فلسفة النجاح

آحمد صبحي منصور في الأحد ٢٩ - مارس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :
. هذه قصة حقيقية حدثت في الستينيات ، بطلها فلاح مصري عادي ، كان يمتلك بضعة أفدنة يقوم على زراعتها بنفسه لأن أولاده تخرجوا في الجامعات وتشعبت بهم السبل وتركوه وحيدا يزرع الأرض.
وفي تلك الأيام كانت الجمعية الزراعية تسيطر على كل ما يخص الأرض والفلاح ، وكان مركز البوليس يعيش في فترة طوارئ في موسم زراعة القطن ، وكان الفلاحون يساقون إلى مركز البوليس بالعشرات إذا اتهمتهم الجمعية الزراعية بالتهاون في مقاومة دودة القطن أو مخالفة الدورة الزراعية ، أو بأي تهمة تجول بخاطر السيد المسئول عن الجمعية الزراعية ، وهناك في المركز كان المأمور وزبانيته يقومون بعملهم الروتيني ؛ يعلقون الفلاحين المساكين كالذبائح وينهالون عليهم ضربا . وبعد العلقة الساخنة يعود كل فلاح يلعق جراحه ويشكو الظلم لربه ويكتفي بذلك ، حيث اعتاد الفلاح هذا العذاب منذ أيام السخرة في عهد محمد علي باشا حتى ارتبطت شجرة القطن في ضمير الفلاح المصري بشجرة العذاب .
. وشاء حظ صاحبنا الفلاح بطل هذه القصة أن يساق مع غيره إلى المركز بتهمة أنه لم يساهم بأنفار – أو صبيان - في المقاومة وكان عذره واضحا ، لأن أولاده كبروا وتركوا البلد ، واعتاد أن يستأجر بعض الصبيان حتى لا يعطي الفرصة لخصومه في الجمعية الزراعية ولكن حدث أن تخلف أحد الصبيان يوما فاستيقظ صاحبنا من نومه في اليوم التالي على استدعاء له بالذهاب لمركز الشرطة.
وهنا ذاق ما ذاقه الآخرون من التعليق والضرب بالسوط والعصي والفلقة ،
عاد وجروحه النفسية والجسدية أقصى من طاقته على الاحتمال.. وظل طوال الليل لا تغفل له عين ، وفي الصباح أستأجر رجالا قاموا بتقطيع كل أشجار القطن في أرضه ، واستأجر عربة نقل ضخمة ، وفوجئ مأمور المركز في اليوم التالي بأكوام هائلة من أشجار القطن ملقاة أمام مبنى المركز.
ودخل عليه صاحبنا الفلاح ، وقال له بصرامة: هذا هو القطن الذي علقتني بسببه كالذبيحة وتورم جسدي في سبيله.. خذه. وقبل أن يفيق المأمور من دهشته تشجع صاحبنا الفلاح وبصق في وجه المأمور، وصرخ بأن لديه بندقية في بيته وإذا جاءه أحد من طرف المركز بعد الآن سيفرغها فيه ثم يقتل نفسه، وانه لن يزرع قطنا بعد الآن ولن يستطيع مخلوق أن يرغمه على زراعة هذا القطن الملعون..
وبعد ذلك خرج الفلاح من المركز مرفوع الرأس والمأمور قد توقف عقله عن التفكير من الذهول والمفاجأة والخوف ، وهو لا يعرف كيف يتصرف في أطنان الشجر الذي يسد الطريق أمام المركز، وهو يخشى أن يصل الأمر إلى رؤسائه وأن يكون متهما في تدمير تلك الثروة، وفي النهاية أمر قطيع الفلاحين الغلابة الذين جئ بهم في ذلك اليوم لينالوا نصيبهم من العذاب – أمرهم بالتخلص من تلك المشكلة. وتعلم من يومها أن يحترم ذلك الفلاح الشجاع وألا يعترض طريقه. وحافظ صاحبنا على كلمته فلم يزرع القطن في أرضه إلى أن مات عزيزا كريما.
. عايشت هذه الحادثة حين كنت طالبا في الثانوي ، وعاش هذا الفلاح في عقلي نموذجا للمصري الأبي الذي يستيقظ فيه فجأة بركان الصبر على الظلم فيدمر ما يقف في طريقه .. وبركان الظلم في الضمير المصري يبلغ من العمر سبعين قرنا من الزمان ، احتمل فيها الفلاح المصري آلاف الظلمة من الأجانب، ثم جاء على طريقهم الحكام المصريون بعد الثورة فألهبوا ظهور إخوانهم بالسياط في أقسام الشرطة والسجون والمعتقلات , ولا يزالون يفعلون ..
ويحدث أحيانا أن يستيقظ البركان وتظهر فورة غضب مدمرة ولكن تستطيع الدولة القضاء عليها دون حل جذري للمشكلة ، مما يجهز المسرح المصري لفورات غضب أخري والله وحده هو الأعلم بعواقبها .
. إن المصريين مثل رمال الصحراء , قد يتحملون أقدام الظالمين ، ولكنهم في لحظة ما تثور رمال الغضب في عيون الظالم وتجرفه الرمال المتحركة إلى غياهب المجهول ..
ولابد من علاج لهذا الحال ، حتى لا يتراكم الإحساس بالظلم وينفجر في بركان .
. أيها المصري : لا تظلم أحدا ولا تدع أحدا يظلمك . لا تفرط في حقك ولا في كرامتك طالما أنت على الحق . وتذكر أن ربك وحده هو الذي بيده مفاتيح الرزق وبيده موعد الموت ، ولا تملك قوة في العالم أن تمنعك رزقا كتبه الله لك ، ولا أن تميتك قبل الموعد الذي حدده الله تعالى لموتك .. وطالما أن الرزق والعمر بيد الله تعالى وحده فلا تخش أحدا إلا الله ، وإذا اتقيت الله وحده فلن تخاف البشر .

إنك إذا تمسكت بحقك ورفضت الظلم أرغمت الظالم أن يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على ظلمك. أما إذا تمسكت بفلسفة النعاج وتحملت الظلم مرة ومرات فإنك تشجع كثيرا من الحيوانات الأليفة على افتراسك، فحيث تتكاثر النعاج تتكاثر إلى جانبها الذئاب. والشعب الواهن الذليل هو الذي يخلق الفرعون المستبد في كل مكان ، والشعب الخانع يفرز حكومة ظالمة تستأسد على الشعب الذي أنجبها وتتضاءل في نفس الوقت أمام حكومات العالم ، ولا تستطيع أن تنتصر إلا على الشعب الذي تسترقه ..

إننا ينبغي أن نكون شعبا من الأحرار الأقوياء لتنبثق عنا حكومة قوية حرة..

. إن ذلك الفلاح المصري الذي بصق في وجه المأمور الظالم ينتمي إلى أسلاف عظام كان منهم السحرة الذين رفضوا إرهاب فرعون.

ثانيا :
• كتبت هذا المقال ونشرته فى جريدة الأحرار المصرية ، بتاريخ 28 سبتمبر 1992 ، وهو عيد الفلاح المصرى على ما اتذكر.
• ولم يكن وقتها الحديث شائعا عن التعذيب فى أقسام الشرطة ومراكز الشرطة فى الريف ، مع انه كان عملا يوميا وظيفيا يقوم به ضباط وجنود الشرطة بحكم العادة ،ة ويتقبله الفلاح المصرى والمواطن المصرى البسيط أيضا بحكم العادة .
• لم تنتبه الى هذا الجريمة الأخلاقية والدينية والوطنية أصوات الأحرار لأن ثقافة حقوق الانسان لم تكن قد تأصلت بعد لدى المثقفين ،ولأن الاهتمام على نقد التعذيب والحديث عنه كان مركزا حول تعذيب السياسيين من اليساريين والآخوان المسلمين فى عهد عبد الناصر على وجه الخصوص .أما الفلاح المصرى ، ملح الأرض ومنبع الخير فيها ـ فلم يحظ باهتمام المثقفين والسياسيين ، وتركوا الاهتمام به للسلطة الغاشمة تسخره وتستعبده وتعذبه كيف تشاء دون صوت يعترض عليها.
• ولهذا كنت أؤذن فى مالطة حين كتبت هذا المقال فى سلسلة (قال الراوى ) منذ 17 عاما. وكتبت غيره .. ولا أزال أكتب دفاعا عن ضحايا ومظاليم التعذيب ..مؤكدا أن القضاء على التعذيب والظلم لا يتأتى إلا بأن يرفض الانسان الظلم ويتشجع فى مواجهة الظالم مفضلا أن يموت كريما على أن يعيش مقهورا ذليلا ..
• فهل لا زلت أؤذن فى مالطة ؟

اجمالي القراءات 19361