنى العام فى المشيئة.ويستلزم السياق العام تجميع كل الآيات الخاصة بموضوع الآية المراد بحثها، وتحليلها موضوعيا فنراها تعطى فى النهاية رأيا مترابطا متسقا مع بعضه.ونعطى هنا أمثلة نضع لكل منها عنوانا لموضوعها .
أولا : ارتباط التوبة بمشيئة الفرد :
يقول جل وعلا : (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا)(النبأ 39). الآية واضحة فى تقرير مشيئة البشر عن الهدى ، وبالتالى فان فى الآية الكريمة إيجازا بالحذف عن الجانب المناقض وهو من شاء الضلال ،ولكن تم حذفه لأن الدعوة هنا لمن يشاء الهداية من البشر ، ولأن التحذير من الضلال جاء فى الآية بعدها. ولنفهم الآية فى سياقها الخاص والمباشر نقرأ قوله جل وعلا عن يوم الحساب:(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)
ولكن الاية الكريمة تتضمن نوعا آخر من الايجاز بالحذف ، وهو (فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) المحذوف هو (شاء الله تعالى هدايته ). وهذا الايجاز بالحذف جاءت الاشارة اليه فى السياق القرآنى العام الذى نعرض له فى هذا المقال. فالفرد لو شاء الهداية فإن مشيئة الله تعالى بهدايته تكون أسرع مما يتصور الانسان ،وتعجز لغة البشر عن قياس وتصور هذه السرعة الالهية، لذا جاء فريدا ذلك التعبير القرآنى عن سرعة المشيئة الالهية بالهداية لمن يختار الهداية ، إذ جاء بما يعبر عن الارتباط واللازم بين مشيئة الرحمن ومشيئة مريد الهداية، كما لو كانا يحدثان فى وقت واحد ،مع ان المعروف أن يسبق الفرد بمشيئة الهداية وتاتى المشيئة الالهية لاحقة ومؤكدة. هنا نتامل قوله جل وعلا: (كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ)(المدثر 54 : 56)،أى بمجرد مشيئة الفرد تأتى مشيئة الله. هذا التعبير بالاستثناء هو أقرب لغة بشرية تعبر عن سرعة استجابة المشيئة الالهية لمشيئة البشر فى الهداية.
وتكرر هذا فى قوله جل وعلا عن القرآن الكريم : (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )( التكوير 27 :29 ) فالقرآن الكريم رحمة للعالمين وهو تذكرة لمن يشاء منهم أن يستقيم ، وبمجرد مشيئة الفرد الاستقامة تاتى مشيئة الله تعالى بأسرع مما يتصور الانسان . هنا أيضا سبق نزول كتاب الهداية ثم تاتى مشيئة البشر فى الهداية وتلحقها باسرع من سرعة الضوء مشيئة الرحمن.
وفى تفصيل اكثر يقول جل وعلا:(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)(الانسان 29 :31).أى من يشاء من البشر أن يدخل فى رحمة الله يفوز بها ، ومن يرفضها ينتظره عذاب أليم.
ثانيا :بالقرآن يزداد المهتدى هدى ويزداد الضال ضلالا.
يقول جل وعلا : (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ). الآية بأكملها تقول :(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )( الزمر 23).أى المهتدى الذى يخشى ربه جل وعلا يزداد بقراءة القرآن والاستماع اليه خشوعا وهدى،بينما يزداد الضال بالقرآن ضلالا. وهذا المعنى يؤكده القرآن الكريم ، فالمستمع المؤمن للقرآن يزداد به إيمانا:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)(الأنفال) والمستمع الضال يزداد به ضلالا(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( الأنفال 31 : 32 ).
وهناك أمثلة كثيرة منها (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) ( التوبة 124 : 125)و ( المائدة 64 ، 68 ).وفى المجال البحثى يكون القرآن شفاء للمؤمنين،ولا يزيد الضالين إلا ضلالا:(الاسراء 82 ) ( فصلت 44 )
ثالثا : قواعد التوبة والغفران والعذاب والنعيم فى الاخرة
1 ـ يقول جل وعلا:(يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ )(العنكبوت 20 )
لا يعنى هذا أن مشيئة الله تعالى ينتج عنها تعذيب من لا يستحق ورحمة من لا يستحق ، ليس فقط لأن ذلك ينافى عدل الله جل وعلا، ولكن لأنه أيضا ينافى وعده والقواعد التى كتبها على نفسه فيما يخص الجزاء و الثواب والعقاب .
إن مشيئة الله تعالى هنا مقيدة بوعده فى مجازاة المؤمن الصالح بالجنة ومجازاة العاصى الكافر بالنار. عن الوعد بالجنة لمن يستحقها يقول تعالى :( وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) وبعدها تأتى القاعدة بأن من يعمل سوءا لا بد من أن يجازى به ، وأن الأمر ليس بالتمنى : (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)(النساء: 122ـ ).
ويقول جل وعلا للنبى محمد فى تساؤل استنكارى بأنه لا يستطيع إنقاذ أحد من النار (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ) وبعده يأتى الوعد (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ )(الزمر 20 ـ ) وبالتالى يمكنك أن تصمم على دخول الجنة بأن تعيش حياتك بالايمان الحق والعمل الصالح،ويتحقق لك ذلك لأن الله جل وعلا لا يخلف الميعاد، ولأن مشيئته تتبع وعده.
ومن القواعد الأساس عند رب العزة أنه لا يمكن أن يتساوى الصالح بالعاصى والمتقى بالفاجر :(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)(ص 28 )(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (القلم 35 : 36 ).
2ـ ويقول جل وعلا :( يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
الآية بأكملها تخاطب خاتم المرسلين ، تقول له : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )(آل عمران 128 : 129). أى ليس الغفران الالهى مرتبطا بتدخل البشر وإدعاءاتهم . الغفران مرتبط بالمذنب الذى يريد التوبة ويتوب ولو كانت توبته جادة وحقيقية قبلها الله جل وعلا وغفر له يوم الحساب . ولا مجال مطلقا لتدخل أى بشر ـ حتى الأنبياء ـ فى هذه العلاقة المباشرة بين الفرد ورب العزة جل وعلا. ولذلك أمر الله جل وعلا خاتم المرسلين فى سور مكية أن يعلن أكثر من مرة أنه لا يملك لنفسه أولغيره نفعا ولا ضرا:(قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ)(الأعراف 188) (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ) (يونس 49).النفع والضر خاص بمشيئته جل وعلا وفق وعده وقواعده التى لا مجال فيها للتحيز لأحد دون أحد لأنه جل وعلا هو رب الناس جميعا،وأكرمهم عنده هو أتقاهم ( الحجرات 13 ) والتقوى تفتح ذراعيها لكل من شاء الهداية ، كما يفتح الشيطان ذراعيه لكل من شاء الضلالة. وسبق أن قال جل وعلا لخاتم المرسلين فى سؤال استنكارى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ)( الزمر 19 ) وكلها آيات مكية .
وفى المدينة نطق النبى محمد عليه السلام بعبارة غاضبة تعدى فيها حدوده فنزل قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )(آل عمران 128 : 129). أى يؤكد ما سبق قوله فى مكة أن ليس له من الأمر شىء .
3 ـ قواعد التوبة
يقول تعالى (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء ). هل يعنى ذلك أن مشيئة الله جل وعلا هنا مطلقة بحيث يتوب على من لا يستحق ؟ سياق الاية هنا يتحدث عن غزوة حنين وهروب بعض المؤمنين ،وقال بعدها رب العزة:(ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )( التوبة 27 ). واضح أن للتوبة قواعدها التى تحكم مشيئة الله فيمن يشاء أن يتوب عليه . فمن يريد التوبة ويقوم بمتطلباتها يقبل الله جل وعلا توبته . وهنا نتعرض للسياق القرآنى الذى جاءت فيه قواعد الغفران والتوبة من حيث الوقت ، ومن حيث اصلاح العقيدة والسلوك.
*التوبة يجب أن تكون قبل الموت بوقت كاف ليتمكن التائب من بدء حياة جديدة يتأهل فيها للصلاح لدخول الجنة،وبالتالى فلا يقبل الله جل وعلا التوبة عند الاحتضار،يقول جل وعلا : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)(النساء 17: 18).اى إن الكافر المشرك أوالعاصى لو تاب مبكرا فى حياته فإن الله جل وعلا يقبل توبته،أما إذا مات مشركا كافرا فلا مجال للغفران مطلقا:(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا)(النساء 48، 116 ). ولهذا نحرص على دعوة الأحياء للهداية بالقرآن لينقذوا أنفسهم قبل أن يأتى احدهم الموت ويرى ملائكة الموت فيصرخ ـ حيث لا يسمعه أحد من المحيطين به ـ يرجو فرصة اخرى:(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(المؤمنون 99 : 100 ).
*ولابد للتوبة من تصحيح الايمان واصلاح العمل ليكون التائب مهتديا حقيقيا يستحق الغفران الالهى يوم القيامة،يقول جل وعلا:(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)(طه 82 ). هنا يأتى بعد التوبة الايمان والعمل الصالح والهداية لكى يقبل الله تعالى التوبة ويغفر للتائب.
وفى سورة الفرقان ذكر رب العزة من صفات "عباد الرحمن ":(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) أى لا يرتكبون الكفر والقتل والزنا ، وهى من كبائر الذنوب ، ومن يفعلها يكون خالدا فى النار إلاّ إذا تاب،تقول الاية التالية:(يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا)(الفرقان 68 ـ).التوبة الحقة هى ولادة جديدة للتائب يتغير فيها سلوكه ويصبح شخصا آخر مؤمنا تقيا بعد أن كان عاصيا ظالما فاجرا ، ولا يتحقق هذا بمجرد كلمة تقال،بل بتغييركامل فىالعقيدة والسلوك يستلزم وقتا لاحلال العمل الصالح مكان العمل السيىء حتى تتمكن الأعمال الصالحة اللاحقة أن تلغى وتطمس و تغطى وتكفّر وتغفر الأعمال السيئة السابقة. وهذا يستلزم إقامة الصلاة ، وليس مجرد (تأدية الصلاة ) أى إقامتها بالتقوى فى التعامل مع الناس وفى اخلاص الصلاة لرب الناس ، وفى الخشوع أثناء تأدية الصلاة ، بحيث يكون اليوم كله بين تأدية خاشعة للصلاة وسعى فى الخير مع الناس وعمل الصالحات،ثم التمسك بالصبر مع إقامة الصلاة ، يقول جل وعلا:(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )(هود 114: 115).هنا تتبدل سيئات العاصى الى حسنات،ويتحول الى مؤمن ومحسن .يسرى هذا على من كان كافرا ومن كان عاصيا،إذا شاء الهدى وتاب تاب الله تعالى عليه وهداه ،أما إذا مات بعصيانه أوكفره فلا مجال له فى الغفران مطلقا. هذا كلام قد يهزأ به بعضهم ولكن سيأتى الموت لكل حىّ بالخبر اليقين ، وعندها لا ينفع الندم .
4ـ توبة الكافرين المعتدين عن الاعتداء الحربى
يقول جل وعلا :( وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ( التوبة 15 ). هذا لايعنى أن الله تعالى يختار قوما بعينهم ليتوب عليهم تاركا الاخرين للنار،وإنما من يشاء من الناس التوبة صادقا يشاء الله التوبة عليه ،والله جل وعلا ( عليم حكيم ) بمن تستحق توبته القبول والغفران. أى نفس المفهوم السابق عن قواعد التوبة.
على أن الآية السابقة لها سياق آخر متداخل مع موضوع التوبة، فالآية بأكملها تقول: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )(التوبة 14:15 ). وهنا قد يتساءل بعضهم عن القسوة الظاهرة فى الآية الكريمة، ويتهم الاسلام بالدموية.أى لا بد من التعرض بايجاز للسياق القرآنى فى تشريع القتال والتوبة معا.
* فالقتال فى الاسلام ليس للاعتداء لأن الله جل وعلا لا يحب المعتدين ولكن فقط لرد الاعتداء (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )(البقرة 190 ). وحيث حدث صدام حربى ،أو بالتعبير القرآنى (ثَقِفْتُمُوهُمْ) فالواجب رد عدوانهم بالمثل :( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ومن المعاملة بالمثل أنهم أخرجوا المؤمنين من ديارهم فى مكة وتلك هى الفتنة أو الاضطهاد فى الدين ، وهى أشد من القتل ، فيكون من حق المؤمنين أن يخرجوهم من ديارهم ،اى فعل نفس الشىء، ولكن دون أن يقاتل المؤمنون عند المسجد الحرام إلا فى حالة الدفاع عن النفس : (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ )(البقرة 191 )فإذا كف المعتدون عن الاعتداء فان الله جل وعلا يتوب عليهم ويغفر لهم :(فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ( البقرة 192 ) وفى كل الأحوال فالقتال لمنع الاكراه فى الدين أى منع الفتنة فى الدين ،حتى يكون مجال الدين حرا ، من شاء أن يؤمن فليؤمن ومن شاء أن يكفر فليكفر ، ويكون مرجع الدين لله تعالى يوم القيامة يحكم وحده فى (يوم الدين ) بين الناس فيما هم فيه مختلفون،وهذا معنى قوله جل وعلا:(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ )( البقرة 193 ).
* فى الآيات الساتبقة من سورة البقرة نرى قاعدتين :
ـ إن القتال فى الاسلام هو للدفاع عن النفس وعن الحق فى حرية المعتقد للجميع لمنع الاكراه فى الدين اوالفتنة فى الدين.
ـ إن الكافر المعتدى لو انتهى عن عدوانه فان الله تعالى يغفر له،ويمنع الاعتداء عليه (فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ )(البقرة:192: 193)
* وفى سورة الانفال تتكرر الدعوة لهم بالكف عن الاعتداء الحربى مقابل ان يغفر الله تعالى لهم ما قد سلف ، ( قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) مع التحذير بأنهم لو استمروا ستتكرر معهم سنة الله تعالى فى التعامل مع الظالمين السابقين،يقول جل وعلا: (وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ)(الأنفال 38 )، وطالما ظلوا على إعتدائهم وإكراههم الناس فى الدين فلا بد من قتالهم دفاعا عن النفس ودفاعا عن حرية الاعتقاد كى يكون الدين لله تعالى دون تدخل بشرى فى فتنة احد فى دينه :(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(الأنفال 39 )
* وسنعرض بالتفصيل لسورة براءة فى مقال عن ملامح الكفر السلوكى ، ولكن نقول فى عجالة إن من روى السيرة ( النبوية ) فى العصر الأموى كان من أحفاد قريش،وكان التعصب لآبائهم المشركين المعتدين مع الخوف من الأمويين يدفعهم لتجاهل وقائع كثيرة تدين قريش والأمويين بالذات، وهذه الوقائع والأحداث جاءت عنها إشارات فى القرآن الكريم .والقسم الأكبر المسكوت عنه هو إعتداءات حربية استمر فيها طغاة قريش يعتدون على المؤمنين بعد فتح مكة،وأدمن أولئك المعتدون نقض العهود مما استلزم نزول سورة التوبة باعلان البراءة منهم ،وإعطائهم مهلة الأشهر الأربعة الحرم ليكفوا عن الاعتداء، فان لم يكفوا فلا بد من مواجهتهم حربيا لوقف اعتدائهم .
* ونستعرض سريعا الايات الأولى من سورة التوبة :
يقول تعالى :( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ) أى اعلان التبرؤ الالهى من المشركين ناقضى العهود ، إى فطالما نقضوا العهد واعتدوا فهم بسلوكهم هذا مشركون ، والله تعالى يعلن تبرأه منهم . ( فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ) أى لهم مهلة الأشهرالحرم الأربعة ليتدبروا أمرهم بين التوبة أوالاستمرار فى العدوان ونكث العهد ، وهم لن يعجزوا الله تعالى لو استمروا فى اعتداءاتهم. ( وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ).ويبدأ تنفيذ هذا الاعلان بالبراءة من المشركين المعتدين مع بداية موسم الحج ( الحج الأكبر )،فإن تابوا فهو خير لهم ، وإن استمروا فى العصيان فليسوا بمعجزين لله جل وعلا ، وينتظرهم عذاب أليم . ( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )أى لا ينطبق هذا على من كفّ عن الاعتداء وكف عن مناصرة المعتدين ، وقام بأداء العهد حسب الاتفاق ، وهنا يجب على المؤمنين الوفاء بعهدهم الى أن تنهى مدته . أما بالنسبة للمعتدين المستمرين على إعتدائهم فيجب السكوت عليهم طيلة المهلة الممنوحة لهم وهى الشهر الأربعة الحرم ، فإذا انتهت تلك المهلة وظلوا على عدوانهم فيجب على المؤمنين التصدى لهم بقتالهم فى كل مكان الى أن يتوبوا ويتوقفوا عن الاعتداء ، والتوبة تستلزم إقامة الصلاة وايتاء الزكاة أى يتحول العصيان والاعتداء الى خير وسلام ، وهذا معنى قوله تعالى :(فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ). وفى حالة الحرب تلك فان فرصة حقن الدماء تظل سارية ، فلو استسلم جندى من المعتدين مستجيرا فلا بد من حقن دمه ، وإسماعه بعض القرآن الكريم ليعلم حقائق الاسلام ، وليكون هذا الإسماع حجة عليه يوم القيامة ، ثم إيصاله بسلام الى أهله :( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ).ويقول جل وعلا : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ). هنا إيجاز بالحذف ، وجاء الايجاز للمعرفة به من قبل.والمعنى كيف يكون للمشركين عهد عند الله تعالى ورسوله ثم ينقضونه ؟ أما الذين يوفون بالعهد فاستقيموا معهم طالما استقاموا معكم. والواضح بين آيات كثيرة من سورة التوبة أن أولئك المعتدين القرشيين كان يتعاطف معهم كثيرون من المؤمنين بحكم القرابة والعصبية القبلية ( من القبيلة ) ، نلمح هذا من نبرة التساؤل والتذكير للمؤمنين فى قوله جل وعلا ( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ).أى عندما يغلبون لا يراعون فيكم عهدا ولا ذمة ، وعندما تنتصرون عليهم ينافقونكم بافواههم . فهنا إيجاز بالحذف فالمعنى(كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً(وإن تنتصروا عليهم ) يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ). ثم يصفهم الله تعالى بالتجارة بالدين والصد عن سبيل الله جل وعلا:(اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ثم يتكرر تأكيد أنهم لا عهد لهم ولاذمة،وانهم معتدون :( لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ) ، مع ذلك يتكرر ويتأكد لهم العرض المفتوح بالتوبة:(فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )وفى المقابل فإن عادوا الى نقض العهد والاعتداء فيجب قتال (أئمتهم) أملا فى ان يكفوا عن الاعتداء ونقض العهود :(وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ). ولأن هناك من يتعاطف معهم من داخل المؤمنين فان الله تعالى يذكّرهم بجرائم أولئك المعتدين :(أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) وبين سطور الاية الكريمة نعلم أحداثا مسكوتا عنها ، وهى أنهم ـ فى إحدى معاركهم الحربية ، كادوا يتمكنون من إخراج النبى محمد من مكة بعد فتحها ، وفى تلك المعركة كانوا ناكثى العهد البادئين بالعدوان.ونصل الى الاية الكريمة القائلة:( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )(التوبة:ـ:15 ). أى قاتلوا أولئك المعتدين ناقضى العهد ، فإذا شاءوا التوبة فمشيئة الله تقبل توبتهم .
* على عكس الشائع فإن سورة التوبة هى أكبر دليل على أن الاسلام هو دين السلام ، خصوصا فى التعامل مع طغاة احترفوا التجارة بالدين والاكراه فى الدين وإشعال الحرب الدينية ومطاردة المؤمنين المسالمين ونقض العهود . ومع كل ذلك كان يتكرر عرض التوبة عليهم ، وتتوج هذا باعلان الاهى بمهلة الأشهر الأربعة الحرم. وبالتالى فإن ما جاء من عرض التوبة عليهم فى سورة التوبة تكرر من قبل فى سورتى البقرة والأنفال. ثم تابوا توبة ماكرة قبيل موت النبى محمد عليه السلام ،بعد حياة حافلة بحرب الاسلام والمسلمين، أى دخلوا فى الاسلام ليكيدوا للاسلام وليركبوا ظهور المسلمين ، وهذا ما حدث بالفعل إذ أقاموا الدولة الأموية تحت اسم الاسلام،ومن أجلها قتلوا آل بيت محمد واستباحوا المدينة والحرم المكى .
5 ـ لامجال للتزكية والتمنى فى الغفران :
يقول جل وعلا :( يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء)
هذا جزء من آية تقول (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ )(المائدة 18 ).المعنى إن الله جل وعلا يغفر لمن يشاء منهم التوبة الصادقة ويعذّب من يشاء منهم العصيان ويموت به.
ولكن الاية الكريمة تطرح أيضا قضية مرض خطير تصاب به كل الأديان الأرضية ، وهى التمنى والتزكية، وقد تعامل السياق القرآنى مع هذه القضية فى رده على بعض أهل الكتاب، وبما يشير الى نصح المسلمين ألا يقعوا فى نفس الخطأ، ولكن وقع المسلمون فى نفس الخطأ،فهم مثل غيرهم يعتقدون أن الله تعالى منحاز اليهم ،وأن غيرهم المغضوب عليهم والضالون .
ونبدأ بالآية المكية التى يقول فيها رب العزة:(فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى )( النجم 32). هنا نهى للفرد وللجماعة عن تزكية النفس بالتقوى ،لأنها الخطوة الأولى فى سلم الاحتراف الدينى واستغلال الدين لمطامح دنيوية،وهذا مناقض للاسلام،وإن كان أساس كل دين أرضى .
فى المدينة تكثف التعامل مع أهل الكتاب ، ومنهم من كان ضالا ومنهم من كان مهتديا. الضالون زكّوا أنفسهم بالصلاح والتقوى فردّ الله تعالى عليهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ، انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا)( النساء 49 : 50 ).ومن ملامح تزكية النفس زعم بعضهم أنهم وحدهم أولياء الله، فقال تعالى يرد عليهم متحديا بأن يتمنوا الموت مؤكدا أنهم لن يتمنوا الموت أبدا بسبب ظلمهم وجرائمهم:(قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ )(الجمعة 6:7). ومعروف أن شيوخ التصوف يزعمون أنهم وحدهم أولياء الله من دون الناس. وزعم بعض أهل الكتاب أنهم أصحاب الجنة من دون الناس فردّ الله جل وعلا عليهم بنفس التحدى، أى تمنى الموت مؤكدا أيضا إنهم لا يمكن أن يتمنوا الموت أبدا بسبب جرائمهم وظلمهم :(قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ويقول جل وعلا يفضح نفسيتهم.( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة 94 : 96 )ونفس الحال فىالمحمديين يؤمنون إيمانا جازما بأنهم سيدخلون الجنة بشفاعة محمد، وبمجرد نطق (الشهادتين ) مع إنهم أحرص الناس على أى حياة ،الى درجة أن يتحملوا قهر الحكام بلا ثورة وبلا اعتراض تمسكا بحياة ذليلة.
أى أن المسلمين مالبثوا أن وقعوا أسرى الأمانى وتزكية النفس مع سبق التحذير الضمنى. وقد جاءهم التحذير المباشر فى قوله تعالى :(لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)(النساء 123: 124). أى ليس الدين بالتمنى ولكن يتوقف الجزاء على العمل والايمان ، إن هدى أوضلالا.
رابعا :الرسل بالاختيار والاجتباء
يقول جل وعلا (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ )
هذا جزء من آية كريمة تقول : (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ )(الشورى 13) أى فالله تعالى يجتبى (اى يصطفى ويختار ) من يشاء ليكونوا رسلا وأنبياء، ويهدى اليه كل من ينيب ويهتدى. فالانابة و التقوى هى البداية من الفرد ن وتليها هداية الله جل وعلا .
إن الرسل والأنبياء بالاختيار والمشيئة الالهية المنفردة، والله جل وعلا هو الذى ينزل الوحى على من شاء إختياره رسولا(يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)( غافر 15 )( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ )( النحل 2)، وذلك هو فضل الله تعالى على كل الأنبياء والرسل ( ابراهيم 11) ومنهم ابراهيم (الانعام 83) ويوسف (يوسف 56 ، 76) ومحمد (الجمعة ـ 4 ) عليهم جميعا السلام.
خامسا : موقف أهل الكتاب عند نزول القرآن ومبعث خاتم المرسلين :
يقول جل وعلا ( قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (آل عمران 73 ، 74 )(وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (البقرة 105)(وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(الحديد 29). هل يعنى هذا أن الله جل وعلا منحاز الى قوم إختصهم بفضله ورحمته وهدايته دون استحقاق ؟ سياق الآيات لا علاقة له بالهداية والضلال ولكن بعلاقة أهل الكتاب بالمسلمين عند نزول القرآن. ونوجز الحقائق القرآنية التالية :
*قبل نزول القرآن كانت البشارة به وبالنبى العربى الأمى معروفة لدى المحققين من أهل الكتاب ، وكانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ( البقرة 146 ).(الأنعام 20 )
*نزل القرآن فآمن به بعض أهل الكتاب ( آل عمران 199 ) ( النساء 162 )وإتخذ رب العزة من إيمانهم حجة على المشركين العرب المعاندين (الشعراء 196 : 197 ) (الاسراء 107 : 109 )
*من لم يؤمن من اهل الكتاب نبذ كتاب الله الذى معه بسبب نزول القرآن الكريم مصدقا لهذا الكتاب الذى معه (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ )(البقرة 101 )
*كانت (يثرب ) أبرز مسرح جرت عليه هذه الأحداث ، حيث عاش فيها العرب وأهل الكتاب ، وقبل نزول القرآن الكريم ومبعث خاتم المرسلين كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج بأن مبعث النبى الخاتم قد إقترب أوانه ، وأنه سيهاجر الى يثرب ، وأنهم سيتابعونه ويحاربون به الأوس والخزرج ، فلما تحقق الوعد ونزل القرآن وآمن به الأنصار قبلهم غلب الحسد والحقد أولئك الناس ، فتنكروا للحق ووقفوا ضده. نفهم هذا من قوله جل وعلا : (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) والله جل وعلا يعتبر موقفهم هذا بغيا على مشيئته الالهية فى اختيار رسله وأنبيائه ، يقول جل وعلا (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) أى أن الفقرة القرآنية (أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) جاءت فى هذا السياق:(البقرة 89 ـ ).
* معنى ذلك أن بعض أهل يثرب كانوا يؤمنون بالقرآن قبل نزوله،وكانوا يؤمنون بخاتم المرسلين قبل ظهوره . هذه حقيقة قرآنية لم يلتفت اليها أحد من قبل ، وقد جاءت فى قوله جل وعلا :(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )( الحشر 9 ). هنا يقول جل وعلا عن الأنصار (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ) أى عاشوا فى يثرب قبل هجرة المهاجرين اليها فتبوءوا الدار قبلهم،وتبوءوا الايمان أيضا قبل المهاجرين ، بل قبل أن يعلم محمد أنه سيكون رسول الله.سبقوا بالايمان وسبقوا بالكرم وحسن الضيافة والايثار .. ولكن قضت عليهم قريش بالتدريج بعد وفاة خاتم المرسلين .
* أولئك الكافرون من أهل الكتاب إحترفوا التآمر على المسلمين فى المدينة ، ونلمح هذا فى قوله جل وعلا يحكى عنهم (وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (آل عمران 73 ، 74 ). أى إن الفقرة القرآنية (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) جاءت فى الرد علي تآمرهم . وفى الرد على حقدهم وحسدهم يقول جل وعلا : (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (البقرة 105) أى هو نفس الرد. ويقول جل وعلا أيضا :(لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)( الحديد 29)
* وفى النهاية فان معنى الفضل والرحمة والاصطفاء هنا ليس مرتبطا بالهداية ، والدليل قوله جل وعلا :(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ( فاطر 31 : 32 ). فالله جل وعلا أنزل القرآن الكريم مصدقا لما سبقه من الكتب ، واصطفى لهذا الكتاب من آمن به ، وليسوا جميعا سواء فى الايمان والهداية ، منهم ظالم ضال مصيره للنار ، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات .
* هذا الصنف الظالم الضال من المسلمين هو المسئول عن هجر القرآن الكريم وتحريف معانيه وتشريعاته تحت مسميات التفسير والتأويل والنسخ وأسباب النزول والتجويد والسنة والأحاديث النبوية والقدسية ..الخ ..
المقال القادم : (11 ) قواعد الهداية والاضلال فى المشيئة الالهية والمشيئة البشرية فى القرآن الكريم .( فى المحكم والمتشابه ).

اجمالي القراءات 17250