الأقباط في رحاب الوطن (2)

كمال غبريال في الأحد ١٠ - مايو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

في بحثنا عن كيفية اندماج الأقباط في ساحة العمل العام والحياة الاجتماعية والسياسية بالوطن، بدأنا بما يمكن أن يقدمه الأقباط من خدمات للمجتمع كمرحلة أولى، تشجع أخوة الوطن وتحرضهم، على إفساح المجال لنشاط الأقباط، في كافة مواقع العمل الأهلي، تلك المواقع التي تسببت حالة التعصب والاحتقان الطائفي، في غلقها في وجه الأقباط، بما أدى أيضاً لتهميش دور الناشطين المستنيرين من المسلمين، وسيطرة جماعة الإخوان المحظورة على كافة النقابات المهنية مثلاً، واستخد&Cl;امها كواجهة شرعية، يمارسون من خلالها أنشطتهم غير الشرعية، عازفين عن واجبات تلك النقابات المهنية، تجاه مختلف المهن وأهلها، للتركيز على مساندة عصابات الإرهاب المستترة بالدين في كافة أنحاء العالم، بداية من الشيشان والبوسنة والهرسك، حتى لبنان وفلسطين، ولم تجد الدولة المصرية إزاء هذا الوضع الخطير على سلامة الوطن وأمنه، غير أن تفرض الحراسة على هذه النقابات، لكن الجماعة المحظورة الدؤوبة على تحقيق أهدافها، نراها تلجأ للقضاء، لاستصدار أحكام بإلغاء الحراسة وإجراء انتخابات، ما لو تحقق ستعود سيطرة عناصرها على النقابات من جديد. . هذا يوضح بجلاء أهمية نزول الأقباط إلى ساحة العمل العام، فوضع أيديهم في أيدي إخوانهم وزملاء مهنهم المختلفة من المسلمين المستنيرين، كفيل بتحجيم تلك الجماعة المتخصصة في التربص بهذا الوطن وبأبنائه، كما سيكشف أيضاً عن الحجم الحقيقي لتلك الجماعة، التي تدعي لنفسها تمثيل غالبية الشعب، رغم أن اعتمادها الحقيقي، هو على سلبية المواطن المصري، مسلماً كان أم مسيحياً. . فالأقباط ثروة ورصيد وطني ضخم، لابد وأن نسعى بكل السبل إلى توظيفه وتفعيلة، لانتشال وطننا من الهاوية التي يسقط فيها يوماً فيوماً.

فلنبحث بداية ما لدينا الآن بالفعل كأقباط لنقدمه للمجتمع. . هنالك مثلاً دروس التقوية التي تعقد بالكنائس، والتي من الجميل أن نرى حالياً، مدرسين من المسلمين يقومون بالتدريس بها، لكن الطلبة هم من الأقباط فقط. . فماذا لو فتحنا تلك الخدمة للجميع؟. . أليس من المؤكد في هذه الحالة، أن يساهم هذا في مزيد من الاندماج، وتحفيف أو إزالة حالة الاستقطاب والاحتقان الديني، الموجودة بالفعل بين تلاميذ المدارس؟
هل من العسير أو المكلف مالياً، أن يُقبل الطلبة الفقراء من كافة المصريين في حصص التقوية هذه، دون مقابل مادي؟. . ألا يخلق مثل هذا التوجه أيضاً، حالة من التعاطف والتكافل المجتمعي، والتوحيد بين أبناء الحي الواحد، بما يبشر بتلافي توجهات وممارسات عدائية، نجدها الآن تشتعل لأقل هفوة هنا أو هناك؟
وإذا فعلنا نفس الشيء في خدمة العلاج الطبي، التي تقدم حالياً للجميع، بأن نخصص نسبة معينة من الحالات للعلاج المجاني الكامل أو الجزئي للفقراء من الكافة، ألا ترون معي أن هذا كفيل بتحويل التوجه العدائي نحو الكنيسة لدى البعض، إلى توجه محبة، مادام ينالهم منها خير؟

نفس هذا النهج يمكن تطبيقه على سائر الأنشطة التي تمارسها الكنائس الآن، وهذا بالطبع يجب أن يترافق مع تحويل ذلك النشاط الخارج عن حدود العبادة، ليكون عبارة عن نشاط لجمعيات أهلية، يتم تأسيسها وفقاً لقانون جمعيات العمل الأهلي، وتكون مواردها من تبرعات أهل الخير ورجال الأعمال، ومنفصلة تماماً عن أموال الكنائس، وهي بهذا ستصير مؤسسات وطنية ضمن منظومة العمل المدني، وبالتالي سيخضع نشاطها وميزانياتها للرقابة من قبل الوزارة المختصة، بما يضمن الشفافية، ويضمن سير العمل بها وفق الضوابط الإدارية والمالية المناسبة لمثل تلك الأنشطة، التي تحتاج بالتأكيد في إدارتها، إلى نظم تختلف جذرياً عن النظم المتبعة في دور عبادة، تقوم تعاملاتها بالأساس على الثقة ومعايير التقوى والإيمان، والتي لا يخفى على أحد أنها لا تناسب أعمالاً بشرية ومادية كتلك التي استعرضناها.
لو تصرفنا بهذا الشكل، سوف تقل المقاومة لإنشاء الكنائس هنا وهناك إلى حد كبير، وسوف تكون استجابة الغوغاء لمحرضيهم ضد بناء الكنائس أقل وأقل مع الوقت، لأن إنشاء الكنيسة لن يكون أمراً متعلقاً بالأقباط وعبادتهم فقط، بل سيتوقع الجميع وخاصة الفقراء، أن الكنيسة ستقدم يدها بالخير للجميع. . ولعلنا نرى بعد ذلك المساجد تفعل نفس الشيء، ويقوم القائمون على أمورها باستبعاد المحرضين على الكراهية، ليعمل الجميع معاً كجيران وكبشر متحضرين ومتكافلين، لا كأعداء متكارهين متخاصمين.

أستطيع الآن أن أقرأ أفكار من يطالع تلك الكلمات، متهماً إياي بأنني أغرق في أحلام رومانسية. . أنا فعلاً أحلم. . أحلم بغد أفضل، فالحلم الجميل والنبيل هو المقدمة الضرورية لأي تقدم إنساني. . كان هذا صحيحاً على امتداد التاريخ الإنساني، ومازال وسيبقى هذا دائماً صحيحاً، أن أحلام الأمس هي إنجازات اليوم والغد، لكن تحويل الأحلام إلى حقائق واقعية، لم ولن يكون طريقاً سهلاً مفروشاً بالورود، لكنه طريق صعب مليء بالأشواك، ويحتاج إلى الرجال الأشداء والمخلصين للسير فيه قدماً، لتحقيق غاياتهم النبيلة.
إن الذين يحلمون بالبغضاء والدماء، يسعون جاهدين لتحقيق أحلامهم العنصرية البغيضة، ويصلون في جهدهم هذا إلى تفجير أنفسهم، لكي يقتلوا أكبر عدد من البشر. . فلماذا لا نحلم نحن بعالم يسوده الحب وعمل الخير، ونسعى بالفعل بكل الجهد والإصرار، لتحقيق تلك الأحلام، التي قد تبدو للبعض الآن مستحيلة؟
تبدو من تعليقات القراء على سلسلة مقالاتي هذه، وأيضاً من المناقشات مع الأهل والمعارف من الأقباط، أن البعض يتصورون أن الكنيسة يمكن أن تكون بديلاً للوطن، أو أن تكون وطناً بديلاً للأقباط، يهربون إليه من جحيم الوطن المصري، فيوفر لهم الأمن والأمان المفتقد في الوطن، ويوفر لهم بالطبع فوق ذلك مكاناً في ملكوت السماوات.

النقطة الأخيرة لا خلاف عليها، وهي أن الالتصاق بالكنيسة الأرضية، يوفر (وفق شروط معينة ومعروفة) مكاناً للمؤمن وسط زمرة القديسين في الكنيسة السماوية. . لكن ما ينبغي مراجعته، هو تصور الأقباط للكنيسة وطبيعتها وإمكانياتها ودورها في حياتهم. . فالكنيسة ليست كياناً روحياً معلقاً في الفضاء أو في السماء، ولو كانت بالفعل كذلك، لكانت هي الخيار الأفضل، الذي يغنينا عن الكد والكدر على أرض الواقع، أو بالتعبير الكنسي الشقاء في هذا العالم الذي وضع في الشرير. . الأقباط لا يمتلكون (كما يتصور البعض) رفاهية الاختيار، بين التواجد في "سماء أرضية" هي الكنيسة، وبين الاندماج في الوطن (العالم) بكل ما فيه من مشاكل، ومن فيه من بشر أخيار وأشرار، صالحين وفاسدين. . فالكنيسة أولاً ليست مجالاً لأي خيار، ولا هي أيضاً البديل لأي شيء، لأنها هي الحضن الروحي، الذي لا غنى للمسيحي عنه، والذي لا يمكن أن يعوضه عنه أي شيء آخر. . في المقابل نحن (أو أي جماعة) لن نستطيع أن نهرب من هذا العالم، إلا في أضغاث الأحلام، أو بالغرق في فكر مُغَيِّب للعقل. . بهذا يكون وضع الكنيسة في مواجهة الوطن خطيئة كبرى، في حق كل من الكنيسة والوطن، ويكون كل من يقول بأن أحدهما يمكن أن يغني عن الآخر، يمارس التزييف والادعاء، ويبيع الوهم للناس، بوقاحة وجسارة.

فأنا أزعم (حتى لو اعتبر البعض أنني بهذا أُعَدُ من المهرطقين) أن مباني الكنائس من خرسانة مكسوة بالرخام، وليست من أثير أو أنوار سماوية، وأنها مُقامة على أرض مادية، هنا أو هناك بامتداد الوطن المصري، وليست مُعلقة في الفضاء الكوني. . كما أدعي أن من يدخلون ويخرجون منها، هم بشر من لحم ودم، ولكي يبقى هؤلاء الناس على قيد الحياة (الفانية هذه)، لابد لهم من غذاء وكساء ومأوى، وهذه لن تتوفر لهم إلا عبر ارتباطهم بسائر من على تلك البقعة المسماة وطن، سواء اعتبرناهم أخياراً أم أشراراً، مؤمنين أم من أولاد هذا العالم (الذي لو احتقرناه، فلابد وأنه أيضاً سيحتقرنا) . . أستطيع أيضاً أن أقول، أن كل من يقول لنا غير هذا هو مخادع، وكل من يصدقه ساذج ومغيب العقل، وقانا الله شر السذاجة، وشر غيبوبة العقل.

اجمالي القراءات 9277