سيدى الرئيس أنقذ مصر من ابنك وأنقذ ابنك من مصر.

ابراهيم عيسى في الأربعاء ١٠ - يونيو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

لعلي من الذين أكدوا أن الرئيس مبارك لا يفكر أبدًا في التنحي أو اعتزال الرئاسة أو الاستقالة، وكنت من الذين يؤكدون أن الرئيس مبارك سيرشح نفسه في انتخابات الرئاسة عام 2011، ورغم أنني (اغفر لي الحديث عن نفسي أرجوك) قدمت منذ أسابيع قليلة سيناريو كاملاً وأظنه دقيقًا وأمينًا لنقل الرئاسة في حالة تنحي الرئيس واعتزاله وترشيح ابنه جمال مبارك لخلافته (راجع العدد علي موقع الدستور) فإنني استدركت باستبعادي تنفيذ سيناريو نقل «ملكية الرئاسة» لأن الرئيس مبارك لا ينوي ولا يفك&Ntiر ولا يرغب في الاعتزال ولن يسمح لابنه أو لغيره بأن يتولي رئاسة مصر في حياته وعلي عينه حيث يعتقد - مؤمنا - أن غيابه عن المسئولية سوف يضر البلد ويصيبه بسوء يقصم الظهر ويعوق التنمية والتقدم ويُعرِّض مصر للمهالك!




لكن جرت في الأيام الماضية أحداث دفعت لأن يعتقد كثير داخل دائرة الحكم أن الرئيس مبارك يفكر في تنفيذ سيناريو نقل الرئاسة فعلاً وأنه سوف يقدم استقالته قبل إتمام مدة ولايته وسيترشح جمال مبارك للرئاسة في خطوات أقرب ما تكون شبهًا بما قلت وكتبت في مقال سابق.

استندت تلك المصادر التي أعلم أنها عليمة إلي عدة أمور:

الأول: الإسراع بإعداد قانون« كوتة» مقاعد المرأة في مجلس الشعب.

الثاني: الكلام المتواتر والدائم في مكاتب وجلسات مسئولي وقيادات الحزب الوطني عن حل مجلس الشعب.

الثالث: حالة عدم الممانعة للتوريث التي أبداها باراك أوباما بإدارته الأمريكية الجديدة، التي يخشي البعض في أمانة السياسات من تغير النغمة أو الدرجة بفوات الوقت والتوجس من مستجدات في المنطقة تعرقل أو تعوق أو تعيد الدراجة الأمريكية إلي فراملها وكوابحها المتحفظة.

الرابع: حالة الموات المصري الذي يبدو مع انحسار صيحة الإصلاح وتراجع رموز المعارضة علي أصعدة كثيرة بفعل القمع الأمني والحصار السياسي أو الأخطاء الشخصية أو الصراعات الداخلية، لكن الجذوة موجودة والشعلة تحتفظ بنارها الخافتة التي قد تعود إن توفر الوقود

الخامس: طموح جمال مبارك وشبق رجال الأعمال المحيطين به من المرافقين والمنافقين الذين يسعون لقضم أراضي مصر ومصانعها وشركاتها وصحاريها ومزارعها، وقد زاد النهم مع استسلام الفرائس!

ما الذي يجري الآن؟!

دفع يصل إلي حد الاندفاع مِنْ جمال وصحبه إلحاحا علي الرئيس -ويبدو أنه يدرك وصحبه أن التوقيت ملائم - لتهيئة المسرح كسبًا للوقت وردمًا للحفر واستعدادًا للحظة التي قد يقرر فيها الرئيس الراحة فيقفز الابن بحكم الجينات والأمر الواقع والمحيط الآمن إلي ما يشتهي وينتهي!

مازلت أظن أن الرئيس مبارك يمانع ولعلي مازلت أتمني وإن كنت قد فقدت شيئًا من رسوخ قناعتي بعد تحولات وتأكيدات ومشاهدات تقول إن الرئيس مبارك قد يستجيب لتلك الضغوط وإلحاح الابن، مما يستوجب بالفعل قدرًا هائلاً من التنبه خشية أن يصدر قرار جمهوري بالتوريث، فأن يوافق الرئيس علي تسليم الحكم لابنه خطر علي مصر بل خطر علي ابنه كذلك، كيف؟ وهل من الممكن أن يسلم حاكم مسئول بلده لخطر؟ وهل يمكن أن يقدم والد رؤوف ولده إلي الخطر؟

وصول جمال مبارك للرئاسة ممكن مع قرار جمهوري بالتوريث في حياة وحضور الرئيس مبارك ومباركته، لكن استمرار جمال مبارك في الرئاسة أمر محفوف بالشك!

مشكلة جمال مبارك الرئيسية هي «لا شرعيته»، فكل ما يستند إليه جمال مبارك في طريقه للرئاسة غير شرعي حتي لو ارتدي غطاء قانونيًا فهو كذلك قانون غير شرعي!

يعاني جمال مبارك:

1- لا شرعية التوريث، فمهما كانت الصياغة ومهما كان الالتفاف والتحايل فلا أحد يخيل عليه أن انتقال الرئاسة من والد لولده في عالمنا العربي أمر يخلو من التوريث أو أنه لا يذهب بالحكم إلي الملوكية والسلطنة ولا أظن أن كائنًا مَنْ كان في الوطن العربي والعالم بأسره لم يطلق علي تولي بشار الأسد حكم سوريا بعد وفاة والده الرئيس إلا كلمة «التوريث»، وهي الأدق والأصح، أما أن يحاول البعض نفاقًا لجمال مبارك أن يقول إن من حقه الترشح مثل أي مواطن فالإجابة أنه ليس من حق أي مواطن طبقًا للمادة الدستورية الشائهة والمشوهة التي اصطنعها جمال مبارك ورجالاته أن يترشح، ثم إن جمال مبارك موجود في مكانه وفي مكانته لأنه ابن أبيه ولو كان مواطنًا بلا نسبه هذا أو صلة رحمه تلك لكان الآن مديرًا لفرع بنك أو رئيسًا لبنك أو كان ما كانه.

2- لا شرعية الانتخابات؛ فالحقيقة أن جمال مبارك كي ينجح حزبه لابد أن تشهد الانتخابات البرلمانية تزويرًا فاضحًا ومكشوفًا ومعلنًا ولا يستطيع جمال ولا غيره أن ينكر هذا التزوير والتزييف الذي نعترف بأنه منهج وقاعدة للحكم في مصر منذ يوليو 1952 إلا أنه بلغ مبلغًا غير مسبوق وصفاقة لا طبيعية في الفترة الأخيرة، فضلاً عن أن جمال مبارك إن دخل أي انتخابات رئاسية فسوف يكون التزوير سيدها وأساسها وفصلها ونصها فلا يمكن ضمان نجاح أي مرشح للحزب الحاكم علي الإطلاق إلا بالتزوير، فما بالك بمرشح مورث ووارث مطعون في شرعية ترشيحه ومرفوض بطريقة فرضه؟!.. ساعتها سينضم إلي لا شرعية التوريث (وهو الترشيح من أساسه) كذلك لا شرعية الانتخاب والتصويت (عبر تزوير محتوم) يعني مرشح مطعون فيه يحصل علي أصوات مطعون فيها

3- لا شرعية المرجعية؛ فجمال مبارك ليس كوالده بطلاً من أبطال حرب تحرير أرض مصر، ولا هو ضابط ينتمي للمؤسسة العسكرية التي نقلت مصر من الملكية للجمهورية، ولا يملك جمال مبارك مرجعية عسكرية أو شعبية أو تاريخية تمنحه ثقة النخبة والجماهير علي الإطلاق، فمرجعية جمال مبارك هي انتماؤه للمدرسة المنبهرة والمبهورة بالغرب الرأسمالي (في صورته الوحشية التي لا تهتم ولا تبالي بتفاوت الثروة)، ثم هو منتم إلي فريق رجال الأعمال الموصوم- شعبيًا وسياسيًا- بنهب مصر ومص دمها والاستيلاء علي ثروتها واحتكار قوتها، إذن فمرجعية حسني مبارك العسكرية النبيلة ذات التاريخ (الذي لا يجد البعض مشكلة في وصفه بالثوري) تورث جمال مبارك لا شرعية رجال الأعمال ذات التاريخ (الذي لا يجد البعض مشكلة في وصفه بالأسود).

4- لا شرعية الكفاءة، فالذي وصل إليه جمال مبارك من موقع ومنصب سياسي يؤهله نظريا لترشيح نفسه لم يأت من كفاءة مشهود لها بل جاء من كفاءة مشكوك فيها؛ فالاعتراف بها يصدر محاطا بتهم النفاق لأصحابه، لأنهم يتقربون ويتوددون للوالد بالشهادة للابن أو يتوسلون بالابن لرضا الوالد، فضلاً عن الأوهام التي يرددها أصدقاء طيبون يريدون أن يروا في الابن شيئًا طيبًا حول دور الابن في إجراءات الإصلاح السياسي فهي محض أوهام فعلا؛ فالإصلاح ليس إصلاحا بل مكياج وتجهيز ديكورللابن، ثم هو بناء علي ضغوط أمريكية (زالت حتي قبل أن يزول بوش)، ثم هي مشوهة ومشوشة وفي خدمة التوجيه المعنوي لمشروع التوريث، ثم هي تمت به لأنه ابن الرئيس وليس لأنه الزعيم الشاب الذي أثر في الرئيس، ثم أي كفاءة يملكها جمال مبارك في قيادة حزب لا ينجح إلا بالتزوير وإن ساند مرشحًا في نقابة أو حتي ناد رياضي يسقط سقوطًا مريعًا ومرتاعًا، إن لا شرعية الكفاءة تطارد جمال مبارك بنفس قوة ودرجة اللا شرعيات السابقة التي تكفي وحدها لنسف صعود الابن مكان أبيه!

لكن ليس هنا فقط تنتهي مخاطر الاندفاع بدفع الابن للترشح للرئاسة، بل هناك ما هو أخطر؛ فالابن إن حكم فسيظل محكومًا باللا شرعيات التي تطوق عنقه وتطعن في وجوده علي مقعد والده ومن ثم سوف نشهد:

1- قمعاً سياسياً وأمنياً، حيث يرتمي في أحضان الجهاز الأمني الذي يظن أنه يحميه كما يعتقد أنه صاحب فضل في تصعيده، وفي تأمينه ويريد من الأمن القامع إثبات أنه قوي وقادر علي التحكم في البلد وترويع المعارضين ولجم حركات المناهضة السياسية له ووضع أسس الرهبة والهيبة في تعامل المعارضة بأطيافها معه، ثم إظهار نفسه في موقع الثابت المستقر أمام العالم الخارجي، حتي لا يشعر البعض بأنه مستضعف أو مستصغر في موقعه

2- تفاوتًا في الثروة والدخول والأجور وممارسات توحش اقتصادي ومالي، تنتج صراعاً طبقياً واجتماعيًا بين رجال أعمال يحكمون ويديرون البلد وطبقة متوسطة تخلع قيمها كي تعيش لكنها تتعرض مع الضغط الاقتصادي ورفع الأسعار وانطلاق ماكينة الاقتصاد الحر المنفلت لانحلال أخلاقي وتحلل فكري.

3- ازدياد رقعة مواطني العشوائية ومَواطن العشوائيات وتصاعد الغوغاء وسيادة الغوغائية بما يؤدي لارتفاع وتيرة العنف الجنائي مع تراجع التماسك الأمني.

4- الحقيقة أننا نري كل مظاهر هذا منذ الآن وليس قبل وصول جمال مبارك للحكم وذلك لسببين: أنه يحكم فعلا كرئيس تنفيذي لمصر وهذا بعض من أثره وشيء من آثاره، ولك أن تتخيل.. ما الذي يجري عندما ينفرد بالحكم ويتفرد بالقرار!!.. ثم لأن سياسات الرئيس مبارك ذات صلة بخلق هذه الحالة لكنها تقف عند درجة معينة، حيث رئيس يملك وصلة ما زالت باقية بالشعب وصلة ما زالت واصلة بماضيه كواحد من الناس وبين الناس، وهذا ما يجعل لكمات ابنه الاقتصادية في فك البلد حنونة تؤذي لكن لا تقتل بينما لكمات ابنه إن انفرد بالحلبة ستكون فيما يوجع وفيما يقتل.

علي الصعيد الخارجي فإن جمال مبارك سيواجه العالم العربي منزوعا من أي قوة شخصية، فلا هو صاحب شرعية في بلده ولا جماهيرية بين أبناء وطنه ولا هو ابن عائلة تحكم بلدا مثل سوريا ولا هو ابن أسرة مالكة مثلما أسر الخليج، كما أنه في موقف يسعي للاعتراف به كرئيس وسط عالم عربي تعامل معه منذ فترة باعتباره مندوبا لأبيه وصاحب علاقات بزنس مع أطراف هنا أو هناك، ومن ثم فالنقلة في التعامل معه كرئيس لمصر ثم الاعتراف به كصاحب قوة وحظوة، ثم القبول به كخليفة لعبدالناصر والسادات ومبارك يستلزم وقتا طويلا سوف يأسر جمال مبارك ويجعله في موقف التابع لقرارات غيره واللاحق علي مواقف غيره، وسوف نسمعه يطلب الحكمة من شيوخ النفط وغيرهم فينزل بنفسه وببلده عند حد تهتز معه صورة البلد ونفوذه وقوته الناعمة والخشنة معا.

أما فيما يخص إسرائيل؛ فجمال مبارك يعرف أنه مدين لصعوده برضا إسرائيلي علي سياسته ومسالمته، وأن طريق الاعتراف الأمريكي والغربي به يمر عبر بوابة تل أبيب، فضلاً عن قناعة شخصية لدي جمال مبارك بالتطبيع والاعتراف بقوة وكفاءة يهود العالم، ثم إن كل محيطي جمال من كبار رجال التطبيع والتعاون الاقتصادي والتجاري مع إسرائيل كل هذا سيجعل من موقف جمال مبارك تجاه إسرائيل أكثر تعاملاً وتعاونًا ومصادقة وتحالفًا وستشهد رئاسته تطبيعًا كاملاً ومفتوحاً مع الصهاينة، بل ستكون إسرائيل من أولي الدول التي يسافر لها ويلتقي قادتها، وهذا الانفتاح الغرامي علي تل أبيب سوف يضرب مكانة مصر العربية في مقتل وسيضيف كذلك علي لا شرعيات جمال مبارك، مما سيبني جدارًا صلبًا وصلدًا بينه والمجتمع المصري، بل ستدخل العلاقات المصرية- الفلسطينية دائرة العنف المكتوم والمعلن وستفقد مصر آخر بصيص لها من النفوذ علي قوي الشعب الفلسطيني، مما يهز بقوة أمنها القومي ويرمي قرارها في حضن النفوذ الصهيوني رمية عشاق لا تخلو من خيانات!!

قطعا ستكون الولايات المتحدة الأمريكية هي حصن جمال مبارك مدفوعًا بولائه لمدرستها الاقتصادية وثقافتها الحياتية، كما نلاحظ تمثله وتماثله مع قيم ومظاهر أمريكا في الاستعراض السياسي والتقليد الشكلي والطقوس الدعائية، فإنه أمريكي الهوي لا يمنع هواه ما كان يمنع والده من ضوابط ضابط قديم وابن المساعي المشكورة والكلية الحربية ومدرسة جمال عبدالناصر الوطنية وكلية أنور السادات للدهاء السياسي، بل ستجد جمال مبارك مع حماس صحبته ورجاله مندفعًا في الهيام الأمريكي بما يكفل لأن تهيم مصر معه علي وجهها!

مع هذا الاستغراق الغربي الأمريكي والتحالف مع إسرائيل والفتور العروبي ستكون الجبهة الداخلية لجمال مبارك حمما نفسية وبراكين اقتصادية وسياسية تتفاعل كيميائيًا لتنفجر أو تبقي عند درجة الغليان الذي يكوي البلد!

من هنا يبدو النداء حارًا وصادقًا وحقيقيًا ومخلصًا للرئيس مبارك أن ينقذ مصر من ابنه بل ينقذ ابنه من مصر.

وظني - وأملي - أن الرئيس سيستجيب، فهو يحب هذا الوطن أكثر منا جميعا، كما أنه يحب ابنه طبعا أكثر منا جميعًا!

اجمالي القراءات 14989