ماذا تريدون يا سادة؟

كمال غبريال في الإثنين ٢٥ - مايو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

في انتظار أن يلقى أقباط مصر مصير مسيحيي العراق، وأن يتم بفضل الجهل والتجاهل والتآمر صوملة مصر أو لبننتها أو سودنتها، أتمنى أن لا أصل إلى اليأس، فأجدني أقول مع نزار قباني لمواطني المصريين، وللأقباط منهم خاصة:
حاولت أن أقلعكم
من دبق التاريخ..
من رزنامة الأقدار..
حاولت أن أدق في جلودكم مسمار
يئست من جلودكم
يئست من أظافري
يئست من سماكة الجدار...
فإذا كان هنالك بعض العذر لبسطاء المصريين من المسلمين، في غفلتهم عما يدبر لهذا الوطن، لتفتيته ثم الإجها&OgraOgrave; عليه، نظراً لارتداء المتآمرين على مستقبل مصر لعباءة الإسلام، والتخفي خلف شعارات جوفاء ومضللة، يقنعون بها البسطاء أنهم وكلاء الله على الأرض، وأن كل من عداهم أعداء لله ولدينه، فما عذر الأقباط الواقعين بين المطرقة والسندان، مطرقة الإخوان الذين يستهدفونهم بالدرجة الأولى، ليلزموهم أضيق الطريق، وينزلونهم منازل العبيد والموالي، وسندان التخلف والتردي الحضاري، الذي يضرب الجميع في أوحاله؟!!
أي عذر للأقباط أن يرفضوا باستهجان وامتعاض دعوات الخروج من كهف الكنيسة للاندماج بالمجتمع، وبسائر أبناء الوطن من المستنيرين من كافة الانتماءات الدينية، وهم كثرة كثيرة بالفعل، لاسترداد الوطن ممن اختطفوه، سواء جماعات التأسلم السياسي، أو تحالف الفساد والجريمة؟
أي عذر لهم لإصرارهم على البقاء متقوقعين عازفين عن أي مشاركة إيجابية في الحراك الاجتماعي الجاري بالوطن، وفي نفس الوقت لا يكفون عن العويل والنحيب ولطم الخدود، على ما يعانون من تضييق واضطهاد، وماذا يستطيع أن يفعل العالم الحر لمساعدتهم، إذا كانوا هم يحجمون بإصرار على عدم مساعدة أنفسهم؟!!
أي عذر أن تقوم الكنيسة بتحقيق ما تسعى إليه تلك الجماعة المحظورة، فتساهم معها في شق هذا الوطن، بأن تصنع أو توهم الأقباط بصنع دولة موازية لهم داخل الوطن، لها قائد ليس برتبة رئيس جمهورية، وإنما برتبة إمبراطور، كلماته ليست كلمات إنسان، بل هي كلمات إلهية، كما يدعي هو على الأقل؟
أي عذر لمن لا يكفون عن التشدق بأن دينهم دين المحبة والسلام، لأن يثبتوا أنهم أبعد ما يكونون عن تعاليم المسيحية، بالإصرار على روح العداء والاستعلاء على كل آخر، حتى على سائر الطوائف المسيحية، ومع ذلك يحترفون وصم كل الآخرين بتلك الصفات المغروسة فيهم بالدرجة الأولى بفضل تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية، لينطبق عليهم تحديداً ما حذر منه السيد المسيح، أن نحاول إخراج القذى من عيون الآخرين، ونتجاهل الخشبة التي في عيوننا؟
ذلك الموتور الذي أرسل رسالة إلكترونية للملايين، يشمت فيها من وفاة طفل بريء، لمجرد أنه حفيد رئيس جمهورية مصر، هل هذا الشخص فعلاً مجرد نموذج شاذ، لا يحسب على الكنيسة، أم أنه متهور، أفصح بالحماقة عن مكنون ومخزون، هو نتيجة طبيعية للعمى الذي يُفرض على المواطن القبطي، فلا يرى إلا الذات القبطية المتضخمة، بوهم امتلاك الحقيقة المطلقة، التي لا حقيقة سواها؟!!
أي عذر لجماهير قبطية ذات نسبة تعليم عالية، أن يقتنعوا بما يقال لهم، أنهم ليسوا من العالم، ولا شأن لهم به، وأنهم فقط أبناء الكنيسة، التي هي "سماء أرضية" أو "أرض سماوية"؟
أي عذر لملايين من الأقباط يعيشون في بلاد المهجر، أرض الحرية والحداثة، أن يضخوا مليارات الدولارات في خزائن قادة الكنيسة، فيذهب منها ما يذهب أدراج الرياح، وتشيد بالباقي إنشاءات خرسانية هائلة، بعضها في عمق الصحارى المصرية، فتحول الأديرة المفترض بساطتها وزهدها في زخارف الدنيا، تحولها لإقطاعيات باذخة الفخامة والضخامة، لتكون شاهدة لا على مجد وعظمة تحضر الأقباط، وإنما على تعاظم وتضخم ذوات قادتهم، فيما الفقراء المصريون والأقباط منهم (في منطقة المقطم مثلاً) في أشد الحاجة إلى مساكن تصلح حتى لإيواء الحيوان، وإلى مشاريع تكون مصادر رزق محترم ونظيف لهم ولأولادهم؟
حاولت على مدى سنوات (كمن يؤذن في مالطه)، أن أتلمس طريقاً يُخرج الأقباط، ويُخرج بالضرورة وطننا الحبيب كله، من ورطته أو مأساته الحضارية الراهنة، والتي لا تعدو معاناة أقباطه إلا أن تكون أحد مظاهر التردي والانهيار الثقافي والحضاري، الذي أنتجته عصور عديدة من الظلام والجهل، ثم المغامرة والمتاجرة بالوطن، حتى نكبنا أخيراً بحقبة لا يبدو حتى الآن لها نهاية، جعل الحكام فيها مهمتهم الأولى والأخيرة البقاء على كراسي الحكم، وتوريثها لأبنائهم من بعدهم، وبالتالي التزم أداؤهم بما يكفل لهم تحقيق غايتهم هذه، لا أكثر ولا أقل.. ليس من المهم هنا تحديث مصر، ولا رفع الظلم عن كاهل كل أو بعض أبنائها ومنهم الأقباط، كما ليس من المهم أن تتحول البلاد في عهدهم السعيد إلى ساحة من الكراهية والعداء المتبادل بين أبناء الوطن الواحد، مادام كل هذا لا يؤدي إلى هز عروشهم، أو لا قدر الله زحزحتهم من على كراسيهم الأبدية.
هذا ما يريده وما لا يريده من جلسوا فوق صدورنا ولا يزمعون القيام.. فماذا نريد نحن كمصريين أولاً، وماذا يريده الأقباط ثانياً؟
هل نريد أن نتنازع الوطن بين بعضنا البعض، ونحوله إلى ساحة قتال وشد وجذب، فيتمزق بيننا، ونتمزق نحن معه، كما يحدث في العراق ولبنان والسودان والصومال؟
أم أن نسعى جميعاً لتأسيس مجتمع مدني قوي، يقوم على مبادئ الليبرالية والحداثة، ويؤسس للديموقراطية والحرية والعدالة والمساواة بين كل أبناء هذا الوطن، ويضع رجال الدين في مكانهم الطبيعي، دون انتقاص من كرامتهم، ودون الانصياع الخنوع لهم، ويجبر الحاكم في نفس الوقت أن يكون موظفاً لدى الشعب وخادماً له، لا سيداً متسيداً، يعز ويغدق على من يشاء ويتحالف، ويعتقل في سجونه من يشاء، وقد يرسله إلى نعيم الآخرة أو جحيمها؟
أم أن أقصى ما نطمح إليه أن ننفس عن المكبوت، وأن يكيل كل طرف للطرف الآخر الاتهامات والشتائم والوصم والتنديد، الأقباط يتهمون المسلمين بالظلم والفاشية والإرهاب، والمسلمون يتهمونهم بالادعاء والاستقواء بالأجنبي لتنفيذ مخططات خارجية تستهدف الوطن.. تماماً على ذات النهج الذي ينتهجه العروبيون تجاه إسرائيل، مع الفارق أن إسرائيل وطن وشعب آخر، وليست ذلك الوطن الواحد الذي عشنا عليه جميعاً لآلاف السنين؟
لا أريد أن أتهم فرداً ولا جماعة بأي اتهام، لكن إذا كان من الصحيح أنه "من ثمارهم تعرفونهم"، فإن ثمار الكثيرين من الأقباط، في داخل مصر وخارجها، لا يعدو أن يندرج ضمن توصيف المهاترات والمجادلات الغبية، التي تزيد الأمور داخل مصر تعقيداً، وترفد الجو المحتقن فيها بالأساس، بالمزيد من رياح التعصب والكراهية.
هؤلاء الذين أعنيهم يعتبرون الكلمة الطيبة، ومحاولة امتصاص حالة البغضاء بين الجيران والمعارف والزملاء، من أبناء العمارة الواحدة والشارع الواحد والحي الواحد والمدينة الواحدة، وفوق الكل الوطن الواحد.. يعتبرون محاولة التوفيق وصنع السلام بين الناس، هو من قبيل الخيانة المشابهة لخيانة يهوذا، أو من قبيل العمالة للطرف الآخر أو مغازلته.. هؤلاء (مثلهم مثل جماعة الإخوان المسلمين) مصممون على شق الوطن إلى شقين متعاديين متناحرين، يحاول كل منهما كسب نقاط على حساب الآخر، وكلاهما يبيع الوطن من أجل أحلام وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، الإخوان من أجل خلافة عالمية إسلامية، تشمل كل مساحة الكرة الأرضية، والأقباط من أجل ملكوت السماوات، الذي يعوضهم عن بؤس وتدني حياتهم الراهنة، بأن يصيروا كملائكة الله، يسبحون ويرنمون إلى الأبد!!
كان من المهم أن أحاول دائماً قدر استطاعتي، أن أوضح أنني لا أتبنى خطاب وعظ أخلاقي أو ديني، فالأقباط يتجرعون يومياً أطناناً من الوعظ عن المحبة والتسامح والسلام، لكن الثمار فيما يبدو شحيحة وعقيمة، بما قد يدفع مراقب خارجي لأن يتهم الأقباط أنهم لولا قلة عددهم وضعفهم، لسلكوا نفس مسلك متعصبي تيارات التأسلم السياسي، وهذا بالتحديد ما دفع البعض (سواء بحسن أو بسوء نية) أن يأتي للأقباط من عمق التاريخ، من القرنين الرابع والخامس الميلادي، بنماذج من تصرفات غوغاء الأقباط وتحت إرشاد ومباركة قادتهم، مع المخالفين لهم في العقيدة، سواء من أطلق عليهم الأقباط توصيف هراطقة، أو من اعتبروهم عبدة أوثان يستحقون الإبادة هم وأوثانهم من على ظهر الأرض، ولا عجب في ذلك، فتاريخ الكنيسة القبطية حافل بالجرائم التي ارتكبها العديد من بطاركة الأقباط في حق المسيحية والمسيحيين، وفي حق الحضارة العالمية التي كانت الإسكندرية عاصمتها ومنارتها، وفي حق وطنهم مصر بالتبعية، إذ لم يكن يشغل الكثيرين منهم غير مجدهم الشخصي وإزاحة معارضيهم ومنافسيهم، واكتناز الثروات بأي طريق وكل طريق، بما فيه بيع الرتب الكهنوتية، لينخرط في سلك الكهنوت كل قادر على دفع ما يسمونه سيمونية.. هذا ما يقوله التاريخ، الذي احترفت جميع الأطراف تزويره، وواضح أن التاريخ المصري والقبطي مازال قادراً على أن يعيد إنتاج نفسه، ليبيع الكهنة مواطنيهم الأقباط والوطن، في مقابل تعاظم نفوذهم ومجدهم وثرواتهم، ولو بالتحالف في المستقبل المظلم مع المرشد العام للجماعة التي لن تعد محظورة، وإلى الجحيم بكل ما عدا ذلك!!
الخيار ليس إذن خياراً أخلاقياً، يرجح المحبة على العداء، والتسامح على التعصب، فالأمر الآن عملي محض، لأنه يتعلق بالشكل الذي يريده المصريون -بما فيهم الأقباط- لوطنهم.. هل نريد أن نعيش في بيئة تتربص فيها الجماعات والطوائف ببعضها، ويحاول كل فريق أن يسجل في مرمى الآخر أكبر عدد من الأهداف، وربما يحاول استئصاله من على ظهر البسيطة؟
هل مثل تلك البيئة ونمط الحياة، هو ما نريده لأبنائنا وأحفادنا؟
هل في مثل هذه البيئة يمكن أن تتطور مصر، وتتغلب على مشاكلها الاقتصادية، ناهيك عن البلايا السياسية والثقافية؟
نعم ليس الأقباط هم البادئون أو السبب فيما يحدث لمصر.
نعم هم ضحية تعصب التيارات الوهابية ومفاهيمها البدائية الإجرامية.
لكن القضية الآن ليست من هو السبب، أو من هو المجرم ومن الضحية، فالضحية المؤكدة هو هذا الوطن، وكل من يسعى على واديه من أبرياء وغير أبرياء.
القضية هي أن علينا أن نختار شكل الوطن والحياة التي نريدها على أرضه، فإن اخترنا شكل وطن يعيش جميع أبناؤه معاً في سلام، ويتفرغوا للتقدم الحضاري بكل مجالاته، فعلينا أن نكرس جهودنا جميعاً للسير ببلادنا ومواطنينا في هذا الاتجاه، لا أن ننساق وراء من يريدون أن يدفعوا الوطن إلى هاوية، فنساعدهم نحن بدفع الوطن معهم إلى مستنقع التعصب والكراهية، فنخرب بيتنا بأيدينا، لينهار الوطن فوق رؤوس الظالم والمظلوم، الجاني والمجني عليه.
لن يجني الشعب المصري بمختلف انتماءاته الدينية من تجاهل العلم والعلماء، وانقياده وخنوعه المزري لأصحاب اللحى والعمائم بمختلف ألوانها، لن يجني من استمراء هذا النهج، غير المزيد من التردي والتخلف، ثم التمزق والتبعثر، لننتظر بعد ذلك المنظمات الخيرية العالمية، لتعول هذا الطرف أو ذاك في معسكرات الإيواء، وتطلب هذا أو ذاك للمحكمة الجنائية الدولية.
الاستقطاب الديني هو المستنقع الذي علينا إخراج مصر منه، لا دفعها للمزيد من الخوض في أوحاله، وهذا لن يتحقق إلا بتخلص الأقباط من وصاية الكهنة وكبيرهم قداسة البابا المعظم، والإفاقة من الغيبوبة اللذيذة داخل القلاع الخرسانية الهائلة للكنائس، ووضع أيديهم في أيدي المستنيرين من أبناء وطنهم من مختلف الأديان والطوائف، وألا نجعل القضية هي الإسلام في مواجهة المسيحية، أو المسلمين في مواجهة المسيحيين واليهود والبهائيين مثلاً، لأن القضية بالفعل وبالحقيقة، هي أن المتعصبين ودعاة الكراهية وسفك الدماء، والمستترين بتفسيرات بدائية للدين الإسلامي، هم في مواجهة دعاة الحضارة والحرية والتسامح بين البشر، وهؤلاء الأخيرون موجودون في مصر بكثرة، بين أبناء جميع الأديان.
الطريق إلى ما ندعو إليه صعب؟ الإجابة بالقطع هي نعم.
هل هناك مهرب منه إلى طريق آخر أسهل وأكثر واقعية، ويحقق لنا ما نصبو إليه، من القضاء على الظلم وإقرار السلام، للتفرغ إلى البناء الحضاري لمصرنا المنهارة في جميع المجالات تقريباً؟
نتمى أن نجد من يجيب على هذا السؤال بكلمة "نعم"، وأن يشرح لنا بالضبط ما هو هذا الطريق، ويبين لنا الأساليب الكفيلة بالسير فيه.
كل ما نرجوه أن يمتنع من ليس لديهم سوى المهاترات والسباب والاستعلاء الأجوف، وأصحاب المواقف العنترية، التي يمارسونها على الإنترنت، سواء بأسماء وهمية، أو وهم هناك في بلاد المهجر، ولا يحرصون على صالح مصر ومن فيها، لكنهم فقط يريدون تفريغ الكبت والاحتقان العقلي والنفسي، دونما هدف بنَّاء، ينظر للمستقبل بعيون ملؤها الإشفاق على الوطن ومواطنيه، والحرص والأمل في غد أفضل للأبناء والأحفاد.

اجمالي القراءات 11778