العرب تحت حصارهم الذاتي

د. شاكر النابلسي في الأحد ١٧ - مايو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

-1-
منذ أن استولى العثمانيون في القرن السادس عشر وتحديداً عام 1517 بقيادة سليم الأول على بلاد الشام ومصر ثم باقي أنحاء العالم العربي، وسور العزل العربي عن الآخر يُبنى ويمتد ويرتفع، إلى أن أصبح الآن أكبر ضخامة من سور الصين العظيم، وقد حجز العرب خلفه عن العالم، أو أن العرب حجزوا أنفسهم خلف هذا السور عن العالم، بفضل العمليات الإرهابية التي بدأت منذ نهاية القرن العشرين الماضي، وما زالت مستمرة حتى الآن.

-2-
وتحت هذا الحصار، نعيش اليوم مكروهين ومنبوذين ومُبعديute;ن، لا أحد في الشرق أو في الغرب يرحب بنا، أو يريد قُربنا. ولولا هذه الثروة النفطية التي لدى بعضنا، لكنا قد مُحينا من وجه الأرض، وضُربنا بالقنابل النووية، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما ضُربت اليابان عام 1945 نتيجة لضربها القوات الأمريكية في بيرل هاربر 1942. فقد كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 أقسى على أمريكا، وأشد وقعاً، وأكثر ذلاً لها من كارثة بيرل هاربر، سيما وأن أمريكا في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم بكل ما لهذه القوة من سطوة، وأنفة، وكبرياء، وهيبة عالمية. لذا، كانت كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 أليمة جداً للعظيم الذي تعاظم على هذا النحو.

-3-
لكن الثروة النفطية التي يحتاجها الغرب والشرق الصناعي، والتي تعتبر عصب حياته، ووقود تقدمه وازدهاره، هي التي أنقذتنا من الفناء. وهي كل ما نستطيع أن نقدمه للعالم، وليس في أيدينا أي انجاز آخر. علماً بأن هذه الثروة النفطية ليست من انجازاتنا العلمية أو الصناعية، ولم تتكوّن بعرق جبيننا، بقدر ما هي صدفة تاريخية جيولوجية. فلا علم جديد لدينا نقدمه لهذا العالم، ولا صناعة، ولا زراعة نفيد بها هذا العالم، ولا تربية ولا تعليم لدينا، بحيث يفدُ علينا طلبة العلم من كل فج عميق. فمن يأتينا الآن طلباً لعلمنا، لا يجد لدينا غير كتب صفراء نجترها منذ مئات السنين، ونكررها لكل جيل حفظاً وتلقيناً. فلا يفدُ إلينا إلا من أراد الالتحاق بمعاهدنا الدينية، التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع. وهؤلاء يأتون إلينا من بعض دول جنوب شرق آسيا، ويعودوا لبلادهم ليصبحوا فقهاء يُفتون بإرضاع الكبير، وبشرب بول الإبل، وببركات بول الرسول، وعرق جسمه، الذي قيل أن النساء كنّ يتطيبن به، ويفضلنه على "دهن العود"!

-4-
وهذه كلها من وسائل أسطرة شخصية الرسول عليه السلام، وجعله شخصية أسطورية، أو "سوبرمان" لا يُقارن ولا يُقارع، رغم أن الرسول عليه السلام، قال لنا: "إنما أنا بشرٌ مثلكم".
ولكن الفقهاء أبوا أن يكون الرسول بشراً مثلنا، وأصروا على أن يقدموه لنا وللأجيال القادمة على أنه أسطورة من أساطير الزمان، وأنه "سوبرمان" خارق عقلياً، وفكرياً، وجنسياً، وطبياً، وعسكرياً، واقتصادياً، وقضائياً، وإدارياً.. الخ. كما يقومون بإشغال بال وعقل الناس بأمور تافهة سطحية، وفيما لا ينفعهم، بل يُلهيهم عن الخَلق والابتكار والإبداع. ويتخذون من المرأة قضية كبرى يناطحون بها العصر الحالي والعصور المقبلة. ويصدرون ضدها الفتاوى الكاذبة والمزيفة المستندة على قرائن مجتمع بدائي، كان قائماً قبل خمسة عشر قرناً، ولم يعد قائماً الآن.

-5-
فدساتير وقوانين الأمم تتغير، وتتبدل، وتتعدل من حقبة لأخرى، والأمة التي لا تُغيّر قوانينها وأنظمتها من حقبة لأخرى حسب احتياجات أفرادها المستجدة تتكلس، وتتحجر، وتلقى مصير الاندثار والزوال، حيث تصبح غير قابلة للحياة في العصر، وغير قادرة على الاستجابة لتحديات العصر وشروطه. فهي تعيش في هذه الحال في عصرين مختلفين متباعدين تباعداً كبيراً: عصر داخلي أو جوّاني، وعصر خارجي أو برّاني. عصر داخلي عبارة عن مجموعة من الأحكام والتقاليد الاجتماعية المتوارثة، وكانت سائدة قبل قرون طويلة، وأصبحت تاريخاً ُيقرأ للتندُّر والتفكُّه، وليست منهاج حياة، لأن كل حياة في كل حقبة، تضع لنفسها منهاجاً خاصاً بها يُلبي احتياجات الناس الذين يعيشون في هذه الحقبة. فلا حقبة تفرض أخلاقها وسلوكيات ناسها على حقبة أخرى.

-6-
إذن، نحن الآن واقعين تحت الحصار، حصار الإرهاب، الذي أصبح طاغياً في الشارع العربي والإعلام العربي، بحيث أصبح رجل الدين في العالم العربي، هو صاحب النُطق الأول والأخير، وهو الرجل الأول، وهو في المقام الأول، وصاحب الكلمة الأولى، والخطبة الأولى، والكرسي الأول، وفنجان القهوة الأول.
وأصبحت كلمة رجل الدين تُغلق شارعاً، وتفتح شارعاً. وتُغلق جريدة، وتطرد رئيس تحرير جريدة، ومدير محطة تلفزيون أو إذاعة، وتهدد وزراء الثقافة بالطرد والمحاكمة. وأصبح رجل الدين يصدر الفتاوى بقتل المثقفين والشعراء وحرق كتبهم، ودواوينهم، ونفيهم من بلادهم إلى بلاد الغرب، وإهدار دمائهم على شاشات الفضائيات.
وأصبح رجل الدين يقوم بإهدر دم تيار كامل من الليبراليين العرب بمجرد فتوى شخصية. كما يقوم رجل دين آخر بهدر دم تيار كامل من العَلْمانيين العرب ورميهم بالكفر والإلحاد، دون أن يؤاخذ على ذلك، أو يُحاسب من قبل الدولة، أو من قبل الرأي العام، أو منظمات حقوق الإنسان العربية التي من المفروض أن تدافع عن أصحاب الرأي الآخر. ففتوى هؤلاء وغيرهم من رجال الدين لا تُحاسب ولا تُعاقب.
وأصبح رجل الدين هو السياسي الأول – نتيجة لقصور وصغر عقل العربي - الذي بمجرد أن يرفع المصحف عالياً، تسقط كل الكتب الأخرى على الأرض، وتُمزق وتُداس بالأحذية. وبمجرد أن يُرفع شعار "الإسلام هو الحل" تسقط جميع الشعارات العلمية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.
ومن هنا، أصبح الإسلام كدين، مهنةً رابحةً تدرُّ على مُتلبّسها دخلاً كبيراً أفضل من دخل مثيلاتها من الوظائف الأخرى التي يقضي من أجلها الطالب سنواته الأربع في الجامعة في كليات الدراسات الإنسانية. لذا، لم تنتشر المعاهد الدينية والجامعات الدينية في العالم العربي كما انتشرت في هذه الأيام. ولم يبلغ عدد طلاب الدراسات الدينية في العالم العربي كما بلغه هذه الأيام. ولم يتسابق الطلاب الخائبين في امتحان الشهادة الثانوية على الالتحاق بالمعاهد الدينية كي يصبحوا غداً من أصحاب الصولجان وإلى يمين السلطان كما يتسابقون الآن. ولم نجد في العالم العربي هذا العدد الهائل من الدُعاة والهُداة من الشباب ومن الشيوخ، من ذوي العلم الشرعي، وممن تنكبوا العلم الشرعي، كما نجد الآن. ولم يصبح رجال الدين عموماً من الشيوخ والشباب على هذا المقدار من الثروة الطائلة ورفاه العيش كما هم عليه الآن.

-7-
ولفعالية هذا الحصار، لحجب العرب عن العالم، وحجب العالم عن العرب، قمنا بتكفير الآخر، والمناداة بحربه، وبأن داره دار حرب، ومعاداته، وتهديد مصالحه، وحرق سفنه. لذا وجدنا الآن، كل هذه الصفوف الطويلة من رجال الدين في العالم العربي، وكل هذه الآلاف المؤلفة من العمائم واللحى الطويلة، الذين ملأوا الصحف، والفضائيات، والإذاعات، والجوامع، والمؤتمرات، والندوات، والمنتديات، حيث لم تُصدر في يوم من الأيام الماضية وحتى الآن، فتوى واحدة لتكفير زعماء وقادة الحركات الإرهابية، الذين قتلوا آلاف الأبرياء، وإهدار دمهم.
بل هم على عكس ذلك، فقد قاموا بتمجيد زعماء الإرهاب. فأطلقوا على رأس الإرهابيين "سيف الإسلام"، و "شيخ الإسلام"، و "المجاهد الأكبر"، و"شيخ المجاهدين". وراحوا يدعون له سراً وعلانية بالنصر المبين، وسلامة اليمين، وصدق اليقين. ويمتنعون عن إصدار فتوى بإهدار دمه، رغم أنه قاتل، قام بقتل المئات من المسلمين، والمسيحيين، واليهود، والهندوس، والبوذيين، ومن كل ديانات الأرض والسماء الأبرياء، كما نرى ونسمع في هذه الأيام.

اجمالي القراءات 10782