هل هناك مجال للصفقات فى أنشطة الدُعاة؟

سعد الدين ابراهيم في السبت ٢٨ - مارس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

لا تكف الصُحف الحكومية فى مصر عن حديث «صفقات مشبوهة»، بين هذا الداعية أو ذاك من دُعاة الديمقراطية، أو هذا الناشط أو ذاك من نشطاء حقوق الإنسان، من ناحية وبين هذه «الجماعة المحظورة «أو تلك. ولأن من يرددون هذا الحديث من رؤساء تحرير وكَتبة أعمدة لا يستطيعيون مجابهة قٌرائهم بحقائق موثقة بتواريخ أو وقائع أو أرقام أو شهود، فإنهم يظلون يحرثون فى البحر، ويُسودون صفحات بعناوين وصور زاعقة، دون مضمون يتسق مع تلك العناوين والصور!

من ذلك ما كتبه أحدهم، أو كُتب له فى أحد &CcedCcedil;لأجهزة الأمنية، ونُشر على صفحة كاملة فى أكبر صحيفة حكومية، بتاريخ ١٤/٣/٢٠٠٩، تحت عنوان «سموم سعد الدين تنطلق من واشنطن: تحريض سافر للولايات المتحد للتدخل فى شؤون مصر» وتتوسط الصفحة صورتان إحداهما لهذا الكاتب (سعد الدين إبراهيم)، والأخرى للآستاذ مهدى عاكف، المُرشد العام للإخوان المسلمين. ورغم أن صورة هذا الأخير وسط الصفحة، إلا أن من كتب أو كتب له، لم يذكر المُرشد، أو يقتبس عنه، أو ينسب إليه أقوالاً أو أفعالاً، ولو بكلمة واحدة!

وفضلاً عن التدنى المهنى والإعلامى الذى تكشف عنه هذه السقطة، التى لا يقع فيها طالب السنة الأولى إعلام، فإن بقية الصفحة هى أقوال مُرسلة، واتهامات بلا أدلة أو قرائن أو مستندات، وهو ما لم يمكن أن يقع فيه طالب السنة الأولى حقوق.

لذلك فلا غرابة أن توزيع هذه الصحيفة، التى كانت رائدة فى عالم الإعلام المصرى والعربى، قد انخفض إلى النصف خلال السنوات الخمس الأخيرة، ولايزال فى انخفاضه. فالقارئ المصرى أو العربى اليوم أصبحت لديه بدائل عديدة، سواء كمصادر للمعلومات أو التحليلات أو التقييمات.

وكما يذهب قول مأثور «أنه يمكن الكذب على بعض القرّاء بعض الوقت، ولكن لا يمكن الكذب على كل القرّاء كل الوقت» وينطبق هذا تماماً على تلك الصحيفة، والتى كانت رائدة فى صدقية معلوماتها ونزاهة تحليلاتها، وصواب تقييماتها. ولكن من الواضح كما ذكرنا أعلاه، أن من يكتشفون غير ذلك من القرّاء هم فى تزايد مُستمر.

فى كل الأحوال، ما طبيعة حملة التضليل الأخيرة التى شنتها الصُحف الحكومية؟ يُكشف توقيت الحملة هذه الطبيعة. فقد انفجرت بعد أن عقدت منظمات المصريين فى المهجر الأمريكى مؤتمراً مهماً بالعاصمة واشنطن يوم ٢٨/٢/٢٠٠٩، وصاغت عدة مطالب، توجهوا بها فى رسالة مفتوحة للرئيس حسنى مبارك، يأملون فيها أن يُباشر تنفيذها قبل زيارة مرتقبة له إلى واشنطن لأول لقاء له مع الرئيس الجديد باراك أوباما. ولا تخرج هذه المطالب، عن تلك التى تطالب بها الحركة الوطنية المصرية منذ ربع قرن. وأهمها:

١ـ إلغاء حالة الطوارئ.

٢ـ الإفراج عن المسجونين السياسيين.

٣ـ استقلال القضاء.

٤ـ إطلاق حُرية الإعلام.

٥ـ إصدار القانون الموحد لإنشاء دور العبادة.

٦ـ إطلاق حُرية إنشاء الجمعيات والأحزاب وتنظيمات المجتمع المدنى.

٧ـ عقد انتخابات حرة نزيهة تحت إشراف القضاء والرقابة الدولية لانتخاب جمعية تأسيسية لقيادة دستور جديد لدولة مدنية حديثة.

ونوّهت وثيقة المنظمات المصرية بالمهجر الأمريكى بإمكانية مؤسسة الرئاسة أن تقوم هى نفسها بمُبادرة اتخاذ القرار بشأن هذه المطالب، دون حاجة لتشريعات أو قرارات من مؤسسات أخرى، مثل المؤسسة التشريعية. كما لمّح المُشاركون من منظمات المصريين فى المهجر بأنهم سينظمون مُظاهرات احتجاجية أمام البيت الأبيض أثناء الزيارة المرتقبة للرئيس مبارك لواشنطن.

ومثل هذه المظاهرات هى شىء اعتيادى فى مجتمع ديمقراطى مفتوح مثل المجتمع الأمريكى. كما أنها شىء مُعتاد بين أبناء الوافدين إلى هذه البلاد التى معظم سكانها هم أصلاً من الوافدين.

والمصريون الأمريكيون فى ذلك ليسوا بدعة. فهم بعد أن استقر بهم الحال فى الوطن الأمريكى الجديد، بدأوا يُكرّسون جزءاً من اهتمامهم وطاقتهم لشؤون وهموم وطنهم المصرى القديم. وهم يسمعون ويقرأون أو يلمسون من زياراتهم لمصر فى السنوات الأخيرة كيف تدهورت هذه الشؤون، فتضاعفت الهموم.

ولكن الجديد فى مُبادرة المصريين فى المهجر الأمريكى هذه المرة، هو التضامن والتنسيق بين منظماتهم القبطية والمسلمة والمدنية والنوبية. وبعكس الحال فى الوطن الأم، فإن أقباط المهجر بأمريكا الشمالية هم الأغلبية الأكثر تنظيماً وثروة وانتماء. ومن ثم فهم الأقدر على حشد المئات والألوف فى أى مُظاهرة احتجاجية.

كذلك يُشارك فى هذه المُبادرة لأول مرة جمعيات أبناء النوبة، الذين بُحّت أصواتهم، وحفت أقدامهم طوال أربعين سنة، من أجل إعادة بناء قراهم التى جرفتها بُحيرة ناصر بعد تشييد السد العالى (١٩٦٥-١٩٧٠)، على أمل إعادة توطينهم على ضفاف النيل قرب النوبة القديمة، وإنقاذ ما تبقى من تراثهم وثقافتهم.

وربما كانت هذه المُبادرة بكل عناصرها هى التى دفعت النظام الحاكم إلى تعبئة كل مدفعيته السياسية والإعلامية لمُحاولة احتواء تداعيات هذه المُبادرة. فقد أرسل إلى واشنطن خلال الأسابيع القليلة لاجتماع ٢٨/٢/٢٠٠٩ كلا من وزير الخارجية أحمد أبو الغيط، ثم رئيس لجنة السياسات بالحزب الوطنى جمال مبارك، ثم الوزير عُمر سليمان، ثم قطبين من لجنة سياسات الحزب هما المحامية منى ذوالفقار والدكتور محمد كمال.

وكان هذا التحرك الحكومى الحزبى يهدف إلى شق صفوف المشاركين فى مبادرة منظمات المهجر من ناحية، وتمهيد الأرض فى العاصمة الأمريكية لزيارة الرئيس المصرى المرتقبة للاجتماع بالرئيس أوباما. وقد أخفقت إلى تاريخه محاولة فصل الأقباط عن صفوف المُبادرة، رغم تخويفهم بفزّاعة (بُعبع) الإخوان. ولكن هذا التحرك الحكومى الحزبى نجح جزئياً فى ترهيب وترغيب أبناء النوبة، حيث وعدهم بالبدء فى إعادة بناء قُراهم فوراً، إن هم أعلنوا انفصالهم عن المُبادرة.

وقد استجابت إحدى الجمعيتين النوبيتين فعلاً. وخلال أيام من ذلك دشّن مُحافظ أسوان اللواء مصطفى السيد مشروع إعادة بناء أربع قرى (٢٣/٣/٢٠٠٩). وقد أجّل اتحاد أبناء النوبة قرار الاستمرار أو الانفصال عن المُبادرة، إلى أن يقتنع بجدية النظام الحاكم فى الوفاء بوعوده لهم، لا مجرد المُراوغة والمُناورة إلى أن تتم زيارة الرئيس مبارك لواشنطن.

وليت ما حدث لأبناء النوبة من بادرة إيجابية، يحدث لأبناء مصر من الأقباط، بإصدار «القانون الموحد لبناء دور العبادة»، وأن يحدث بالنسبة للقضاة فى مصر، بإصدار القانون الذى يستعيدون به استقلال سلطتهم تماماً، وليت نظام الرئيس مبارك يستجيب لمُطالبة كل المصريين بإنهاء العمل بقانون الطوارئ الذى قيّد حُرياتهم العامة منذ توليه السلطة عام ١٩٨١.

إنه لو فعل كل ذلك فإن المُبادرة الحالية للمغتربين المصريين للاحتجاج على الرئيس مُبارك ستتحول، كما قرر أصحابها أنفسهم، إلى مُظاهرة تأييد، فيسعد هو بزيارته، ويفخرون هم بما حققوه، ويستريح كل أبناء الوطن بعد طول مُعاناة. ولعل ذلك يكون تكمالاً للمُصالحة الوطنية التى بدأت على استحياء بالإفراج عن أيمن نور رئيس حزب الغد.

وفى كل ما فعله ويفعله المصريون فى المهجر فليس هناك صفقات لا مع الإخوان المسلمين ولا مع الإخوان المسيحيين. فأصحاب القضايا العادلة هم أساساً من «الدُعاة»، والدُعاة لا يعرفون لغة أو ممارسات الصفقات. فهذه مُمارسات السماسرة والسياسيين.

والله أعلم

اجمالي القراءات 10468