العلمانية و الاسلام

محمود دويكات في الإثنين ٢٠ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

مما لا شك فيه ان موضوع العلمانية هو من أحد أكثر المواضيع حساسية لدى المسلمين التقليديين. و السبب لذلك هو الاعتقاد السائد أن العلمانية و تطبيقها يؤديان الى نزع الدين من قلوب الناس فلايعود هناك أثر للدين الاسلامي في الحياة اليومية ، و هذا على عكس ما يعتقد به المسلمون التقليديون أن الاسلام لابد أن يدخل في جميع مرافق الحياة (العامة و الخاصة) بدءاً من دخول الحمام و حتى دخول الحياة السياسية .
في هذا البحث سأحاول أن أعرض لماهية العلمانية و نعرّج على نظام الحكم المدني في الدول العلمانية و نقارن ما بينها و بين الانظمة الاسلامية التقليدية و من ثم نعرض ماهو موجود في العقيدة الاسلامية المتمثلة في أفكار القرءان الكريم. أنبه قبل هذا أن البحث قد يكون طويلاً لذا أرجو أن لا يكون مملاً.
تعريفات
الدولة تكون علمانية (بغض النظر عن التعريف اللغوي لها)  عندما تفصل الافكار الدينية عن القرارات و القوانين المدنية و السياسية و النشاطات الحكومية. أي أن أي قرار يصدر عن الحكومة سواءً كان سياسيا يخص علاقة الدولة بأخرى أو مدنياً يتعلق بعلاقة الناس ببعضهم  يجب أن لا يتم اشتقاقه بناءً على تفسيرات لنصوص مقدسة.  
الدولة تكون دينية عندما تعتمد في قراراتها و نشاطاتها السياسية على الموافقة الدينية. أي أن أي قرار يصدر عن الحكومة يجب أن يتفق مع مرجعية دينية متفق عليها التي غالبا ما تكون عبارة عن مزيج من النصوص المقدسة و التفسيرات الشخصية المصاحبة لها.
و هناك فرق ما بين الديموقراطية و العلمانية ، و هذا الفرق يتمثل في أن العلمانية هي حركة فكرية في حين أن الديموقراطية هي في الاساس آلية متفق عليها  لتبادل السلطة (بأشكالها الثلاث: تشريعية و قضائية و تنفيذية) بشكل عادل (متفق عليه أيضا).
يمكن إرجاع الاصول الفكرية للعلمانية الى أفكار إبن رشد (ت1198م) في فصل الفلسفة و العلوم التجريدية عن  الدين و بالتالي فصل التفسيرات الشخصية للنصوص الدينية عن  أمور الفلسفة و العلوم ، و السبب وراء ذلك هو الدفع نحو حرية التفكير ( خاصة الفلسفي) بعيداً عن الرقابة الدينية. إذن ظهرت موجة العلمانية أولاً في الحرية الفكرية ً ثم ما لبثت أن تم ترجمتها على الحياة المدنية و السياسية في أوروبا. و السبب الذي دفع الاوروبيين لتوطيد تلك الافكار هو ما عانوه جراء الحروب الدينية  بينهم و تسلط الكنيسة على الحياة الشخصية للمجتمعات إبّان ثورة كالفن و مارتن لوثر الدينية ضد الكنيسة آنذاك ، و بلغت تلك الحروب قمتها في حرب الثلاثين عام (1618-1648) و التي شملت معظم دول اوربا الغربية و الشمالية و استهلكت ما يقرب من 20% من سكان تلك المناطق.  فجاءت معاهدة وستفاليا (1648) تؤكد على فصل الدين عن الحياة السياسية و النشاطات الحكومية باتجاهين: عدم تدخل الدين في أمور الحكومة+ عدم تدخل الحكومة في أمور الدين.
تطبيق العلمانية و الدينية في الحكم
العلمانية مجرد فكر و هذا الفكر حتى يبقى على قيد الحياة لا بد من أن تتبناه حكومة ، و غالبا فإن الكثير من الحكومات الديموقراطية تتبنى العلمانية كأحد أركانها الفكرية. و عندها يكون مصدر الاحكام و القوانين في تلك الدول الديموقراطية-العلمانية هو الاقتراع داخل مجلس يتم تشكيله بالانتخاب (أو النظام الديموقراطي المتفق عليه). و هذا يعني ببساطة أن أي قانون في دولة ديموقراطية-علمانية قد يكون أساسه المصلحة، فقد يخرج أحد النواب المنتخبين في ذلك المجلس و يطرح قانوناً حسب أهواءه (الشخصية أو الحزبية) للمصادقة عليه فإن حظي بأغلبية فإنه يصبح قانوناً .. أي أن مصادر التشريع عندها قد تصبح شخصية و تؤثر فيها اللوبيات و النقابات و التجمعات الفكرية ذات القوة الدافعة .  و لكن بسبب الحرية الفكرية و الدينية المتاحة تكون هناك تغذية راجعة طبيعية جرّاء تفاعل الناس مع تلك القوانين  ، هذه التغذية الراجعة قد تساهم في أن يتم تعديل تلك القوانين حتى الوصول الى حالة من العدل النسبي ما بين الفئات المتأثرة بتلك القوانين.
و في الدولة الدينية قد يكون هناك ديموقراطية (نادر جدا) و تكون القوانين فيها بحاجة للمصادقة الدينية. و المصادقة الدينية هي أن لا تتعارض تلك القوانين مع مرجعية دينية تحددها الدولة و هذه المرجعية هي في العادة تفسير (شخصي أو متفق عليه) لنصوص مقدسة. أي أن أي قانون يجب أن يحوز الاتفاق على عدم تعارضه مع المرجعية الدينية.  و على النقيض من الدولة العلمانية فإن القوانين في الدولة الدينية عادة ما تتسم بالصلابة و عدم المرونة و هذا مردّه الى عدم الاعتماد على التغذية الراجعة من تفاعل الناس مع القوانين ، فيتم فرض تلك القوانين بالاكراه بحجة أنها مدعومة بتوثيق ديني.  و مما لا شك فيه أن هذا الاكراه كثيرا ما يؤدي الى انتشار الفساد ما بين الناس غير الراضين عنها أو غير القادرين على المطالبة بتغييرها.
و السبب المباشر كما قلنا في فرض القوانين و عدم تعديلها (كما يحدث مع العلمانية) هو إما عدم وجود مرونة من الاصل في القانون المطروح أو أن القانون يطرح بقوة بسبب وجود نصوص دينية قوية المرجعية مما يجعل نقض القانون هو نقض لتلك التفاسير للنصوص الدينية ، الأمر الذي يلقى معارضة شديدة من قبل النظام الحاكم الذي يقدس تلك النصوص و تفسيراتها و يدعمها ،  و بهذا الشكل تؤول عملية فرض القوانين المدفوعة بالشرعية الدينية المطلقة الى شكل من أشكال الدكتاتورية.
هل تنطبق العلمانية مع الدين الاسلامي؟
قبل الاجابة على هذا السؤال يجب التفريق ما بين أمرين هما في غاية من الخطورة. الامر الاول هو ما يعرف بالشريعة الاسلامية الموجودة حاليا ، و الامر الثاني هو الحركة الاصلاحية الدينية و حصر المرجعية بالمصدر الاساسي للدين الاسلامي ألا و هو القرءان.
مشكلة الشريعة الاسلامية الحالية
إن مشكلة الشريعة الاسلامية في الوقت الراهن (أو كما تتبناها بعض الدول) هي الزئبقية الشديدة في تعاليمها و قوانيها و تشريعاتها ، و السبب الرئيس في ذلك هو تعدد المرجعيات فيها و تداخلها بشكل مريب و محيّر. فمثلا ً، في حين ينادي الكثير من السلفيين و الاصوليين بأن القرءان الكريم هو المصدر و المرجع الاول للأحكام في الشريعة الاسلامية ثم يليه الحديث  فإنهم ما يلبثون حتى يلغون تلك المقولة فيجعلون بعض الاحاديث تتقدم على القرءان الكريم من ناحية مبدئية و تفصيلية أحياناً كثيرة. و يصل الأمر عند بعضهم بأن يجعل القياس أو الاجماع (الذي هو في المرتبة الرابعة أو الخامسة من ناحية كونه مصدر من مصادر التشريع) يتقدم المصدر الاول (القرءان) بالتحليل و التحريم و التكفير الاعتباطي أحيانا دونما أن يصرّح بذلك تصريحاً واضحاً في حين يلغيه (أي القياس) آخرون بجرة قلم من تصوراتهم بشكل زئبقي مما يفقد تلك المصادر جميعا ً أي مصداقية.
بالاضافة للزئبقية السابقة فإن هناك سمة آخرى تجعل من المستحيل إجتماع الشريعة الاسلامية الحالية مع العلمانية ، هذه السمة الاخرى هي مدى ضخامة و شمولية تلك النصوص المقدسة التي يتم منها استقاء و استقراء قوانين و تشريعات يعود معظمها الى القرون الوسطى. فمثلا إن كثرة الاحاديث (المصدر الثاني)  التي تعدّ بمئات الالاف و اعتماد أقوال و أفعال صحابة محمد عليه السلام (و هي أيضا بمئات الالاف) كنصوص و أفعال مقدسة  يجعل المرجعية الدينية للأحكام عبارة عن مهزلة بحيث يقوم كل من يلمّ بأكبر قدر من تلك الاقوال و الاحاديث بتطويع الكم الأكبر منها بشكل انتقائي  بسبيل خدمة غرضه و مصالحه (كتهميش النساء مثلاً أو التضييق على أصحاب المذاهب الاخرى). و بما أن القدسية لتلك الاقوال تجعل من الصعب بل المستحيل مراجعة القوانين و التشريعات الصادرة منها فإن النتيجة تكون عبارة عن فرض لوجهات نظر شخصية في تفسير و انتقاء تلك النصوص الدينية بحيث يتم تطويعها سياسيا أو حزبياً بحيث تصل الأمور الى حد التشرذم الواضح.
أما في الدولة العلمانية ، فرغم أن مصادر التشريع مفتوحة فيها إلا أنه  يتم ترجيح  أو تقويم التشريعات بمدى ملائمتها مع واقع الناس بالاستعانة باحد الانظمة الديمقراطية في تبادل السلطات. فيستطيع الناس مثلا أن يؤثروا في مدى تطبيق أو وضع القوانين عن طريق التأثير في الانتخابات التي تأتي لهم بمن يحكمهم ، فيقوم الحزب المنتخب بعملية تعديل لتلك القوانين بشكل يرضي أهواء الناس مما يحق عدالة ظاهرية بينهم ، و السبب المفصلي الواضح لسهولة تلك التغييرات في التشريعات هو عدم وجود تلك الهالة المقدسة للأشخاص أو القوانين أنفسها على العكس مما هو الحال في الدولة الدينية حيث تلتصق صفة القداسة بالنصوص الضخمة المقدسة و مفسريها من أشخاص و شيوخ ورجال دين ، الأمر الذي يجعل تعديل تلك القوانين من سابع المستحيلات ، فيختار الناس عدم الانصياع الطوعي لتلك القوانين (التي ترجع بطبيعتها الى العصور الوسطى) فتنتشر اللامبالاة بين الناس ويعم الفساد الى أن يسود السخط ما بين الناس غير الراضين فيقابلهم النظام الحاكم بالقمع و الدكتاتورية  ، و ممالاشك فيه ان النظام الحاكم يكون بحاجة الى دعم فكري لترسيخ شرعيته في ما يقوم به من بطش ، فتنشأ بذلك علاقة تكاملية ما بين انظمة رجال الدين الكهنوتية و النظام الحاكم ، و هذه العلاقة هي السمة الابرز من سمات الدول الدينية.
ينادي الاصلاحيون و بالتحديد القرءانيون الى توحيد المرجعية الدينية بالقرءان فقط لاغير ، و مما لاشك فيه أن هذا الطرح سيسهم بشكل فعال في الحد من حالات التشرذم و المهازل الفكرية و التشريعية التي نشأت بسبب تلك الزئبقية ما بين الالاف المؤلفة من نصوص مقدسة. السبب الرئيس في ذلك هو إماطة و إزالة العناوين المقدسة عن الالاف المؤلفة من الاسماء و النصوص التي تعود الى العصور الوسطى. و هذا الهدم لكل تلك المقدسات سيجعل من السهولة بمكان إجراء أي تعديلات في القوانين المطروحة بحيث تحقق العدل الظاهري ما بين فئات المجتمع التي لن تتوانى عن إحداث التغيير بمجرد أن سقطت تلك المظاهر المقدسة الكاذبة.  فالناس بطبيعتها تخشى الاقتراب من كل ما تعتبره مقدساً . و لكن عندها سيصبح القرءان فقط هو المقدس بنصوصه و بالتالي فنحن مازلنا نتكلم عن دولة دينية لكن على نطاق أصغر مما كان عليه الحال مع دولة الشريعة الاسلامية . فسيبقى القرءان نصا مقدسا و سيبقى بحاجة الى مفسرين و شارحين له من أجل التأكد من مطابقة القوانين المشرّعة مع ما يفسرونه من القرءان.  إذن يبدو ان عملية إرجاع المرجعية للقرءان فقط لن تعمل على حل مشكلة الشريعة الاسلامية مع العلمانية و لكن ستعمل على تقليل مقدار التنافر ما بين شريعة القرءان و ما تنادي إليه العلمانية. و السبب هو تقليل مساحة المقدس أمام ماهو غير مقدس .. فالعلمانية لا تعترف بأي شيء مقدس في التشريع المدني أو السياسي!
الحقيقة أن الكلام النظري أعلاه لا يعني أن القرءان سيفشل في تلبية مطالب العلمانية كحل لمجتمع متعدد الثقافات. بل بالعكس و هذا ما سنثبته في القسم الاخير من هذا البحث.
القرءان و العلمانية
قبل أن نواصل الحديث لا بد أن نذكر أنه ليس هناك من إثبات نظري بأن العلمانية هي حل مثالي لمجتمع متعدد الثقافات أو الديانات سوى الامثلة الموجودة في الواقع من أن الدول التي تبنت العلمانية (كدول غرب أوروبا) فإن الحياة فيها تسير بشكل شبه عادل الى حد ما ما بين جميع فئات المجتمع على عكس الظلم المنتشر ما بين فئات المجتمع في الدول الدينية (كمصر و السعودية وإيران و غيرها) .
قلنا إن العلمانية تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة باتجاهين: عدم تدخل الحكومة بالدين و عدم تدخل الدين بقرارات الحكومة. و هنا نقول أن السبب وراء ترسيخ هذه الفكرة هو ببساطة لإلغاء الاحتكاك و التنازع الذي يحصل ما بين الناس أصحاب المرجعيات المقدسة المختلفة ، و نحن نعلم أن المرجعيات الدينية المقدسة هي من أصلب و أجمد المرجعيات التي يخشى الناس تغييرها ، لذا فإن ذلك الاحتكاك ما بين أصحاب المرجعيات الدينية المختلفة سرعان ما يصير الى تنازع مسلح أو تناحر واضح على السلطة و الجبروت. و كحل أساسي فإن النظرية التي تقوم عليها العلمانية هي جعل المصلحة المادية كأساس يجمع الناس متعددي الثقافات ، و يتم إجبار الناس على تلك المصلحة عن طريق قوانين رادعة تجعل التمييز على أساس الدين أو المعتقدات أمرا من عظيم المحرمات في تلك الدولة (أي بحماية الاساس النظري للعلمانية نفسها).
إن قراءة غير منحازة للقرءان تظهر أنه كتاب لا يدعو إلى إقامة دولة دينية أساساً ، و أيضا بمزيد من القراءة و التمعن نلاحظ أن القرءان يفصل في الخطاب ما بين الناس المستمعين له ، فهو في تشريعاته يخاطب صراحة المؤمنين به (مستخدما لفظ "ياأيها الذين آمنوا" ـ أو بشكل غير مباشر كقوله "قل للمؤمنين" ..الخ)  فهو في ذلك كأنه يقرّ ضمنيا بوجود جماعات و ناس لا يؤمنون به ككتاب مقدس من عند الله و بناء عليه فلا تنالهم تلك التشريعات التي ينادي بها القرءان خصيصاً للذين آمنوا به. و هذا واضح أيضا صراحة من خلال بعض الايات من مثل قوله تعالى عن بعض اليهود في المدينة (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [5:43-44] فهذه الايات تطلب صراحة بان يعود اليهود الى الحكم بما عندهم من التوراة ، و نحن نعلم أن هؤلاء اليهود هو قوم كان يعيشون في المدينة تحت حكم النبي محمد عليه السلام ، و لكن يبدو (كما يدعم ذلك التاريخ) أن اليهود في المدينة زمن الرسول كانوا يتمتعون بحكم شبه ذاتي يمارسون فيه عقيدتهم و أحكامهم و تشريعاتهم.  و أيضا الايات  التالية تبين هذا المبدأ بكل وضوح حيث تقول (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ، وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [5:47:49] فهذه الايات تطالب بأن يكون لأهل الانجيل الحق بان يحكموا أنفسهم بما عندهم في الانجيل. و من ثم تتابع فتطالب النبي محمد عليه السلام بأن يحكم متبعاً هذا الكتاب (القرءان) ، فيحكم بينهم بما فيه من مباديء عادلة عامة للجميع ، و تؤكد الاية على شرعية و أحقية الناس بالاختلاف دينيا و منهجيا بقوله (
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) . و المطالبة بان يحكم محمدٌ عليه السلام بأحكام القرءان يجب أن تتقاطع مع طريقة عرض التشريعات في القرءان ، فما فيه من تشريعات تخص الذين آمنوا فقط فهي للذين آمنوا به! فلا يجوز مثلا تطبيق حد الزنا أو السرقة أو غيره على أناس لا يؤمنون أساساً بهذا الكتاب بالاضافة الى أن هذا سيعتبر إكراهاً بالدين فإن السبب المباشر هو أن الله قد وجه خطابه  في تلك التشريعات مثلا في الكتاب الى من آمن به فيه ، أما من لم يؤمن فيرجع عندها الى الاحكام الخاصة بفئته إن كان له فئة أو عليه أن ينضوي تحت لواء الحكم المدني الذي يقرره الشعب عبر الاقتراع.
إن هذا التفريق الواضح في القرءان ما بين المؤمنين به و غير المؤمنين به هو حلّ شبيه جدا لما تنادي به العلمانية من أن يبقى التأثير الديني أقل ما يمكن على القوانين الحاكمة . ففي دولة يحكمها القرءان (كدولة الرسول عليه السلام) فإن تشريعاته المقررة على الذين آمنوا تسري عليهم فقط لا غير ، و على أهل الكتاب تسري عليهم قوانينهم المختارة بينهم حسب ما لديهم من مرجعياتهم،و على الناس الاخرين تسرى قوانين الناس المدنية التي يختارونها بالاقتراع ، و هذاعلى عكس الدولة الدينية الحالية التي تفرض قوانينها على كل من يعيش في أرضها بغض النظر عن دينه ، فيسود التفريق و الظلم و التضييق.
أي أن النظام الذي نستطيع فهمه في القرءان هو ان يحكم كل فئة من الناس أنفسهم بحسب ما يرونه من قوانين تتنسجم مع نصوصهم المقدسة (سواء من مؤمن بالقرءان ، أم بالتوراة ، أم بالانجيل أم غيره) و يكون النظام الحاكم بحيث يراعي عدم تداخل و تزاحم تلك الفئات بان تطغى إحداها على الاخرى. أي أنه نظام يعطي إستقلالية ذاتية لكل مجموعة فيه على شرط تحقيق العدل ما بين كافة المجموعة. نلاحظ هذا التفريق بشكل واضح ما بين "المؤمنين بالكتاب" و بقية الناس في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [4:58] فهذه الاية تخاطب الذين آمنوا (أي أمنوا بالله و القرءان كرسالته)  بأن يحكموا بالعدل بين الناس (على مختلف انتماءاتهم الفكرية أو الدينية أو غيرها). و القرءان لم يعط ِ تفاصيل كافية عن كيفية تطبيق طريقة الحكم هذه ، و بالتالي نفهم أنها متروكة للناس أنفسهم يقررون بالتشاور و الاقتراع. 
و الحقيقة أن بعض دول أوروبا (مثل بريطانيا و هولندا) بدأت تميل نحو تطبيق ذلك المبدأ بان يتم إعطاء كل مجموعة من الناس حكما شبه مستقل (خاصة في الامور الدينية) على أن تبقى في يد الدولة بعض السلطات إذا ما تجاوزت مجموعة معينة حدودها تجاه "الناس" الاخرين ممن لا ينتمون لتلك المجموعة.
تلخيص
رأينا الفرق ما بين الدولة العلمانية و الدينية في أن الاولى تنادي الى الفصل ما بين الدين و الدولة في حين تجعل الثانية مرجعية الحكم منوطاً بمدى مطابقة نصوص دينية مقدسة و تفسيراتها. و قلنا إن السبب وراء الحل العلماني هو احتواء و إخماد التنازع ما بين أصحاب الديانات أو المذاهب المختلفة في الدولة الواحدة حتى لا يظلموا بعضهم بسبب اختلاف المرجعيات ، فيكون تحويل المرجعية بينهم نحو مرجعية مادية – تقوم على المصلحة – بدلا من المرجعيات الدينية المتناحرة هو الحل الامثل في نظر العلمانية.
الشريعة الاسلامية كما هي الان لا تصلح بتاتا كما لا تتوافق لا من قريب و لا من بعيد مع وجهة نظر الحل العلماني ببساطة لأنها (أي الشريعة الاسلامية الحالية) تؤسس الى دولة دينية يتم فيها فرض تفسيرات شخصية لنصوص مقدسة كثيرة و متناقضة تعود في جملتها الى العصور الوسطى .. مما يوقع الحرج بالناس الذي يهابون و يخضعون لها بسبب قدسيتها بدلا من المحاولة من تغييرها أو تعديلها.
القرءان لا يدعو الى إقامة دولة دينية على الاطلاق. الحل القرءاني هو ليس الفصل بين الدين و الدولة و لكن الفصل بين المجموعات المتدينة بأن تحصل كل منها على حكم شبه ذاتي تحكم فيه بقوانين مستمدة من نصوصها ، على أن يسود العدل و التكافؤ ما بين هؤلاء "الناس" جميعاً بغض النظر عن الحزب الحاكم.  يبقى الدين موجودا في دولة يحكمها القرءان بان يتم زرع  الإيمان بالله و اليوم الآخر و الاستعداد له بالعمل الصالح في نفوس الناس على مختلفهم لأن القرءان يعوّل في تشريعاته على وجود هذه المشاعر في النفوس.

اجمالي القراءات 59432