كتبنا من قبل عن مسلمى أمريكا الذين شبّوا عن الطوق (١٤/٢/٢٠٠٩ الراية القطرية). وفى الأسبوع الماضى شاركت فى لقاءات لمصريين ـ مسلمين وأقباطًا - فى أمريكا الشمالية حدث ويحدث لهم نفس الشىء. أى أنهم بمجرد استقرار أحوالهم فى الوطن الجديد، فإنهم وأبناءهم يبدأون فى الاهتمام بالشأن العام سواء فى الوطن الجديد أو الوطن الأم.
ومما تفعله أمريكا بمن يفد إليها أو ينشأ فيها، اكتساب القدرات التنظيمية، حتى إنه يُقال أن «العبقرية» الأمريكية هى أساساً القدرة على الت∾نظيم، فالفرد الأمريكى «عادى» للغاية ـ فهو متوسط القدرات فى كل شىء، والشاهد على ذلك، مثلاً، الدرجات التى يحصل عليها الأطفال والطلبة الأمريكيون فى الاختبارات الدولية. والتى يتفوق عليهم فيها أقرانهم من عشر دول أخرى، منها اليابان وسنغافورة وعدة بلدان أوروبية أخرى.
ومع ذلك فإن أمريكا هى البلد الأول فى إحراز جوائز نوبل فى مختلف العلوم. والتقدم فى هذه الأخيرة، كما يقول أينشتاين نفسه، هو ١٠ فى المائة إلهام فردى (يتساوى فيه كل البشر) وتسعون فى المائة عمل منظم دؤوب.
وهنا تكمن العبقرية الجماعية الأمريكية، وهى التنظيم والمتابعة، أو ما نسميه نحن «المُثابرة»، لذلك ليس صدفة أن معظم الحائزين على جائزة نوبل والجوائز العالمية المُشابهة هم أمريكيون من أصول أجنبية ـ مثل المصرى الأمريكى أحمد زويل - فهؤلاء تظهر وتثمر عبقرياتهم (إلهامهم) فى بيئة علمية منظمة.
فقد أصبح البحث العلمى يحتاج إلى تنظيم ـ فى تمويله، والمعامل اللازمة له، والمؤتمرات التى تعرض وتفنّد فيها الأفكار والنتائج، والمجلات العلمية التى تتولى النشر والتوزيع، أى أن ما يقوم به العالم الفرد، مهما كانت عبقريته (إلهامه) هو جزء واحد فقط فى سلسلة من الحلقات التى تسبقه وتلحقه.
لذلك حينما يجتمع المصريون فى أمريكا، فإن المُراقب مثلى، الوافد حديثاً (بحكم المنفى)، يُلاحظ فروقاً نوعية فى أدائهم، مُقارنة بما يحدث فى مصر، من ذلك أنه خلال اجتماع يوم واحد (٢٨/٢/٢٠٠٩)، استطاعت مجموعة من خمسة عشر فرداً، من رؤساء جمعيات وروابط المصريين فى أمريكا الشمالية أن يُنجزوا الشىء الكثير، وهو ما يستحق التنويه فى بقية هذا المقال.
كان مُنسقا الاجتماع كهلين مُخضرمين من المصريين الأمريكيين، هو الدكتور أمين محمود، والمُحامى (ضابط الشرطة السابق) عُمر عفيفى صاحب كتاب «عشان ماتنضربش على قفاك». وكان ساعدهما الأيمن شابًا نابهًا، من الخلدونيين السابقين، هو شريف منصور، أما المنظمات التى شارك رؤساؤها أو ممثلوها فى اللقاء، فهى:
أصوات من أجل مصر ديمقراطية.
التجمع الوطنى للأقباط بأمريكا.
تحالف المصريين الأمريكيين.
المركز العالمى لدراسات القرآن الكريم.
مركز حقوق الناس.
منظمة صوت النوبة.
مركز ابن خلدون، بأمريكا الشمالية.
وساد جو الاجتماع روح إيجابية محسوسة، أشار المتحدثون إليها مراراً، ومرجعها انتخاب رئيس أمريكى جديد، هو باراك أوباما ذو الأصول الأفريقية المسلمة، والإفراج عن د. أيمن نور، رئيس حزب الغد، قبل اللقاء بعشرة أيام، وبالفعل كان من أول ما فعله المجتمعون، هو إرسال برقيات تهنئة للرئيس الأمريكى ورئيس حزب الغد.
كانت أجندة الاجتماع تدور حول طرق الدفع من أجل الإصلاح السياسى فى مصر، حيث ما زال النظام يُراوغ، بإرسال إشارات إصلاحية، بينما فى الواقع يتراجع، ويستمر فى تنكيله بأصحاب الأقلام الحُرة، والمدونين، ونشطاء الديمقراطية وحقوق الإنسان.
كما أنه بطريق الصدفة البحتة تزامن اللقاء مع وصول جمال مبارك، نجل الرئيس، فى زيارة لواشنطن، ثم نيويورك، يتحدث فيهما تباعاً بكل من مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية فى الأولى، ومجلس الشؤون الخارجية فى الثانية.
وأشار بعض المطلعين على بواطن الأمور فى واشنطن، إلى أن خبر الزيارة ظل سراً مكتوماً إلى ما قبل حدوثها بأربعة أيام فقط. وأشار بعضهم إلى أن مُحاولات حضور حديثى جمال مبارك من المصريين الأمريكيين، قيل لهم بلباقة إن الضيف هو الذى حدد صفة من يحضرون حديثه، وأنه اعتذر عن عدم دعوة أى مصريين من الجالية.
ومع ذلك فقد تطرق المشاركون فى اللقاء إلى زيارة الرئيس حسنى مبارك نفسه والتى كان مقررًا لها شهر أبريل. وقيل ضمن ما قيل فى هذا الشأن أن السيناتور «جون كارى» رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ كان قد زار مصر قبل عشرة أيام والتقى الرئيس مبارك، وأبلغه رسالة شفوية من الرئيس أوباما فحواها، أن استقباله فى واشنطن ودياً،
يتوقف على مجموعة من الإصلاحات، والقرارات الرئاسية المصرية، فى مقدمتها الإفراج عن أيمن نور، وحيث لم يُصدق أحد فى أمريكا الرسمية والشعبية الرواية المصرية الرسمية التى دفعت بالتزوير، وأن الأسباب الحقيقية للتنكيل به هى أسباب سياسية من الألف إلى الياء.
ثم جاءت افتتاحية «الواشنطن بوست» فى نفس زيارة «جون كارى» (١٦/٢/٢٠٠٩)، والتى حملت تحذيراً إعلامياً واضحاً للرئيس أوباما بعدم استقبال الرئيس مبارك فى البيت الأبيض، ما لم يُفرج عن أيمن نور، ويكف عن المُلاحقات القضائية لسعد الدين إبراهيم، والشروع فى تنفيذ بعض، إن لم يكن كل، ما كان قد وعد به فى حملته الانتخابية الرئاسية الرابعة.
وجاء الإفراج عن أيمن نور بعد ذلك بيومين (١٨/٢/٢٠٠٩) ليؤكد هذه التكهنات. وبصرف النظر عن سبب أو أسباب الإفراج، فإن المصريين فى أمريكا، مثلهم مثل أخوانهم فى مصر، فرحوا كثيراً بقرار الإفراج. وهم يتمنون، أو يتوقعون أن يمضى النظام فى سيناريو الإصلاح السياسى هذا، وهو ما يشمل الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإنهاء العمل بقانون الطوارئ، واستعادة استقلال القضاء، وإطلاق حُرية تكوين الجمعيات بلا إخطار، وإطلاق حُرية الإعلام، بإلغاء وزارته، وجعل القضاء هو الفيصل فيما يحدث إعلامياً أو منازعات المجتمع المدنى.
وكان من أهم ما اتفق عليه المجتمعون فى واشنطن هو استحداث وسيلة إعلامية، توصل أصواتهم إلى الداخل المصرى، ومُبادرة بعض رجال الأعمال لتمويلها، وبعض شباب الإعلاميين لتشغيلها.
كذلك انتهى اللقاء بإبلاغ كل قراراته للرئيس مبارك، فإذا لم يُبادر بتنفيذ ما لا يحتاج للرجوع للجهات أخرى، فإنهم سينظمون مُظاهرة احتجاجية حاشدة أمام البيت الأبيض، وبلير هاوس، حيث يُقيم الرؤساء الضيوف، أثناء زيارته المزمعة لواشنطن.
ومن المسائل الخلافية التى تم التداول بشأنها ملفا الأقباط والإخوان المسلمين، ودور الجماعتين فى مصر المُعاصرة، وكيف تتلاعب الأجهزة الأمنية ونظام الرئيس مبارك بالملفين لإشاعة المخاوف والهواجس بشأنهما فى الداخل والخارج. وتم توزيع نسخ من تقرير لجنة مجلس الشعب لتقصى الحقائق بشأن أول توتر طائفى فى الخانكة (قليوبية) عام ١٩٧٢، والتى كان يرأسها وكيل المجلس، وهو القاضى الشهير، الدكتور جمال العُطيفى، وكان أبرز أعضائها الجيولوجى المصرى الكبير د. رشدى سعيد. وأثار انتباه وحنق المشاركين أن توصيات تلك اللجنة لم تنفذ منها توصية واحدة إلى حينه، أى بعد سبعة وثلاثين سنة منذ أقرها مجلس الشعب.
لذلك قرر المجتمعون أن يلحقوا نسخة من التقرير بمحضر لقائهم يُطالبون الرئيس مبارك شخصياً بتولى هذا الملف لتنفيذ التوصيات، بدلاً من تركه فى يد مباحث أمن الدولة تتلاعب به، مستخدمة الإخوان المسلمين «كفزاعة» للأقباط، وللطبقة الوسطى المسلمة، وللغرب.
تحية للمصريين الأمريكيين لاستمرار اهتمامهم بشؤون الوطن الأم، ولعل هناك حياة لمن تنادون!