مقدمة :
1 ـ لو كان القرآن الكريم من تأليف محمد بن عبد الله ما جاءت فيه هذه الآية الكريمة ـ مع غيرها فى عتاب النبى محمد عليه السلام والتنبيه على أخطائه البشرية ، فليس من طبيعة البشر كتابة ما يفيد أنهم كانوا ضالين أو واقعين فى أخطاء ، وليس من عادة البشر أن يكتبوا نقدا لأنفسهم وتأنيبا موجها اليهم من سلطة عليا. لو كان محمد مدعيا للنبوة لقام بتمجيد نفسه وتحصينها من النقد ، ولكنه العربى الأمى الذى لم ينزل عليه ولا على قومه قبل القرآن كتاب سماوى ـ أعلن أن القرآن الكريم وحى الله تعالى المكتوب اليه ، وأن وظيفته الوحيدة هى تبليغ هذه الرسالة للناس بلا زيادة ولا نقصان ، وعانى وجاهد وصبر وتحمل الأذى ليقوم بواجبه فى تبليغ كل ما جاء فى الرسالة من إنذار وتبشير وشهادة ودعوة وضياء ونور، وأيضا بما جاء فيها له من نقد شخصى وتصوير له قبل البعثة ، ومنها أنه كان ضالا فهداه الله جل وعلا الى الصراط المستقيم . وقد أدى عليه السلام رسالة ربه بكل أمانة ، وهى معنا الآن بحفظ الله جل وعلا ، شاهدا على أنه عليه السلام قام بمهمته خير قيام ، فجزاه الله تعالى عنا خير الجزاء.
2 ـ لسنا من قال عنه عليه السلام :(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى )(: الضحى 7 ) ولكنه رب العزة جل وعلا ، ولو لم تكن آية فى القرآن ما جرؤنا على التفكير فيها مجرد تفكير . وقد تعرضت لهذه الآية الكريمة فى كتابى ( الأنبياء فى القرآن الكريم : دراسة تحليلية ) عام 1985 ، فى معرض إنكار عصمة النبى المطلقة التى يؤمن بها شيوخ الأزهر. ومن المضحك أن الشيخ د. عبد الجليل شلبى الذى كان أمين مجمع البحوث ، والذى كان يكتب عمودا يوميا فى جريدة الجمهورية بعنوان ( قرآن وسنة ) كتب مقالات فى الهجوم علىّ ، ومنها أتهامى بأنى أقول عن النبى محمد عليه السلام (ووجدك ضالا فهدى)، ونسى الشيخ الفاضل أننى لست القائل ، ولكنه رب العزة جل وعلا ، وأنها آية فى القرآن هو يعرفها قبلى بحوالى نصف قرن ( كان وقتها قد تجاوز الثمانين ) .
3 ـ وطالما أنها آية قرآنية فلا بد من الايمان بها تبعا للايمان بكل آية قرآنية ، ولا بد من تدبرها ودرسها فى إطار هذه المقالات البحثية عن الضلال والهدى. ونقدم رؤية قرآنية لها، مستعينين بالله جل وعلا.
أولا :
النبى بين ثقافة قومه وأفضليته عليهم طبقا لاصطفاء الله جل وعلا له :
1 ـ ملامح النبوة والقيام برسالة الله جل وعلا تتحدد فى الاصطفاء ومتطلباته وكون النبى الرسول ناطقا بلسان قومه.
* عن الاصطفاء لرسل الله يقول جل وعلا (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ) ( الحج 75) ، وعن مؤهلات الاصطفاء ، يقول جل وعلا (الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )( الأنعام 124 )، بهذا الاصطفاء يكون النبى المختار المصطفى هو أفضل قومه خلقا وتحملا لأعباء مهمة التبليغ للرسالة الالهية.
*الأنبياء والرسل هم صفوة البشر وأرقاهم خلقا ، وأعلاهم درجة فى الهدى ، ولكنهم فى البداية والنهاية بشر ، أى يظل النبى بهذا الاصطفاء رجلا من قومه يحمل ثقافة قومه، فالله تعالى يقول:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)(ابراهيم 4)، فاللسان ليس مجرد أداة النطق بالصوت ، ولكن اللسان أداة للنفس تعبر به النفس عما تريد من معان ، والكلمة المنطوقة ليست مجرد صوت ، بل صوت يحمل معنى ثقافيا فى داخله ، وبهذا يتميز الانسان ( الحيوان الناطق ) عن غيره من الأحياء ، فمعنى الكلمة التى ينطق بها اللسان يعكس الثقافة السائدة والتعامل معها بالترديد والتاييد أو بالنقد والرفض، ولذلك فإن كل رسول تكلم بلسان قومه ليبين لهم بنفس لغتهم ، وليوضح لهم بلسانهم معنى الهداية والضلال والكفر والايمان والعمل الصالح والعمل السيىء.
2 ـ وهذا التأثير البيئى الثقافى فى داخل النبى لا يقدح فى مكانته عند ربه. دليلنا أن موسى عليه السلام نشأ فى بيئة مصرية تعتقد فى جدوى السحر وقدرته على تحويل الأشياء الى أشياء أخرى ، وبرع المصريون القدماء فى هذا الفن من الحيل حتى انتشر السحر والسحرة فى كل مدينة مصرية ، وتمتعوا باعتقاد الناس وتصديقهم لألاعيب السحرة وفى قدرتهم على الاتيان بالمعجزات . نشأ موسى فى هذا المناخ الثقافى فتأثر به ، وظل يعيش بهذا التأثر حتى بعد أن صار نبيا مرسلا ومعه الآية التى تتحدى السحر والسحرة. وظهر هذا التأثر فى المباراة التى عقدها الفرعون بين موسى والسحرة ، فالمفترض أن يكون موسى وقتها شديد الثقة بنفسه وبالآية الالهية التى معه ، ولكن تأثير الثقافة المصرية ظل حيا بداخله مع أنه أمضى ثمانى سنوات أو عشر سنوات فى مدين بعيدا عن مصر وثقافتها . لذا فإنه عليه السلام حين رأى ما فعله السحرة استيقظت فيه فجأة ثقافته المصرية فخاف مما رآه وظن أنهم فعلا قد حولوا عصيهم وحبالهم الى ثعابين حقيقية ، واستلزم الأمر وحيا من الله جل وعلا ينبهه فى رفق ، ولنقرأ هذا فى قوله جل وعلا عن سحر السحرة وتأثر موسى به:(فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ) (طه 66 : 69 ).
ثانيا : الخلفية الثقافية لمحمد قبل البعثة هى نفس ما كان عليه قومه ، وهذا معنى قوله تعالى له (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)
1 ـ يلفت النظر أن الله جل وعلا لم يذكر فى القرآن الكريم تفصيلات عن مولد محمد عليه السلام كما فعل مع موسى وعيسى . بل يلفت النظر أكثر إحتفال القرآن الكريم بمولد المسيح وفقا لما جاء فى سورتى (آل عمران ) و ( مريم ) . ويتضح منهما أن المسيح عليه السلام قد ولد فى بيئة إيمانية نقية ، كانت سلالة مصطفاة من أنقى أنواع السلالة البشرية ، يكفى فى ذلك قوله جل وعلا قبيل بدء الحديث عن ميلاد المسيح عليه السلام : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران 33 : 34 ) أى بدأ بآدم ونوح وابراهيم ليصل الى آل عمران ، ثم بعدها ولادة مريم وكيف تقبلها الله جل وعلا قبولا حسنا ، وكفلها زكريا عليه السلام ، ومبعث يحيى ، ثم ميلاد المسيح ( آل عمران 35 : 48).
على عكس البيئة التى شهدت ولادة مريم وعيسى بن مريم عليهما السلام كانت ولادة ونشأة خاتم رسل الله محمد عليه وعليهم السلام ، فلم يأت فى القرآن الكريم عن نشأته وثقافته قبل البعثة النبوية سوى لمحات ، أهمها الآية الكريمة :(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى )( الضحى 7 ) ، مع لمحات أخرى جاءت فى معرض الجدل بينه وبين قومه بعد أن (صبأ ) بتعبيرهم وخرج على دين قومه يدعو الى (لا اله إلا الله) .
ولكن من خلال القرآن الكريم نفهم الفارق بين مجتمع بنى اسرائيل وقت ولادة المسيح ومجتمع قريش والعرب وقت مولد محمد عليه السلام. فبينما توالت الرسل فى بنى اسرائيل فان العرب من ذرية اسماعيل ظلوا قرونا بلا رسول ، ولذلك كان لقب العرب ( الأميين ) مقابل (أهل الكتاب ) ممن توالت فيهم الكتب السماوية والأنبياء والرسل . وبينما كان عقيدة لا اله إلا الله حية فى بنى اسرائيل ، وكان الايمان يعبق المناخ الذى شهد ميلاد مريم وعيسى عليهما السلام كانت بيئة قريش عند ولادة خاتم الأنبياء والمرسلين تعج بعبادة الأنصاب والأوثان والأصنام واتخاذها تجارة حول البيت الحرام ، ويتزعم ذلك بنو عبد مناف وهم الأمويون والهاشميون.
نشأ محمد فى هذه البيئة ، وكان جده عبد المطلب بن هاشم هو القائم على البيت الحرام ورعاية الحجاج ورعاية الأصنام التى تملأ الحرم ، بينما كان أبناء عمومته من بنى أمية يحترفون ( رحلة الشتاء و الصيف ) إعتمادا على مكانة قريش وحمايتها لأصنام العرب حول الكعبة . فى هذه البيئة ولد ونشأ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، وتعلم من هذه البيئة لغته ، شأنه شأن عمه أبى لهب الملعون فى القرآن الكريم ، كلاهما عاش نفس الثقافة ونشأ عليها ، وكلاهما جاءت مفردات لغته التى تعلمها تعكس ثقافة الشرك المحيط به ، ولكن إختلف الوضع بين محمد وعمه أبى لهب ، أصبح محمد رسولا بالقرآن وأصبح أبو لهب ملعونا فى القرآن .
والله تعالى يؤكد فى القرآن الكريم على أن محمدا كان رسولا من العرب أى كان مثلهم فى نفس الثقافة ، ولنتأمل قوله جل وعلا (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ ) (الجمعة 2 ) ،أى (أمى) من نفس أولئك الناس الذين لم يأتهم رسول من قبل ، فعاشوا على تزييف ملة ابراهيم قبل خاتم المرسلين . ويقول تعالى (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ ) ( يونس 2 ) أى هو رجل منهم ، ليس مختلفا أو غريبا عنهم ، هوأصلحهم وأفضلهم وأقدرهم على تحمل رسالة الهدى طبقا لاصطفاء الله جل وعلا له ، ولكنه منهم.
2 ـ كانت له عليه السلام نفس الخلفية الثقافية التى كانت لقومه المشركين ، من عبادة الأصنام والأنصاب والأوثان. وحول تلك الخلفية دار الجدل بينه وبينهم حين تمرد على الشرك ودعا الى (لا اله إلا الله ) مؤيدا بالقرآن الكريم .
* وكان القرآن الكريم ـ ولا يزال ـ غصة فى حلق كل مشرك كافر،فلا يتقبله ولا يستريح له ، ويتمنى تغييره وتبديله ( أو نسخه) طبقا لأساطير الدين السّنى الأرضى. وسبق أهل مكة فى كراهية القرآن لأنه يدعو لنبذ عبادة الأصنام والأنصاب وتقديس البشر و الحجر، وتعجبوا أن يبشر بالقرآن واحد منهم كان مثلهم فى عبادة الأولياء و القبورالمقدسة، فقال تعالى : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ ) ( يونس 2 ) (وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص 4 )، ولذلك فقد طالبوه بحكم الثقافة المشتركة بينه وبينهم أن يبدل القرآن أو يأتى بقرآن غير القرآن الكريم يتفق مع أهوائهم: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) والله تعالى أمره أن يقول لهم ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)( يونس 15 : 16 ). أى أنه عليه السلام يتخذ من تلك الثقافة المشتركة حجة مضادة ، فقد لبث فيهم عمرا من قبل نزول القرآن الكريم كان فيه مثلهم ضالا ، لا يعلم شيئا عن الهدى ، وعندما جاءه الحق اهتدى به .
3 ـ وعن وضعه قبل نزول القرآن الكريم عليه يقول له جل وعلا: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ)(الشورى 52 ) أى ما كان يدرى قبل نزول القرآن الكريم عليه ماهية الايمان أو ماهية الكتاب الالهى.
4 ـ ومن مظاهر إتخاذ تلك الخلفية المشتركة مسرحا للجدال بينه وبين قومه ، نعيد التدبر فى قوله تعالى له (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ) ( الزمر 36 ). فهم إتخذوا من خلفيته السابقة ـ حين كان يستغيث بالأولياء ويطلب منهم العون والمدد ويخشى عقابهم ـ إتخذوا منها أداة تخويف له ، حيث عايشوه داخل هذه الثقافة يخاف من غضب الآلهة والأولياء ، ولو كان معروفا من البداية بعزوفه عنها واحتقاره لها لما جرءوا على استخدام هذا الاسلوب فى تهديده . واستلزم الأمر أن يقول الله جل وعلا له ينبهه ويقوى عقيدته فى سؤال استنكارى : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) ويعقب ذلك بتحذير مبطن : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ).
5 ـ ولأنه كان مثلهم ومنهم ومشاركا لهم فى الاعتقاد والشعائر الشركية فقد غضبوا عليه عندما تحول عنها ، وإتهموه ـ حسب إعتقادهم ـ بانه ( ضلّ وغوى ) ، يعنى كان قبلها مهتديا يعبد ما وجد عليه الأسلاف شأن الآخرين ، فلما نزل عليه القرآن الكريم وبدأ يدعو به الى (لا اله إلا الله ) اعتبروه ضالا ، فأجاب رب العزة عنه فقال : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) ( النجم 1 ـ )
6 ـ ويصل بهم الأمر الى الضغط عليه بتلك الموروثات الثقافية ليتصاعد الى درجة الاكراه فى الدين مما يجعله عليه السلام يكاد ينصاع لهم ، لولا عصمة الله جل وعلا له بالوحى ، نلمح هذا فى قوله تعالى له (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ). فماذا لو فعل وأصبح خليلا لهم مفتريا الكذب على الله جل وعلا ، يقول جل وعلا له محذرا:(إِذَاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)( الاسراء 73 : 75 ).
7 ـ ومن ملامح الشرك أن تكون له أعياد وموالد وولائم تقوم على اساسها صحبة وصداقة ومودة فى الدنيا تنقلب الى عداء فى الاخرة ، والله جل وعلا يقول:(وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ )( العنكبوت 25 )، وبتطبيق هذا على حياته عليه السلام قبل البعثة النبوية نتصور أن كان هناك من كان صاحبا له من أيام الشرك، وظل هذا الصاحب على الشرك ، وحاول أن يستخدم الصلة السابقة فى إغرائه عليه السلام بالمداهنة والخداع،وقد كان يطيع أولئك الكافرين مما استلزم أن ينهاه الله تعالى عن طاعة المكذبين بالقرآن الكريم (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ)(القلم8: 10).
وتصل قوة صلته بأولئك الأصحاب المتطرفين فى الشرك الى ان ينسى النبى ذلك النهى الذى جاء له فى أوائل ما نزل من القرآن فيواصل طاعته للمتطرفين المشركين ، بل ويتجاهل من اجلهم المؤمنين الضعاف ، فيأمره ربه بأن يتلو القرآن ليتذكر ما ورد فيه من أوامر ونواهى سابقة ، فلا تبديل لكلمات الله تعالى فى القرآن ، ولا تبديل لأوامره ونواهيه ، ولا سبيل له سوى القرآن الكريم : (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) بعدها يأتيه الأمر والنهى معا ؛ الأمر بأن يجبر نفسه ويلزمها الصبر فى المكوث مع المؤمنين ، والنهى عن طاعة المتطرفين المشركين : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) ( الكهف 28 )
ثالثا : عصمة الله تعالى للنبى بالوحى بالأوامر والنواهى حتى يتخلص من خلفيته الثقافية :
نلمح بين سطور القرآن الكريم أن محمدا عليه السلام تعرض لدعوة مضادة تريد أن تعود به الى عبادة الأصنام والوثان والأولياء و القبور المقدسة ،أى الى ما كان عليه قبل أن يبعثه الله تعالى بالقرآن الكريم خاتما للمرسلين ، وحتى لا تتغلب عليه ثقافته الماضية كان الوحى القرآنى ينزل يثبته ويأمره وينهاه ويعظه ويهدده ويحذره .
ولنتتبع الموضوع فى ترتيب زمنى نقسمه الى مراحل ثلاث : مرحلة الشرك و الغفلة ، مرحلة البحث عن الهداية لتحصيل مسوغات الاصطفاء ، ثم مرحلة نزول الوحى والقيام بأعباء الرسالة .
1 ـ مرحلة الغفلة وعبادة الأصنام و الأولياء والأوثان :
يقول جل وعلا يخاطب خاتم المرسلين :(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ )( يوسف 3 )، أى كان قبل القرآن الكريم غافلا من الغافلين . و(الغافلون ) هو نفس الوصف للعرب فى ضلالهم ،ولقد نزل القرآن الكريم على خاتم المرسلين لينذر أولئك الغافلين:(يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)( يس1 :6 ) .
فى مرحلة الغفلة هذه كان محمد بن عبدالله مثل قومه يعبد الله على ملة ابراهيم التى تم تحريفها ، أى يصلى لله جل وعلا و يصلى للأولياء ، ويتوسل بالله تعالى و يتوسل بالأنصاب والأوثان والأصنام ، فى غفلة عن الصحيح والخطأ ، شأن كل متدين بالدين الأرضى ، يرضى به وينسجم معه دون نقاش.
سمات هذه المرحلة سنعرفها عندما نتعرض للمرحلة الثالثة والأخيرة حين أصبح نبيا ينزل عليه الوحى القرآنى ، وفيه لمحات من الجدل بين دعوة الاسلام التى يحملها خاتم المرسلين ، والدعوة المضادة لقومه التى تريد إعادته الى ما كان عليه ، ونزول الأوامروالنواهى لتثبيت النبى فى دعوته وليقف بكل حزم ضد الدعوة المضادة.
وحتى لا تعود اليه الغفلة السابقة فان الله تعالى يأمره ـ ويأمرنا ـ بمدوامة الذكر تضرعا وخيفة وخفية :(وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ) ( الأعراف 205 )
2 ـ مرحلة البحث عن الهداية :
ملامح هذه المرحلة غيب لا نستطيع التكلم فيه ، ولكن نفهمها من خلال القانون الالهى فى الهداية والضلال . فمشيئة الهدى تأتى من الفرد أولا فإذا شاء الفرد الهدى هداه الله جل وعلا ، ونفس الحال فى الضلال ، إذا شاء الانسان الضلال لبّى الله تعالى مشيئة ذلك الضال وزاده ضلالا . (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء) ( فاطر 8 ) أى من يشاء الضلال يضله الله ، ومن يشاء الهداية يهده الله. ويقول تعالى :(قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) ( الرعد 27 )أى من يشأ الضلال يضله الله ، ومن يشأ الانابة الى الله تعالى يهده الله ، ونفس المعنى فى قوله تعالى (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء ) ( ابراهيم 4)، فمشيئة الله جل وعلا فى الهداية والضلال تأتى تالية ومؤكدة لمشية الفرد ، إن أراد الفرد الهداية زاده الله تعالى هدى (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) ( مريم 76 ) ، ويزيد الضال ضلالا (قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) ( مريم 75 ) (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً)(البقرة10 ).
إرادة الهدى هى عملية عقلية تبحث عن الحق باخلاص ، وتناقش خرافات الشرك بعقل مفتوح ، وتتطلع الى ملكوت الرحمن وتقارن بين خلق الخالق جل وعلا وعجز الآلهة المزعومة ، وطالما بدأ الفرد هذه المرحلة بقلب مفتوح راغب فى الهداية فلا بد ان تحل عليه هداية الله جل وعلا ، وهذا هو وعد الرحمن القائل : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت 69 ). هنا ينجو الفرد من مرحلة الضلال ليدخل فى مرحلة الهداية وينتهى ذلك الضلال المؤقت. هذه من نوعية الضلال المؤقت التى أشرنا لها فى مقالات سابقة.
لن نستشهد بما جاء فى التراث عن اعتكافه عليه السلام فى غار حراء ـ فطالما لم يرد فى القرآن الكريم فلا نعتد به ، ولكن نستشهد بتجربة ابراهيم الذى تساءل طالبا الهدى من الله فهداه الله ( الأنعام 75 : 79 ) ، ونتوقع أن تكون قد مرت بمحمد ، فاختار الهدى فانطبق عليه القانون الالهى بأن هداه الله جل وعلا ،وأنه جاهد فى سبيل الوصول للهداية فهداه ربه الى سبيله جل وعلا وأوضح له سبل الهدى، وبالتالى تأهل لأعظم مهمة .
الأساس هنا هو المعرفة اليقينية بأن الله جل وعلا هو الخالق لكل الأشياء ، وأن العقل السليم يأبى أن يحتاج الخالق جل وعلا الى شركاء من البشر ومن الحجر. ومن المتوقع أن تراود تلك الأفكار محمدا بن عبد الله فيرى تفاهة العقيدة المشركة التى توارثها ممع قومه ومن قومه . هنا تنتهى مرحلة الغفلة وتبدأ مرحلة الصحوة ، وبها أصبح محمد بن عبد الله مؤهلا ليكون خاتم رسل الله وخاتم النبيين ، عليه وعليهم جميعا السلام.
3 ـ مرحلة البعثة والوحى القرآنى الذى كان يعصمه ويحفظه :
نتدبر وندرس بعض الآيات القرآنية :
* يقول تعالى للنبى محمد (وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) أى لم تكن تتوقع أن ينزل عليك القرآن ، ولم تكن تتوقع أن تكون خاتم المرسلين . وطالما نزل عليك الكتاب فيجب أن تأخذ موقفا جديدا ، فلا تتحالف مع الكافرين من أصحابك القدماء ضد رب العزة ، ولا تعط لهم فرصة للصدّ عن آيات الله القرآنية التى أنزلها الله عليك ، وقم بواجب الدعوة الى الله ، ولا تعد الى الوقوع فى الشرك ، ولا تدع مع الله الاها آخر ، فلا اله إلا هو ، وكل شىء عداه هالك ، واليه الحكم واليه المصير ، هذا معنى قوله جل وعلا له : ( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (القصص 86 – 88 ). فهنا خمس من الأوامر و النواهى ، بعضها يعطى لمحات لما كان عليه محمد قبل البعثة ، فى إطار النهى عنها .
واضح أننا هنا نقرأ مرحلة جديدة دخل فيها محمد بن عبد الله بعد أن أصبح نبيا مرسلا . وهى مرحلة تستلزم التخلص مما كان عليه فى الماضى ، لذا جاءت الأوامر و النواهى لتعده وتجهزه لمرحلة الرسالة الى دخل فيها. ولو كان محمد بن عبد الله مؤمنا صحيح الايمان قبل القرآن بنفس حاله بعد نزول القرآن ما كان هناك داع لهذه الأوامر و التنبيهات.
* وأحيانا كانت خلفيته السابقة تحاول التاثير عليه بأن تجعله يشكّ فيما أنزل الله تعالى عليه من القرآن ، والقرآن هو سبيله الى الهداية ، فإن شكّ فيه فقد ضاع كل شىء ، لذا يأتى الوحى ليثبته ، فيأمره إن طاف به شكّ أن يسأل أهل الكتاب ، فأهل العلم من أهل الكتاب وقتها كانوا يعرفون قرب نزول القرآن على نبى عربى من أبناء اسماعيل :( البقرة 89 ـ ، 146 ) (الأنعام 20 )( الاسراء 107 : 109 )( الشعراء 197) يقول له جل وعلا : (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ) ، ويؤكد له بأنه جاءه الحق من ربه ، وينهاه عن الشك ، وينهاه عن التكذيب بآيات الله ، فإن فعل فهو من الخاسرين :(لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ( يونس 94 : 95 ). ولم يأت هذا فى فراغ ، فلو لم يكن هناك داع لهذه الأوامر والنواهى ما نزلت فى القرآن الكريم.
* وبعد أن تجمع حوله مؤمنون ظلت آيات القرآن الكريم تتابعه وتتابعهم بالأمر بالاستقامة ، وتنهاهم عن الطغيان وعن موالاة الظالمين : ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ) الى ان يقول جل وعلا له فى نهاية السورة : (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( هود 112 : 113 ، 120 ) أى فالقصص القرآن يأتى لتثبيت فؤاد النبى وموعظة وذكرى للمؤمنين . ولو كان فؤاده ثابتا ذا خلفية مؤمنة صحيحة الايمان ما كان هناك داع لذلك.
* من ملامح الضلال التى عاشها محمد بن عبد الله أنه كان يعبد الله تعالى وفق التحريف الذى لحق بملة ابراهيم ، أى كان كالمحمديين الآن ، يعبد الله ، ويعبد الأولياء ، يتوسل بالله وبالأولياء مؤمنا بجاههم عند الله . وفى مرحلة الدعوة بعد الهداية كان لا بد من التركيز على التمسك بالدين الحنيف ، بأن تكون العبادة خالصة لله تعالى وحده ، وبهذا نزل الدرس لخاتم المرسلين بأوامر ونواهى كالعادة ، يقول له جل وعلا : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( يونس 105 : 107 ). لم يكتف رب العزة بالأمر باخلاص العقيدة والعبادة لله وحده : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) بل قرنه بالنهى لزيادة التأكيد ( وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ثم شرح معنى الشرك فى نهى آخر للبيان والايضاح باستعمال واو العطف : ( وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ ). فماذا يحدث إن وقع فى الشرك ؟ ( فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ ) إى سيكون عندئذ ظالما لرب العالمين . فماذا عن الاعتقاد المشرك فى أن الولى ينفع ويضر ، وهى تلك العقيدة التى كان عليها محمد قبل البعثة ثم تركها ؟ يأتى التأكيد له ولنا بأنه جل وعلا هو الذى يملك وحده دفع الضرر وجلب الخير : ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ). كل هذا التكرار لم يأت عبثا .. وتعالى الله جل وعلا عن العبث .
رابعا : تكرار كلمة (قل ) ردا على الدعوة المضادة له بالعودة الى ما كان عليه من دين الأسلاف :
1 ـ قامت حياة قريش على استغلال الأصنام حول الكعبة طريقا للتميز والنفوذ والثراء الاقتصادى ، لذا كانت مفاجأة عجيبة لهم أن يخرج على هذا الإجماع واحد منهم ، ليس شخصا عاديا بل حفيد زعيمهم الدينى عبد المطلب بن هاشم. تنوعت ردود أفعالهم ، ونوجز منها ما يخص موضوعنا .
* منهم من احترف الخصومة معه ، فقال جل وعلا يسوى بينه عليه السلام وبينهم فى استحقاف الموت ، وأن موعد الخصومة الحقيقية بينه وبينهم ستكون بعد الموت أمام الواحد القهار :(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) ( الزمر 30 : 31 )
* وتواعدوا على التصدى له بكل قوة مع التمسك بآلهتهم : ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) ( ص 4 : 6 )
* ومنهم من تخصص فى الجدل معه تكذيبا للقرآن عند سماعهم له ، مع مجيئهم له للجدل وللطعن فى القرآن الكريم : (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ )( الأنعام 25 ) . ومنهم من جمع بين الخصومة و الجدل ،أى لم يكتف بالخصومة التى تستدعى الابتعاد والهجر بل خصومة فاجرة تتعرض للنبى بالجدل ، فكانوا كما وصف الله تعالى ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) ( الزخرف 57 : 58 ).
2 ـ ترتب على هذه الحالة من الخصومة و الجدل وجود ما سميناه (دعوة مضادة) تريد العودة بمحمد الى ما كان عليه قبل البعثة ، بل كانوا يطلبون منه ذلك صراحة ، ويكررونه ويلحّون عليه. هنا لم يعد كافيا أن تأتى الأوامر والنواهى للنبى بالاخلاص فى الدين عبادة وعقيدة وبالابتعاد عن تقديس البشر و الحجر ، بل نزل له الوحى القرآنى يحدد له أن يقول فى الرد عليهم كلاما فى رفض دعوتهم المضادة . من هنا تكررت كلمة ( قل ) فى هذا المضمار لكى تؤكد نفس الأوامر و النواهى التى أتت وكانت تأتى بدون كلمة (قل ).
ومن خلال السياق فى تلك الآيات الكريمة نتعرف على ملامح الشرك التى عاشها محمد قبل البعثة فى مرحلة الغفلة .
* يقول له ربه جل وعلا : ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(الزمر 11 : 15 ) الواضح هنا أن هذا السياق جاء ردا على جدل مع المشركين الطامعين فى إعادته الى خرافات تقديس البشر و الحجر ، فيأمره ربه أن يقول لهم إن الله تعالى أمره أن يعبد الله مخلصا له الدين ، ولأن يكون أول المسلمين ، وأنه يخاف إن عصى ربه عذاب يوم عظيم . ويكررويؤكد لهم القول بأنه مأمور أن يعبد الله مخلصا له الدين ، ويرد عليهم بأن لهم الحرية بأن يعبدوا ما شاءوا من دون الله جل وعلا، ومسئوليتهم على ذلك ستكون بالخسران الحقيقى يوم القيامة.
* وفى نفس السورة :(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) ( الزمر 64 : 67 ). الواضح هنا أنهم يردون على أمر الله تعالى لرسوله بأن يأمروا هم الرسول بالعودة الى عبادة الأوثان والأصنام والأنصاب ، فيأتى الأمر ثانيا أن يقول لهم: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ) وهنا استفهام استنكارى مصحوب بوصف الجهل لأولئك الذين تجاوزوا الحد فى التعامل مع خاتم المرسلين ، وما تجاوزوا الحد إلا لأنهم يثقون فى النجاح مع من كان رفيقا لهم من قبل، ولذلك يأتى التحذير الشديد للنبى كما جاء من قبل للأنبياء السابقين ، إن أشرك فقد ضاع عمله وخسر كل شىء (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ثم يأتيه التأكيد بعبادة الله جل وعلا وحده ( بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ ) ثم وصف المشركين بأأنهم ما قدروا الله تعالى حق قدره: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
* ونقطة الخلاف بينه وبينهم تتركز فى إخلاص الدين لله تعالى فى الاسلام ، وعدم تقديرهم لله جل وعلا حين يرون أنه يكفى الله أن يعبدوه ويعترفوا به خالقا رازقا ، ولكن لا بأس عندهم أن يعبدوا معه آلهتهم وأولياءهم وقبورهم وتماثيلهم. وهو نفس حال المحمديين اليوم الذين لا يرون بأسا أن يقدسوا مع الله محمدا وآخرين ، وهذا هو الشرك المنهى عنه ، ولذلك أمر الله تعالى خاتم المرسلين أن يعلنها أنه يعبد الله تعالى وفق ملة ابراهيم فى الصلاة و الحج والصوم و الصدقة حنيفا مخلصا ، أى يؤدى تلك العبادات لله تعالى وحده دون أن يتخذ مع الله تعالى ربا أوشريكا :(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) ( الأنعام 161 : 164 )
* ولكنهم لم ييأسوا من الالحاح عليه بأن يعود الى عبادة الأصنام والأولياء فأمره ربه أن يعلن لهم أن الله نهاه عن ذلك، وأنه تعالى أمره في القرآن بعدم العودة إلى الشرك الذى كان فيه قبل الوحي :( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) غافر 66) أي أمره ربه جل وعلا أن يعلن لهم أنه جل وعلا قد نهاه عن عبادة غير الله تعالى، فقد جاءه الهدى في القرآن، وأمره ربه جل وعلا أن يسلم وجهه لله تعالى وفق ملة إبراهيم .
* وتكرر الضغط القرشي عليه بالعودة لعبادة الأوثان والأضرحة فتكرر نفس الرد( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (الأنعام 56). أى لو فعل سيعود الى الضلال السابق الذى أنقذه منه رب العزة ، والذى قال عنه رب العزة :(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ) .
ختاما :
1 ـ إذا كان يجوز الاعتذار بسبب قول الحق فإننا نعتذر لو كان هذا المقال قد جرح القارىء .
فى النهاية هو الحرص على الهداية قبل أن يحلّ الموت.
وقد وضح أننا تدبرنا قوله تعالى :(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ) فى ضوء القرآن ، ولم نقل رأيا خاصا ، بل هو ترديد لآيات القرآن الكريم فى سياقها ، ولكل إنسان الحرية فيما يؤمن به وفيما ينكره ، وموعدنا جميعا امام الخالق جل وعلا ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون .
2ـ ولكن من العبر التى نخرج منها هو التساؤل الآتى : ما هى أهمية أن يكون محمد ضالا مثل قومه ثم اهتدى ؟ .
نعود هنا الى المقارنة السابقة بين ميلاد ونشأة كل من محمد والمسيح. نشأة المسيح وبيئته الايمانية النقية غير قابلة للتكرار، ولذا كانت مثلا أعلى لقومه الذين عاصروه وتعاملوا معه بالسلب أو الايجاب. ولذا كان المسيح ـ وفقا للقرآن الكريم ـ رسولا محليا لبنى اسرائيل فقط . (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) ( آل عمران 49 : 50)
أما رسالة محمد فهى عالمية لكل البشر جميعا فى كل زمان ومكان من وقته الى قيام الساعة . ولأن أغلبية البشر ضالون دائمون،أو يقعون فى الضلال الوقتى فلا بد أن يكون المثل الأعلى لهم قريبا منهم ،أى يكون ضالا ثم شاء الهدى فهداه الله . هى دعوة لكل منا للهدى ، فكل منا نشأ على الضلال ورآه حقا ، والأغلبية تظل على هذا الى الموت ، والأقلية هى التى تفكر وتتعقل وتطلب الهداية فيهديها الله تعالى ، وهذه الأقلية هى التى تتمسك بالسنة الحقيقية لخاتم المرسلين ، أى تستمسك مثله بالقرآن وتهتدى به كى تتغلب على بقايا الضلال القديم .
3 ـ هذا الضلال الوقتى الذى كان عليه محمد قبل البعثة وأنقذه منه رب العزة لا يحجب حقيقة أنه عليه السلام كان نموذجا أعلى لنا فى سمو الخلق ، والدليل هو قوله جل وعلا له عن قومه الضالين : (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ) ( النحل 37 ).
4 ـ وهذا ما سنتوقف معه بالتفصيل فى المقال القادم بعون الله جل وعلا.