محمد أركون: الإسلاميون كانوا ضد التنوير بسبب الجهل

في الجمعة ٢٠ - فبراير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

أثار حوار نشرته جريدة "الشروق" الجزائرية مع المفكر محمد أركون انتقادات واسعة قادها أعضاء من جمعية علماء المسلمين التي يرأسها الشيخ عبد الرحمن شيبان اتهموا فيها أركون بالعداوة للعربية والسلف الصالح وأنه انتهى نهائيا ولن يذكره التاريخ.

وكان محمد أركون المعروف برفضه للأصولية المتعصبة وانفتاحه على الغرب ودعوته إلى إسلام تنويري قد أثار في السابق جدالا كبيرا بعد أن اعتبر أن الفكر الإسلامي الرافض للتغير والتحرك والتنامي وفق صيرورة الوقت محكوم عليه بالانغلاق إن لم يكن الموت، وهو الكلام الذي اعتبره متشددون إسلاميون جزائريون ومغاربة بمثابة الحرب على الإسلام على الرغم من أن محمد أركون يعد بشهادة المستشرقين من أهم المفكرين الإسلاميين المدافعين عن الفكر الإسلامي المنفتح على الآخر.

وهذا نص الحوار:
- حضرتَ إلى الكويت بدعوة من الجمعية الثقافية النسائية وناقشت خلال ندوة مع كاتبين ليبراليين مسألة التنوير.. كيف تنظر إلى التنوير في البلدان العربية وخصوصا الجزائر؟
أركون: هناك تراجع في قدرة العرب والمسلمين على فهم القيم والإنجازات التي أتت بها الحركة التحديثية، أو "الأنوار" التي بدأت في أوروبا، جيلي من الجزائريين كان على علم بهذا التاريخ، أكثر بكثير من الفرنسيين أنفسهم، كما أننا نتقن الفرنسية أكثر منهم، هذه النقطة مهمة لأن الخطاب القومي السياسي الذي نسميه "أيديولوجيا"، والكفاح ضد الاستعمار جعل الأجيال التي نشأت في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات تتقرب من بعضها، هذا الاتصال بالثقافة الغربية وتاريخها صار اليوم مستحيلا.

- في اعتقادك فإن الإشكال يوجد في اللغة العربية؟
أركون: اللغة الفرنسية هُمِّشت واشتغلنا فقط بتعليم اللغة العربية خاصة نحن في الجزائر، لأن العربية كانت ضعيفة، وتعريب التعليم في جميع البلدان سجل نقائص علمية، إضافة إلى النقص في المعاجم الخاصة بكل علم من العلوم الإنسانية كالأنثربولوجيا، والدليل أنني أستخدم في جميع ما أكتب وأدرس معجما أركوني فرضته على نفسي، أطبق عبره المناهج والمفاهيم التي يستعملها المتخصصون في الأنثربولوجيا واللسانيات وعلم النفس.

وأنا طبعا لا أنقل تلك المفاهيم كما هي، بل بحثت عن الوهم في المجتمعات العربية، وأحاول أن أكتشف ما هي الوقائع الجديدة والخاصة بالمجتمع ، يمكنني مثلا بفضل هذا المعجم تحليل الجزائري والأندونيسي والتركي وغيرهم، وهذا المعجم يجب أن تجد له مقابلا في اللغة العربية، ويمكن أن نبحث في اللغة العربية عن المفهوم ونوفق فيه، فمثلا "المخيال" أنا الذي اقترحته ونجحت، ولابد أن نستعمله لأننا نجده في جميع ميادين الإنسان والمجتمع، ولكنني عندما أقول "المخيال" فإن القارئ العربي سيتساءل، فهو يعرف "المخيلة" ويلتقي بمصطلح "المخيال" لأول مرة، والمترجم يمكن أن يعلق ويشرح؟ لكن ذلك كله لا يكفي لأن "المخيال" مرتبط بمفاهيم أخرى معروفة في اللغات الغربية وغير موجودة في اللغة العربية.

- أنت من المصرّين على المقارنة بين المسيرة التاريخية للإسلام ومسيرة التنوير.. لماذا؟
أركون: مع كثرة الطلبة والجامعات وقلة الأساتذة صعب على العديد متابعة المنهج المقارن بين المسيرة التاريخية للإسلام والمسيرة التاريخية لما نسميه "الأنوار"، وهذه المقارنة لا بد منها لنفهم ما نفتقده وهو موجود ومتداول في تاريخ أوروبا، بل أذهب إلى أبعد من ذلك، فالتيار الأصولي يقول بأننا لسنا بحاجة إلى كل ما يأتي من الغرب ولا يحاول المقارنة بين الثقافات.

- هل أنت متشائم بشأن قضية الديمقراطية، وما هي مكانتها برأيك اليوم في البلدان العربية؟
أركون: لا، لست متشائما بل أصف فقط هذا الجزء من التاريخ ولا أحكم عليه. فالديمقراطية التي أسست النظام في أمريكا الشمالية، استمدت روحها من التجربة الأوروبية، والمشروعية التي نجدها في بريطانيا متمثلة في النظام الملكي الدستوري كانت من معين التجربة الفرنسية، وهذا كله نظام يتقدم خطوة بعد خطوة ليدفع إلى تكوين المشروعية الديمقراطية التي تبنى على وجود مشروع مدني له حقوق مكتوبة في الدستور، لذلك نجد أن المجتمع البريطاني له الحق في أن يرفض التقارير التي تعدها دولته الديمقراطية المسماة "دولة الحق"، إذ لا يمكن أن تفرض على المجتمع ما يرفضه، وإذا غلبت المفاوضات بين الدولة والمجتمع المدني، فلا يبقى عندنا مجتمع مدني بهذا الوصف.

- هل كان الإسلاميون ضد التنوير على مر التاريخ؟
أركون: نعم، الإسلاميون كانوا ضد التنوير بسبب الجهل، هم يفتقدون القدرة على تعليم الأجيال الصاعدة، كما ليس بإمكانهم أن يشرحوا لهم أهمية المشروعية ولماذا هي ضرورة أولى لأي نظام يدعي أنه ديمقراطي، وبدونها لا يمكننا أن نتكلم على الأخلاق والقيم وكل شيء يتوق إليه الإنسان في المجتمعات البشرية.

ولكن العرب في التاريخ يمتازون عن الآخرين بأنهم عكفوا عن الادعاء بأن لديهم مشروعية كاملة، وأنهم يحتاجون إلى البحث عن مشروعية أخرى تكون بديلا عن المشروعية الدينية، بينما أوروبا مانعت المسيحية، ولم تقل شيئا ضد المشروعية الخاصة بدين المسيح، ولكن فصلت بين المشروعية الدينية والدولة العلمانية التي تبقى في حياد ولا تتدخل في كل الأمور.

- ما هي آثار احتكار الدولة للدين برأيك؟
أركون: من آثار هذا الاحتكار غياب الدين كعلاقة شخصية بين ضميري كإنسان والقيم وعلاقتي الشخصية بالنص القرآني، وحقي في المشروعية الدينية وحقي كمؤلف أن أساهم في قراءة القرآن وأدلي برأيي في شرح كل آية. ولكن ليس لي الحق بأن أفرض رأيي على المسلمين الآخرين، لأن لهم الحق في الدين مثلي. لا يمكن أن يبنى أو يقبل إلا بعد المناورات التي تجري من 10 إلى 20 عاما بين العلماء وهذه هي المشروعية الإسلامية، وتختلف عن المشروعية الكاثوليكية في أن هذه الأخيرة هي مشروعية عمودية تنزل من البابا أما عندنا نحن فهي أفقية.

- كيف تنظر إلى الحركات الإسلامية المنتشرة في كل البلدان العربية والإسلامية؟
أركون: الناشطون في الحركات الإسلامية مواطنون يتعاملون مع الدولة، وعندما لا يرضون بالنظام القائم لهم حق إنشاء حزب، يدخلون به في معارضة سياسية، وهذا ما فعلوا. ولكن بما أن المشروعية غير موجودة لا يمكنهم أن يأتوا ببديل، كما أن الدولة فشلت في البحث عن المشروعية والاهتمام بها. هؤلاء الناشطون الإسلاميون ينتمون إلى نفس المجتمع والمسيرة التاريخية ويحملون نفس الجهل للمشروعية الإسلامية. فهل هناك مشروعية إسلامية أجمع عليها المسلمون كلهم؟

طبعا لم يحدث ذلك أبدا، فمنذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ليس هناك مشروعية جامعة، فأهل السنة والجماعة يرفضون الشيعة أي: من يسمون أنفسهم أهل العصمة والعدالة وأهل السنة يقولون أنهم يعرفون السنة الصحيحة كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والجماعة تكون من المهتمين وتتبعهم والذين لا يتبعون هذا يعتبرون خارجين عن المشروعية الإسلامية، إن هذا كان شائعا في القرون الوسطى ونحن في القرن 21، ومع ذلك بقينا في النمط الخاص بالقرون الوسطى، حيث كان كل دين يعتبر هو الدين الوحيد الذي هو على حق لما ورد في القرآن، ولكن في القرآن: الإسلام دين حق والإسلام انقسم بسبب انقسام الكتل الإسلامية، وهناك مشروعيات توصف بالإسلامية.

- هل الصراع بين السنة والشيعة يبقى في نظرك صراع جهلة في القرون الوسطى أم صراع سياسي مستمر؟
أركون: هو صراع دموي، وحدث أن ساد الدم في كل القرون بين الفئتين بسبب الصراع الفكري. خلال 60 سنة الأخيرة عانينا باستمرار من هذا المأزق، ورغم ذلك لم نسمع مسلما يقول بأننا في مأزق.

- في ظل هذه الفوضى من الصراعات ما هو الحل برأيك؟
أركون: الحل هو أن نذهب إلى السربون وندرس التاريخ الإسلامي هناك، وليس في جامعة قسنطينة التي بنيناها بالملايير ومنحناها للشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، ليكون رئيس مجلسها العلمي.

- أفهم أنك كنت ضد استقدام الشيخ الغزالي رحمه الله؟
أركون: نعم كنت ضد استقدامه ليرأس جامعة لأنه لم يدرس التاريخ بصفة عامة، فهو داعية يروي فقط الأخبار التي كانت تروى في القرون الوسطى في حين همش الشيخ حماني. ومعروف أن الأخبار فيها الصحيح والمختلف فيه عند المؤرخ الذي يدقق النظر في تركيب الجمل واستعمال المعجم العربي، ومع ذلك فالشيخ حماني هو الآخر ليس جديرا بتولي جامعة قسنطينة لأنه لم يقرأ التاريخ، لكن هناك العديد من المؤرخين الجزائريين الأكفاء الذين يحق لهم تولي جامعة قسنطينية ومجلسها العلمي. فالمطلوب مؤرخ ينطق بالخطاب التاريخي المدقق.

- من استقدم الشيخ الغزالي رحمه الله هو الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، هل أفهم أنك تعتبر تولي الغزالي المجلس العلمي لجامعة قسنطينة من أخطاء الشاذلي بن جديد؟
أركون: لا، ليس المشكل هنا، بل الجامعة بنيت بالملايير لتنفع المواطنين بدراستهم فيها، فكيف يسير الجامعة المؤمنون فقط؟ لا يمكن أن يخرج الشبان من السياج الدوغماتي، فالشيخ حماني أو الشيخ شيبان يخطبان في السياج الدوغماتي ولا يخطبان في الساحة المفتوحة، يحترمان فقط الأصوات التي تنطق باسم الإسلام دون غيرهم. هذا خطاب قد يقع في الخطأ طبعا وعلى المؤرخ أن يصحح أخطاء كل فرقة دون أن يحكم على من هو صحيح أو خاطئ.

- بصراحة هل التاريخ عندنا في الجزائر احترم بالقدر الكافي؟
أركون: هناك أساتذة عندنا في الجزائر تكوَّنوا جيدا وهم أقلية، لكنهم يعملون منفردين، أي أنهم لا يعملون كجماعة تجتمع على احترام المناهج التاريخية عندما يعلمون الطلبة وألا يكونون مختلفين. هناك مجموعة دوغماتية وأخرى وسطية وأنا تكونت مع المؤرخين العلمانيين، وأعتقد أن العلمانية هي الحياد، فالمؤرخ لا ينحاز إلى أي مذهب أو فرقة أو إلى أي دين.

- هل جمعتك لقاءات مع الدكتور أبو القاسم سعد الله؟
أركون: لقاءات كثيرة جمعت بيني وبين مؤرخين محترمين في ندوات تاريخية.

- هلا ذكرت لنا بعض هؤلاء؟
أركون: من الجيل الحالي لا أعرف أحدا، أما من الجيل السابق خاصة في التاريخ الإسلامي هناك الشيخ أبو عمران الذي تخرج من جامعة السربون وقدم أطروحته هناك، ولكن الآن هو يحترم المبادئ التي تفرضها الوظيفة.

- ممكن أن يفهم القارئ أنك ضد اللغة العربية
أركون: هناك من يفهم ذلك، لكنني أدافع عن اللغة العربية من الجهل الذي نعيشه، وأنا أفنيت عمري لإثراء اللغة العربية وهم يقولون أنني بربري ضد اللغة العربية.

- هل لك أن تفسر لنا ما تسعى إليه من خلال الكشف عن ما تسميه "الإسلاميات التطبيقية" في مقابل "الإسلاميات الكلاسيكية"؟
أركون: إن تقنيتي في التأويل هي الحفر في الوثائق والنصوص والكشف عن مكنوناتها ومكبوتاتها، وأسعى إلى الكشف والفهم والتفسير في سبيل التنوير، فالتعدد المعرفي هو الذي أكسبني رؤية وموقفا خياريا، وهو من مهام المثقف العربي المسلم، وقد يفاجأ البعض في أنني أعلق بوضوح، ولم أتأثر بفكر مفكر أو فيلسوف غربي، بقدر ما أتعامل مع ذلك المنبع الفكري الغربي بتفتح، أما تأثري الوحيد فكان بأبي حيان التوحيدي الذي أعتبره أخي التوأم ويمكن أن يحرقوني معه فلا أعترض.

اجمالي القراءات 6345