حسنا، لأول مرة تقريبا منذ بداية الأزمة في ديسمبر/كانون الأول الفائت، تظهر أخبار يمكن حقا أن نقول إنها جيدة، في الواقع هي أخبار جيدة لدرجة أن بوريس جونسون، أحد أكثر الأصوات تشاؤما في إعلاناته منذ بداية الأزمة، صرّح أنه لا يمكن أن يكون واثقا بنسبة 100% من وصول اللقاح قبل نهاية العام أو في العام المقبل، لكنه -أخيرا- لديه أمل في ذلك.
جاء ذلك إثر صدور دراسة(1) أخيرة من دورية "ذا لانسيت" واسعة الشهرة تعرض نتائج المرحلة الثانية من التجارب الخاصة بلقاح جامعة أوكسفورد بالتعاون مع شركة أسترا زينيكا، والتي أُجريت على أكثر من ألف متطوع، وتقول إن جرعة واحدة من هذا اللقاح تمكّنت من إحداث استجابة مناعية في 90% من الأفراد الذين حصلوا على اللقاح، ومع الجرعة الثانية من اللقاح أصبحت النتائج 100%، ما يعني إمكانية كاملة لهذا اللقاح في مواجهة فيروس كورونا المستجد.
قبل استكمال طريقنا مع هذا النصر المبدئي دعنا نتحدث قليلا عما يعنيه اللقاح(2) من الأساس، حينما يهاجم فيروس ما جسمنا فإن الجهاز المناعي الخاص بنا يتعامل مع هذا الهجوم بآليتين، الأولى هي العمل المباشر على إنهاء هذا الهجوم، والثانية هي العمل على نسخ معلومات هذا الغازي القادم من الخارج، وبناء على تلك المعلومات يقوم الجهاز المناعي ببناء خط دفاعي متجهّز لأي هجوم مستقبلي من قِبل النوع نفسه من الفيروسات.
إذا تعرضت لإصابة بهذا الفيروس لأول مرة، فإن جهازك المناعي يأخذ وقتا ليتكيّف مع الوضع الجديد ويتعامل معه، وفي أثناء ذلك تظهر أعراض المرض، مثل الحمى أو السعال أو ارتفاع درجات الحرارة، والتي هي أعراض لهذا الصراع بالداخل، لكن في المرة التالية حينما يدخل الفيروس إلى جسمك يكون الأخير متجهزا له، فيتعامل بسرعة.
يهدف اللقاح إلى خلق هذا النوع من المناعة التكيفية ضد الفيروس دون أن تتعرض لإصابة أولية به، وذلك عن طريق استثارة جهازنا المناعي لنوع محدد من الفيروسات -كورونا المستجد في هذه الحالة- فيندفع لتجهيز نفسه لإصابة مستقبلية، لكن على بساطة الفكرة التي يمكن من خلالها خلق تلك المناعة، فالأمر دقيق جدا ومعقد للغاية.
لقاح أوكسفورد على سبيل المثال، ويسمى "ChAdOx1 nCoV-19″، يبدأ من فيروس آخر يتسبّب بنزلات البرد لحيوان الشيمبانزي، يُعدَّل هذا الفيروس جينيا بحيث لا يتمكّن من نسخ نفسه داخل جسم الإنسان ولكن يتسبّب في أعراض جانبية قليلة، بعد ذلك يُنسَخ جزء من الحمض النووي الخاص بكورونا المستجد إلى هذا الفيروس.
نعرف أن الحمض النووي هو الخطة الخاصة ببناء جسم أي كائن حي، على سبيل المثال فإن المعلومات الخاصة بلون أعيننا وشعرنا كانت موجودة في الحمض النووي الخاص بنا بينما كنا مجموعة من الخلايا في بطون أمهاتنا، خلال نموّنا تُترجم تلك المعلومات إلى صفات حقيقية. الأمر كذلك في الفيروسات، حينما ينقل الحمض النووي الخاص بقطعة محددة من فيروس كورونا المستجد إلى فيروس آخر، فإنه يُترجم إلى هذه القطعة في الفيروس الآخر، وهي بروتين الحَسَكَة3 (Spike Protein)، وهو بروز على سطح الفيروس يعطيه الشكل التاجي، حينما يدخل "كورونا المستجد" عبر أنف أحد المرضى فإنه يرتبط بالمستقبلات الموجودة في خلايا مجرى التنفس وصولا إلى الرئة عن طريق هذا البروتين.لكن لأن لقاح أوكسفورد لا يسمح له بالتناسخ داخل جسم الإنسان فإننا بحاجة إلى جرعة كبيرة منه لإحداث استجابة مناعية مناسبة، الأمر الذي -بالتبعية- قد يُسبِّب أعراضا أكثر وضوحا، لذلك كان تركيز الدراسة الأخيرة على فحص الأعراض الخاصة بالمرض، والتي ظهر أنها تتمثّل في ارتفاع درجات الحرارة والصداع فقط، الأمر الذي كان من السهل التعامل معه عبر أقراص الباراسيتامول (البنادول تجاريا)، لذلك فإن الدراسة الجديدة كانت نصرا كبيرا في هذه الناحية.
لقاح أوكسفورد الآن دخل إلى المرحلة الثالثة من التجارب، سيخضع للقاح نحو 40 ألف شخص في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وجنوب أفريقيا والبرازيل، مع مجموعة من الاختبارات المخصصة للأطفال، من المفترض أن يترك الشخص لحين تأتيه الإصابة بالفيروس بشكل عشوائي، هذا الأمر يمكن أن يحدث بسهولة في الدول التي تختبر عدد إصابات هائلا مثل الولايات المتحدة والبرازيل، مع حديث عن إمكانية أن يعمل البعض على إصابة نفسه بالفيروس متعمّدا، لكن هذا الأمر ما زال محل جدل.
حسنا، بقي أن ننتظر النتائج، لكننا لا ننتظر نتائج لقاح واحد فقط، في الواقع فإن المرحلة الثالثة للتجريب على البشر تحتوي الآن على أربعة لقاحات، منها اثنان صينيان، الأول هو لقاح شركة سينوفارم (مؤسّستا بيكين ووهان للمنتجات البيولوجية تعملان في خطين منفصلين)، وقد تمكّن في المرحلتين الأولى والثانية4 من إنتاج مناعة في 100% من الحالات سواء عبر جرعة واحدة أو جرعتين، وقد دخل إلى المرحلة الثانية في ووهان وبكين والإمارات، ويعتقد أنه يمكن أن ينتج من هذا اللقاح نحو 220 مليون جرعة سنويا فور اجتيازه للمرحلة الثالثة وحصوله على الموافقات الدولية المطلوبة.
اللقاح الصيني الآخر خاص بشركة سينوفاك، وهو يشبه رفيقه السابق في أن كلًّا منهما يعمل بالطريقة القديمة، أي استخدام صورة غير فعالة من فيروس كورونا المستجد لاستحداث استجابة مناعية، كانت نتائج هذا اللقاح ناجحة5 في 90% من الحالات، وحاليا يخضع عدة آلاف من المرضى في البرازيل تحديدا لاختبارات المرحلة الثالثة للقاح.
على جانب آخر تماما، تحاول مؤسسة موردوخ الأسترالية للأطفال أن تنظر في فرضية ظهرت منذ عدة أشهر وما زالت تلقى قبولا إلى الآن، تقول تلك الفرضية إن لقاح السل الشهير المسمى "BCG"، ويعتمد على جرثومة حية لكن أُضعِفت، كان له علاقة بانخفاض نسب الإصابات -أو شدة الأعراض- في البلاد التي اعتادت بشكل دوري على تطعيم أطفالها بهذا اللقاح.
مع ظهور تلك الفرضية، ولأن اللقاح معروف ومستخدم من قبل، بدأت المؤسسة في تجاربها6 على أكثر من 4000 متخصص رعاية صحية في المستشفيات الأسترالية، على أمل أن تظهر النتائج الأولية للقاح بحلول نهاية 2020، لكن النتائج النهائية ستظهر في 2022.
أما في المرحلة الثانية من التجارب فإن أكثر اللقاحات لفتا للانتباه كان لا شك لقاح شركة موديرنا الأميركية، يتبع هذا اللقاح آلية إنتاج جديدة تماما تعتمد على استنساخ نوع الحمض النووي الريبوزي (mRNA) المرتبط بالفيروس ثم نقله إلى جسم الإنسان بحيث تعمل خلاياه نفسها على إنتاج أجزاء الفيروس المتسببة في إثارة الخلايا المناعية، إحدى أهم مزايا هذه الطريقة هي قدرتها على إنتاج أعداد أكبر من اللقاحات في فترة زمنية قصيرة.
لذلك فإن صدور نتائج نجاح المرحلة الأولى للقاح موديرنا، ويُسمى "mRNA-1273″، في دراسة أخيرة في دورية "نيو إنجلاند جورنال أو ميدسن"7 واسعة الشهرة قبل نحو أسبوعين كان فاتحة خير بالنسبة لعاقدي الأمل على هذا اللقاح، جاءت النتائج لتقول إن الأعراض الجانبية -في عيّنة قدرها نحو 50 شخصا تلقّوا اللقاح- كانت خفيفة، تتدرج من شعور بالرعشة إلى الصداع والتهاب في موضع الحقن، ازدادت معدلاتها في الجرعة الثانية لكنها كانت خفيفة إلى متوسطة يمكن التحكم بها.
أشارت النتائج كذلك إلى أن متلقي اللقاح أحدثوا استجابات مناعية بنسبة 100% من الجرعة الأولى، كذلك -مثل لقاح أوكسفورد- لم يتسبب اللقاح فقط في استثارة الجسم لبناء أجسام مضادة، والتي عادة ما تكون قصيرة العمر، بل أيضا أثار اللقاح الجسم لإنتاج خلايا تائية تتجهز لهجوم الفيروس في أي وقت، ويعتقد أن هذا النوع من الخلايا يحقق استجابة مناعية لفترة زمنية أطول. بينما نتحدث، فإن هذا اللقاح في المرحلة الثانية ويتجهز خلال أقل من شهر للدخول إلى جانب رفاقه في المرحلة الثالثة من الاختبارات.
إلى جانب لقاح موديرنا، فإن هناك أكثر من 15 لقاحا آخر في المرحلة الثانية من التجريب على البشر، وتتجهّز قريبا للدخول إلى المرحلة الثالثة، وفي المجمل فإن هناك أكثر من 140 لقاحا مقترحا إلى الآن لكورونا المستجد، المميز في الأمر أن الكثير منها يستخدم آليات جديدة تماما ومبتكرة في بناء اللقاح، في الواقع يستخدم البشر كل ما أوتوا من تكنولوجيا حيوية في هذه التجربة الأكبر في تاريخ الإنسانية جمعاء، تجربة البحث عن لقاح.
يساهم حجم التمويل الضخم الذي أودع في البحث العلمي الخاص بلقاحات كورونا المستجد في تسريع هذا النطاق بشكل هائل8، أو قل إن اللحظة السحرية التي كان علماء اللقاحات ينتظرونها قد جاءت في اليوم الذي أعلن فيه "كوفيد-19" وباء عالميا، كان الكثير منهم يتجهز -لكن ببطء شديد- لتلك اللحظة، كانوا يدرسون الفيروسات التاجية بدقة ويتجهزون بتقنيات وفرضيات حديثة مبتكرة، وما إن جاءت حتى انفتحت أبواب معاملهم على مصراعيها، وحصلوا على كل المصادر الممكنة، وتحولوا فجأة إلى البطة الذهبية بالنسبة للشركات والدول.
تدعو تلك النتائج للتفاؤل لا شك، لكنها للأسف ما زالت أولية، ونحن بحاجة إلى انتظار نتائج المرحلة الثالثة، والتي قد تبدأ في الظهور بحلول نهاية هذا العام، لكن ذلك غير مؤكد، إلا أن البعض -مثل أنطونيو فاوتشي، عضو في فريق عمل البيت الأبيض لفيروس كورونا والوجه الاعلامي الأميركي الأشهر- يرى أنه قد يمر عام إلى عام ونصف قبل أن يأتي يوم نتعامل فيه مع كورونا المستجد دون رعب، من شدة التوتر والقلق الذي أصابنا منذ ديسمبر/كانون الأول 2019، تبدو تلك اللحظة وكأنها لن تأتي، لكنها ستفعل وإن طال الأمد، تلك هي طبيعة الأشياء.
بعد ظهور نتائج المرحلة الثانية، سيبدأ إنتاج اللقاح بكميات كبيرة، وسيبدأ التوزيع بأولويات تتضمن أن يتلقّى العاملون بنطاق الرعاية الصحية اللقاح أولا، ثم الفئات الأكثر عُرضة في المجتمع، وهي كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، ثم يبدأ التوزيع على كل الناس، آلية ذلك عالميا غير واضحة بعد، لكن الكثير من الدول بدأت بالفعل في حجز دورها في أكبر طابور في التاريخ.
لكن ما يدعو للتأمل حقا، في خضم تلك المعركة الإنسانية الكبيرة، هو أنه على قدر الألم يأتي الإبداع، قتل هذا الفيروس نحو سبعمئة ألف إنسان في سبعة أشهر فقط، وحبس عشرات الملايين منا مع القلق والتوتر في حجرة واحدة، ثم ها هو ذا يتسبّب في طفرة هائلة في علوم اللقاحات، الأمر الذي سيساعدنا مستقبلا على تطوير لقاحات أكثر فاعلية لأمراض فيروسية وبكتيرية شديدة تقتل آلاف البشر سنويا. من الموت تخرج الحياة!