بلغة الأرقام لا تكاد نتائج السابع من حزيران 2009 الانتخابية اللبنانية أن تكون قد أتت بجديد، نعم كان لإعادة الأغلبية اللبنانية التأكيد على خيارها الحداثي الليبرالي معان ومدلولات فائقة الأهمية، خاصة في ظل توقعات محبطة –وربما مرعبة- عن إمكانية وثوب الذئب الإيراني على ظهر الغزالة اللبنانية، ليعمل في جسدها الرهيف نهشاً وتمزيقاً. . لكن بالتأكيد نحن مازلنا في الوضع "محلك سر". . في ذات موقف الاستقطاب والمواجهة، المدججة بالسلاح والمال من قبل طرف، والمعتمدة على &Ccedicedil;لتأييد الجماهيري والشرعية الدستورية والعالمية من قبل الطرف الآخر. . نحن إذن لم نتقدم إلا معنوياً وبقدر يسير، لكننا بالتأكيد لم نتقهقر. . بالطبع من حقنا أن نبتهج ولو قليلاً، بأن الحلم اللبناني مازال مستمراً، فهو ليس حلم اللبنانيين فقط بالحداثة والحرية والسلام والتنمية، بل هو الحلم الرمز لقوى الاستنارة في محيط البداوة والتخلف والكراهية العربي الواسع.
نستطيع أن نقول ولو بدرجة منخفضة من الدقة، أن اللبنانيين قد صوتوا للدولة الواحدة القوية، ذلك أن المعادلة اللبنانية مازالت أسيرة المحاصصة الطائفية، والعصبية الدينية والعائلية، ولا يكاد التحسن في هذا الاتجاه يكون ملموساً ويقينياً. . لكن الزعم بأنهم قد صوتوا للحرية والليبرالية والعلمانية لاشك ينطلق من أرضية أكثر صلابة ويقينية، فالتوزيعات الطائفية المارونية والسنية والدرزية وأيضاً الشيعية بدرجة ما، موجودة على جانب كل من طرفي الصراع، بما يعطي خيار الحرية والاستقلال والحداثة مصداقية، جديرة ولو باليسير من الابتهاج والترحيب.
نعود إلى الوضع "محلك سر"، والذي لم يفت صاحب الانتصارت الإلهية أن يشير إليه، حتى وهو يضع على ملامح وجهه السمحة بعضاً من رخيص المكياج، متظاهراً بقبوله لنتائج الانتخابات، التي جاءت مخيبة لتوقعاته وتهديداته بالهيمنة على مقدرات لبنان، وتحويلها إلى أداة إيرانية، ترتهن فيها لبنان، التي ظلت طويلاً محتفظة بوضع سويسرا الشرق الأوسط، وبمنأى عن صراعات تلك القضية الأبدية اللعينة، والمستترة بقميص الشعب الفلسطيني، الذي إن كانت إسرائيل قد سلبته أرضه أو بعضاً منها، فإن الإسلام السياسي قد سلبه معناها وشرعيتها، بما يدعيه من أن "فلسطين وقف إسلامي"، لتصير كما يقال ملكاً لكل مسلم على سطح الأرض، مما يترتب عليه الحق لما يزيد عن مليار مسلم في تقرير مصيرها، ولم تعد والحالة هذه قضية حقوق محددة، ملكاً لشعب محدد، هو الشعب الفلسطيني، سواء من كان منه داخل فلسطين، أم فيما يسمى بالشتات. . صارت فلسطين إذن لعبة الأمم والتيارات الإسلامية، ويجري الآن جر لبنان إلى ذات المصير، بالارتباط واضح التعسف الاصطناع، الذي يصر عليه خليفة الله ووكيله على الأرض سماحة السيد، بين لبنان حمامة الحداثة والحرية، وبين طوفان التخريب والظلامية، الذي تضرب أمواجه ولججه عموم المنطقة.
حرص سماحة السيد الأوحد، لافض فوه ولا مات من مولوه واستأجروه، حتى وهو يتجمل متظاهراً بقبول نتائج الانتخابات، أن يذكرنا بدرس السابع من أيار/مايو 2008 حين قال: "يجب أن نصل الى قناعة بأن الحفاظ على استقلال هذا البلد يحتاج إلى تكاتف وتعاون الجميع بمعزل عن شكل هذا التكاتف والتعاون، وهذا مرتبط بدرجة كبيرة بإرادة الكل وبشكل أساسي بإرادة من حاز على هذه الأغلبية ومشروعه الذي يريد أن يعمل عليه وأولويات هذا الفريق، وبأي روحية سيتعاطى مع الشأن العام، وهل سيستفيد من تجارب السنوات الماضية". . الدرس المقصود أن تتعلمه الأغلبية "من تجارب السنوات الماضية" واضح، والتهديد المدسوس في منمق الكلام ومعسوله واضح أيضاً. . فالأغلبية البرلمانية والشرعية الدستورية، لم تثبت جدواها في منع السيد من أن ينشب مخالبه في بيروت، وعلى الجميع وليس فقط جماعة 14 آذار أن يعوا جيداً هذا الدرس. . الرجل محق بلاشك في قوله، ومن جميع الوجوه، فإذا كان يريد أحداث السابع من أيار/مايو 2008، أن تكون درس إرهاب وترهيب، فإننا أيضاً نريده درساً لهم ولنا، بألا مهرب لنا مما يتحتم علينا مواجهته، وأنه من قبيل خداع الذات أن نأمل في إقناع الذئب بالتخلي عن أنيابه ومخالبه، أو بجدوى محاولة إقناع العقارب أن تتصرف كالحمائم.
يستحق سماحة السيد منا أن نشكره على تذكيرنا وتذكير معسكر الحرية والاستقلال والحداثة، بما لا ينبغي لنا أن ننساه من "تجارب السنوات الماضية". . أن لا يعودوا للخوض في أوحال المستنقع ذاته، مؤجلين المواجهة الحتمية إلى مستقبل غير منظور، رغم أن المستقبل لا يمكن أن يأتي ونبارح مستنقعات الأمس واليوم، إلا إذا صنعنا هذا المستقبل بأدينا.
فها هي الشقية اللدودة سوريا البعثية تعيد نصب الشرك القديم، ففي تصريحات لمصادر سورية مطلعة لصحيفة "السفير"، نسمع ما كانت القيادات السورية تردده في الأشهر الماضية، وهو أن "لبنان لا يحكم إلا بالتوافق"، أيا كان الرابح في الانتخابات. . شعار مناسب للخداع إلى أبعد حد، فالتوافق المعني هنا، ليس ذاك التوافق الذي تعرفه كل الشعوب والتيارات السياسية، والذي يسعى إلى التوصل إلى رؤية وطنية مشتركة، يتكاتف الجميع على إخراجها إلى حيز التنفيذ. . فالتوافق في شرع حزب الله الإيراني السوري، يعني أن يسلب الأغلبية حقها في تأسيس حكومة منسجمة ومتوافقة على أهداف وطنية، تضع لها ما يناسبها من السياسات والإجراءات التنفيذية، وأن يدخل برؤاه المخالفة تماماً والمرفوضة تماماً من قبل الأغلبية، ليشل بثلثه المعطل الشهير قدرة الحكومة والدولة على الذهاب على أي مكان، أو تحقيق أي إنجاز، اللهم إلا السماح لعصابة نصر الله الإرهابية بالمزيد من التوسع والتغلغل، ليس في لبنان فقط، بل في عموم دول المنطقة.
التساؤل الآن هو عما إذا كان قادة وجماهير الأغلبية يمتلكون بالفعل الإرادة والعزم على التقدم نحو المستقبل، وصولاً إلى تجسيد الحلم اللبناني، أم أنهم سيستمرئون حالة المراوحة في ذات النقطة، ليدخل اللبنانيون موسوعة جينس للأرقام القياسية، في عدد مرات إعادة إنتاج الذات، وإعادة مسلسل الخراب وإعادة البناء إلى أبد الآبدين؟