نظرا لطول هذا المقال البحثى فنقسمه الى ثلاثة أقسام .
هذا المقال البحثى يناقش قضية هامة فى موضوع الكفر العقيدى و السلوكى وعلاقته بعلم الله جل وعلا. وينقسم المقال البحثى الى ثلاثة أقسام : سبيل الله المقصود هنا هو القرآن الكريم ، مفهوم العلم الالهى هنا ، ثم كيفية التعامل مع كلام الله تعالى فى القرآن فيما يخص الضلال والضالين .
وهذا هو القسم الثانى .
مفهوم العلم الالهى هنا لا يلغى وجود العلم البشرى
من الملاحظ هنا أن الأسلوب القرآنى فى هذه الآية الكريمة لم يأت بالقصر والحصر وإنما جاء بالتفضيل . فلم يقل تعالى " لا يعلم إلا ربك من يضل عن سبيله ومن اهتدى " و لم يقل مثلا " إنما العلم بالضال والمهتدى لله " ولكن قال " هوأعلم " أى أعلم من غيره ، أى أن غيره يعلم علما محدودا ظاهريا ناقصا ولكن الله تعالى هو الأعلم من هذا الغير . أى إن مفهوم العلم الالهى هنا لا يلغى وجود العلم البشرى بل يثبته .
ونعطى التفصيلات ..
أولا : لمحة عن أسلوب القصر فى القرآن الكريم :
وللتوضيح نعطى أمثلة سريعة لأسلوب القصر والحصر التى لا مجال فيها لغير الله سبحانه تعالى ، والتى ليس منها أسلوب التفضيل :
1 ـ فشهادة الإسلام تقوم على القصر والحصر ، تبدأ بالكفر بأى إله ( لا إله ) لتؤكد الألوهية لله تعالى وحده ( إلا الله ): (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) ( البقرة 255 ) .
2 ـ وصفات الله تعالى الإلهية تأتى بأسلوب القصر أيضا مثل علم الغيب (قُل لّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ )(النمل 65 ) ، ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ )( الأنعام 59 ).
3 ـ ومثل الشفاعة. ويأتى أسلوب القصر فى الشفاعة على نوعين : من حيث المضمون أنها لله تعالى وحده وليست لأى نفس بشرية ، فهو جل وعلا وحده الولى الشفيع (لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ) (لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ) (الأنعام 51 ، 70 ) ، (مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)( السجدة 4 ). وأنها من حيث الآلية لا تتم إلا بأمر الله تعالى للملائكة وأذنه ورضاه (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ )( البقرة 255 )،( وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(الأنبياء 28 ) ، (يَوْمَئِذٍ لّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا )( طــه 109 ) ، (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى)( النجم 26 ).
4 ـ وفى المقابل يستعمل جل وعلا أسلوب القصر ليحدد مهمة النبى محمد فيما يخص الدعوة و التبليغ وما يلحقه من إنذار و تبشير وتذكير :(مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ )( المائدة 99 ) ، ( إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ )( فاطر 23 ) (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) ( الغاشية 22 : 23 )، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا )( الأسراء 105 ) . ويقول جل وعلا فى توصيف وضع خاتم المرسلين بالنسبة لمن سبقه (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) ( آل عمران 144 )
5 ـ وفى مهمة التبليغ والإنذار و التبشير و التذكير كان عليه السلام لا يدعو إلا بالقرآن الكريم ، ولا يتبع سواه. وقد تكرر هذا ثلاث مرات فى القرآن الكريم إعلانا من خاتم المرسلين بأنه لا يتبع إلا الوحى القرآنى :(إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) ( الأنعام 50 ، يونس 15 الأحقاف 9 ) وجاء هذا تأكيدا لآية أخرى هى : ( قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي ) ( الأعراف 203 ). وكل ذلك باسلوب القصر.
6 ـ وقد يجتمع فى آية واحدة موجزة تنفى التفضيل وتنفى علمه عليه السلام بالغيب وتقصر مهمة الرسول على التبليغ وتقصر إتباعه على الرسالة أو التنزيل ، يقول تعالى يأمر خاتم المرسلين بأن يعلن الآتى :( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( الأحقاف 9 ) والتوقف مع هذه الاية الكريمة بالتدبر يستلزم كتابة عشرات الصفحات.
7 ـ القرآن الكريم يستعمل شتى أساليب القصر والحصر المعروفة فى البلاغة العربية ، وعلى أساسها قام علم (البلاغة العربية ).
ومن أساليب القصر فى القرآن الكريم :
• النفى والإستثناء (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ )(محمد 19 ) ، (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ )(الحشر 22 ).
• أداة القصر ( إنما) :( إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ )( يونس 20 ) ،(إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ)( الرعد 7 ).
• الأمر بشىء والنهى عن ما عداه : (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ) ( الأعراف 2 ) إى أن نتبع القرآن وحده ولا نتبع ما عداه.
• إثبات شىء ونفى ما عداه : ( فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ ) ( يونس 32 )، فالله تعالى هو الحق وحده الاها لا شريك له ، وما عداه فهو ضلال.
• التقديم والتأخير (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )( الفاتحة 5 ) الأصل أن يسبق الفعل والفاعل ويتأخر المفعول ،أى أن تقول ( نعبدك ) ولكن لو قلت ذلك لأصبح المعنى نعبدك ونعبد غيرك . أما لو قلت (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) فقد قصرت العبادة لله تعالى وحده لا شريك له وقصرت الاستعانة به وحده لا شريك له .
• ومثل ذلك قوله تعالى عن ذاته : (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ )(الأعراف 54 ). الأصل أن يأتى المبتدأ أولا فى الابتداء ثم بعده الخبر ،أى يقال ( الخلق له والأمر له)، لكن لو قلت هذا ضاع معنى القصر و أصبح المعنى (الخلق له ولغيره والأمر له ولغيره ).
• ويقول تعالى ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ )( هود 123 ) وهنا فى جزء من آية واحدة مثلان ، كلاهما بالقصر بالتقديم والتاخير : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) ، (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) ،فى الأولى نجد (لِلَّهِ ) خبرا مقدما ( جار ومجرور ـ شبه جملة ) وقد تقدم هذا الخبر على المبتدا ، وهو (غَيْبُ السَّمَاوَاتِ ..) فلم يقل ( غيب السماوات والأرض لله ) حتى لا يستفاد منه أنه لله ولغير الله .فالدافع هنا لتقديم الخبر ـ بلاغيا ـ هو قصر علم الغيب على الله جل وعلا وحده . ونفس الحال فى الجزء التالى ، فالأصل تقديم الفعل المبنى للمجهول ونائب الفاعل ،أى (يُرْجَعُ الأَمْرُ ) ولكن تم تقديم الجار و المجرور على الجملة الفعلية ليقتصر رجوع الأمر الى الله تعالى وحده ، فلم يقل ( يرجع الأمر اليه ) ولكن قال (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ ). ثم جاء تأكيد القصر بأسلوب آخر هو استعمال لفظ من ألفاظ الاستقصاء ، وهو (كل ) فقال (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) وسنعرض لاحقا لأسلوب القصر بأدوات الاستقصاء .
• ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) ( الغاشية 25 : 26 ). هنا تم تقديم خبر (إنّ) وهو جار ومجرور شبه جمله : (إِلَيْنَا ) وتاخر إسم (إن) وهو (إِيَابَهُمْ ) ، ونفس الحال فى الجملة القرآنية التالية (إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) ، وذلك ليقصر رجوعهم الى الله تعالى وحده يوم الدين ، وليقصر حسابهم على الله تعالى وحده يوم الحساب .
• أساليب الأستقصاء : كالاستغراق بالنفى ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ)( غافر 18 ) ،
• استعمال ألفاظ الاستقصاء مثل ما يدل على الجمع أو الاجماع مثل كل وجميع (وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ )( يــس 32 ).
• ولفظ (كفى ) فالله تعالى كفى به شهيدا:(قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا) ( العنكبوت 52 )( وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) ( النساء 79 ، 166 )،وكفى به جل وعلا وكيلا : ( وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) (النساء 171 ،الأحزاب 3 ، 48 )وكفى به جل وعلا حسيبا (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا )(النساء 6 ، الأحزاب 39 ). وكفى به جل وعلا وليا ونصيرا : (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ) ( النساء 45 ) .
• وقد يأتى فى آية واحدة أكثر من أسلوب فى القصر ، كقوله جل وعلا : ( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( الزمر 44 ) فهنا قصر بالتقديم والتأخير ( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ ) وتاكيد للقصر بأداة الاستقصاء : (جَمِيعًا)، ثم يأتى أسلوب قصر بالتقديم والتأخير فى تاكيد أن الله تعالى ـ وحده ـ هو مالك السماوات والأرض (لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) واليه وحده المصير والرجوع يوم الدين (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
الموضوع طويل ، وقد نكتب فيه باستفاضة فى موضوع مستقل بعونه جل وعلا.
ولكن نؤكد هنا أن أسلوب القصر هذا لم يأت فى علمه جل وعلا بمن ضلّ عن سبيله وبالمهتدين ... فقد جاء بأسلوب التفضيل ..
ثانيا : لمحة عن أسلوب التفضيل المتبع فى آيات العلم الالهى بمن ضل وبمن اهتدى :
ونعطى أمثلة لأسلوب التفضيل التى فيها مجال لعلم البشر المحدود فى موضوع يكون العلم الأكبر فيه لله تعالى .
1 ـ يقول تعالى عن عدد أهل الكهف : (قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ) ( الكهف 22 )، لم يقل جل وعلا ( قل لا يعلم عدتهم إلا ربى ) ،أى لم يستعمل أسلوب القصر ولكن استعمل أسلوب التفضيل ، فهو جل وعلا (أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم ) مع التأكيد بأن بعض البشر يعلمون عددهم الحقيقى أيضا ولكنهم قلة ، (مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ) ففى الاية الكريمة نجد أسلوب التفضيل يؤكد أن الله تعالى (أعلم ) ويثبت أيضا علما لبعض البشر بالعدد.
2 ـ ويقول جل وعلا عن أم السيدة مريم (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى )( آل عمران 36 ) فالأم تعلم أنها وضعت بنتها أنثى وهو علم صحيح ، ولكن الله تعالى هو الأعلم بكل التفاصيل التى تفرق بين الذكر والأنثى ...
3 ـ وعموما فان الله جل وعلا هو الأعلم بنا من أنفسنا (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم ) ( النجم 32 ) وكننا أيضا نعرف بعض الشىء عن أجسادنا وعن سرائرنا وما نخفيه وما ننويه .
3 ـ يقول تعالى عن بعض المنافقين : (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ )(آل عمران 167 ) فؤلاء المنافقون يكتمون مشاعرهم ، وهم بالطبع يعرفون مشاعرهم ويتصرفون على أساس ما يكتمونه فى سرائرهم وقلوبهم ، ولكن مع ذلك فالله تعالى هو أعلم بهم من أنفسهم.
وتكرر نفس الحال فى قوله جل وعلا عن خداع بعض المنافقين : (وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ) ( المائدة 61 )
4 ـ يقول تعالى (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ )( النساء 25 ) فالله تعالى يعلم الإيمان القلبى ومقدار ما يزيد وما ينقص فى صراع المؤمن مع غرائزه وتذبذبه بين التقوى والمعصية ، ولكن البشر أيضا لهم علم ظاهرى بملامح الإيمان حسب السلوك . وهو علم سطحى وقليل ، ولكن لا يمكن إنكاره ، لذا جاء أسلوب التفضيل هنا وليس القصر.
5 ـ وإذا كان هذا يخص بالمؤمنين فى الداخل فهو ينطبق أيضا على مدى علم المؤمنين بأعدائهم . المؤمنون يعرفون أعداءهم حسب سلوك العدو العدوانى ، ولكن ثمة عدو يمتلىء قلبه حقدا دون أن يظاهر بالعداء أو يقع فى الاعتداء ، وهنا يكون علم الله جل وعلا أكبر وأفضل ولكن لا ينفى العلم السطحى للمؤمنين ، نفهم هذا من قوله جل وعلا للمؤمنين : (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ) ( النساء 45 )
6 ـ وحتى فى مجال الاعتداء ، يقول تعالى (وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ )( الأنعام 119 ) ، فالله تعالى هو الأعلم بالمعتدين ، والأية هنا تتحدث عن إعتداء معنوى على شرع الله تعالى يرتكبه (أهل الهوى ) الذين يضلون الناس بغير علم ، أى هو إعتداء عقيدى أو كفر عقيدى يختلف عن الإعتداء المادى السلوكى الذى يلمسه البشر ويعلمونه بالرؤية و يشهدونه بالحواس ويستطيعون الحكم عليه ؛ على الفعل و السلوك و ليس على الشخص .
إن محل الحكم على الشخص الجانى المعتدى هو أمام القضاء البشرى ،الذى يحكم بالأدلة الظاهرية الثبوتية ، أما الحكم بتكفيره طبقا لاعتدائه الآثم فمرجعه الى الله تعالى يوم القيامة . لايستطيع أحد إنكار الجرائم العالمية المعروفة و المشاهدة والملموسة ، هل تستطيع إنكار الإعتداءات التى قام بها الطغاة من هتلر إلى صدام ومن هولاكو إلى تيمورلنك ؟! والأمثلة كثيرة فى التاريخ وفى الواقع المعاش والملموس، وهى تؤكد أن للبشر علما ظاهريا سطحيا بالجرائم التى يعتبرها الله جل وعلا سلوكا يؤدى الى الخلود فى النار. وللبشر أن يحاسبوا على ذلك فى محاكمهم المحلية و المحاكم الجنائية الدولية ، وهم يحكمون طبقا لعلمهم النسبى القاصر ، ولكن يأتى الحكم العادل المطلق يوم القيامة من الله تعالى الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ( غافر ـ 19 ). ومثلا فان الله جل وعلا يحكم بالخلود فى النار على من يقتل مؤمنا مسالما (فردا واحدا ) : (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ) ( النساء 93 : 94 ).أى إن من ألقى السلام فهو مؤمن حتى لو كان فى أرض المعركة ضمن العدو أثناء إشتباك حربى بين المسلمين وعدو معتد عليهم . لو ألقى السلام أصبح مؤمنا يجب حقن دمه ، فلو قتله شخص من المسلمين استحق غضب الله جل وعلا و لعنته وعذابا عظيما ينتظره . واللعنة و الغضب و العذاب العظيم يستحقها أشد الناس ضلالا وكفرا . ولكن يبقى (التعمد ) المقصود فى الآية (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا ) وهذا ( التعمد ) لا يحكم عليه سوى من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ـ جل وعلا . وهنا يكمن الفارق بين العلم الظاهرى السطحى للبشر والعلم الحقيقى لله تعالى رب العزة .
7 ـ ، بعد أن تأكد لنا أن العلم الإلهى بالضالين والمهتدين هو أكبر من علم البشر ولكن لا ينفى علم البشر نتوقف مع تكرار كلمة (هو ) فى الايات الكريمة التى تتحدث عن رب العزة الذى هو أعلم بالمهتدين وبالضالين .
لا يعنى تكرار (هو ) فى الاية الكريمة أن الله تعالى اختص ذته جل وعلا بهذا العلم بالهدى والضلال . تكرار كلمة (هو ) هنا ـ فيما أعتقد ـ له علاقة بقسمة الآية على قسمين :علمه جل وعلا بالضالين فهو أعلم بمن ضل ، وعلمه جل وعلا بالمهتدين فهو أعلم بمن اهتدى، ولأنهما متناقضان ولأن علمه جل وعلا يتساوى فيهما فقد تكررت كلمة (هو ) فى النقيضين . أى إن استعمال (هو ) هنا هو فى مجال الفصاحة .
يؤكد ذلك أن (آية الكرسى ) هى الآية الوحيدة فى القرآن الكريم التى تعددت فيها صفات الرحمن وأسماؤه الحسنى التى لا يشاركه فيها مخلوق ، ولو كان لتكرار كلمة (هو ) صلة بانفراده جل وعلا عن خلقه فى الصفات والأسماء والامكانات لتكررت كلمة فيها (هو ) مع كل إسم أو صفة من صفاته جل وعلا التى لا يشاركه فيها مخلوق . ولكن ذلك لم يحدث . ونكفى أن نقرأها ونتدبرها : (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) ( البقرة 255 ) لم تأت كلمة (هو ) هنا إلا مرة واحدة فى خاتمة الآية (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) وطبقا لمقتضيات البلاغة العربية فليست تكرارا،بل أصل فى الجملة (مبتدأ )، وكذلك كلمة (هو ) فى أول الآية (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) فهى أصل فى الجملة لا تتم إلا به . وهذا موضوع شرحه يطول .
ثالثا : عالم الغيب و الشهادة : ومصدرية علم البشر :
1 ـ والله تعالى هو عالم الغيب والشهادة ، ويستوى عند العلم بالغيب والشهادة: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) ( الرعد 9 : 10 ) فلا يخرج عن علمه جل وعلا شىء (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( يونس 61 ) ، أى يعلم ما يغيب عنا وما لا نعرفه ، كما يعلم أكثر منا فى عالم الشهادة الذى نشهده بالرؤية والسماع وبقية الحواس ، فهوجل وعلا صاحب العلم المحيط بالغيب والشهادة ، ونحن ، ولو كنا نعرف بعض عوالم الشهادة – أى ما نشاهده ونشهد عليه – إلا إن علمنا علم سطحى فى حدود إمكانياتنا المادية المحدودة (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ( الروم 7 ).
2 ـ يؤكد ذلك أن الله جل وعلا يسمح ـ وفقا لمشيئته ـ بأن يطلع البشر على بعض علمه : (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء )( البقرة 255 ) ، ونلاحظ هنا أنه جل وعلا لم يقل ( ولايعلمون بشىء من علمه إلا بما شاء ) ولكن استعمل لفظ ( يحيطون ) أى إن بمقدور البشر الاحاطة ببعض علمه جل وعلا وفق مشيئته جل وعلا.
3 ـ ومن هذا العلم ما يكون غيبا ثم أنزل الله جل وعلا العلم به فى القرآن فتحول من غيب الى شىء مشهود بالقراءة ، كقوله جل وعلا لخاتم المرسلين بعد أن قصّ قصة نوح عليه السلام : (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا) (هود 49 )، فلم يكن خاتم الأنبياء والمرسلين ـ عليهم السلام ـ ولم يكن قومه يعرفون هذا الغيب من قبل ، ثم بعدها أصبح معروفا مقروءا .
وكقوله جل وعلا فى ختام قصة يوسف : (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) ( يوسف 102 ) أى لم يكن عليه السلام حاضرا مع إخوة يوسف وهم يتآمرون عليه ، كان معهم عالم الغيب و الشهادة جل وعلا.
وتكرر نفس المعنى خطابا الاهيا لخاتم المرسلين تعقيبا على بعض القصص ، يقول جل وعلا : (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( القصص 44 : 46 ).
وفى التعليق على قصة مريم وولادة عيسى عليه السلام يقول تعالى لخاتم المرسلين (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) ( آل عمران 44 ).
وسنعرض لموضوع الغيب و الشهادة بتفصيل أكثر فى مقال قادم بعونه جل وعلا.
4ـ أى إن مصدرية العلم البشرى من منبعين : فى العالم المادى (عالم الشهادة ) و(عالم الغيب ) .
ففى عالم الشهادة : نحن نستمد العلم مما نشهده بالبحث فى أنفسنا وفى ملكوت الله جل وعلا ، وهذا البحث فريضة اسلامية غائبة ، وهو بحث يقوم على التجريب والسير فى الأرض كما سبق توضيحه فى مقال سبق عن المنهج العلمى فى القرآن الكريم. ويشمل عالم الشهادة أيضا ما يخص الانسان وحركته فى هذا الكوكب الأرضى ، أى العلوم الاجتماعية كالتاريخ والآثار والعمران والجغرافيا البشرية و علوم السياسة و الاجتماع..الخ .
وبعض علم الله تعالى بالغيب ذكره رب العزة فى القرآن ، فأصبحنا نعلمه ، ومطلوب منا أن نتدبره .
5 ـ وفيما يخص موضوعنا (علم الله تعالى بالمهتدين وبالضالين ) فله ايضا نفس المنبعين : عالم الغيب وعالم الشهادة .
فقد ذكر رب العزة فى القرآن الكريم ما يدخل ضمن الغيب من ملامح الهدى وملامح الضلال ، وبالتالى إنتقل هذا العلم من دائرة الغيب إلى دائرة الشهادة حيث نقرأ القرآن فنتعلم منه صفات الضلال ومعتقداته وسلوكه وتصرفاته …وبذلك يكون للبشر إمكانيات العلم بملامح الضلال من خلال القرآن الكريم من حديث رب العزة وهو الأعلم بمن ضل ومن إهتدى .
وللبشر إمكانية أخرى فى معرفة الضلال ، وهى من خلال التعامل والمشاهدة الحسية ، فأبسط الناس يعرف الظلم ، ويقع عليه الظلم فيئن ويتوجع ويعلم بفطرته أن الله تعالى لا يرضى بالظلم لعباده فيشكو لربه . أما أهل العلم بالقرآن ، فيستطيعون تنزيل الملامح المذكورة فى القرآن الكريم على ما يحدث فى عصرهم أو فى السابق من تاريخهم سواء ما كان منها ملامح فى العقيدة أو فى السلوك.
6 ـ أكثر من هذا فإن القرآن الكريم تحدث عن الضلال ليس فقط كصفات وإنما كأشخاص وجماعات، وتحتم على المؤمنين وقت نزول القرآن الكريم التعامل مع اولئك البشر الضالين ، فنزلت آيات القرآن الكريم توضح للمؤمنين كيفية التعامل مع أولئك الضالين فى تشريعات خاصة مطلوب تطبيقها.
7 ـ والقسم الثالث من هذا البحث يعطى فكرة عن ملامح الضلال وصفاته وجماعاته من خلال القرآن الكريم .