ننهي جولتنا مع تاريخ الأقباط، والتي استغرقت منا خمس مقالات بعنوان "الأقباط في عالم متغير"، بهذه المقتطفات من كتاب تاريخي، مسطر بيد مؤرخة محايدة إلى حد كبير، والذي ترجم ونشر بالقاهرة عام 1900م، بعنوان "تاريخ الأمة القبطية"، هي الإنجليزية أ.ل. بتشر.
نورد هذه المقتطفات كنموذج يوضح لنا حجم الكذب والتزييف، الذي تُغسل به أدمغتنا، نتيجة سيطرة من يقرأون -ليس فقط الواقع، بل والتاريخ أيضاً- بعيون أيدولوجية ودوجماطيقية، تجعل من الأقزام عمالقة وأبطالاً، ومن أعمال &Cc النهب والسلب، فتوحاً وجهاداً في سبيل الله، ومن الطموح الشخصي في السلطة والثروة، ولو على جثة أبسط المبادئ الإنسانية، تجعل منها نضالاً مجيداً وشريفاً.رأيت أن ثمة فائدة في أن تقرأ الأجيال التي حقنها الإعلام برؤية الراحل يوسف شاهين، في فيلمه الناصر صلاح الدين، ما أوردته أ. ل. بتشر في المجلد الثالث من كتابها، عن هذا البطل الإسلامي الأسطورة. . نورد الفقرات التالية مقتبسة بنصها من الكتاب المذكور دون تدخل منا، لتصير مسئولية مايرد على المؤلفة وحدها:
"أحب الخليفة العاضد أن يبين محبته لشيركويه، فولى مكان شاور، ابن أخيه يوسف صلاح الدين، ولقبه بالملك الناصر، وكان لايزال شاباً. . . وكان متمسكاً بالتقاليد الإسلامية القديمة، ومتطرفاً جداً في تأدية فروضه الدينية، وكان يحتقر ويزدري الرفاه والنعم، كما كان يستخف ويهزأ بالعلوم والفنون على السواء، ويعتقد أن الصنايع الفنية والفنون الجميلة ضرب من عمل الشيطان، إنما مطامعه في الشهرة العالمية كانت لا تحد، وقد قوى فيه ذلك الطبع، لأنه كان قد حلم مدة حداثته، أنه لا يموت قبل أن يكون سلطان دمشق وبابليون، أي سوريا ومصر أو المملكة البابليونية كما كانوا يسمونها."."وفي عام 1187م تقدم بجيشه إلى بيت المقدس، ففتحها وأسر ملكها، لأن بيت المقدس كانت خالية من القوة التي تتمكن من مقاومة حصار جيش العرب لها، وكان جل ما بداخلها فريق من العوام والفقراء، الذين لا طاقة لهم على القتال، ولم يكن لها جيش سوى 1400 رجلاً من الفرسان، فدافعوا عن المدينة مع الكهنة المسيحيين والشمامسة، الذين كانوا يعتقدون أنهم يدافعون ويجاهدون جهاداً دينياً، وفرضاً واجباً عليهم للمحافظة على هذه المدينة المقدسة، ولكن عاد الشعب فالتفت حول البطريرك وعلا صياحه وضجيجه، وهاج ضد الكهنة من داخل المدينة، طالباً التسليم بشروط مناسبة، وبعد جهاد دام أربعة عشر يوماً، سلم البطريرك المدينة تحت شرط، أنه بعد أن يدخلها المسلمون لا يأخذون سكانها المسيحيين أسرى، بل تكون قاعدة الصلح، أن يؤدي كل مسيحي عشرين ديناراً فدية عن نفسه، وكل مسيحية عشرة دنانير، وكل طفل دينارين، فمن أحضر فديته نجا بنفسه، وإلا أخذ أسيراً، وكان بين الأهالي أربعة عشر ألف نفس، غير قادرين على دفع الجزية المفروضة عليهم، فأطلق صلاح الدين سبيل بعضهم دون فدية، لأنه رآهم لا يصلحون لأي عمل، وأسر النصف الآخر، بعد أن نكس الصليب القائم على قبة الصخرة، وكان عظيم الحجم. . . . قام إمبراطور الغرب فردريك بروسيا حاملاً صليبه، وكتب إلى صلاح الدين يدعوه إلى القتال. . . . فأجابه صلاح الدين بكتاب لا يقل غطرسة (لم يكن قصد المسلمين التسلط على المسيحيين وقهرهم في الشرق فقط، بل وفي عزمهم مهاجمة أوروبا واكتساحها كلها، وسوف تؤخذ كل بلادك منك. . . . ) وذيل كتابه هذا بإمضائه الحامل لثلاثة عشر لقباً أعطاها لنفسه، كلقب (المخلص) و(المصلح) و(منظم العالم) و(مصحح القانون) و(منقح الشريعة) . . . إلخ.وما وصل هذا الكتاب إلى الإمبراطور فردريك، حتى قاد جيشاً عرمرماً من جميع أمم أوروبا، وسار به لمقاتلة المسلمين، ولكن سوء الطالع أدركه، فغرق في الطريق. . . . بينما كان المقيمون من الإفرنج في فلسطين قد حاصروا مدينة عكا في شهر أغسطس سنة 1189، دون أن ينتظروا مجيء إخوانهم الصليبيين لنجدتهم من أوروبا، ولم يكن في وسع صلاح الدين طردهم عنها، فاستمروا على حصارها سنتين، ولو أن صلاح الدين أرسل ليتقدم أسطول مصر الراسي في الإسكندرية، محملاً بالمؤن والذخائر، وجمع كل قواه حول المدينة، لما استطاع خلاصها من أيدي المحاصرين لها، لأن الصليبيين أو حملة فردريك، قد أتوا من أوروبا وهم ألفا فارس، وثلاثون ألف مقاتل من المتدربين، فاشتركوا مع أفرنج فلسطين، في تضييق الحصار على المدينة، وكان بين الصليبيين القادمين من أوروبا، الملك فيليب ملك فرنسا، وريكاردو (قلب الأسد) ملك انجلترا. ولما رأى صلاح الدين أنه لا يستطيع مقاومة تلك القوة الهائلة، اضطر أن يسلم المدينة تحت شروط اشترطها عليه الصليبيون، لا تمس بشرفه ولا شرف الإسلام، ومفادها أولاً تسليم المدينة، وثانياً تسليم الصليب الحقيقي الذي صلب عليه السيد المسيح، وأخذه المسلمون يوم فتح أورشليم، وثالثاً إطلاق سراح ألفي نفس، من أشراف المسيحيين أسرهم صلاح الدين، وخمسمائة شخص من طبقات مختلفة من المسيحيين، ورابعاً أن يقوم المسلمون بدفع 200 ألف دينار غرامة حربية.
فقام صلاح الدين وكبار المسلمين الذين معه، بتنفيذ الثلاثة بنود الأولى من شروط الصلح، أما البند الرابع وهو الغرامة الحربية، فقد تأجل دفعها إلى وقت آخر، لعدم وجود قيمتها في خزينة الحكومة، مسلماً بدلها للصليبيين كل أشراف المسلمين وأولادهم بصفة أسرى تحت أمر ملكهم، حتى تسدد هذه الغرامة الكبيرة، فقبل ريكاردوس (قلب الأسد) ذلك الاقتراح من صلاح الدين، ولكن لما أبطأ في تنفيذ البند الثالث، كما وفي تسديد الغرامة الحربية كوعده، قام ريكاردوس ملك الصليبيين وصلب أولئك الأشراف المسلمين وكانوا 2700 علناً خارج مدينة عكا، انتقاماً من صلاح الدين ومن المسلمين. . . . أما المسيحيين الذين كانوا أسرى عند صلاح الدين وعددهم 12 ألف نفس، فقد خلى سبيلهم بعد كل تلك الحوادث، بالرغم من ضعف إيمانهم بالله، وأرسلهم إلى بابليون في مصر، بحراسة قوة صغيرة من الجنود التركية، واتفق في هذه الأثناء أن قام الملك ريكاردوس بحرسه إلى داخلية، الواقعة على مقربة من دائرته، لمعرفة البلاد وما فيها، واكتشاف آثارها، وهو مع قلة من الجنود التي كانت معه يومئذ، فإن شهرته في القوة والبأس، قامت مقام القوة الحربية الكافية له، بحيث أن الجنود الأتراك الذين كانوا يحرسون الأسرى، بمجرد ما وقع نظرهم على علم ريكاردوس، دب في قلوبهم الرعب والارتجاف، فتركوا الأسرى وفروا هاربين من وجهه، ولما رأى ريكاردوس ذلك، انقض على المسلمين الذين كانوا مع الأسرى المسيحيين، وأمر حرسه بذبحهم، وأسر عشرين ضابطاً، وأطلق سراح الأسرى جميعهم."تلك رواية مؤرخ غير مسيس ولا مؤدلج لأسطورة الناصر صلاح الدين، الذي جعل منه الخطاب العروبي المتأسلم، والمطبلون والمزمرون على أنغامه، مثل الراحل يوسف شاهين، جعلوا منه أسطورة إسلامية، وصوروه بصورة البطل الشهم الهمام، بل والعالم الطبيب، رغم عدائه للعلوم والفنون كما ورد، في حين لا يبدو أكثر من مغامر طموح، يسعى وراء السلطة والثروة، مسوقاً باعتقادات جامدة ومتعصبة واستعلائية، ويتقاتل عبر مسيرته مع قادة لا يختلفون عنه في التوجهات والمنهج، وإن اختلفوا في البيارق والشعارات التي يخدعون بها جماهيرهم، عميقة الإيمان سليمة الطوية فادحة الجهل. . في هذا السياق كانت معركة حطين، التي يصورونها لنا على أنها فتح مبين وخالد، ولم تكن في الحقيقة أكثر من واحدة من مئات المعارك الصغرى، التي يخوضها المغامرون الذين وفدوا على المنطقة من هنا ومن هناك، ولا يحمل أي منهم في قلبه وذهنه غير الجشع وحب المغامرة.