المناخ الفكرى والثقافى فى مصر بما فيه من عدم قبول الآخر ورفض التجديد الدينى وتقديس التراث وعبادة الأفكار القديمة، تجعلنا نشخصه بأنه مصاب بمرض "القولبة "، بمعنى أن هناك قالباً جامداً من الرصاص علينا جميعاً نحن الكيانات المصنوعة من الشمع المصهور أن ندخل وننحشر فى هذا القالب الجاهز ونتشكل على مقاسه، القالب ثابت ونحن المطلوب منا التحور كالأميبا لكى نناسب القالب، فالقالب الرصاصى أولاً، ونحن فى ذيل الأولويات، حتى ولو عند دخولنا كسرت ضلوعنا أو إختنقنا أو نزفت &c; أكبادنا، المهم القالب سليم.
هناك أسطورة يونانية أتذكرها كلما حاولت فهم وتحليل تعاملنا مع التراث وفهمنا للدين، تحكى الأسطورة عن "بروقرسطس " اليونانى الذى يمتلك فندقاً على طريق السفر، كانت سراير الفندق الحديدية كلها على نفس المقاس، وعندما كان ينزل لديه مسافر اطول من مقاس السرير، كان صاحب الفندق يأتى بالمنشار ليبتر ساقى المسافر حتى يصبح على مقاس السرير!!، لم يفكر "بروقرسطس" أن يطور السرير نفسه، أو يجعله مرناً على عجل يطول ويقصر، أو يأتى بسراير على كل المقاسات، تفكيره الأحادى الإتجاه جعله يفضل جز السيقان والأدمغة على تغيير السراير أو تعديل الأسرة بالعربى الفصيح.
نحن نقدس أفكار السلف مثلما كان صاحب الفندق اليونانى يقدس الأسرة!، ونطلب من الناس بتر سيقانها وتجميد ادمغتها لتتناسب مع هذه الأفكار، ونرفض الإعتراف بأن هذه الأفكار بنت زمانها وبيئتها، ومن الممكن أن يتغير بعضها ليناسب العصر، ويظل البعض الآخر مما يناسبه بالفعل الآن، نحن مرعوبون من الأفكار الجديدة رعب خفاش الكهف من النور، ومفزوعون من يد التغيير ونظن أنها دائماً تخفى تحت القفاز خنجراً وقارورة سم.
هذا المنهج الذى لايريد تغيير بوصلته ولو بضعة ملليمترات، يتجلى أعظم مايتجلى عند مناقشة الأحاديث، فقد كان يناقشنى زميل من الأطباء عن حديث غمس الذبابة التى فى جناحها داء والآخر دواء، وكان مصراً وهو الدارس لميكروبات هذه الحشرة والعارف بأضرارها على أن العلم سيكتشف بعد ألف سنة صحة هذا الحديث، كان أمامه حل بسيط وهو الإعتراف بأن هذا الحديث وليد مفاهيم هذا الزمان، وبأنه لايوجد أمر إلهى بإيقاف ساعة الزمن ومنع التطور منذ ألف وأربعمائة سنة، ولكن لأن الذى يحكمه هو نفس منهج اليونانى "بروقرسطس"، بأن القديم سواء كان حديثاً أو تفسيراً أو رأياً فقهياً صحيح وثابت، وعلينا أن نطوع عقولنا مهما تعلمنا ومهما تراكم أمامنا من معارف وعلوم جديدة، علينا أن نطوعها للرأى القديم، وأن تكون مهمتنا الوحيدة هى قياس الجديد على الباترون القديم، وقص الزائد منه حتى يتطابقا، ونلغى كل ماتعلمناه وإلا إتهمنا بالكفر والبعد عن صحيح الدين.
الدين لإسعاد البشر وليس لثراء الكهنة.