د. عمرو الشوبكى : ثمن التوريث

في الخميس ١٢ - مارس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

ثمن التوريث

بقلم د. عمرو الشوبكى ١٢/ ٣/ ٢٠٠٩
أثارت زيارة جمال مبارك إلى واشنطن شبه السرية وشبه المعلنة، والتى شملت لقاءات مع دبلوماسيين فى وزارة الخارجية، وخبراء فى مراكز بحوث، لغطاً كبيراً، لأن مَنْ قام بها يتبوأ موقعاً قيادياً فى الحزب الحاكم، وليس وزيراً أو مسؤولاً فى الدولة، ورغم ذلك أعطى لنفسه الحق فى أن يقوم بمهام لا يستطيع سياسى آخر أن يقوم بها وإلا اتهم بالخيانة والعمالة لأمريكا، فى تناقض صارخ بين ما هو مسموح به لسياسى لأنه نجل الرئيس وآخر من باقى الناس.

وإذا كان الخطاب الرسمى يرى أن الدولة والمسؤولين الحكوميين هم وحدهم الذين لهم حق التواصل مع الدول والحكومات الغربية والأمريكية، وأن قيام غيرهم بهذا الدور يعتبر نوعاً من الاستقواء بالخارج على حساب الوطن، فكيف سيتعامل هذا الخطاب مع زيارات جمال مبارك المتكررة إلى واشنطن، وكيف يمكن أن نعتبر أن تسويق مشروع التوريث فى أمريكا تحت مسمى عرض «إنجازات» الإصلاح هو قضية وطنية يعطى فيها الحق لشخص، ويحرم منها كل نظرائه من السياسيين المصريين.

لقد اعتبرت الحكومة أن قيام جمعية أو منظمة بعرض انتهاكات حقوق الإنسان أمام نظرائها فى أمريكا «خيانة للوطن»، فى حين أن زيارات جمال مبارك المتكررة لأمريكا هى كلها من أجل صالح الوطن، وبدا الشعب وكأنه قد خرج من تعريف هذا الوطن، الذى لم يعد التنكيل به يثير مشكلة أو حتى تعاطفاً إنسانياً من قبل الحكم، وصار عقاب الضحية على شكواها أكبر بكثير من عقاب الجلاد على جريمته.

والمشكلة أنه لأول مرة منذ تأسيس الدولة الوطنية الحديثة فى مصر منذ أكثر من قرنين، يشعر الناس بأنهم لا يواجهون نظاماً يبطش بهم أو دولة تقسو عليهم، إنما مجموعة ضيقة جدا من أهل الحكم تنكل بهم كل يوم، وتهين كرامتهم، وتستغل استكانتهم بعد أن تركتهم ضحايا خطط التجهيل التى أصابت وعيهم، كل ذلك من أجل إنجاح مشروع التوريث الذى يستلزم وجود شعب مغيب، ودولة نائمة، ومؤسسات مترهلة، ونخبة معدومة الكفاءة والأخلاق.

فالمؤكد أن المصريين لا يواجهون، كما جرى فى فترة سابقة، نظاماً تسلطياً، إنما «شلة توريث» استبعدت كل القوى والأفكار والرموز الإصلاحية الموجودة داخل النظام وخارجه، فى مشهد تَرَحَّم فيه الكثيرون على أيام الدولة التسلطية بعد أن شهدوا عصر العزب والمماليك الخاصة، وتذكروا بالخير نظماً تسلطية بعد أن رأوا مرحلة الفوضى والعشوائية واللانظام.

والمؤكد أن الشعب المصرى سيدفع ثمناً باهظاً نتيجة تخاذله فى إجهاض مشروع التوريث، الذى أصبح يمثل الخطر الأكبر على مستقبل هذا البلد، وسيعنى فى حال نجاحه استكمال الفشل الذى عرفناه على مدار ٣٠ عاماً، وانتقاله من فشل سياسى واقتصادى إلى فشل معنوى وأخلاقى سينتهى معه مبرر تأسيس النظام الجمهورى عبر انقلاب عسكرى، وقيام الشعب المصرى بتضحيات كبرى من أجل استقلاله وكرامته، وتصبح التقاليد المعروفة فى النظم الملكية أكثر احتراماً من توريث الجمهوريات، خاصة إذا كان هذا التوريث لم يجلب تقدماً واحداً ولو على سبيل السهو فى مجال الإصلاح السياسى أو محاربة الفقر والتهميش والفساد.

فلم يحاول ولو خطأ أن يضع بين الـ ٣٤ مادة التى تم تعديلها من الدستور، مادة واحدة يمكن وصفها بالإصلاحية، وحتى تغيير المادة ٧٧ وتحديد مدة حكم رئيس الجمهورية بمدتين، كما طالبت القوى الإصلاحية، وكثير منها كان داخل الحزب الوطنى، لم يلتفت له أحد من أركان الحكم، وصار مكتوباً على مصر ألا تعرف لقب الرئيس السابق، لأنها لم تجد من داخل النظام الحاكم من يجرؤ على القول علناً (وليس سراً) إن الأزمة الحقيقية التى تعانى منها مصر تعود إلى حالة الجمود السياسى نتيجة بقاء رئيس الجمهورية حاكما لمدة ٢٨ عاما، وفى حال إذا كان الرئيس مبارك قد غادر السلطة عام ١٩٩٣ أى بعد أن أنهى مدتين فى الحكم، لكان يمكن اعتباره واحداً من أفضل الرؤساء الذين عرفتهم مصر فى تاريخها الحديث.

واللافت أن فشل الحكم فى السياسة، لم يعوضه نجاح فى أى مجال آخر، فلم نجد جامعة وطنية يتيمة ناجحة، أو مؤسسة عامة واحدة تعمل وفق معايير الحد الأدنى من الكفاءة، أو صحيفة واحدة مثل «الشرق الأوسط» أو «الحياة» أو «الأهرام» منذ أربعين عاماً، أو حتى شارعاً واحداً به رصيف يمشى عليه الناس، وإشارة مرور تعمل كما كان عليه الحال فى كل العصور السابقة.

ويكفى فقط أن نشاهد صور الشوارع وشكل الناس ومظهر المبانى والعمران قبل ٣٠ عاماً ونقارنها بحالتها البائسة حالياً لنعرف حجم التدهور الذى أصابنا، رغم أنه كان من المفروض أن نقفز خطوات إلى الأمام لا أن نركض بسلاسة إلى الخلف.

لقد أصبحت أعداد القتلى فى ظل السلام أكبر من أعدادهم فى فترات الحروب، لأننا لم نعرف إلا فى هذا العهد استفحال مشكلة الفساد وسوء الإدارة، بعد أن عجز النظام عن وضع معايير محترمة لاختيار قياداته العليا فارتاح إلى الموظفين المطيعين، ويا حبذا لو كانوا مثل هؤلاء الذين تركوا ضحايا العبَّارة يموتون فى عرض البحر لساعات، أو عباقرة النقل والمواصلات الذين تجلت قدرتهم فى تكرار حوادث الطرق والقطارات نتيجة الإهمال والفساد وسوء الإدارة.

والحقيقة أن فوضى الشارع والحياة العامة انتقلت إلى السياسة، وأصبحنا نشهد حروباً وحملات لتلويث السمعة والشرف وهدم أى قيمة أو معنى لرموز مصر ونخبتها، ومساعدة كثير منهم على الفساد والإفساد، حتى لا يكون أمامنا إلا وريث واحد لحكم البلاد.

لقد اعتدنا فى عصورنا الجمهورية السابقة أن تتخاصم الدولة السياسية مع المعارضين السياسيين، فَتَعَرَّضَ كل مَنْ انتمى لتنظيم شيوعى أو إسلامى فى عصر عبدالناصر لاعتقال، وكنا نفهم (ولا نقول نوافق) أن يقوم نظام ثورى واشتراكى مثل نظام عبدالناصر باعتقال صحفى يمينى له علاقات بأمريكا كالراحل مصطفى أمين، ولكننا لم نفهم قيام النظام الحالى حليف أمريكا الأول فى العالم العربى، بحملات تخوين قاسية ضد د. سعدالدين إبراهيم لأن له علاقات طيبة مثل النظام المصرى بواشنطن، وعوقب بشدة لمجرد أنه استخدم القنوات نفسها التى يستخدمها جمال مبارك لإيصال رؤيته للأمريكيين.

وأصبح كل رمز سياسى مؤثر عدواً صريحاً لشلة التوريث، وصار كل رمز علمى أو قيمة فكرية، عدواً محتملاً حتى لو كان مثل أحمد زويل أو محمد البرادعى، فالمطلوب هو الحفاظ على مصر جرداء وفى تصحر مستمر حتى ينجح مشروع التوريث.

ولأن هذا المشروع يجرى فى الظلام وليس له أدنى علاقة بالناس، فقد مارس أكبر عملية استبعاد وتهميش فى تاريخ مصر الحديث للمواطنين وللنخبة ولدور مؤسسات الدولة، ولم يحاول أن ينقلنا خطوة إلى الأمام فى أى جانب، واختطف الدولة لحساب شلة عطلت قدراتها وأهدرت كفاءتها وهيبتها وصار رموزها محل هجوم بالحق والباطل من أجل اختزال البديل فى التوريث.

فهل سندفع ثمن هذا المشروع مرتين: مرة بما فعله فينا ومرة بوصوله إلى السلطة، وحينها سنكون فقدنا كل شىء، أى الحاضر والمستقبل وقبلهما التاريخ، الذى كان فى يوم ما به كثير من الجوانب المشرقة؟!

amr.elshobaki@gmail.com

اجمالي القراءات 4303