نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية تقريرًا لميريام برجر، مراسلة الشرق الأوسط والشؤون الخارجية، وآدم تايلور، مراسل الصحيفة الذي يغطي الشؤون الخارجية، حول السلاح المفضل للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي يستخدمه في تصفيه معارضيه، في إشارة إلى الحادثة التي تعرَّض لها زعيم المعارضة الروسية، أليكسي نافالنى، بعدما ظهرت عليه أعراض التسمم وهو على متن رحلة جوية عائدة إلى موسكو من سيبيريا.
وفي مستهل تقريرهما، ذكر المراسلان أنه في عام 1453م، جلس ديمتري شيمياكا، دوق موسكو الأكبر، لتناول وجبة عشاءٍ مكونة من الدجاج. وبعد ذلك، ظل الدوق يعانى من الألم لمدة 12 يومًا، ومن ثم أسْلَم الروح. يقول المؤرخون إن الطاهي، الذي حصل على رشوة من أحد الخصوم، وضع الزرنيخ للدوق في الوجبة التي تناولها.
نمط راسخ
يشير التقرير إلى أن قتل الأعداء بالسم أصبح أمرًا غير مرغوب فيه بوجه عام. إلا أن التهديد ما يزال قائمًا ومعمولًا به في روسيا، وخاصةً ضد منتقدي الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المعروفين. ومحاولة القتل بالسم المشتبه بها التي تعرَّض لها زعيم المعارضة، أليكسي نافالني، هذا الأسبوع توافق النمط الراسخ للتعامل مع المعارضين. وكان نافالني البالغ من العمر 44 عامًا قد أحس بالتعب يوم الخميس بعد أن صعد على متن طائرة في مطار سيبيريا. وهو الآن في غيبوبة، ويقول مساعدوه إنه تعرض لمحاولة قتل بالسم، لكن المسؤولين نفوا ذلك وعارضوا نقله إلى الخارج لتلقي العلاج في بداية الأمر.
وربما يبدو أن طريقة القتل بالسم عفا عليها الزمن، خاصة عندما نعلم أن منتقدين آخرين للكرملين ماتوا بالرصاص. لكن الغموض والخداع اللذين تعززهما طريقة القتل هذه (بعد وقوع القتل) قد يكونا سببًا في استمرارية استخدامها. يقول مارك جالوتي، مدير شركة مايك إنتيليجانس، ومقرها لندن: «افترض أن نظامًا حاكمًا لديه استعداد لقتل الأعداء في الداخل والخارج، فعليه أن يحدد أولوياته؛ سهولة التنفيذ، أم دقة التنفيذ، أم الاستعراض والمبالغة في التنفيذ. وبالنسبة للخيارين الثاني والثالث، غالبًا ما يكون السم رهانًا جيدًا لتحقيق الهدف». ويشير منتقدو الحكومة الروسية إلى بوتين، الجاسوس السوفيتي السابق، بصفته الشخص الذي يتحمل المسؤولية النهائية عن قتل خصومه.
وفي حين أن هناك أدلة قليلة تشير إلى ارتباط الرئيس الروسي ارتباطًا مباشرًا بحالات القتل بالسم، يجادل كثيرون بأنه يُشجِّع على خلق أجواءٍ من الخروج على القانون، حيث يشعر الحلفاء بأن مثل حالات القتل هذه لا يُلتفَت إليها على الأقل. ويقول جون سيفر، رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) السابق في موسكو: «سواء أمر بوتين بنفسه بالقتل بالسم أم لا، يقف بوتين وراء أي جهد وكل جهد للحفاظ على السيطرة على الأوضاع من خلال الترهيب والقتل».
محاولات عديدة والطريقة واحدة
ولفت التقرير إلى أن هناك أعداءً كُثُر لنافالني. لكن حالات القتل بالسم تتطلب معرفة متخصصة وتخطيطًا معقدًا. كتبت تاتيانا ستانوفايا، الباحثة غير المقيمة في مركز كارنيجي بموسكو، في منشور عام على تطبيق «تيليجرام» قائلةً: «بغض النظر عما إذا كانت هذه الواقعة محاولة قتل أم مجرد تكتيكات للتخويف، دائمًا ما ترتبط حالات القتل بالسم بالأجهزة الأمنية بطريقة أو بأخرى». وفي عام 2004م، وخلال فترة ولاية بوتين الأولى بصفته زعيمًا لروسيا، ادَّعت الصحافيَّة الاستقصائية، آنا بوليتكوفسكايا، أنها تعرَّضت لمحاولة قتل بالسم عمدًا بعد احتساء كوبٍ من الشاي على متن رحلة طيران داخلية. ولكنها نَجَت. وبعد أقل من عامين، قُتلت بوليتكوفسكايا بالرصاص خارج شقتها في العاصمة الروسية موسكو. وعلى الرغم من صدور حكم المحكمة على خمسة رجال في نهاية المطاف من جرَّاء ارتكابهم جريمة القتل، لم تُوجَّه أي اتهامات إلى مَن أمر بذلك.
ويؤكد الناشط المعارض فلاديمير كارا مورزا جونيور أنه تعرَّض لمحاولة قتل بالسم مرتين؛ في عامي 2015 و2017م. وقد أُصيب بفشل كلوي حاد في المرة الأولى، ووُضِع في غيبوبة مستحثة طبيًّا في المرة الثانية. وكتب كارا مورزا مقالَ رأيٍ بصحيفة «واشنطن بوست» قائلًا: «إلى جانب سادية طريقة القتل هذه؛ إذ ينجم عنها ألم شديد، وآثار صحية دائمة، وطريق طويل وشاق لإعادة التأهيل في حالة النجاة والبقاء على قيد الحياة، توفر للسلطات إمكانية الإنكار المقبول».
ونُقل الناشط بيوتر فيرزيلوف إلى برلين لتلقي العلاج، بعد إصابته بمرض عضال في عام 2018م. وألقى باللوم على السلطات الروسية التي نَفَت تورطها في ذلك. واشتبه الأطباء الألمان في أنه تعرَّض لمحاولة قتل بالسم، لكن لم يُعْثَر على أي دليل لإثبات وقوع هذه المحاولة. وكتب فيرزيلوف على موقع «تويتر» يوم الخميس: «كانت الأعراض التي شعرتُ بها في الساعات الأولى من محاولة قتلي بالسم مُشابِهة جدًّا لما يحدث مع نافالني الآن». وعلى غرار ما حدث مع فيرزيلوف، يأمل نافالني أن يتلقى العلاج في برلين. ولكن حتى لو ذهب ومكث هناك، فلن يَنْعم بالأمان بالضرورة.
مادة البولونيوم 210
وفي عام 2006م، احتسى الجاسوس الروسي السابق، ألكسندر ليتفينينكو، الشاي أثناء اجتماع مع عميلين روسيين سابقين آخرين في فندق بوسط العاصمة البريطانية لندن. وكان الرجل البالغ من العمر 43 عامًا يعيش في المنفى في بريطانيا منذ عام 2000م بعد أن أصبح من منتقدي بوتين. وبعد فترة وجيزة من هذا اللقاء، بدأ المرض يجد طريقه إلى ليتفينينكو الذي دخل المستشفى لمدة ثلاثة أسابيع. قال أميت ناثواني، عضو الفريق الطبي المعالج لليتفينينكو، لـ«بي بي سي»: «دُمِّرت أعضاؤه الحيوية على نحو تسلسلي».
وخلُص المحققون البريطانيون في وقت لاحق إلى أن ليتفينينكو قد قُتِل بالسم باستخدام مادة البولونيوم 210 المشعة، مما أدى إلى قتله بالبطيء. وقد توفي بفِعْل متلازمة الإشعاع الحادة. كما خلُص تحقيق بريطاني إلى أن عملاء روسًا كانوا السبب وراء وفاته، وأن بوتين وافق على الأرجح على توجيه هذه الضربة إليه. وبدوره نفى الكرملين ذلك.
ووقعت محاولة روسية أخرى مشتبه بها للقتل بالسم على الأراضي البريطانية بعد 12 عامًا من ذلك. ونجا الهدف الظاهر، الجاسوس الروسي السابق، سيرجي سكريبال، من الموت، ولكنه ظل مريضًا هو وابنته من جرَّاء غاز نوفيتشوك، وهو عبارة عن مادة سريعة التأثير وتسبب شللًا في الأعصاب، وتوفي رجل آخر لا صلة له بهما.
واختتم المراسلان تقريرهما بقول أندريه سولداتوف، الصحافي الروسي الذي شارك في تأليف كتاب عن المنفيين الروس، إن موسكو وحلفاءها استخدموا السم لاستهداف المعارضين في الخارج خلال الحرب الباردة. وأوضح قائلًا: «لقد طوَّر جهاز الاستخبارات السوفيتية (كيه جي بي) القديم هذه الاستراتيجية حتى بلغت حد المثالية. والسم فريد من نوعه؛ لأن ضحيته لا يعاني وحده، بل يشاركه الأقارب والأصدقاء تلك التجربة المروعة لمعاناة الأحباب»، تمامًا كما يفعل الجمهور عند متابعة القصة في وسائل الإعلام.