أوسلو في 5 مارس 2009
سحر الطاغية لا يعادله في قوته أي نوع آخر من القوى الخارقة، فإذا أضفت إليه نَسَباً فرعونيا يمتد لآلاف السنين فكأنك أصبحت على أعتاب وادي الملوك، أو تتفحص مومياءً لا تعرف إنْ دبّتْ فيها الروحُ من جديد أو نَزَعتْ منك الروحَ لتستبدل بالضيغم فأرا، وبالفهد أرنباً!
والطاغية ليس فقط صورةً معلقة فوق رأس موظف حكومي، أو فلقة تضغط عليها يد غليظة لمخبر جلف، أو خطبة ساذجة ومناهضة للعقل تقوم وسائل اعلامه بتلميعها، وتشذيبها، وتأهيلها لتطارد أذنيك وعينيك في كل مكان، إنما هو معبود في صورة مختلفة عن العبادة التي يعرفها أصحاب الديانات بكافة أنواعها، السماوية والأرضية، الراقية والبدائية، الصنمية والطوطمية!
والعبادة هنا تختلف من شخص إلى آخر، ومن جماعة أو طبقة أو حزب إلى عامة الناس، فالمسميات كثيرة، وأنت قد تعبد الفرعونَ بالصورة التي تحفظ لك مكانتك الاجتماعية، وتتحايل بها على الآخرين، وتقوم بتزييف الركوع والسجود والطاعة والمذلة والمهانة ولعق التراب الذي يسير فوقه الطاغية، لكنك تظل في دائرة التسامح الاجتماعي تجاه ما تقوم به من عمل مخالف للقيم الانسانية الرفيعة، ولكرامتك، ولنفخة الروح التي جعلتك خليفة في الأرض.
قد تلجأ إلى الدين، وتستقطع منه بمساعدة فقهاء السلطة الصورة التي ترضيك، فيوحون إليك أن طاعة ولي الأمر من طاعة الله، وأن الواجب الذي يرضي خالق الكون يحتم عليك الصمت، والسكوت، والصبر، وانتظار الحل السماوي، وعدم اتاحة الفرصة للغوغاء في تفكيك رباط الأمة المقدس، لكن الحقيقة أنك انخرطت في عضوية العبيد الذين يستعذبون الذل، ويتلذذون بالهوان، ويستمتعون بالسوط فوق ظهورهم.
وقد تلجأ بحكم ثقافتك إلى عقل هرب منه الفكر لتحل محله خرافات وخزعبلات وهراء وأمية ذهنية لا تطمح بأكثر من سد الثغرات في جمجمة لو عريّتها أمام الناس لخجلت من نفسك ما بقي لك من عمر، فأنت تبرر للطاغية سطوته، وتدّعي أنَّ العقل يدعوك لعدم المجازفة في مناهضة سيّد القصر خشية وثوب الغوغاء على كرسي الحكم، وتظن نفسك محللا مستنيرا ومسالما تنقذ الوطن بهدوء رؤيتك، والحقيقة أنك تُغرق الوطن عندما تعطل جهازك العصبي المفترض أنه قد انفجر منذ وقت طويل بعد متابعة جرائم سيدك وزعيمك وطاغيتك ضد الانسانية وضد أبناء شعبك.
وقد تلجأ لتبريرات أرنبية تتوهم بها أن عصا الشرطي تكاد تلمس ظهرك، وأن هاتفك مراقَب، وأن زائر الفجر في الطريق إليك ليطرق باب منزلك، وأن الخوف يحميك ويحمي أهلك وأولادك من مصير مجهول، وأن عذاب جهنم أخف من عذاب أجهزة قمع فرعونك، وأن ثمانين مليونا من البشر يعرف أحلامَهم في مناهضة السلطة عدةُ مئات يربطهم من رقابهم رجل وزوجته وابناهما!
وقد تلجأ في العبودية المختارة إلى أحقر الحلول، وأسفل التبريرات، وأحط صور المهانة الانسانية وذلك عندما تجد عذرا لفرعونك، وتراه حكيما أنقذك من خصوم الوطن، وعادلا إنْ لجأت إليه أنصفك، ووطنيا اشترك في حرب بحكم منصبه وليس له فضل يعلو على جندي بغير رتبه قفز فوق النيران ليرفع علم مصر في عبور بطولي رائع، ثم تتسلل رأسُك تحت حذاء ابنه الوارث قبل أن يجلس علي كرسي السلطة، وتتعفر جبهتك ترابا، وتكذب على السماء والأرض مَُّدعيا أن ثمانين مليونا من مواطنيك لا يستطيعون صناعة وريث كالذي وضعه والده فوق رؤوسنا جميعا!
سحر الطاغية لم تبطله آلاف المقالات الصارخة من ابرهيم عيسى والدكتور عبد الحليم قنديل والدكتور أحمد صبحي منصور والدكتور أسامة رشدي والقزاز ومجدي أحمد حسين وفهمي هويدي وعبد الله السناوي والراحل عبد الوهاب المسيري ومئات غيرهم كتبوا بدماء قلوبهم ما لو تم نشر قطرة منه على شعب من شعوب الأرض لانفجرت ثورة شعبية يصغر بجانبها هروب الشاه وتشاوشيسكو وبينوشيه وعيدي أمين دادا ومحمد سياد بري وجعفر النميري وغيرهم ...
وسحر الطاغية لن تبطله أضعافها مقالات ومنشورات ومظاهرات متفرقة تتخلف عنها الأحزاب الكبرى بعد انطلاقها بعدة دقائق، وليس أمامنا لتحرير مصر، وابطال سحر واحد من أكبر مجرمي العصر غير قوة تعادل قوته أو تتفوق عليها!
إنها قدرنا، سواء كانت لنا تحفظات على أحذية العسكر التي يضعها كثيرون منهم في عقولهم بدلا من أقدامهم، لكن الأمل الوحيد هو جماعة وطنية عاشقة لأرض الكنانة، تخرج من ثكناتها، وتنهي عصر مبارك وأسرته وورثته إلى الأبد.
كلنا نعبد الشيطان بصورة أو بأخرى، الصامتون منها، والمبررون لجرائمه، والخائفون من البديل، والمطيعون لولي الأمر، والباحثون عمن يَصلح لحكم مصر غير جمال مبارك، والساخرون من رفض المناهضين لحكمه، ودعاة الصبر وانتظار النصر السماوي قبل الانتصار الأرضي.
كلنا تحت أحذية مبارك وزوجته وابنيهما ولو أقسمنا بأغلظ الايمانات أن ما باليد حيلة، وأننا نَمْلٌ تسحقه أقدام أجهزة القمع، وأننا حشرات لا تساوي عند فرعوننا بصقة واحدة فتغرق فيها.
من لا يعرف من جرائم مبارك غير مئات فقط فهو لا يعرف مصر، ولو أن محكمة الجنايات الدولية استدعته فأحسب أن قضاتها يحتاجون لسبعين شهرا ليقرأوا على مسامعه، وعلى العالم الأصم والأبكم ما تهتز له ضمائر الجماد!
سحر الطاغية صناعة في النفس الانسانية، ولو تعاقب على القصر أسياد و .. وأسياد، فلن يستطيع مستبد واحد أن يجد لنفسه موقعا ثابتا بين أضلع عبيده دون أن يفتحوا له الأبواب، ويعفروا جباههم قبل السجود له!
كلنا، إلا القلة النادرة، نعبد الشيطان، ويسحرنا طغيانه، ونرفض عبادة الواحد القهار ولو بدا ظاهريا أننا نركع ونسجد ونصلي في مساجدنا وكنائسنا، لله العزيز الرحيم.
لن يتطهر المصريون من رجس عبادة الشيطان قبل التمرد، والغضب، والرفض، واعتبار كل واحد منا في حالة ثأر مع الطاغية حسني مبارك!
أيها الأبطال في جيش مصر العظيم، لقد طال انتظارنا لكم، فهل اقتربتم من إذاعة البيان رقم واحد؟
نعترف لكم بأننا عاجزون عن تحرير مصرنا و .. مصركم، ونبحث عن عشاق لمصر في ثكناتكم، فلا تجعلونا نفقد الايمان بأنكم حماتنا، ولستم حُماته، وأن جيش مصر جيشنا، ولاتنسحب عليه مفاهيم السخرة والعبودية والاذلال لفرعوننا، فأنتم أملنا الباقي في إذاعة بيان الكرامة رقم واحد !
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
Taeralshmal@gmail.com