في الثامن من يوليو/تموز 2022، اتجه رجل عاطل عن العمل عمره 41 عاما اسمه "تيتسويا ياماغامي" إلى محطة "ياماتو سايداجي" بمدينة "نارا" اليابانية حاملا مسدسه محليَّ الصنع، وفي تمام الساعة 11:30 ظهرا بتوقيت البلاد اقترب بما يكفي من رئيس الوزراء الياباني السابق "شينزو آبي" وأطلق عليه النار فأسقطه قتيلا، بينما كان "آبي" يُلقي خطابا هناك.
بيد أن "ياماغامي" لم يكن الناقم الأوحد على "آبي"، الذي كان رئيس الوزراء الأطول خدمة في اليابان وتخلَّى عن السلطة عام 2020 لأسباب صحية، لكنه كان يُمثِّل شريحة واسعة من اليابانيين الساخطين. وكما أظهرت استطلاعات الرأي، عارض أكثر من 50% من اليابانيين إقامة جنازة رسمية لرئيس الوزراء الراحل بعد مقتله، وخرجوا في مظاهرات للتعبير عن رفضهم هذا حاملين شعارات مختلفة.
ليس هذا فحسب، بل إن المخرج الياباني اليساري "ماساو أداتشي" قرَّر أن يصنع فيلما يتعاطف فيه مع شخصية القاتل. ربما يثير الأمر استغرابك الآن، لكن هذا ليس غريبا في اليابان، فقد ينتخب هذا الشعب الهادئ مسؤولا لسنوات طويلة ليس حبا فيه وإنما رغبة في الاستقرار، وفي حين أظهرت استطلاعات الرأي انخفاض شعبية الحزب الحاكم بعد مقتل "آبي"، لم ترتفع شعبية المعارضة هي الأخرى.
وعلى عكس الداخل الياباني المتصالح مع تناقضاته، كانت تلك المعارضة لجنازة تكريمية لآبي مثارَ استغراب بالنسبة للمراقبين الأجانب، إذ دأبت وسائل الإعلام الغربية على الاحتفاء بالرجل حين كان في الحكم، لا سيما وقد كان حليف الغرب الدائم ضد الصين، كما عدَّل الدستور بشكل يأذن للقوات اليابانية بالمشاركة في مهام قتالية خارج البلاد إلى جانب قوات حلفائها الغربيين.
كانت هذه العلاقات الحميمية مع الغرب هي إرث آبي الرئيسي، إلى درجة أن رئيس الوزراء الياباني الحالي "فوميو كيشيدا"، الذي ينتمي إلى الحزب الديمقراطي الليبرالي (حزب "آبي" نفسه) اختار تسليط الضوء عليها خلال جنازته، فقد كان "آبي" خيرَ مُعين للغرب حتى حين بدأ ترامب يتحدث عن ضرورة دفع اليابان المزيد من الأموال مقابل المساعدة العسكرية التي تقدمها بلاده. وحتى حين انسحب الرئيس الأميركي من اتفاقية التجارة الحرة لمنطقة المحيط الهادي، بقي "آبي" راسخا في مواجهة الصين، ليصفه ترامب بعد ذلك بأنه أعظم رئيس وزراء في تاريخ اليابان. وفي المُقابل تغاضى الإعلام الغربي في أحيان كثيرة عن غضب المثليين والنسويات منه (رغم أنهم يَصبُّون جلَّ تركيزهم على هذه القضايا إذا كان المغضوب عليه خصما للولايات المتحدة)، ومن ثم أثارت المظاهرات المنددة بـ"آبي" بعد موته واستطلاعات الرأي ضده دهشة الجمهور الأجنبي.
ومع ذلك، يظل الجانب الأهم في حادثة اغتيال "آبي" هو أن "ياماغامي" الذي نفَّذ عملية الاغتيال، ويصفه أقرانه بأنه ذكي للغاية وهادئ الطباع ومنطوٍ، كان قد جرَّب مسدسه في الليلة السابقة للحدث في كنيسة يعرفها اليابانيون جيدا باسم "كنيسة التوحيد" أو "اتحاد الأسرة من أجل السلام العالمي والتوحيد" (يرمز اسم "كنيسة التوحيد" إلى الاتحاد أو الوحدة "Unification" في الاصطلاح الإنجليزي وليس التوحيد بمعناه الإسلامي). وقد انطوت خطته الأولى على قتل زعماء الكنيسة، لكنه توجَّه بعد ذلك لقتل "آبي". ولم تكن مشكلة الرجل مع "آبي" توجهات الأخير السياسية، وإنما دعمه للكنيسة التي أفقرت والدته وكثيرا من اليابانيين غيرها، بحسب رأيه. فقد تبرَّعت والدته بـ100 مليون ين (692 ألف دولار) للكنيسة من محصول تأمين والده على حياته قبل انتحاره، مما أدى بالأسرة إلى الإفلاس، وتدمير كل خطط الشاب لمستقبله. وقد ذكرت العديد من التقارير أن الكنيسة تتبع طرقا أقرب إلى "غسيل المخ" كي تجعل أتباعها يتخلون عن أموالهم لها.
كانت تلك نقطة التحوُّل التي فجَّرت غضب "ياماغامي" تجاه الزعيم المُغتال. وعلى إثر ذلك، بدأت وسائل الإعلام المحلية والعالمية تستكشف طبيعة العلاقة بين الحزب الديمقراطي الليبرالي الياباني الحاكم والكنيسة سيئة السمعة في أعقاب الحادثة، ومن ثمَّ سُلِّط الضوء على العلاقة بينهما مما أثار السخط عند الكثير من اليابانيين، حتى إن بعضهم أرسل الهدايا والمال إلى قاتل الزعيم وعبَّر علنا عن التعاطف مع القاتل، ورفض إقامة جنازة رسمية لـ"آبي". في الأخير، أقامت الدولة الجنازة بالفعل بنفقات بلغت 12 مليون دولار من أموال دافعي الضرائب، في وقت انخفضت فيه شعبية رئيس الوزراء الحالي إلى أدنى مستوياتها.
جدير بالذكر أن الحزب الحاكم نفسه أعلن بعد التحقيق في طبيعة الروابط بين الكنيسة والحزب أن ما يقرب من نصف أعضائه في البرلمان اعترفوا بعلاقاتهم بـ"كنيسة التوحيد"، بدءا من إرسال برقيات التهنئة إلى المنظمات التابعة للكنيسة وحتى الظهور في مؤتمراتها، وهو ما دفع "كيشيدا" الذي يجاهد لاستعادة شعبيته إلى الاعتذار إلى الشعب الياباني وإنشاء خط ساخن لتلقي شكاوى المواطنين الذين استغلتهم الكنيسة كي يستعيدوا تبرعاتهم. ولا يوجد حاليا إحصاء رسمي حول عدد أتباع الكنيسة في اليابان، لكن الكنيسة نفسها تُقدِّرهم بنحو 600 ألف شخص، فيما تُقدِّر أتباعها حول العالم بـ10 ملايين شخص.
المسيح الجديد برعاية المخابرات الكورية
في عام 1954، أسَّس الكوري "سون ميونغ مون" الكنيسة التي كان اسمها في البداية "جماعة الروح القُدُس لاتحاد المسيحيين في العالم"، ويُلقَّب أتباعها حول العالم اليوم بـ"مونيز" نسبة إلى مؤسسها، ويتركز نشاطها في اليابان (تأسست الكنيسة في اليابان عام 1959) وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، إذ إن الكنيسة التي تصف نفسها بأنها جماعة غير ربحية ويصفها خصومها بأنها أقرب إلى المافيا، ترتبط بالحركات اليمينية على مستوى العالم منذ نشأتها.
امتلكت الكنيسة الجديدة عقائد غريبة عن مختلف الطوائف المسيحية الأخرى، إذ يعتقد أتباعها أن "مون" هو المسيح الجديد، وأنه بعكس المسيح الأصلي نجح في تكوين "عائلة مثالية" بعد أن نجح في الحب الذي لم يحققه يسوع لأنه لم يتزوج. ومن ثم يُمثِّل "مون" بالنسبة لأتباعه الأب الحقيقي، وتُمثِّل زوجته "هاك جا هان"، التي تولت قيادة الكنيسة بعد وفاته عام 2012 عن عمر ناهز 92 عاما، الأم الحقيقية.
تؤمن الكنيسة بأن كوريا الجنوبية هي بلد آدم، في حين أن اليابان تُمثِّل بلد حواء التي ينبغي أن تخدم زوجها. ويدفع اليابانيون في الكنيسة رسوما مضاعفة مقارنة بنظرائهم الكوريين، إذ تلعب الكنيسة بحسب بعض التقارير على عُقدة الذنب عند بعض اليابانيين تجاه ما فعلته دولتهم أثناء الحرب العالمية الأولى ضد الكوريين، ومن ثم تأخذ الكنيسة أموالهم ليُكفِّروا عن ذنوب أجدادهم تجاه كوريا. وبالطبع يُسبِّب هذا الاعتقاد الكاره للذات اليابانية حنقا تجاه الكنيسة من طرف الكثير من اليابانيين، في حين يتجاهل بعض اليمينيين هذا الاعتقاد المؤسس عند الكنيسة مقابل الاهتمام بموقفها المناهض للصين.
تبلور هذا الموقف في أثناء الحرب الباردة، حيث ركَّزت الكنيسة على مواجهة المد الشيوعي في العالم، وحققت ما اعتبرته وكالة الاستخبارات الكورية الجنوبية نجاحا واضحا في ذلك، بل ورأت أنها تستطيع استخدام الكنيسة لتمرير المشاعر المُعادية للشيوعية داخل المنظمات السياسية والدينية الأخرى. ومن ثم مُهِّد الطريق لـ"كنيسة التوحيد" المُعادية للاتحاد السوفيتي للتبشير واكتساب النفوذ وجمع الأموال، وفي الوقت نفسه ارتكزت علاقة الكنيسة مع وكالة الاستخبارات المركزية الكورية على التأثير على الولايات المتحدة التي كانت في حرب مع الشيوعية أيضا. ونجحت الكنيسة في تكوين تحالف قوي مع اليمين الأميركي تحديدا في سبعينيات القرن الماضي، إذ حشدت بقوة لدعمه، فقد كان "مون" لاعبا مؤثرا في كواليس السياسة الأميركية، ودعم الرئيس "ريتشارد نيكسون" ومن بعده "رونالد ريغان" و"جورج بوش" الأب، كما أسس صحيفة "واشنطن تايمز"، هذا كله فضلا عن ظهور "دونالد ترامب" في فعاليات الكنيسة بعد أن صار رئيسا عام 2016.
"نوبوسوكِه كيشي" رئيس الوزراء الياباني من 1957 إلى 196، وجد "شينزو آبي".
أما في اليابان، فعمدت عائلة "شينزو آبي" إلى تعزيز علاقتها بالكنيسة، بدءا من جده "نوبوسوكِه كيشي" (رئيس الوزراء الياباني من 1957 إلى 1960). ورغم أن "كيشي" سُجن لمدة ثلاث سنوات في السجون الأميركية للمفارقة باعتباره مجرمَ حربٍ مُشتبها بضلوعه في جرائم أثناء الحرب العالمية الثانية، فلم تُدِنه الحكومة الأميركية واعتقدت أنه سيكون أفضل حليف لها في اليابان. وفي عام 1968، دعم "كيشي" إنشاء "الاتحاد الدولي للانتصار على الشيوعية"، وهو اتحاد ترأسه "سون ميونغ مون"، مؤسس "كنيسة التوحيد" التي يقع مقرها بجوار منزل "كيشي".
بدأ جدُّ "آبي" في تأسيس تلك الشراكة السياسية مع "المسيح الكوري الجديد" المُعادي للشيوعية، وظلَّت بعدها الكنيسة وفية للحزب الديمقراطي الليبرالي، وحشدت أتباعها للتطوُّع في العمل بحملاته الانتخابية والتصويت له بالطبع. وعلى مر السنين، امتلك "مون" ثروة ضخمة وإمبراطورية اقتصادية تُقدَّر قيمتها بمليارات الدولارات جراء أنشطته الاقتصادية في القلب من التحالف الرأسمالي الغربي (ويتهمه نقاده بأنها جاءت عن طريق التلاعب بأتباع ديانته). وقد أُدين "مون" بالتهرُّب الضريبي عام 1982، وقضى 13 شهرا في السجن الفيدرالي، بينما قال وقتها إنه ضحية اضطهاد ديني.
الدين في خدمة الحزب
في عام 2018، ظهرت الكنيسة في التقارير الإعلامية بكثافة، وكان السبب صور أتباعها من المصلين وهم يرتدون تيجانا على رؤوسهم ويحملون بنادق من طراز "16 إيه آر"، حيث تُروِّج الكنيسة لما يُسمَّى بحق حيازة الأسلحة، ولا عجب في ذلك بعدما استعرضنا علاقتها باليمين الأميركي. وتعبر هذه الصور عن جانب آخر من قصة الكنيسة "المونية"، فهي ليست مجرد مكان عبادة، وإنما إمبراطورية أُنشئت بالأساس لمحاربة الشيوعية وتمدَّدت ماليًّا في الحرب الباردة، كما تحالفت -ولا تزال- مع شتى صنوف اليمين في اليابان والولايات المتحدة.
حين نتأمل علاقة الكنيسة بالحزب الحاكم الذي هيمن على السياسة في اليابان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، نجد أنه اعتمد عليها بشدة في أحيان كثيرة. فقد حاز الحزب الأصوات الريفية وأصوات كبار السن في الانتخابات بمساعدة الكنيسة، ومع تقلُّص الريف بالإضافة إلى شيخوخة السكان التي تحول بينهم وبين الاهتمام بالتصويت عند وقت معيَّن، وجد الحزب نفسه في أزمة (ووصلت المشاركة إلى نسبة 52.05% فقط في الانتخابات الأخيرة عام 2022). وقد كانت علاقة الحزب بالكنيسة وتوفيرها للمتطوعين وتأمينها للأصوات عاملا مهما للمساعدة في تأمين سيادة الحزب الذي تقلصت قاعدة جمهوره المُستهدَف مع الوقت، وفي المقابل منح الحزب الكنيسة المكانة والحماية وظهر رجال الحزب في تجمُّعاتها لتلميع صورتها التي باتت في ذهن اليابانيين أقرب إلى نوع من المافيا. وبشكل عام، شملت أعضاء الحزب البريمانيين بالكنيسة تلقي الدعم السياسي والتبرعات، وكذلك تقديم المتطوعين الذين ساعدوا خلال الحملات الانتخابية دون مقابل.
(رويترز)
أشارت صحيفة "ذا جابان تايمز" في تقرير لها إلى الأسباب التي تجعل مثل تلك العلاقة بين الحزب الحاكم وجماعة هامشية مثل "كنيسة التوحيد" علاقة فعَّالة. ولخَّصت الصحيفة الأمر في ثلاث نقاط، أولها فترة الحملات الانتخابية القصيرة، وثانيها العدد المحدود المتوفر من الموظفين الذين يعملون مع السياسيين، وثالثها سهولة التواصل والاحتكاك مع المسؤولين المُنتَخَبين في اليابان. ويُسمح للسياسيين المترشحين في اليابان بفترة لا تزيد على 30 يوما للتجول في الشوارع وإجراء المكالمات الهاتفية وتوزيع المنشورات وزيارة المنازل أثناء الحملات الانتخابية، حيث يُقيِّد القانون الحملات لأقصر فترة ممكنة. وتولِّد كل تلك العوامل احتياجا عند الأحزاب تقتنصه جماعات مثل "كنيسة التوحيد" لتُقدِّم خدماتها.
جدير بالذكر أن علاقة الكنيسة بالسياسيين لم تقتصر على الحزب الحاكم فقط، إذ أشارت التحقيقات الشهر الماضي إلى أن الكنيسة لها صِلات أيضا بـ15 عضوا من "حزب إبداع اليابان" (Nippon Ishin no Kai)، و14 عضوا من "الحزب الدستوري الديمقراطي الياباني"، وثلاثة أعضاء من حزب "كومَيتو" (Komeito).
ومع ذلك، يظل ما حصلت عليه الكنيسة من علاقتها بالحزب الحاكم لغزا. ففي حين أن العلاقة فجَّرت غضبا كبيرا داخل المجتمع الياباني في الأشهر الماضية، ثمَّة أصوات لمحللين يابانيين تؤكد أن المعرفة بوجود تلك الصِّلات لا تكفي لفهم المشهد، وأن طبيعة هذه الصِّلات واحتمالية انطوائها على رشاوى أو خطط محددة هو المهم. في المقابل، تقول الكنيسة إنها تتلاقى مع الحزب في بعض الأمور لتشابه رؤاهما السياسية المحافظة، وأنها لا توجه أعضاءها سياسيا. وقد نظَّم المونيون اليابانيون مظاهرة في شهر أغسطس/آب الماضي احتجاجا على الطريقة السلبية التي تناول بها الإعلام المحلي والدولي شأن كنيستهم.
الكنيسة تبيع صكوك الغفران وتُفقِر أتباعها
تواجه اليابان منذ عقدين أزمة هيكلية في اقتصادها، فالدولة التي كانت محل أنظار العالم بسبب أدائها الاقتصادي الباهر بعد الحرب العالمية الثانية وحتى أوائل التسعينيات، بل وأخافت الولايات المتحدة يوما ما بسبب منافستها لها على صعيد القوة الاقتصادية والصناعية، صارت تظهر في التحليلات الاقتصادية بصورة سلبية في أحيان كثيرة بعد أن أخذت الصين مكانها في الاقتصاد العالمي.
في ظل الآبينوميكس، باتت اليابان مع نهاية عهده صاحبة أعلى معدل فقر بين الدول السبع بنسبة تصل إلى 15.7%. (رويترز)
وحين تسلَّم "آبي" زمام السلطة في اليابان، أسَّس تصوُّرا وآليات للتعامل مع الأزمة اليابانية، وسرعان ما ذاع صيت سياساته وأُطلِق عليها "اقتصاديات آبي" أو "آبينوميكس". ولكن في ظل الآبينوميكس، باتت اليابان مع نهاية عهده صاحبة أعلى معدل فقر بين الدول السبع بنسبة تصل إلى 15.7%. وقد أصدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) تقريرا في إبريل/نيسان 2016 تحدَّثت فيه عن أزمة الأطفال الفقراء في اليابان، إذ ذكرت أن أطفال أفقر الأُسَر في اليابان هم أكثر حرمانا بشكل ملحوظ من نظرائهم في الدول الصناعية الأخرى.
فبينما ساعدت سياسات "آبي" الشركات الكبرى على تحقيق أرباح ضخمة، فإنها لم تكن في صالح الشرائح الأقل حظا من اليابانيين حسبما يقول نُقاده، مما جعل خلفه "كيشيدا" ينحرف لليسار قليلا، يتبنَّى رؤية أكثر ميلا للرؤى الاجتماعية-الديمقراطية، إذ قال رئيس الوزراء الحالي إن اليابان بحاجة إلى التحرُّر من السياسات النيوليبرالية التي سادت البلاد لوقت طويل.
في الوقت الذي انتهج فيه "آبي" سياسات يقول معارضوه إنها تسبَّبت في تزايد معدلات الفقر في اليابان، كانت الكنيسة المُعادية لليسار التي تدعمه وتُجيِّش له المتطوعين والمُصوِّتين تُفقِرهم بالفعل عن طريق آخر، حيث واصلت ابتزاز أتباعها ماليا عبر إقناعهم بعقدة الذنب، وبأن أرواح الأجداد تطاردهم، وذلك كي تبيعهم "منتجاتها الروحية" مثل الأواني المقدسة والبلورات ذات الأسعار الفلكية والأحجار والشاي في شيء أشبه بصكوك الغفران، حتى خسر بعض منتسبي الكنيسة ممتلكاته كاملة ودُمِّرت عائلته. وتُشير الأرقام الأولية من خلال الخطوط الساخنة التي أنشأتها الحكومة إلى أن شكاوى المواطنين تتضمن خسائر بقيمة 123.7 مليار ين (856 مليون دولار) منذ عام 1987، وأن الكنيسة استخدمت الأموال التي جمعتها في اليابان من أجل بناء إمبراطورية أعمال بمليارات الدولارات حول العالم، حيث تدير الشركات التابعة للكنيسة منتجعات للتزلج والجولف، وشركة دفاع، وشركة مواد كيميائية، وشركة لقطع غيار السيارات، وصحيفة "واشنطن تايمز"، فضلا عن فندق "نيويوركر" في نيويورك، ومحفظة ممتلكات هائلة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن بعض المحللين اليابانيين لديهم رأي مختلف حول ضحايا الكنيسة، وهو أنهم ليسوا سُذَّجا ولم يتعرَّضوا لغسيل المخ، وإنما أرادوا الاستفادة ليس إلا من الشبكة المعقدة للمصالح والعلاقات داخل الكنيسة، فالمحتال لا يَستغِل إلا طماعا من وجهة نظرهم. ولكن بغض النظر عن تصنيف الضحايا، فإن بإمكاننا الآن أن نفهم سبب كل هذا الغضب من "آبي"، والتعاطف مع قاتله عند قطاع واسع من اليابانيين، فقد تسبَّبت سياساته في خلق جيل جديد لدى قطاع منه شعور قوي بأنهم ضحايا، وشعر هؤلاء أن القاتل نموذج رومانسي يُمثِّل جيلا ضُرِب بواسطة القوى الاقتصادية والاجتماعية المُهيمنة بتواطؤ من الدولة في كثير من الأحيان.
ملاحظة:
*يرمز اسم "كنيسة التوحيد" إلى الاتحاد أو الوحدة "Unification" في الاصطلاع الإنجليزي وليس التوحيد بمعناه الإسلامي.