الطهطاوى والكرنتينه

خالد منتصر في الثلاثاء ١٩ - مايو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

خلق الله عز وجل العينين فى مقدمة رأس الإنسان لا فى قفاه لكى ينظر أغلب الوقت إلى الأمام وإلى المستقبل!، العالم كله فهم هذه الحكمة إلا نحن، ففضلنا أن نمشى إلى الأمام بقفانا، ورؤوسنا وعيوننا مصوبة ومتجهة ومثبتة إلى الخلف، إلى الماضى، حيث التراث قد قال كل شئ، وحسم كل شئ، وماعلينا إلا أن نفتح الكتب القديمة عندما تواجهنا مشكلة، فليس فى الإمكان أبدع مماكان.
دائماً أسأل نفسى، متى حدثت النهضة ؟، وأعتقد أننى قد وجدت الإجابة، إنها اللحظة التى قرر فيها المجتمع الغربى أ&de;ن يواجه مشكلاته بالنظر إلى الواقع الجديد المتجدد وليس بالنظر إلى النصوص القديمة والتراث المتحفى القديم الساكن، وكما خرج الفن من ظلام الأستوديوهات المغلقة والألوان الداكنة إلى رحابة الطبيعة وألوانها المتألقة، خرج العلم إلى عصر التجريب والبحث الميدانى الإحصائى والطب القائم على الدليل.
يحضرنى لتقريب هذا المعنى حكاية الطهطاوى عندما سافر إلى فرنسا وتدوينه فى أخبار باريز لمجادلة أو محاورة الشيخ المالكى مع الشيخ الحنفى حول " الكرنتينه " أو مانطلق عليه الآن الحجر الصحى، ففى ظل أوبئة الطاعون والجدرى والكوليرا حينذاك والتى كانت تحصد أرواح الملايين، وتبيد مدناً بأكملها، نرى الشيخ أبا عبد الله محمد المناعى المالكى يجادل الشيخ أبا عبد الله محمد البيرم فى قضية إباحة الكرنتينة!، كيف فكرا إزاء حل المشكلة التى واجهها الغرب بمزيد من التجارب، ومزيد من البحث، حتى وصلوا إلى العلاج واللقاح، أما نحن فواجهناها بمزيد من الفتاوى ومزيد من الغرق فى الأوراق الصفراء.
حرم الشيخ المالكى الكرنتينة وألف فى ذلك رسالة وإستدل فيها على أن الكرنتينة من جملة الفرار من قضاء الله، وإستعان فى رسالته بحديث " لاعدوى ولاطيره "، أما الشيخ الحنفى فأباح الكرنتينه مستنداً أيضاً إلى حديث آخر وهو " فر من المجذوم فرارك من الأسد "، وأصر الأول على أن قوله هو الحكم الشرعى، وأكد الثانى على أن إستدلالاته هى الحلال الحلال، وتناسى الإثنان أن الوباء على الأبواب ولن ينتظر حسم الصراع الفقهى بين المالكية والحنفيه.
ظل إنسان الكهف يعتقد أن البرق والرعد هما أصوات الشياطين وأفعال العفاريت، وإرتعدت فرائص المجتمعات حين حاول العلماء تشريح الجسم البشرى أو إكتشاف عوالم الكون والمجرات بالتليسكوب، ظلوا داخل شرنقة نصوص أرسطو وجالينوس القديمة، ويحاربون التقدم من خلال فهمهم الضيق لنصوص الكتاب المقدس، خافوا من خدش هيبة الإنسان وإعتبروا أن الإنتقاص من مكانة الأرض كمركز للكون تجديف وكفر، إلى أن كسر العلماء تلك الشرنقة الفولاذية وقرروا أن يقرأوا الواقع ويصنعوا الحضارة، وكانت الراية فى البداية فى يد العلماء المسلمين ولكن للأسف دخل الفكر الإسلامى إلى المتاهة و تخلف المسلمون، وهاهم منذ ألف سنة لم يسهموا بإنجاز علمى واحد فى منظومة الحضارة.
فلنغير شعارنا ليصبح "فى الإمكان أبدع مماكان ".

اجمالي القراءات 11726