فى التفريق والتفضيل بين الأنبياء وشهادة الاسلام
( 2 ) (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض )

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٢ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :
1 ـ هذا البحث كان من قبل خطبة جمعة ألقيتها فى مساجد جماعة دعوة الحق التى كنت مشرفا عليه وقت غياب صاحبها ( د. سيدرزق الطويل ) فى السعودية ، وثار علىّ وقتها شيوخ الأزهر فى كلية أصول الدين فى طنطا حيث كنت أذهب الى هناك مرة فى الشهر لألقى خطبة الجمعة ، وتحديا لهم نشرت البحث فى مجلة الجمعية ( الهدى النبوى )، فتعاظمت ثورتهم وأهدروا دمى لو ذهبت الى طنطا ، فتحديتهم وصممت على أن أكون منتدبا للتدريس يوما اسبوعيا فى كلية أصول الدين فى طنطا عقر دارهم لأدرس للطلبة ما ينكره أولئك الشيوخ ، ولم أنقطع عن خطبتى أول كل شهر فى مسجد دعوة الحق فى طنطا ، وخطبت فى إنكار الشفاعة وعصمة الأنبياء والتناقض بين البخارى و القرآن .
دبروا مؤامرة لقتلى فى مشاجرة ـ حتى يضيع دمى بين القبائل ـ، فطلبوا مناظرتى ، وقبلت ، وتحدد موعدها ومكانها فى مسجد دعوة الحق يوم شم النسيم عام 1984 ـ أى منذ ربع قرن ـ سافرت كالعادة من القاهرة الى طنطا وحدى.دخلت المسجد فوجدتهم قد تجمعوا فيه ، تكلمت بالقرآن ، ثم بدأت كلامى عن البخارى بقولى : ( البخارى بشر غير معصوم ، ومن اعتقد العصمة فى البخارى فقد كفر بما أنزل على محمد ). عندها وقف شيوخ كلية أصول الدين وغادروا المكان ، وكأنها إشارة البدء إذ هجم علىّ كثيرون يريدون الفتك بى ، فأحاطنى أهل المسجد يحموننى وحملونى الى غرفة داخلية، وطردوا البغاة. صمم أهل المسجد على أن أتم محاضرتى ، وعادت أجهزة التسجيل ، وانطلق صوتى بالميكروفون أكمل كلامى ، وبدأ الذين تركوا المسجد ـ ومنهم المهاجمون الغاضبون ـ يعودون شيئا فشيئا، وبهدوء الى ان تكامل العدد كما كان ،واستمعوا لى بهدوء وتأثر وأنا أقرأ لهم من كتاب البخارى وأسألهم هل يرضون بهذا الطعن فى الله تعالى ورسوله ، وأحيانا كانت تغلبنى دموعى مؤكدا لهم أنه ليست لى مصلحة شخصية سوى الدفاع عن دين الله جل وعلا ،وفى سبيله أتحمل الأذى منهم ومن الآخرين .
كانت هزيمة قاصمة لشيوخ الأزهر فى فرع طنطا التابع لجامعة الأزهر ، فطلبوا من الجامعة ومن أمن الدولة عدم السماح لى بالتدريس منتدبا فى كلية أصول الدين فرع طنطا ، وتم لهم ما أرادوا .
وردا عليهم جميعا أدخلت البحث وأبحاثا أخرى فى كتبى التى قررتها على الطلبة فى جامعة الأزهر عام 1985، وخصوصا كتاب (الأنبياء فى القرآن الكريم : دراسة تحليلية ).
وتحركت السفارة السعودية فى القاهرة بنفوذها وريالاتها ، وفى الخامس من شهر مايو عام 1985 تمت إحالتى الى التحقيق داخل جامعة الأزهر متهما بأننى فى كتاب ( الأنبياء فى القرآن الكريم ) وفى اربعة كتب أخرى أنكرت عصمة الأنبياء ( المطلقة ) و شفاعة النبى ، وأننى رفضت تفضيل النبى محمد على الأنبياء السابقين . والقصة معروفة وانتهت بتركى جامعة الأزهر عام 1987 ، ودخول السجن فى نفس العام ،وتحقق أكبر نصر للنفوذ السعودى و الريال السعودى.
ويوم اعلان القبض علينا قام السنيون بتعليق لافتات على مساجدهم فى طنطا تقول ( الحمد لله قبضوا على منكر السنة ).
أى إن بحث ( التفضيل بين الأنبياء ) يحتل موقعا هاما فى سيرة حياتى و تاريخ الأزهر.

2 ـ وفى هذا البحث تعرضت إجمالا للعناصر الثلاثة: التفريق بين الرسل وتحليل لموضوع التفضيل بين الرسل وتناقض تفضيل النبى محمد على الأنبياء السابقين مع الاسلام .
وسبق نشر موضوع النهى عن التفريق بين الرسل ، ونتوقف الان مع الموضوع التالى وهو تحليل التفضيل بين الرسل فى رؤية قرآنية .


أولا : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ )
1ـ العادة انك لو قلت لأحدهم إنه لا يصح تفضيل النبى محمد على من سبقه من الأنبياء فإنه يرد كالببغاء قوله تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ).
نقول( كالببغاء ) ولا نعتذر عن هذا التشبيه لأنه حقيقى ، فصاحبنا الببغاء هذا يردد ـ دون أن يعقل ـ ما اعتاده السابقون قوله دون عقل ، إنه مجرد اقتطاع جزء من آية قرآنية من سياقها والاستشهاد بها خلاف ما تدل عليه .ولو تدبر فى الآية الكريمة ما فعل .
2 ـ الاية الكريمة تقول : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) وتبدأ بكلمة (تِلْكَ ) وهى إشارة الى رسل سابقين ورد ذكرهم قبل تلك الآية الكريمة، منهم داود الذى ورد ذكره فى قوله جل وعلا :( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ( البقرة 251 : 252 ) بعدها قال تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ). أى يشير رب العزة الى أنبياء محددين هم داود والنبى الآخر الذى أشار على بنى اسرائيل بأن طالوت قد بعثه الله تعالى عليهم ملكا ، بعد موت موسى عليهم جميعا السلام فى قصة سبقت موضوع التفضيل ( البقرة 246 : 252 ) وبالتحديد فالاشارة الى ثلاثة من رسل الله هم موسى و ذلك النبى الذى لم يذكر الله تعالى اسمه ( اسمه فى التوراة صموئيل )، وداود ، عليهم السلام.
3 ـ ثم تأتى الآية الكريمة تقول عنهم (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) ويأتى التفصيل فى نفس الآية ، فيقول رب العزة : ( مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) وواضح هنا أن الكلام عن تفضيل موسى عليه السلام بالتحديد ، أى إن الله جل وعلا رفعه درجات . ويقول رب العزة عن عيسى عليه السلام فى سياق التفضيل و التميز : (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) ثم يقول جل وعلا عن أتباعهم واختلافاتهم : (وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) ( البقرة 251 : 253 ). أى لا توجد أدنى إشارة لمحمد خاتم النبيين هنا على الاطلاق لأن الحديث عن جماعة من رسل الله تعالى لبنى اسرائيل تعقيبا على قصة من قصصهم فى القرآن الكريم.
3 ـ الأهم من هذا هو قوله تعالى (فَضَّلْنَا) فى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) وهى واضحة لكل من يبصر فى أن التفضيل حق الاهى لله تعالى وحده ، فالله وحده هو الذى يملك حق التفضيل، وهو وحده الذى يملك رفع بعضهم فوق بعضهم درجات:(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) وهو وحده جل وعلا الذى آتى عيسى عليه السلام البينات وأيده بروح القدس: ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) وهو وحده جل وعلا الذى يفعل ما يريد (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ).
الله جل وعلا وحده هو الأعلم بمن خلق ، هو أعلم بنا من أنفسنا: (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً )، وهو الأعلم وحده بحياة كل نبى وسريرته ومدى طاعته وجهاده ، وعلى أساس علمه بهم يأتى تفضيله لبعضهم على بعض ، ولهذا تقول الآية التالية: ( وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا )( الاسراء 54 : 55 ).
أما نحن البشر فليس فى علمنا هذا ، لم نر نبيا من الأنبياء ، ولا نعرف عددهم الحقيقى ، بل حتى لا يعرف ذلك خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام : ( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) ( النساء 164) وبالتالى فإن من يفاضل بين الأنبياء إنما يضع نفسه فى موضع رب العزة جل وعلا ، وليس هذا مجرد استنتاج من القرآن الكريم ، ولكنه استنتاج عقلى أيضا فالمدرس هو الذى من حقه أن يفاضل بين تلاميذه حسب اجتهادهم الذى يراه ويحكم عليه ، وهو له منزلة تتيح له هذا وترفعه فوق مستوى تلاميذه.وذلك الذى يقوم بالتفضيل بين الأنبياء إنما يتربع فوق كرسى وينظر من أعلى للأنبياء ليقرر من هو الأفضل ، اى يرفع نفسه فوقهم ، وبالتالى يزعم لنفسه ـ دون أن يدرى ـ الألوهية .
أما المؤمن الحق فلا يعطى نفسه هذا ، يكتفى بتدبر القرآن الكريم والالتزام بما جاء فيه من عدم التفريق بين الرسل ووجوب الايمان بهم جميعا دون تفرقة بين هذا أو ذاك : ( البقرة 135 : 138 ، 285 )( آل عمران 83 : 85 )، وان من يفرق بين الرسل فهو عند الله تعالى كافر ( النساء 150 : 152 ) وأن الايمان ليس بشخص النبى وإنما بالرسالة والكتاب :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا ) ( النساء 163 ).
ثانيا : ملامح قرآنية فى مدح بعض الأنبياء والرسل السابقين بعد موتهم:
نحن هنا لا نحكم بتفضيل نبى على آخر ، ولكن نتدبر ما قاله رب العزة فى مدح بعض رسله ، وهو جل وعلا وحده صاحب الحق فى التفضيل بين عباده من الأنبياء.
مدح ابراهيم عليه السلام
1 ـ ابراهيم عليه السلام هو النبى الوحيد ـ فى القرآن الكريم ـ الذى تتابعت فيه صفات المدح الآتية : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( النحل 120 : 123 ). مدحه الله جل وعلا بأنه كان (أمة ) من الأخلاق الحميدة ، قانتا عابدا لله تعالى ، لم يقع فى الشرك ، وشاكرا لأنعم ربه ، وقد إجتباه ربه وهداه للصراط المستقيم ، وأنعم عليه فى الدنيا بحسنة ، وأعد له درجة الصلاح فى الاخرة ، ثم فى النهاية يأتى الأمر للنبى محمد ـ وهو حىّ يرزق ـ بأن يتبع ملة ابراهيم .
2 ـ ابراهيم عليه السلام هو النبى الوحيد ـ فى القرآن الكريم ـ الذى جعله الله تعالى إماما للناس ، بسبب نجاحه فى الاختبارات التى أدخله الله تعالى فيها ، ونجح فى تنفيذ الأوامر بالتمام والكمال ، فقال عنه ربه جل وعلا : (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) ( البقرة 124 ) أو بالتعبير القرآنى (وفّى ) أى قام بما عليه بالتوفية الحقة : (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) ( النجم 37 ).
3 ـ وهو النبى الوحيد الذى عندما أنّبه الله تعالى مدحه ،اى مدحه فى معرض اللوم ، إقرأ قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ )( هود 69 : 76 )
أخطأ ابراهيم هنا حين أخذ يجادل الملائكة فى رفع العذاب عن قوم لوط ، وجاءه اللوم هينا رفيقا ومقترنا بالمدح (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ).
جدير بالذكر أن الله تعالى حين كان يعاتب خاتم الأنبياء فلم تكن فيها هذه النغمة الحانية بل كان العتاب قاسيا كقوله تعالى فى خطاب مباشر (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) ( الأحزاب 37 ). التأنيب هنا شديد فى قوله تعالى له (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) أو كقوله تعالى له فى خطاب مباشر أيضا(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) ( التحريم 1 ) التأنيب هنا قاس فى قوله تعالى له (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ).
4 ـ وابراهيم عليه السلام هو النبى الوحيد المذكور بالاسم الذى امر الله تعالى رسوله محمدا خاتم النبيين بأن يعلن أنه متبع لملته : (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( الأنعام 161 ).
5 ـ وملة ابراهيم هى المقياس الصحيح للفلاح ، ومن يرغب عنها ويعرض عنها فهو السفيه الغافل ، يقول جل وعلا : (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( البقرة 130 ). ويلاحظ هنا أن الآية الكريمة قسمان ، تحدث القسم الأول عن تسفيه من يعرض عن ملة ابراهيم، ومدح القسم الثانى ابراهيم هليه السلام بان الله تعالى اصطفاه فى الدنيا ، وأنه فى الاخرة سيكون من الصالحين.
6 ـ جدير بالذكر أيضا أن المقياس الالهى الذى تركز حول ابراهيم وملته قد فضح الظالمين من ذرية ابراهيم الذين جاءوا بعده ، من العرب وبنى اسرائيل .
ونتذكر هنا حرص ابراهيم على هذه الذرية وخوفه المستقبلى عليهم حين كان يدعو ربه (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ) ( ابراهيم 40 ) ،بل أنه عندما كافأه ربه بأن جعله إماما للناس الصالحين فى كل زمان ومكان تمنى أن يكونوا ذريته فجاء الرد من الله تعالى بما يشير الى إن من ذريته من سيكون ظالما لا يصلح لهذا الشرف:(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(البقرة 124).
من هذه الذرية من رغب عن ملة ابراهيم ، ومنهم من جعلها تجارة ، ومنهم من كفر وقام بتحرف الملة الابراهيمية ، وعندما نزل القرآن الكريم بالحق كان أولئك يباشرون نشاطهم فى تحريف ملة ابراهيم ، فثار جدل ونقاش تردد صداه فى القرآن الكريم ، ورد الله تعالى عليهم يدعوهم الى ملة ابراهيم التى تركوها مع انتحالهم اسم ابراهيم وجعله يهوديا أو نصرانيا :(وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ) (البقرة 135 ، 140 ) ويؤكد رب العزة أن أولى الناس بابراهيم هم النبى محمد عليه السلام ومن يتبع القرآن الكريم الذى أبان ملة ابراهيم على حقيقتها : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران 65 : 68 ) .
وبعد موت النبى محمد عليه السلام دخل فى الفتوحات العربية ـ المناقضة لتشريع الاسلام ـ كثيرون من أهل الكتاب ، ودخل معظمهم فى الاسلام ،فأرجعوا نفس التحريف القديم فى ملة ابراهيم فى صورة أحاديث . وسبقت الاشارة الى أن الله تعالى جعل ابراهيم وملته مقياسا ، ومن يرغب عن ملته فقد سفه نفسه. وبهذا المقياس فضح الله تعالى كثيرين من أهل الكتاب ورد عليهم . وبعد نزول القرآن الكريم وموت النبى محمد تردد نفس التزوير فى أحاديث زورها مبتدعو الديانة السنية ، وانصب بعض هذا التزوير على سيرة ابراهيم العطرة . أى أن ذلك المقياس المشار اليه القرآن الكريم يحكم علي من يرغب عن ملة ابراهيم حتى فى المستقبل ، فى صورة من صور الاعجاز فى القرآن الكريم .
وللتدليل على ذلك نتذكر مدح الله جل وعلا للخليل ابراهيم بأنه كان صديقا نبيا(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) ( مريم 41 ) . أى لم يكن فقط (صادقا ) بل (صديقا ) وهى صيغة مبالغة من الصدق تعنى أنه لم يكذب أبدا ، حتى لقد تعرض للتحريق بالنار دون أن يتراجع أو يمالىء . ثم جاء وصفه بالصديق قبل وصفه بالنبوة ، فلم يقل تعالى : كان نبيا صديقا ، أى تعلم الصدق بعد أن صار نبيا ، ولكن جعل صفة المبالغة فى الصدق سابقة لنبوته ،أى التزم الصدق مذ كان صبيا ، أى إن الصدق صفة أساس فيه من بدايته الى نهايته ، ولكن حديث أبى هريرة فى البخارى يبالغ فى وصف ابراهيم بالكذب فزعم أن ابراهيم كذب ثلاث كذبات.
هنا يصدق عليهم المقياس الالهى ، فهم قد حرفوا سيرة ابراهيم ، وإذا كان رب العزة قد جعله صديقا نبيا فقد جعلوه كذابا .
وقد يتساءل بعضهم : وما صلة هذا بموضوع التفضيل ؟ وأقول إن هذا الافتراء هو تدليل زائف لجعلهم محمدا أفضل الأنبياء ،أى أفضل من أبيه ابراهيم ، ويستدلون بأن ابراهيم كان كذابا ، وبالتالى فمحمد الصادق الأمين أفضل منه.
مدح موسى عليه السلام :
1 ـ يقول تعالى :(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا)(مريم51 : 53 ) هنا يمدح الله تعالى موسى عليه السلام بأنه كان (مُخْلَصًا) ـ بفتح اللام ـ أى خلاصة الخير ، وأن ربه جل وعلا هو الذى ناداه وكلمه ، بل أكثر من ذلك قرّبه اليه يناجيه (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا)، وهو تعبير هائل فى مدح موسى ، ثم من أجله جعل هارون أخاه وزيرا ونبيا معه .
2 ـ وورد أول حديث لله تعالى مع موسى فى سورة (طه ) حين جاءه التكليف بالرسالة ، خاف موسى من فرعون وطغيانه وطلب أن يكون معه أخوه هارون ، ولم يرد الله تعالى عليه بالتأنيب ولكن ذكّره بالنعم التى احاطه بها، ومنها:( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي )،(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي )(طه 9 : 41 ) ولا يستطيع القلم وصف ما فى الآيتين من مدح لموسى عليه السلام.
مدح داود عليه السلام :
1 ـ يقول جل وعلا عن داود عليه السلام فى معرض مدحه لداود عليه السلام يخاطب خاتم الأنبياء عليهم السلام: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ). وهذه النعم لم يزدد بها داود عليه السلام إلا ورعا وخشوعا لله تعالى .والابتلاء بالنعمة أعظم من الابتلاء بالمحنة .
وفى سياق المدح وللتدليل على خشوع داود لربه عز وجل يقص الله تعالى قصة الخصوم الذين تسوروا المحراب على داود وهو يصلى ففزع منهم وظن أنها فتنة من الله ، وعندما تبين له الأمر وأنهم خصوم عاديون بادر بالاستغفار والتوبة من الظن الذى ألمّ به : (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ )( ص 17 : 24 ).
2 ـ على خلاف ذلك تقرأ فى تراث الدين السّنى روايات تطعن النبى داود عليه السلام ، وننقل عن القرطبى فى ( تفسيره ) قوله (قال سفيان الثوري وغيره‏.‏ وسبب ذلك ما حكاه ابن عباس أن داود عليه السلام حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم‏.‏ فقيل له‏:‏ انك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك‏.‏ فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير، فجعل يدرج بين يديه‏.‏ فهم أن يتناوله بيده، فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فطار، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل، فلما رأته غطت جسدها بشعرها‏.‏ قال السدي‏:‏ فوقعت في قلبه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وكان زوجها غازيا في سبيل الله وهو أوريا بن حنان، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا، فقدمه فيهم فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود، واشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة بعده، وكتبت عليه بذلك كتابا، وأشهدت عليه خمسين رجلا من بني إسرائيل، فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشب، وتسور الملكان وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه‏.‏ ذكره الماوردي وغيره‏.‏ ولا يصح‏.‏ قال ابن لعربي‏:‏ وهو أمثل ما روي في ذلك‏.‏ قلت‏:‏ ورواه مرفوعا بمعناه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن يزيد الرقاشي، سمع أنس بن مالك يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فهم بها قطع على بني إسرائيل بعثا وأوصى صاحب البعث فقال‏:‏ إذا حضر العدو قرب فلانا وسماه، قال فقربه بين يدي التابوت - قال - وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يستنصر به فمن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله فقدم فقتل زوج المرأة ونزل الملكان على داود فقصا عليه القصة )‏‏
وبهذه الروايات تم تشويه سيرة ذلك النبى العظيم الذى قال عنه رب العزة فى سياق التفضيل (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ) ( البقرة 251) وأفرده بالذكر من بين جميع الأنبياء فى موضوع الوحى فقال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) ( النساء163 ) وأفرده من بينهم فى معرض التفضيل (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)( الاسراء 55 )
اولو العزم من الرسل :
وقد أمر الله تعالى خاتم الأنبياء بأن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، فقال : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) ( الأحقاف 53)، أى هناك من الرسل من تفوق فى التحمل والصبر ، وقد أشار الله تعالى بعضهم فقال فى معرض مدح ابراهيم واسحاق ويعقوب مخاطبا خاتم الأنبياء بأن يذكرهم : (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ )( ص 45 : 47 ) . أى مدحهم الله تعالى بأنهم كانوا يتذكرون الآخرة دائما ، وأنهم ممن اصطفاهم الله تعالى وكانوا أخيارا . الشاهد هنا هو قوله تعالى عنهم (أُولِي الأَيْدِي) أى أولى العزم . ويضاف اليه (وَالأَبْصَارِ) أى أولو البصيرة الصادقة .
وفى التراث السنى يزعمون أن أولى العزم من الرسل هم محمد ونوح وابراهيم وموسى وابراهيم وعيسى .. أى يتدخلون فى علم الله تعالى وغيبه ويهرفون بما لا يعرفون.

ثالثا : موقف النبى محمد من الأنبياء السابقين :
1 ـ مرّ فيما سبق أن الله تعالى أمر خاتم النبيين أن يتبع ملة ابراهيم بالتحديد ، أى اتباع للدين الحق الذى جاءت به ملة ابراهيم ، ونزل القرآن لتجديدها بعد أن أفسدها العرب واهل الكتاب . ومن هنا نفهم ان محمدا عليه السلام لم يأت بدين جديد بل هو متبع للدين الالهى الحق الذى جاء به كل أنبياء الله ، وكان جده الأعلى ابراهيم هو صاحب هذه الملة ، ومنها تعلم العرب وأهل الكتاب من ذرية ابراهيم الصلاة والزكاة والحج وصيام رمضان مع اخلاص الدين لله تعالى رب العالمين. وبالتالى فليس محمد مبتدعا لشىء جديد أو ليس ( بدعا من الرسل ) ، وبهذا أمره ربه جل وعلا فى آية واحدة أن يعلن أربعة أشياء : أنه ليس متميزا عن الرسل أو ليس بدعا من الرسل ، وأنه لا يعلم الغيب ولا يدرى ماذا سيحدث له أو للآخرين ، وأنه متبع فقط للوحى ، وأنه فقط نذير مبين ، جاء هذا فى قوله جل وعلا : (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( الأحقاف 9 ).
ولأنه آخر الأنبياء فهو مأمور من الله تعالى بأن يتبع الهدى الذى جاءوا به ، وقد قال الله تعالى عن الأنبياء السابقين (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(الأنعام 89)، أى أمره ربه بالاقتداء ليس بالأنبياء السابقين أى ليس بأشخاصهم ولكن بالهدى الذى نزل عليهم ،أى بالكتاب السماوى ، والذى جاء توثيقه وحفظه فى القرآن الكريم خاتم الرسالات السماوية.
وهو أيضا مأمور بأن يتعلم من مواقفهم الايجابية ، وحين وقع النبى محمد وأصحابه فى خطأ الاستغفار لأهلهم المشركين فجاء التعليم من الله تعالى له ولهم بأن يقتدوا بابراهيم عليه السلام حين تبرأ من أبيه المشرك : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) ( التوبة 113 : 114 ) ونفس الحال أمر الله تعالى المهاجرين بالاقتداء بابراهيم والمؤمنين معه حين تبرءوا من قومهم السابقين ، أى هنا إقتداء بالموقف المحدد:(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) ( الممتحنة 4 : 6 )
2 ـ وفى نفس الوقت فخاتم الأنبياء منهى عن الوقوع فى الأخطاء التى وقع فيه بعض الأنبياء من قبل ، فقد أمره الله تعالى أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ )(الأحقاف 53)، وأمره أيضا بالصبر ونهاه أن يكون مثل النبى يونس الذى لم يستطع الصبر على قومه فعوقب بالتهام الحوت له ، ثم عفا عنه ربه : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ( القلم 48 : 50 ) و ( الصافات 139 : 148 ).
أى أمره ربه بأن يتعلم من ايجابيات الأنبياء السابقين وألا يقع فيما وقع فيه بعضهم من أخطاء.
أخيرا :
1 ـ والله تعالى حين كان ينزل القرآن على خاتم النبيين متحدثا عن الأنبياء السابقين فانما كان يتحدث عن أنبياء ماتوا وتحددت درجة كل منهم ، فى وقت كان فيه خاتم النبيين حيا يرزق يناضل ويجاهد ويتعلم ويخطىء ويصيب ، ويأتيه الوحى بالتوجيه ، يمدحه أحيانا ويلومه أحيانا.
ثم تم القرآن الكريم نزولا ومات النبى محمد عليه السلام ، وتحددت درجته بين الأنبياء ، ولم يعد هناك وحى ، وبالتالى لا نعرف درجة النبى محمد بين من سبقه من الأنبياء ، هل تفوق على كثيرين أم تفوق عليه كثيرون. علم ذلك عند الله تعالى وحده ،وليس لنا أن نعتدى على غيب الله تعالى ونهرف بما لا نعرف، ونكذب على الله تعالى ورسوله.علينا أن نتمسك بعدم التفرقة بين رسل الله ، وأن نتمسك بالايمان بالكتاب السماوى الذى نزل عليهم.
2 ـ والايمان بالقرآن يحتم علينا أن ننكر تلك الأحاديث الكاذبة التى تفضل خاتم النبيين على من سبقه من رسل الله مثل حديث (أنا خير ولد آدم ولا فخر ) وحديث ( فضلت على الأنبياء بسبع ...) ،وتلك الخرافات التى تقول ( كنت نبيا وآدم بين الماء و الطين ، وكنت نبيا وآدم لا ماء ولا طين ) (أول من خلق الله نور نبيك يا جابر ) .
ويجب أن نتوقف عن قولنا ( اشرف المرسلين ) فكل الأنبياء والمرسلين أشراف ، وأن نتوقف عن قول ( سيد المرسلين ) لأن سيد المرسلين هو رب العالمين وحده لا شريك له .
كما يجب أن نتوقف عن كل ملامح تفضيل النبى محمد على من سبقه من الأنبياء بأن نجعله ـ دون الأنبياء كلهم ـ قرينا لله جل وعلا فى موضوع الصلاة والأذان والحج و(الفاتحة للنبى ) وفى جعل شهادة الاسلام قسمة بينه وبين الله جل وعلا .. ثم نناقض أنفسنا ، ونقول ( الله أكبر) فكيف يكون (الله أكبر ) فى عقيدتنا وصلاتنا ونحن نجعل واحدا من البشر قرينا لله وشريكا له ؟
وفى الحلقة القادمة نتوقف مع ( شهادة الاسلام .. واحدة ( لا اله إلا الله ) وليست مثناة )

اجمالي القراءات 39457