مقدمة
1 ـ سبق التأكيد على نهى الله جل وعلا عن التفريق بين الرسل ، وأن من يصمم على هذا ويموت عليه هذا يلقى الله تعالى كافرا طبقا لما جاء فى القرآن الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا )، أما المؤمنون حقا فقد قال تعالى عنهم :(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )( النساء 150 : 152 ) أى هى قضية (فارقة ) بين المؤمن حقا والكافر فعلا عند الله جل وعلا حسبما جاء فى القرآن الكريم. وقلنا إن التفريق بين الرسل يعنى تفضل رسول على آخر بما يمهد لرفعه الى مستوى الالوهية مع الله جل وعلا ، وهذا ما يقع فيه معظم المسلمين من أصحاب الديانات الأرضية حين يجعلون محمدا عليه السلام قرينا لله تعالى فى الذكر والتسبيح والأذان والصلاة و التشهد و الحج .. وفى شهادة الاسلام.
2 ـ شهادة الاسلام هى أصلا شهادة توحيد أى شهادة واحدة ، ولكنهم يجعلوها شهادتين ، يقسمونها بالتساوى بين ذكر الله تعالى وذكر محمد ، ولا يخلو ذكر لله تعالى من وجود محمد معه كأنما يستكثرون ذكر اسم الله تعالى وحده .
3 ـ والغريب أنهم يهتفون دائما ( الله أكبر ) ويفتتحون الصلاة ب ( الله أكبر ) أى (أكبر) مطلقا من أن يكون الى جانبه مخلوق آخر ،أو (أكبر) من أن (نذكر) معه شيئا آخر، ثم يناقضون مفهوم (الله أكبر ) حين يضيفون للأكبر جل وعلا واحدا من مخلوقاته،وهم بذلك ما قدروا الله تعالى حق قدره .
4 ـ تمييزهم (محمدا ) وحده بذكر اسمه مع الله تعالى فى شهادة الاسلام يتجلى فيه التفريق بين الرسل ، فلماذا نذكر محمدا دون عيسى أو موسى أو لوط أو ابراهيم أواسحق أو يونس ..الخ .
5 ـ وتميز (محمد) بذكره وحده الى جانب الله تعالى فى شهادة الاسلام فيه تفضيل صريح لمحمد على من سبقه من الأنبياء و المرسلين ،وليس من حق أى مخلوق أن يفاضل بين الأنبياء ، ومن يفعل ذلك لا يكون فقط كافرا بالله تعالى ورسوله ولكن يكون أيضا مدعيا للالوهية دون أن يعلم.
6 ـ وتميز (محمد) بذكره الى جانب الله تعالى فى شهادة الاسلام يجعل الاسلام دين محمد وحده دون بقية الأنبياء ، وهذا تناقض مع القرآن الكريم الذى يؤكد أن الاسلام هو دين الله تعالى الذى نزلت به كل الرسالات السماوية ، كل منها ينطق بلسان القوم الذين جاء منهم واليهم النبى أو الرسول ،الى أن نزل القرآن الكريم خاتما للرسالات السماوية بلسان عربى مبين .
7 ـ وتقديس اى نبى هو البداية التى تفتح المجال لتقديس البشر ممن يطلق عليهم الصالحين والأولياء و( القديسين )ثم ينفتح الباب على مصراعية لتقديس العصاة والمجرمين والحكام المستبدين والمتلاعبين بالسياسة و الدين.
ومثلا فإن تقديس شخص محمد وإسمه وإدخال إسمه فى الصلاة و الأذان والحج الى الوثن المسمى بقبر النبى فى المدينة كان مقدمة لتقديس أضرحة الأولياء والحج اليهم واعتقاد الشفاعة فيهم أسوة بالشفاعة المزعومة للنبى محمد ،بل وإضافة أسماء الأولياء فى الأذان للصلاة بتمجيد أسمائهم على المآذن كما كان شائعا فى العصر المملوكى.
والبداية هى إدخال اسم محمد فى شهادة الاسلام وجعلها ثنائية بعد أن كانت واحدة وحدانية ، وجعلها قسمة بين الله تعالى و أحد مخلوقاته وهو محمد .
ارتكب الدين السّنى هذا الافك ، وعليه سار العصر العباسى ، ثم تسيد التصوف فرفع مكانة الأولياء الى جانب محمد ، وقام الشيعة برفع أسماء على وبنيه الى جانب النبى محمد ، و تكاثر (الشركاء ) لله تعالى فى ملكه ودينه .
8 ـ ونعطى مثالا عمليا عن التحوير العملى فى شهادة الاسلام فى العصر المملوكى بحيث أصبحت ثلاثية و ليس فقط ثنائية .
ففي العصر المملوكي حيث أصبح التصوف التدين الفعلي للدولة ، صار الاعتقاد في الأولياء هو الشهادة الرسمية للدخول في الإسلام ، حيث أضحى الإسلام مجرد رسم وشكل مظهري تمارس من خلاله شعائر التصوف ومعتقداته المضادة للإسلام .. فعندما أسلم أحمد بن هولاكو بعث برسالة رسمية إلى المنصور قلاوون يشهد فيها ( بوحدانية الله والشهادة بمحمد عليه أفضل الصلوات والسلام، بصدق نبوته ، وحسن الاعتقاد في أوليائه الصالحين) .( سيرة المنصور . تاريخ مخطوط / مجلد 1 / لوحة 10) ولم يعرف المسكين – الذي دخل الإسلام زوراً – أن الاعتقاد في الأولياء الصالحين بزعمه ينفي إخلاص الدين لله تعالى ، ولكنه الدين الأرضى الذى تسيد العصر المملوكى بعد أفول سيطرة الدين السنى فى العصر العباسى ، وسار على ذلك الناس ، و(أسلم ) ابن هولاكو على أيديهم.. أى دخل فى دين التصوف الأرضى الذى اختطف اسم الاسلام فى العصر المملوكى .
وترتب على الإيمان بالأولياء الصوفية الإيمان ببركاتهم و(تصريفهم ) أى كراماتهم ومعجزاتهم حتى لم تخل تحية الإسلام (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) من تأثير الدين الأرضى الصوفى ، فأدخل فيها الأولياء مع الله، وسجل ذلك كتاب رسمي بعثه النجاشي للسلطان جقمق سنة 847 فقال فيه (ورحمته وبركاته عليكم أجمعين وبركات الأولياء الصالحين) .( السخاوى : تاريخ التبر المسبوك ص 68 . )
8 ـ وانتهى العصرين المملوكى و العثمانى ، وخفت تأثير الدين الصوفى الأرضى ولكن عادت بالوهابية سيطرة الدين السّنى الأرضى فعادت شهادة الاسلام إثنين بالابقاء على اسم محمد فقط الى جانب اسم الله جل وعلا. وسيطر ذلك على أفئدة الكثيرين ، فليس صعبا التخلى عن تقديس الأولياء الصوفية ، ولكن الصعب هو التخلى عن تقديس محمد.
كانت شهادة الاسلام واحدة فى العصر الحقيقى للاسلام ، ثم جعلوها مثناة ، ثم ثلاثية ، وعادت مثناة الآن ، ونتمنى أن تعودة الشهادة الحقيقية للوحدانية ، ولهذا نناقش هنا التاكيد على أن شهادة الاسلام هى ( لا إله إلا الله ) فقط .!!
أولا :
شهادة الاسلام ليس فيها إسم مخلوق بجانب الخالق جل وعلا :
1 ـ الشهادة فى العقيدة فرع عن الايمان العقيدى ،أى تعلن شهادتك بما تؤمن به ، فالذى يؤمن بمحمد أفضل من الأنبياء وشريكا لله تعالى فى دينه وفى ملكه وملكوته يتجلى هذا فى شهادته بأن يجعلها مثناة ، والذى يضيف الى محمد أهل بيته أو الأولياء وكراماتهم يجعل شهادته ثلاثية .
ولو كنت مؤمنا صحيح الايمان فلن يكون أى مخلوق محلا لإيمانك ، فالايمان فى الاسلام ليس بشخص النبى أو شخص الرسول ، ولكن بما نزل على ذلك النبى وذلك الرسول ، يقول جلا وعلا :(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ)( البقرة 285 ـ ). أى أن الرسول نفسه آمن ـ ليس بشخصه ونفسه ولكن ـ بما أنزله الله تعالى عليه فى الكتاب السماوى. وبنفس الايمان ونوعيته آمن المؤمنون :(وَالْمُؤْمِنُونَ ) أى آمن المؤمنون بما أنزله الله تعالى على الرسول ، وليس ايمانهم متعلقا بشخص الرسول واسمه وتاريخه ولكن بما أنزله الله جل وعلا عليه .
ولأنها قضية ايمان وكفر فقد جاءت فى مفتتح سورة (محمد ) : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ) فلم يقل ( آمنوا بمحمد ) ولكن قال (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ). وبالتالى فالشهادة هنا ممنوع أن يوجد فيها غير الله جل وعلا وما أنزله على رسوله ،أى ممنوع أن يوجد فيها اسم مخلوق من البشر أو من الملائكة .
2 ـ ومن المضحك أن نتصور النبى محمدا ينطق شهادة الاسلام فيقول ( أشهد أنه لا اله إلا الله وأننى محمد رسول الله )، ولكن عليه أن يلتزم بقوله تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) أى عليه أن يشهد بالشهادة الاسلامية الصحيحة التى شهد بها الله جل وعلا ، وشهد بها معه الملائكة وأولو العلم قياما بالقسط والعدل .
ومن المضحك ايضا أن يقول النبى فى حياته ( ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة ) فلم يكن يعرف اين قبره ولا بأى أرض يموت ، أو أن يقول ( من حج ولم يزرنى فقد جفانى ) أو يقوم هو بتشريع الحج الى قبره وهو حى يرزق ..أو أن يقول فى التشهد ( اللهم صلى على حضرتنا وعلى آل حضرتنا ..الخ ) كل ذلك الافك كلام مضحك يبعث على الرثاء ، وطقوس مضحكة تبعث على البكاء. وكل هذه المبكيات المضحكات نبعت من جعل شهادة الاسلام مثناة بعد ان كانت واحدة تعبر عن الوحدانية .
3 ـ إن شهادة الاسلام جاءت فى صيغتها الصحيحة فى قوله جل وعلا : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ )( آل عمران 18 : 19 ).
هنا تأتى شهادة أنه لا اله إلا الله مؤكدة من رب العزة ، ومن الملائكة ومن أولى العلم ، وفى نفس الآية تتكرر شهادة أنه لا اله الا الله مرتين مع وصفه جل وعلا بالعزيز الحكيم ، وتقرير أن الدين عند الله هو الاسلام ،أى إن هذه هى شهادة الاسلام الذى نزلت به كل رسالات السماء و قال به كل الأنبياء . وكما نرى ليس فى هذه الشهادة بالاسلام سوى (لا اله إلا الله ) ، وليس فيها محمد أو غيره. وقوله جل وعلا فى سياق هذه الشهادة (قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) إشارة الى أن العبث بهذه الشهادة الالهية للاسلام هو نقيض القسط ،اى هو ظلم للخالق جل وعلا حين نضع الى جانب إسمه العظيم أسما لمخلوق من مخلوقاته .
إن شهادة الاسلام ( لا اله الا الله ) شهادة واحدة هو"التشهد" وهو جزء أساس فى الصلاة اليومية يقوله رب العزة والملائكة وأولو العلم : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ىل عمران 18 ) ومن اسف اننا تناسينا هذا التشهد وابدلناه بصيغة متهافتة منتحلة مختلفة الصياغات أسميناها " التحيات " حتى نجعل لاسم محمد ذكرا وتعظيما فى صلاتنا وهى ـ أى صلاتنا ـ المفترض فيها أن تكون لذكر الله تعالى وحده وتعظيمه وحده.
4 ـ ولو قال رب العزة ( شهد الله أنه لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ...) لأصبح ذلك تناقضا فى القرآن الكريم ، فكيف ينهى الله تعالى عن التفريق بين الأنبياء ثم يقوم هو جل وعلا بوضع هذا التفريق فى شهادة الاسلام. ليس فى الاسلام عوج أو تناقض ، ولكن المسلمين بأهوائهم ودياناتهم الأرضية هم الذين أوقعوا أنفسهم فى تناقض مع القرآن الكريم .
5 ـ وفى التأكيد على أن شهادة الاسلام شهادة واحدة فقط تقصر الألوهية على الله تعالى وحده ، دون ذكر اسم بشر معه من الرسل والأنبياء ، يكفيك قوله تعالى : (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ). و اقرأ ما بعد هذه الآية الكريمة: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) (النحل 51 ـ 53). تجد هنا معنى أن تقتصر شهادة الاسلام على أنه لا اله الا الله فقط دون رفع بشر الى مرتبة الاقتران بالله جل وعلا ، فهو وحده مالك السماوات والأرض ، وهو وحده الذى يملك الدين ، وهو وحده الذى يجب أن نتقيه ونخشاه ، وهو وحده الذى يملك النفع والضرر، وليس محمد أو أى مخلوق آخر شريكا لله جل وعلا فى أى شىء مما سبق ، فكيف تقرنه برب العزة ؟.
ثانيا : للقرآن الكريم صفات رب العالمين :
ولأن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين ـ وكلام الله جل وعلا صفة من صفاته وإسم من أسمائه الحسنى ـ فإن الله تعالى وصف القرآن الكريم بما وصف به ذاته العلية ، وننقل هنا بايجاز ما شرحناه فى كتابينا ( القرآن وكفى ..) :
1- فكما أنه لا إله إلا الله فانه لا كتاب للمسلم إلا القرآن كتاب الله..يقول الله تعالى فى ذاته العلية (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) (الكهف 26:27) فالله وحده هو الولى الذى لا يشرك فى حكمه أحدا. والقرآن هو وحده الكتاب الذى أوحى للنبى ولا مبدل لكلماته ، ولن يجد النبى غير القرآن كتاباً يلجأ إليه. والنبى لا يلجأ إلا لله تعالى رباً وإلهاً (قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ); (الجن 22).والنبى أيضاً ليس لديه إلا القرآن ملتحداً وملجأ (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا); هذا بالنسبة للنبى عليه السلام.. فكيف بنا نحن؟.
2 - المؤمن يكتفى بالله تعالى رباً ويكتفى بالقرآن كتاباً : عن اكتفاء المؤمن بالله تعالى رباً يقول تعالى (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) ; (الزمر 36).والمؤمن طالما يكتفى بالله تعالى رباً فهو أيضاً يكتفى بكتاب الله فى الهداية والتشريع يقول تعالى (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) (العنكبوت 51). ويلاحظ أن الآيات الكريمة التى تحض على الاكتفاء بالله رباً وعلى الاكتفاء بالقرآن كتاباً جاءت كلها بأسلوب الاستفهام الإنكارى.. أى الإنكار على من يتخذون أولياء وأرباباً مع الله والذين يتخذون كتباً أخرى مع كتاب الله.
3- القرآن هو الحق الذى لا ريب فيه، ويلفت النظر أن الله تعالى وصف ذاته العلية بأنه الحق، ووصف إنزال القرآن بأنه أنزله بالحق، ووصف القرآن نفسه بأنه الحق.. عن وصف الله تعالى بالحق يقول الحق تعالى (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) (يونس 32)، ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ ) (لقمان 30).
وعن إنزال القرآن بالحق يقول تعالى (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ )(الإسراء 105).
وعن وصف القرآن بأنه الحق يقول تعالى (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ ) (فاطر 31). ويقول : (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) (آل عمران 62).
بل إن الله تعالى يصف الحق القرآنى بأنه الحق اليقينى المطلق، يقول تعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ) (الواقعة 95) (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ); (الحاقة 51).
4- القرآن هو الحديث الوحيد الذى ينبغى الإيمان به : إذ أكد رب العزة أن الإيمان لا يكون إلا بحديثه تعالى فى القرآن الكريم فقال (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) (المرسلات 50).(الأعراف 185)
بل إن الله تعالى يجعل من الإيمان بحديث القرآن وحده مقترناً بالإيمان به تعالى وحده، فكما لا إيمان إلا بحديث القرآن وحده فكذلك لا إيمان إلا بالله وحده إلهاً. وكما أن المؤمن يكتفى بالله وحده إلهاً فهو أيضاً يكتفى بحديث القرآن وحده حديثاً.. وجاءت تلك المعانى فى قوله تعالى (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (الجاثية 6: 8).
5 ـ لا مثيل للقرآن كما أنه لا مثيل لله تعالى : يقول تعالى عن ذاته العلية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (الشورى 11). ويقول تعالى عن كتابه الحكيم (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ) (الإسراء 88).. إذن لا مثيل للقرآن كما أنه لا مثيل لله ، فليس هناك مثيل لله جل وعلا وليس هناك مثيل للقرآن.
ثالثا : شهادة الله جل وعلا للقرآن الكريم هى ايضا تاكيد للشهادة بأنه لا اله إلا الله :
1 ـ ولأن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين ـ وكلام الله جل وعلا صفة من صفاته وإسم من أسمائه الحسنى ـ فإن الله تعالى يشهد ايضا شهادة مماثلة بأن القرآن الكريم منزل من عند الله ، ويشهد بذلك أيضا الملائكة ، وكفى بالله جل وعلا شهيدا ،إقرأ فى ذلك قوله جل وعلا فى شهادته عن القرآن الكريم :(لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)(النساء 166 ).
2 ـ وحين تقول : "اشهد ان لا اله الا الله" تكون قد نطقت بصحيح الايمان المذكور فى قوله جل وعلا : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ)( البقرة 285).
وتكون أيضا قد آمنت بكل كتاب سماوى جاء به الأنبياء جميعا، وتكون قد آمنت بهم جميعا لأن كل واحد منهم جاء مبعوثا بهذه الحقيقة السامية، وهذا ما قاله رب العزة لخاتم رسل الله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء 25 ) وقال له أيضا نفس التحذير من الوقوع فى الشرك ، وهو نفس التحذير الذى قيل من قبل للأنبياء السابقين : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) الزمر 65 : 66 ) .
وحتى لا يظن نفسه مميزا على الأنبياء السابقين قال الله تعالى لخام النبيين : (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) الأحقاف 9 ) أى أمره رب العزة ان يقول ويعلن أنه ليس مميزا بين الرسل ، وانه لا يعلم الغيب ولا يدرى ما سيحدث له أو لغيره ، وأنه مجرد رسول منذر لقومه متبع للقرآن الكريم.
وحين تؤمن بالقرآن الكريم وتردد شهادة الله جل وعلا بأن القرآن نزل من عند الله جل وعلا وأنزله بعلمه فإنك تشهد بنبوة محمد ونبوة كل من سبقه من الأنبياء ـ بلا تفريق وبلا تفضيل حسبما جاء فى القران الكريم .
وفى نفس الوقت فإن من يكفر برسالة نبى إنما يكفر بكل الرسالات لأن كل الرسالات السماوية تقول شيئا واحدا ، وعلى سبيل المثال فان قوم نوح حين كذبوا برسالة نوح فقد كذبوا بكل الرسالات السماوية التى لم يكونوا يعلمون عنها شيئا لأنها نزلت بعد موتهم وغرقهم وهلاكهم ، يقول جل وعلا عنهم :(وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ ) ( الفرقان 37 ) (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ )( الشعراء 105 )أى كذبوا برسالات لم يعرفوها لأنهم كذبوا برسالة نوح وما جاء فى رسالة نوح جاءت به كل الرسالات اللاحقة .
3 ـ باختصار : حين تشهد بأن القرآن الكريم منزل من عند الله جل وعلا فانك تؤكد شهادة أن (لا اله إلاا الله ).
رابعا : خاتم الأنبياء مأمور بقول شهادة واحدة
1 ـ ولذا تأتى شهادة الله جل وعلا للقرآن الكريم مقترنة بالشهادة بأنه جل وعلا لا اله إلا هو ، وأتى ذلك فى أوامر تكرررت للرسول محمد عليه السلام بكلمة :(قل ) أى أن يقول هذا فى الرد على المشركين : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام 19 ). أى إن شهادة الله أكبر شهادة ، والشهادة الالهية هنا بأن الوحى القرآنى قد نزل إنذارا لهم ، وإذا كانوا يشهدون أن مع الله تعالى آلهة أخرة فالرسول مأمور أن يرفض هذه الشهادة الشركية ، ومأمور أن يشهد أنه لا اله الا الله.
والمستفاد من الآية الكريمة أن الشهادة واحدة بألوهية الله تعالى وحده ، ويؤكدها أن القرآن منزل من عند الله جل وعلا ، وأن محمدا هو أول المأمورين فى القرآن بقول هذه الشهادة ، وأنه مأمور أيضا برفض أى شهادة تخالف لا اله الا الله.
2 ـ ويؤكد هذا قوله تعالى لخاتم الأنبياء : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) ( محمد 19 ) والعلم هنا هو شهادة قلبية قبل أن تكون شهادة لسانية .
خامسا : الحب الحقيقى للنبى محمد هو اتباع القرآن ، ومنه أن تكون شهادة الاسلام واحدة فقط
1 ـ الحب الحقيقى للنبى محمد عليه السلام هوأن نستمسك بما كان يستمسك به محمد عليه السلام وهو القرآن الكريم (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الزخرف 43 ) هو أن تتبع القرآن الكريم وهوالمنهج الالهى الذى جاهد فى سبيله.
الحب هو الاتباع والطاعة للقرآن الكريم : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) آل عمران 31 : 32 ).
ولقد كان عليه السلام مأمورا بإتباع القرآن وحده ( الأعراف 203 ) ( الأنعام : 50 ، 106 ) ( الأحقاف 9 ) ( يونس 15 ) ( الأحزاب 1 )( الجاثية 18 ) ( القيامة 18 )، وأمره الله تعالى باتباع ملة ابراهيم ، وهى محفوظة فى القرآن الكريم (النحل 123 )(الأنعام 161 )( النجم37 ـ )(الأعلى ـ 19 ).
وأمرنا الله جل وعلا باتباع القرآن الكريم ـ شأن النبى محمد ( الأعراف 3 ، 157 ) ( الأنعام 153 ) وأمرنا باتباع ملة ابراهيم ( آل عمران 95 ) ( النساء 125 ) ( الحج 78 ).
2 ـ بكيد الشيطان نصبح أعداء لله تعالى ورسله دون أن ندرى، فالشيطان يجعلنا نتطرف فى حب النبى ليتحول حبنا له الى تأليه وتقديس نتناسى معه جوهر العقيدة الاسلامية التى ناضل وأوذى محمد عليه السلام نفسه فى سبيلها. وأفظع مثل لهذا التأليه أن يكون محمد جزءا تاليا لشهادة التوحيد ، والتى من من المفروض ـ كشهادة توحيد أن تكون شهادة واحدة ولكنهم يجعلونها شهادة ثنائية، ثم يشركون محمدا مع الله تعالى فى الأذان والصلاة ( صلاة الفرض وصلاة السنة ، والتحيات )، بل حتى فى كل مسجد تقريبا يوضع اسم الله تعالى فى جهة واسم محمد فى الجهة المقابلة ، وفى الحج هناك حج لقبره المزعوم ، وهناك صلوات له بزعم الصلاة عليه تضاهىء الصلاة لله تعالى والتسبيح لله تعالى ، بل تزيد . الأساس هنا أنهم قاموا بتقسيم الاسلام بين الله تعالى ومحمد ، وجعلوا شهادة الاسلام ثنائية وليست وحدانية.
ومن العادات المضحكة للتدين الفاسد فى مصر ان يقال عند الوداع " أشهد ان لا اله الا الله " فيرد الطرف الآخر " واشهد أن سيدنا محمدا رسول الله ". والغريب انهم يحسبون انهم يحسنون صنعا. ولو أنصفوا لرددوا شهادة واحدة هى " لا اله الا الله " وعملوا بها فعلا ، واذن لن يكونوا أعداء لمحمد وربه جل وعلا.
الأنبياء جميعا أرسلهم الله تعالى ليؤكدوا تلك الحقيقة، وقد عانوا وجاهدوا فى سبيل نشرها وكانوا أول الناس ايمانا بها وتفانيا فى نشرها، ثم جاء الشيطان ليحوّل حبنا لهم الى تطرف يجعلهم آلهة مع الله ، وبذلك ينسف أساس دعوتهم ، ويجعلهم فى موقف حرج مع الله تعالى يوم القيامة حين يسائلهم رب العزة عن أولئك الذين عبدوهم : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ؟ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) الفرقان 17 :18 ).
سادسا : شهادة (لا اله إلا الله ) وكون الرسول رحمة للعالمين :
من خلال القرآن الكريم نتعرف على الحقائق الآتية خاصة بالنبى محمد وبالرسول :
1 ـ محمد خاتم النبيين والرسول رحمة للعالمين :
عن شخص محمد يقول تعالى: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ )(الأحزاب 40 )، وفعلا فلم ينجب محمد عليه السلام ولدا عاش حتى بلغ مبلغ الرجال ، أى لم يكن محمد أبا لأحد من رجال المسلمين بعده، وتخيلوا لو حدث فسيكون هذا الابن مقدسا غاية فى التقديس ، تخيلوا التقديس الذى يحظى به الحسين والسيدة زينب وغيرهم وهم مجرد أحفاد من إبنته فاطمة ؟. محمد عليه السلام ليس أبا لأحد من الرجال البالغين ، وهو خاتم الأنبياء . هذه هى صفته باعتباره نبيا ، وقد سبق فى كتابنا (القرآن وكفى ) ـ وهو منشور هنا ـ أن فصلنا فى الفرق بين مدلول النبى ومدلول الرسول ، فقلنا إن مصطلح النبى هو شخص محمد فى حياته وتعاملاته مع عصره و المحيطين به ،أما مفهوم الرسول فهو النبى حين يقرأ القرآن أو الرسالة الالهية ، وبعد موته فالقرآن أو الرسالة هو الرسول . ومن هنا فان محمدا كشخص ليس رحمة للعالمين ، ولكن الرسول هو الذى يظل رحمة للعالمين ، لأن محمدا النبى قد مات ،أما الرسول وهو القرآن بعد وفاة النبى فهو مستمر رحمة للعالمين طالما استمر القرآن الكريم بيننا.
وهنا نتأمل قوله تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )( الفرقان 1 )، فالقرآن الكريم أنزله الله جل وعلا على عبده (النبى محمد ) ليكون القرآن الكريم إنذارا للعالمين جميعا من عهد النبى الى قيام الساعة ، فالفرقان هنا ـ أى القرآن ـ هو رسالة إنذار وتحذير وتوعية للعالمين ، ولو استوعبوا هذا الإنذار وتلك التوعية وعملوا بمقتضاها لاستحقوا رحمة الله تعالى يوم القيامة ، وفى هذا المعنى يقول تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)(الأنبياء : 107 )،أى أرسله الله تعالى بالقرآن ليكون القرآن أو الرسالة رحمة للعالمين .
وليس معقولا أن يكون محمدا البشرـ الذى مات ـ رحمة للعالمين ، المعقول أن يكون القرآن أو الرسالة المحفوظة من لدن الله تعالى ـ والتى لا تزال بيننا ـ هى الرحمة الباقية و المستمرة . وهذه الرحمة ليست منحة مجانية لكل من هبّ ودبّ ، بل هى رحمة لمن يؤمن بها ، ويلتزم بها فى سلوكه ، ويموت على ذلك ، وبها تشمله رحمة الله تعالى يوم القيامة فينجو من عذاب النار.
أهمية هذا هنا فى التركيز على الرسالة وهى القرآن الكريم ، فالقرآن هو الذى جاء مصدقا لكل الكتب السماوية السابقة ومهيمنا عليها ، وهو الذى نزلت بشأنه آيتان فى أن الله تعالى يشهد بنزوله من لدنه جل وعلا ، وهو الذى ينهى عن التفريق بين الرسل وأن الايمان يجب أن يكون بالرسل جميعا بلا تفرقة.
الأهمية أيضا هنا هى فى الرد على من يجعل شخص محمد ( رحمة للعالمين ) ليتخذ منها مسوغا لرفع محمد فوق بقية الأنبياء ووضعه الى جانب الخالق جل وعلا.
2 ـ النبى والرسول بين البشرية و الوحى :
يؤكد هذا أن النبى محمدا موصوف بالبشرية مثل بقية البشر ، وأن الوحى الالهى لا يرتفع به فوق البشرية التى يتماثل فيها مع كل الناس ، بل إنه مأمور بأن يعلن أنه بشر مثلنا يوحى اليه أنه لا اله إلا الله : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ )( الكهف 110 ). ويأتى التاكيد على كونه عليه السلام رجلا من العرب الأميين ينذرهم بالوحى الالهى : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ) ( يونس 2 ). وقد مات ذلك الرجل ـ ذلك البشر ـ وبقى معنا القرآن الكريم محفوظا بيد العلى القدير . وبالتالى فلا يصح أن يكون هذا البشر ـأو الرجل العربى ـ شريكا لله جل وعلا فى شهادة الاسلام ،أو فى أى ملمح من ملامح الألوهية .
سابعا : موضوع ومنطوق الشهادة فى الاسلام واحد فقط لا يتعدد :قد يتعدد الشهود ولكن يكون موضوع الشهادة واحدا لا يتعدد :
هناك شاهد ينطق بالشهادة ، وهناك صيغة الشهادة أو موضوعها التى ينطق بها الشاهد . وهناك شهادات مختلفة متنوعة يشهد فيها أو بها المؤمن أو المؤمنون فى العقيدة و الشريعة ، ولكن موضوع الشهادة نفسه المنطوق على اللسان يكون واحدا لا يتعدد . ونعطى أمثلة للتوضيح :
فى العقيدة :
1 ـ يقول جل وعلا :( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ ) ( آل عمران 18 : 19 ). موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو ( لا اله إلا الله ).
2 ـ يقول جل وعلا( لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) ( النساء 166 ) . موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو أن القرآن الكريم نزل بعلم الله جل وعلا.
3 ـ يقول جل وعلا ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الانعام 19) . هنا شهادتان لكل منهما موضوعه ، فموضوع الشهادة هنا واحد فقط ، هو فى الأولى أن الله تعالى أوحى للنبى محمد بالقرآن لينذرهم به ، وفى الثانية أنه لا اله إلا الله .
4 ـ يقول جل وعلا ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( آل عمران 84 : 86 ) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو أن ( الرسول حق ) . والرسول يعنى هنا الرسالة لأن الخطاب عام لكل زمان ومكان بأن من يبتغى غير الاسلام دينا فلن يقبله الله جل وعلا ، فالاسلام هو الدين الذى نزلت به كل الرسالات السماوية ، وأن أولئك الذين شهدوا بأن الرسول حق قد جاءتهم البينات من ربهم ، أى القرآن أى الرسالة. ويلاحظ ان وصف ( الحق ) فى (وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ) لا يطلق على شخص ، وإنما هو وصف للقرآن الكريم أو لرب العالمين أو يأتى بمعنى العدل ، وبالتالى فالشهادة هنا ليست لشخص محمد وإنما لما نزل عليه من البينات، أو الرسالة .
5 ـ يقول جل وعلا ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ( آل عمران 52 : 53 ) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو قولهم : (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ). ثم جاء بعدها دعاؤهم لله جل وعلا (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )
6 ـ يقول جل وعلا ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران 64 ) وهنا أمر بهذه الشهادة الواحدة: (فَقُولُوا) أى هم مأمورون بأن يجعلوا موضوع الشهادة واحدا فقط هو: (اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ).
فى الآخرة :
1 ـ يقول جل وعلا ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (المائدة 109 ) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو(لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) أى يطلب الله جل وعلا شهادة الرسل عن مدى إستجابة أقوامهم لهم ، وتأتى شهادتهم واحدة فقط ،أنهم لا يعلمون ، لأن الله تعالى وحده هو علام الغيوب .
2 ـ يقول جل وعلا ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) ( الانعام 130 ) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو شهادتهم على أنفسهم بالكفر.
3 ـ يقول جل وعلا ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ) ( الاعراف 37 ) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو شهادتهم على أنفسهم بالكفر.
4 ـ يقول جل وعلا ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(التوبة 107 ) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
5 ـ يقول جل وعلا ( أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) ( الحشر 11) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
6 ـ يقول جل وعلا ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) (المنافقون 1 ) موضوع الشهادة التى قالها المنافقون واحد فقط هو قولهم (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ )، وشهادة الله جل وعلا عليهم هى واحدة فقط : (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ )
وحتى فى الشريعة والمعاملات :
1 ـ فى تحريم ما أحلّ الله تعالى بهتانا وزورا ، يقول جل وعلا ( قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ( الانعام 150) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو:(أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا )
2 ـ فى العقوبة السلبية للمشهورات بالفاحشة دون وجود دليل مادى ، يقول جل وعلا ( وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) ( النساء 15 ) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو إن أولئك النسوة يأتين الفاحشة ، يقول هذه الصيغة الواحدة أربعة من الشهود.
3 ـ فى أخذ اليتيم أمواله من الوصىّ عليه بعد أن يبلغ مبلغ الرجال يقول جل وعلا ( وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) ( النساء 6) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هوالاشهاد عليهم باستلامهم أموالهم المدفوعة لهم.
4 ـ عندما يوصى الرجل عند الموت وهو بعيد عن أهله فى سفر أو غربة فلا بد من وجود شاهدين يسمعان منه وصيته ، ويبلغان الشهادة للأهل وصاحب السلطة فى المجتمع ، فلو ظهر أنهما كاذبان فيقوم إثنان غيرهما ، يقول جل وعلا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (المائدة 106 : 108) موضوع الشهادة الأولى واحد فقط هو: (لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ) فإن كذبا فيشهد ويقسم إثنان آخران بقول محدد ، وهو : (لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ )
5 ـ يقول جل وعلا (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ) يوسف 26 :27) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو : ( إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ )
6 ـ عندما يلاعن الزوج زوجته متهما إياها بالزنا ـ دون تقديم شهود ثلاثة معه ، يقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(النور 6 : 9 ) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو إتهام الزوجة بالزنا فى أربع مرات ، وفى الشهادة الخامسة يشهد بأن لعنة الله جل وعلا عليه إن كان كاذبا. ونفس الحال مع الزوجة المتهمة ، تشهد أربع شهادات بصيغة واحدة أن زوجها كاذب فى اتهامه لها ، وفى الشهادة الخامسة تشهد بأن غضب الله جل وعلا عليها إن كان زوجها صادقا فى اتهامه لها. الموضوع هنا واحد ومحدد.
7 ـ عن الانفصال النهائى بعد مرحلة الطلاق ، يقول جل وعلا ( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ) ( الطلاق 2 ) موضوع الشهادة هنا واحد فقط هو أن يشهد إثنان من الشهود العدول بأن الزوجة المطلقة بعد بلوغ عدتها وهى فى بيت الزوجية قد أمسك بها زوجها أى تمسك بها بالمعروف ولم يرد الانفصال عنها ،أو أنه فارقها وانفصل عنها أيضا بالمعروف .
يتضح مما سبق أن منطوق الشهادة ومضمونها واحد ، حتى لو تعددت الشهادات و تعدد الشهود ، وبالتالى فلا يصح أن يتعدد منطوق الشهادة ومضمونها كأن تقول : ( أشهد أن لا اله إلا الله وأن فلانا رسول الله )
خامسا ـ هل كان عليه السلام يدعو للايمان به أم الى الايمان بالقرآن ؟
1 ـ كان عليه السلام يجاهد المشركين سلميا بالقرآن الكريم ( فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) ( الفرقان 52 )، وبه كان ينذرهم ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ( الأنعام 51 ) ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ )( الشورى 7 ) وبالقرآن الكريم كان عليه السلام يعظ المؤمنين ويذكّرهم : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ) ( ق 45 )
2 ـ فى دعوته المشركين لم يكن عليه السلام يدعوهم الى الايمان به ولكن الى الايمان بالقرآن الكريم ، لم يكن يقدم لهم نفسه ولكن يقرأ عليهم القرآن الكريم داعيا أن يؤمنوا بهذا القرآن ، وقد تكرر هذا فى القرآن الكريم ، ومنه نعرف كيف كانت تختلف مواقفهم حين الاستماع الى القرآن الكريم :
* منهم من كان يجادل بالباطل متهما القرآن بأنه أساطير ، ويقوم بحملة دعائية ضد القرآن ناهيا عن الاستماع له وآمرا بالابتعاد عنه ، وجاء وصفهم فى قوله تعالى : ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) ( الأنعام 25 : 26 ).
* وبعضهم فى النهى عن الاستماع للقرآن الكريم كان أيضا يأمر بالتشويش على القارىء باللغو فى الكلام : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصلت 26 )
* وكان بعضهم يرفض الاستماع للقرآن متبجحا بأنه قد سمع بما فيه الكفاية ، وأنه يستطيع الاتيان بمثله ،متهما القرآن بأنه أساطير الأولين ، بل كان يرفع يديه الى السماء داعيا الله تعالى أن ينزل عليه الهلاك إن كان هذا القرآن من عند الله تعالى : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( الأنفال 31 : 32 )
* وبعضهم كان يقولها بصراحة ؛ إنه لا يعجبه هذا القرآن ويطلب من النبى ان يبدله ويخترع قرآنا آخر على هوى المستمعين : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) ويأتى الرد ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ) ( يونس 15 : 17 )
* وبعضهم كانت عيناه تنطق بالغضب حين يسمع القرآن ، وينظر شذرا للنبى محمد عليه السلام وهو يقرأ عليه آيات القرآن متهما النبى عليه السلام بالجنون : (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) (القلم 51 )
* وبعضهم ـ حين كان يتلى عليهم القرآن ـ كانوا يكادون يفتكون بالقارىء :(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) ( الحج 72 ) وهنا إشارة الى أن بعض أوائل الصحابة كان يشارك فى الدعوة الى الاسلام بقراءة القرآن متابعا لطريقة النبى فى الدعوة بالقرآن .
* وبعضهم كان يعرض عن الاستماع للقرآن ويستهزىء به :( وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ َسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) ( الجاثية 7 ـ ) أو يشترى لهو الحديث و الأساطير يحكيها للناس ليلهيهم عن الاستماع للقرآن الكريم (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( لقمان 6 : 7 ).
أى إنه عليه السلام لم يكن يطلب من الناس الايمان به بل كان يطلب منهم الايمان بالقرآن الذى أنزله الله تعالى عليه ، ولذلك كان يتلوه عليهم وهم لما يسمعون رافضون .
3 ـ ومن خلال معاناتنا فى الدعوة الى الرجوع الى القرآن الكريم فان أصحاب الديانات الأرضية ـ خصوصا السنيين ـ يتصرفون نفس التصرف حين نستشهد لهم بالقرآن الكريم ، لذا فإن من إعجاز القرآن الكريم وآياته أنه لا يجعل كلامه خاصا باهل مكة أو المشركين فى عهد النبى ، وإنما يجعلها حالة عامة تتكرر فى كل زمان فى التعامل مع هدى القرآن ، وهى فعلا تتكرر فى عصرنا وفيمن نعرفه من الناس . لذلك يقول تعالى مثلا :( وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ َسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) ( الجاثية 7 ـ )، ولو تمعنت فى الايات الكريمة وجدتها تشير الى عصرنا كما لوكانت نزلت فى عصرنا ، وكذلك كل الايات السابقة ، إقرأ مثلا قوله جل وعلا : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( لقمان 6 : 7 ) أى طالما يوجد (ناس ) فمن الناس من يفعل هذا . وهكذا يفعل ( الناس ) فى عصرنا هذا .
سادسا : السجود إيمانا بالقرآن كان شهادة الاسلام العملية فى عهد النبى محمد عليه السلام .
1 ـ فى مقابل التكذيب من المشركين كان المؤمنون من أهل الكتاب يسارعون باعلان ايمانهم بالقرآن حين كان عليه السلام يتلو عليهم آياته :( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً )(الاسراء 105 ـ ).
نلاحظ هنا أنهم سجدوا معلنين ايمانهم بما سمعوا ، حيث تذكروا وعد الله تعالى لأسلافهم فى عهد موسى عليه السلام حين رفع فوقهم جبل الطور واخذ عليهم الميثاق ، فسجد الأسلاف على أذقانهم وهم ينظرون الى جبل الطور المرفوع فوقهم يظنون أنه واقع بهم ( وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(الأعراف 171 ). وأعتادوا من وقتها السجود على الأذقان إعلانا للايمان ، فلما قرىء عليهم القرآن الكريم ـ وهم أصحاب العلم القديم ـ بادروا باعلان شهادتهم بالسجود على الأذقان وفق ما اعتادوا.
وقد قال جل وعلا عن موقف الصالحين من أهل الكتاب حين تتلى عليهم آيات الرحمن : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) ( مريم 58 ) ،أى انه ليس فقط أن تسجد حين تدخل فى الاسلام إيمانا بما أنزل الله تعالى من كتاب ، ولكن تسجد أيضا كلما تليت عليك آيات الرحمن ، فالسجود إعلان بالدخول فى الاسلام وإعلان باستمرار الانتماء الى الاسلام ، ويتكرر هذا كلما وعظك أحد بالقرآن الكريم ، يقول جل وعلا عن المؤمنين الحقيقيين : (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ( السجدة 15 ).
بل إن سحرة فرعون الذين لم تكن لهم خلفية دينية صحيحة والذين أتوا لمنافسة موسى خدمة لفرعون ـ عندما فوجئوا بآية موسى أعلنوا ايمانهم برب موسى وهارون بأن سجدوا فورا لله جل وعلا : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ )( الأعراف 120 ـ )
2 ـ فالسجود عند تلاوة القرآن الكريم كان هو الشهادة المعلنة للدخول فى الاسلام، لذلك نرى العكس فى موقف المشركين ، يقول تعالى عنهم: ( فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ )(الانشقاق 20 ـ ) ،أى بدلا من أن يؤمنوا حين يستمعون لقراءة القرآن وبدلا من السجود إيمانا به كانوا يعلنون تكذيبهم للقرآن الكريم برفض السجود .
ولقد ارتبط الكتاب الالهى باسم الرحمن قبل نزول القرآن الكريم ، ونلمح هذا من قوله تعالى عن الصالحين من أهل الكتاب من ذرية الأنبياء السابقين : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) ( مريم 58 ). ونزل القرآن الكريم مرتبطا أيضا باسم الرحمن الذى علّم القرآن : (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) ( الرحمن 1 : 2 )،ولذلك ارتبط أيضا تكذيب المشركين بنفورهم من اسم (الرحمن ) ، ورفضهم السجود للرحمن حين يتلى عليهم القرآن : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا )( الفرقان 60 ).
ونعطى مثلا لرفضهم السجود للرحمن وتكذيبهم للقرآن باستعراض بعض آيات سورتى القلم و النجم ، وهما من أوائل ما نزل من القرآن الكريم.
تبدأ سورة (القلم ) بالقسم بالقلم وما يسطره القلم بأن النبى محمدا ليس مجنونا حينما نزلت عليه نعمة ربه وهى القرآن الكريم (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ )، وهذا جاء ردا على اتهامهم للنبى محمد عليه السلام بالجنون . ثم بعدها يشير رب الى محاولة المكذبين بالقرآن التاثير على النبى فيأمره ربه جل وعلا ألاّ يطيع المكذبين للقرآن الكريم ، سواء من كان منهم مداهنا كالأفعى أو كان فظا غليظ القلب : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ).... (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ). وهم جميعا كانوا يرفضون السجود للقرآن الكريم مع استمرار دعوتهم للسجود إيمانا بالكتاب الكريم ، ولذا سيكون من عقابهم يوم القيامة أنهم سيحاولون السجود ندما ـ بعد فوات الأوان ـ فلا يستطيعون :(يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ) والسبب فى هذه المهانة أنهم كانوا يكذبون بالقرآن الكريم ، لذا يقول جل وعلا للنبى محمد : ( فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ). ثم تنتهى السورة برسم حىّ نابض لمشاعرهم حين كان يتلو عليهم النبى محمد عليه السلام آيات القرآن ، كانوا ينظرون له شذرا فى كراهية ويتهمونه بالجنون مع أن الله تعالى أنزل هذا القرآن الكريم ذكرا للعالمين :(وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) (القلم 1 : 2 ، 8: 10 ، 15 ، 42 : 44 ، 51 : 52 ). يهمنا فيما سبق التأكيد على دعوتهم للدخول فى الاسلام بالسجوك للقرآن ، وأنهم كانوا يرفضون .
وبنفس الطريقة تبدأ سورة النجم بالقسم بالنجم بأن صاحبهم محمدا ـ الذى صاحب المشركين وعرفوا صدقه وأمانته ـ لم يقع فى الضلال والغواية عندما نزل عليه الوحى القرآنى ونطق به وأخذ يتلوه داعيا قومه للسجود للرحمن إعلانا عن إيمانهم بهذا الوحى الالهى:(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)(النجم 1 ـ ) وتنتهى السورة بالاشارة الى موقف المشركين من القرآن الكريم، وتدعوهم الى اعلان الايمان به سجودا لله جل وعلا : (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) ( النجم 59 : 62)
3 ـ وفى كل الأحوال فان القرآن هو الأساس فى الرفض أو القبول ، فالمؤمن ينشرح صدره إذا سمع القرآن ويزداد به ايمانا ، والمشرك يضيق صدره بما يسمع، بل يزداد طغيانا وكفرا ، وليس هذا مقصورا على عهد النبى محمد عليه السلام ، بل هو حكم عام يسرى فى كل زمان ومكان ، ونعانى منه فى وقتنا هذا وفى مجتمعات تنتمى الى الاسلام بالاسم وهى تكرر أفعال مشركى العرب فى عهد النبوة.
وللتدليل على صحة ما نقول نستشهد بالايات الكريمة التالية :(فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) ( الأنعام 125 : 126 ) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( الأنفال 2 ) (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) ( المائدة 64 ، 68 )( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) ( التوبة 125 : 126 ).
4 ـ وليس شرطا أن يكون هذا السجود لله تعالى فى حضور النبى محمد عليه السلام لأنه ليس فى الاسلام كهنوت ،بل هو علاقة خاصة ومباشرة بين المخلوق وخالقه جل وعلا ، ويتم بها الانقياد بالعقيدة و السلوك لله تعالى وحده ،وليس إنقيادا لمحمد أو غيره من المخلوقات . لذلك فقد تحدث رب العزة عن مؤمنين آمنوا فى مكة بعد الهجرة و لم يعرفهم النبى محمد حيث كان فى المدينة بعيدا عنهم . وأولئك المؤمنون أعلنوا لله جل وعلا إيمانهم وسجدوا له أيمانا بالقرآن الكريم ، وبلغ من إهتمام رب العزة بسلامتهم أن منع المسلمين من الهجوم على مكة ردا على إعتداء مشركى مكة ، خوفا من أن تؤدى الحرب الى قتل أولئك المؤمنين فى مكة والذين لا يعلم النبى والمؤمنون عنهم شيئا ، يقول جل وعلا : ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( الفتح 25 ).
ونفس الحال حين أدرك العرب فى النهاية عبث عبادة الأصنام والقبور ، بعد أن ذاع بينهم القرآن فآمنوا ودخلوا فى دين الله بالآلاف دون أن يكون محمد النبى شاهدا على اسلامهم وعلى قولهم ونطقهم الشهادة. ثم قابلهم عليه السلام بعدها ورآهم فى حجة الوداع أفواجا يقول جل وعلا له:( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ) (النصر 1 : 2).
5 ـ إنّ الدخول فى ( دولة الاسلام )هو الذى يستلزم الدخول فى العهد والعقد. وهنا يتجلى الفارق بين الاسلام ودولة الاسلام .
الاسلام علاقة خاصة بين المخلوق وخالقه جل وعلا ، لا تستلزم واسطة أو شهادة رسمية أو حضورا بشريا من أحد . وهنا يختلف الاسلام دين الله جل وعلا عن أديان البشر الأرضية حيث الكهنوت والمؤسسات الدينية و( رجال الدين ) بملابسهم الخاصة بألوانها الخاصة وتصميماتها الخاصة ، ودرجاتها ورموزها وطقوسها و طرقها العبقرية فى استجلاب و استحلاب أموال الناس.
ومع أن دين الاسلام لا يستلزم هذا الإشهار فى دخول الاسلام أو الاشهار فى اعلان شهادة الاسلام فإن الأمر يختلف بالنسبة لدخول دولة الاسلام . لأن الدولة فى الاسلام هى تعاقد بين الناس تتم على أساسه قيام سلطة مهمتها إقرار العدل وحرية الفكر والمعتقد طبقا لقاعدة:(لا إكراه فى الدين). وفى هذا العقد يدخل الأفراد جميعا من رجال ونساء : (المائدة 7 ) ( الممتحنة 12 ) ، ثم هناك عهد آخر بالدفاع عن الدولة عند الخطر:( الأحزاب 15 ، 22: 24 )( الفتح 18، 10 ). وقد فصّلنا هذا فى مقالات سبقت.
أخيرا : المنافقون هم الذين كانوا يأتون للنبى يشهدون له أنه رسول الله :
1 ـ المشركون يتركز اهتمامهم على شخص النبى فيرفضون الكتاب السماوى حسدا منهم لشخص النبى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ) ويرد عليهم رب العزة : ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (الأنعام 123 : 125 ).
2 ـ والمشركون الذين كانوا يدخلون فى الاسلام خداعا ونفاقا كانوا يحرصون على إعلان إيمانهم على مشهد من المؤمنين وملأ من المسلمين ، وكان ينزل الوحى القرآنى يفضحهم ، يقول جل وعلا : (وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ) ( المائدة 61 ). والسخرية هائلة من أولئك الذين يدخلون بالكفر ويخرجون به مع إعلانهم الايمان .
وبعضهم كان يحلو له خداع المؤمنين بهذا الاعلان عن الايمان ، ثم بعد ان يخلو بعضهم ببعض يتندرون على المؤمنين وخداعهم للمؤمنين ، وهم فى الحقيقة يخدعون أنفسهم مما يشعرون : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ).. (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ)(البقرة 8: 9 ، 14 )
وبعضهم كان يؤكد ايمانه و اسلامه بأن يقسم بالله أغلظ الايمان ،وسرعان ما تفضحهم أعمالهم ، أو كفرهم السلوكى فيراهم المؤمنون على حقيقتهم أشد الناس كفرا ، يقول جل وعلا عنهم : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ) ( المائدة 53 )
وبعضهم كان يذهب للنبى محمد يؤكد اسلامه وطاعته ، ثم يخرج من عنده يتآمر عليه ويكذب عليه ؛ ينسب له أقوالا لم يقلها ، وينزل القرآن يفضحهم ويأمر النبى محمدا عليه السلام بالاعراض عنهم : (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ) ثم يوجّه الله تعالى لهم نصيحة بصيغة استنكارية تقول : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) ( النساء 81 : 82 )، لأنهم لو تدبروا القرآن الكريم بقلب مفتوح لأمنوا حق الايمان وما احتاجوا لهذا الخداع .
وتكرر مرة أخرى قوله تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) تعليقا على موقف ممائل يتحدث عن أولئك المنافقين الذين كانوا يكرهون ما أنزل الله ، وكانوا يدخلون على النبى يؤكدون إيمانهم ثم إذا خرجوا من عنده استهزءوا بالاسلام : ( محمد: ـ 16 : 24 )
ومما سبق نفهم قوله جل وعلا عن المنافقين : ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ( المنافقون 1: 2 ). فقد حرص المنافقون على المجىء للنبى ليشهدوا أمامه ـ كذبا وخداعا ـ قائلين له (إنك لرسول الله ) ويأتى الرد بأن الله تعالى يعلم بأنه رسول الله ، ولكن يشهد الله جل وعلا بأن المنافقين كاذبين فى شهادتهم لأنها لا تعبر عن حقيقة ما فى قلوبهم من تكذيب للرسول وكفر بالقرآن الكريم وعداء للاسلام.
المنافق هو الذى يحتاج الى إشهار إيمانه رهبة أو رغبة ، وهكذا كان يفعلون فى حياة النبى محمد يشهدون له بأنه رسول الله ، وكان القرآن الكريم ينزل يخبر بما فى قلوبهم ، داعيا أحيانا الى أن يتدبروا القرآن الكريم .
3 ـ وانتهى القرآن الكريم نزولا ، ومات خاتم الأنبياء عليهم جميعا السلام، ومالبث أن عادت عقائد الشرك تغزو قلوب المسلمين فاخترعوا لها بالافتراء أديانا أرضية ، تبدأ عقيدة الشرك فيها بإضافة اسم محمد الى شهادة الاسلام توطئة لتقديس مخلوقات أخرى الى جانبه .
وبسبب تعمق هذا الزيف فى قلوب الأغلبية الساحقة من المسلمين فإن القارىء لهذا المقال يستغربه ، وقد يستهجنه ، ولأنه لا يستطيع إنكار الايات القرآنية التى يقوم عليها ولا يستطيع الهجوم على القرآن الكريم فلا يتبقى له إلا الهجوم على كاتب المقال.
4 ـ بسيطة ..
غفر الله تعالى لنا ولكم ، وهدانا وإياكم قبل أن يأتى أحدنا الموت ..