دخل قانون "حماية المدنيين في سوريا" الذي يعرف اختصاراً باسم "قانون قيصر" حيز التنفيذ في 17 يونيو/حزيران الحالي، ليفرض معادلة جديدة على مسار الأزمة السورية، تهدف إلى زيادة العزلة السياسية التي يعاني منها نظام بشار الأسد، وفرض نمط جديد شديد يحكم الحصار المالي والاقتصادي ضده، ومعاقبة حلفائه، بغية إجباره على القبول بالحل السياسي على أساس قرار مجلس الأمن 2254.
يهدف قانون قيصر بشكل أساسي إلى تجاوز التعطيل الروسي المستمر لقرارات مجلس الأمن المتعلقة بالأزمة السورية، من خلال استخدام حق النقض الفيتو ضد جميع المسارات الدولية الساعية إلى إيجاد حل سياسي في سوريا. فقد أمنت هذه الحماية الروسية لنظام الأسد حرية تعطيل جميع المبادرات والمسارات الدولية، وإفراغها من مضمونها والالتفاف عليها، واللعب على كسب عامل الوقت من أجل القيام بالحسم العسكري. هذا التمرد على الإرادة الدولية ما كان ليتم لولا الحماية المطلقة التي أمنتها روسيا لنظام الأسد.
لكن وكما فشلت مساعي النظام وحلفائه في كسر إرادة الشعب السوري ووأد ثورته عسكرياً، فهم اليوم وجهاً لوجه أمام عقوبات واستحقاقات سياسية، سوف يكونون فيها مرغمين على قبول الحل السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254، الذي يقضي بوجود مرحلة انتقالية ليس للأسد ونظامه فيها حصة في الحكم.
ردود فعل نظام الأسد على قانون قيصر
تعليقاً على "قانون قيصر"، قال وزير خارجية نظام الأسد وليد المعلم "إذا كانوا يتوهمون أن مثل هذا الإجراء الأحادي سوف يُخضع سوريا لشروطهم، دعهم يحلمون، لن نرضخ لأي شرط". وتابع "الهدف الحقيقي من قانون قيصر، إلى جانب تجويع الشعب السوري، هو فتح باب لعودة الإرهاب كما كان منذ عام 2011″، متحدثاً عن "تهويل إعلامي وحرب نفسية" حول تأثيرات القانون وتصويره على أنه الضربة القاضية للنظام.
وأضاف: "نحن في تحالف وثيق مع روسيا والموقف الروسي الداعم لسوريا مستمر وهناك تشاور شبه يومي مع موسكو. كما أن الوفد الإيراني الذي زار دمشق قبل أيام أكد أن بلاده لن تترك سورية وحدها".
كما زاد قائلاً: "نرحب بأي خطوة إماراتية من أجل تعزيز العلاقة مع سوريا بصرف النظر عن تحذيرات جيفري".
مصادر من داخل دمشق، ذكرت أن المؤتمر الصحفي الذي نظمه وليد المعلم، تم بطلب روسي وبإطلاع الحاكم إلكسندر يفيموف على نصه مسبقاً. وهدفُ المؤتمر الصحفي كان تبرير إرسال مرتزقة إلى ليبيا بذريعة دعم الجنرال المهزوم خليفة حفتر، ودعوة الإمارات لمواصلة تطبيع علاقاتها مع النظام.
تداعيات قانون قيصر
تداعيات قانون قيصر بدأت تظهر، حتى قبل دخوله حيز التنفيذ، حيث تسبب بأزمة اقتصادية خانقة في مناطق سيطرة النظام داخل سوريا، وأثارت موجة خوف وقلق لدى قطاع واسع من رجال الأعمال والتجار اللبنانيين الذين يتعاملون مع نظام الأسد ويمدونه بأسباب البقاء والاستمرار.
مما لا شك فيه أن قانون قيصر لحماية المدنيين، سيعمل على حرمان النظام من قدر كبير من الدعم الذي يقدمه له حلفاؤه الروس والإيرانيين وغيرهم، وسيخسر الموارد التي يستخدمها في حربه على السوريين، كما سيعمل القانون على تعطيل الحل العسكري بشكل نهائي، وإعادة البوصلة نحو العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة.
وزارة الخارجية الأمريكية أدرجت 39 شخصاً وكياناً على قائمة العقوبات التي يشملها "قانون قيصر"، ووعدت بفرض المزيد من العقوبات خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، على أفراد وكيانات يدعمون نظام الأسد، مما يشير بوضوح إلى أن واشنطن ماضية قدماً في تطبيق هذا القانون.
المبعوث الأمريكي المكلف بالملف السوري جيمس جيفري، أوضح بأن المسار السياسي التفاوضي ما زال متاحاً، وأن قانون قيصر ممكن تجميده في حال توقف النظام عن القتل والاعتقال والتهجير، وقدم خطوات عملية في ملف المعتقلين. وهذا ما يجعل القانون فرصة حقيقية لإنقاذ سوريا، والتحرك نحو حل سياسي فعلي وفق القرارات الدولية بما فيها 2254 وصولاً لانتقال سياسي شامل من شأنه أن يضمن عودة آمنة للاجئين السوريين ويبشر بإعادة إعمار ما دمره النظام وحلفاؤه.
علاقة قانون قيصر بالانهيار الذي يعانيه اقتصاد النظام
لا شك بأن صدور قانون قيصر أسهم في انهيار اقتصاد النظام السوري. لكن الزعم بأنه السبب الوحيد أو الرئيسي في انهيار اقتصاد النظام مجاف للحقيقة ومخالف لأبسط القواعد الاقتصادية.
ثمة عوامل أدت الى انهيار الاقتصاد السوري، منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو سياسي ومنها ما هو إداري.
عوامل اقتصادية
- انخفاض أسعار النفط في السوق الدولية، ما أثر بشكل سلبي على الدول الداعمة للنظام، بسبب اعتمادهم على تجارة البترول بشكل كبير في اقتصاداتهم. وانخفضت على أثره مساعدات إيران النقدية لسوريا.
- خلو البنك المركزي السوري من النقد الأجنبي والذهب، حيث يعتبر وجود احتياطي العملات الأجنبية والذهب الركائز الأساسية التي تستند عليها العملات الوطنية. وقد أصبح البنك المركزي فارغاً من احتياطي النقد الأجنبي، بسبب توقف ايرادات ترانزيت النقل البري والبحري والجوي، وتوقف حركة التصدير، المساهم الأكبر في إيرادات العملات الأجنبية.
- توقف شبه كامل لعجلة الإنتاج، فأصبح النظام يستورد السلع الضرورية من الخارج، حيث تتم عمليات الشراء بالنقد الأجنبي وخصوصاً الدولار، مما أدى إلى زيادة الطلب عليه، ونقصه في السوق، وبالتالي ارتفاع سعره على حساب الليرة المحلية.
- خروج النفط والقمح والبقوليات وعدد من السلع الاستراتيجية الهامة من أيدي النظام.
- انخفاض الناتج القومي المحلي في سورية، وتوقف عجلة الإنتاج والاقتصاد بدرجة كبيرة. بسبب قيام النظام بتدمير المصانع وخطوط الإنتاج، وتدمير البنية التحتية التي تعتبر أهم دعائم الاقتصاد.
- ارتفاع مستوى الفقر عند السوريين، بسبب النزوح في الداخل والهجرة للخارج، وتحول ما يزيد عن نصف السكان من عاملين منتجين إلى مستهلكين عاطلين عن العمل.
- توقف التحويلات المالية من الخارج، حيث بات السوريون في الخارج معنيين بدعم وإغاثة أهاليهم الذين تحولوا إلى نازحين داخل القطر، ولاجئين في بلاد الشتات.
عوامل سياسية
– العقوبات الاقتصادية على الدول الداعمة للنظام السوري، إيران أولاً ثم روسيا، إضافة إلى حالة عدم الاستقرار في كل من لبنان والعراق، رئتي النظام اللتين يتنفس من خلالهما، سيما لبنان، وتحديداً المصارف والبنوك اللبنانية التي تعتبر مخزن عملات التجار الذين يتعاملون مع النظام بتأمين العملات الأجنبية، حيث منعت تلك البنوك صرف مبالغ كبيرة لعملائها، مما خلق أزمة نقد وسيولة لدى النظام بدرجة كبيرة.
– العقوبات الأمريكية والأوربية المفروضة على شخصيات رئيسية في النظام السوري، والتي تعتبر أذرعه الاقتصادية، مثل رامي مخلوف، وسامر الفوز، ووسيم قطان، وعدد غير قليل من المسؤولين والتجار الذين يؤمنون احتياجات النظام من الخارج.
– تمويل الحملات العسكرية ضد قوات المعارضة، والإصرار على خيار الحسم العسكري طيلة تسع سنوات متتالية، سلبا النظام كل ما يملك من مقدرات اقتصادية.
– انخفاض نشاط المنظمات الدولية، في مناطق المعارضة والنظام على حد سواء؛ هذه المنظمات كانت تقدم المنح وتفتح المشاريع الإغاثية بالنقد الأجنبي، مما كان يشكل أحد الموارد الهامة للعملة الصعبة في سوريا.
– أدى تفاقم الخلاف بين مخلوف والأسد، إلى توقف العديد من الأنشطة الاقتصادية التي كانت مرتبطة بشركات مخلوف، وأصبحت شركاته تحول أرصدتها من العملة المحلية للعملات الأجنبية، ثم تحولها إلى خارج البلاد، فزاد الطلب على الأخيرة، كما زاد عرض الليرة السورية، فهبط سعرها.
– أصبح أمراء الحرب يحولون أرصدتهم من الدولار إلى خارج سوريا، مع اقتراب تنفيذ قانون قيصر.
– المخاوف من التوترات المحتدمة في الشرق الأوسط، وهو ما يعكس ضعف إيران وعجزها عن دعم الاقتصاد السوري.
عوامل إدارية
غياب منطق الدولة لدى المؤسسات الحكومية، منذ أن فرض النموذج الإيراني نفسه في سوريا، فتحولت الدولة السورية/النظام، من مؤسسات إلى مجرد ميليشيات تعتبر نفسها حامية الوطن، لا تحترم قانوناً، ولا تطبق سياسة، ولا تراعي تعليمات، فبات الاقتصاد أسير أمراء الحرب، من القادة الميدانيين في جيش النظام والميليشيات التي جنت أموالاً طائلة من الحرب، وشلت حركة مؤسسات الدولة، وفقدت قدرتها على اتخاذ قرارها المستقل.
ويأتي البنك المركزي في مقدمة مؤسسات الدولة التي تعاني من الشلل، وعدم القدرة على اتخاذ القرار السيادي المناسب؛ فكان من الطبيعي أن يعجز عن التصدي لمشكلة هبوط الليرة.
هذا بالإضافة لسلسلة من السياسات النقدية الفاشلة التي أدت على مدار سنوات الحرب إلى تدهور سعر الليرة أمام الدولار، وهذا ما ساهم في فقدانها قيمتها أمام بقية العملات.
يقول رجل الأعمال والخبير الاقتصادي الأردني طلال أبو غزالة: "إن اقتصادات الدول تعتمد بشكل رئيسي على عملتها المحلية وتحتاج للدولار فقط لتمويل التعاملات المالية والتجارية الخارجية". وإن "هبوط العملة السورية مؤخراً يعود بشكل رئيسي إلى عامل نفسي، وإن العقوبات الأمريكية من الممكن أن تؤثر على سعر الصرف، لكن من غير المعقول أن تحدث تدهوراً كبيراً".
ويشير أبو غزالة إلى أن 90% من التعاملات في الدول تكون بالعملة المحلية، فيما تبلغ حصة الدولار من التعاملات 10% – 15% فقط، لذلك هو يستبعد أن يكون انكماش الاقتصاد السوري وراء تراجع الليرة، إذ لا يمكن أن يؤثر الانكماش على الليرة السورية بهذا القدر، معتبراً أن التراجع يعود إلى عامل نفسي، وليس اقتصادياً.
ويشير أبو غزالة إلى إمكانية اعتماد دمشق نظام المقايضة عند إبرام الاتفاقات التجارية الخارجية لتجاوز العقوبات الأمريكية، خاصة وأن بداية التجارة في العالم انطلقت من مبدأ المقايضة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن قانون قيصر يستثني من العقوبات المواد الأساسية، التي تشمل الغذاء والدواء والحاجيات الأساسية.
هل يؤدي تطبيق قانون قيصر إلى سقوط نظام الأسد؟
تظهر تجارب العقود الماضية، من حصار كوبا المستمر منذ عام 1959، أن العقوبات الغربية لم تفلح في إسقاط الأنظمة المعادية للغرب، بدءاً من العراق أيام صدام حسين، وليس انتهاء بفنزويلا أيام خافيير شافيز، مروراً بكوريا الشمالية وكوبا وليبيا وإيران وغيرها.
صحيح أن العقوبات الدولية لا تسقط أنظمة الحكم. وأنها تساهم في إضعافها وإرغامها على تقديم تنازلات في قضايا محددة دون أن تسقطها، وأن المسؤولين الأمريكيين يصرحون جهاراً نهاراً بأن واشنطن ليست بصدد إسقاط نظام الأسد، وإن كانت ترى ضرورة رحيله.
غير أن المعطيات المتوفرة حالياً على الساحة السورية، مرشحة لإفراز حالة قد تخرق القاعدة أعلاه. لأن نظام الأسد كان آيلاً للسقوط منذ نهاية عام 2012، لولا الدعم الإيراني اللامحدود، والتدخل العسكري الروسي.
وكما هو معلوم للقاصي والداني بأن نظام الأسد قائم على قدميه، ليس بفعل إمكاناته الذاتية، إنما بالاعتماد على القوى الخارجية، روسيا وإيران تحديداً، وهذا ما يصرحون به على الدوام. فإنه من غير المنطقي قياس حالته على الحالات الأخرى.
بل يمكن القول بأن مصير الأسد ونظامه، مرتبط مباشرة بالإرادة السياسية التي تقف خلف تطبيق قانون قيصر، وطبيعة وحجم الضغوط التي ستمارسها الإدارة الأمريكية. وهذا سيشكل امتحان مصداقية لترامب وفريقه على أعتاب الانتخابات الأمريكية.
بقدر من الدبلوماسية مع موسكو، وبتنسيق وتعاون مع بروكسل وأنقرة، ومزيد من الضغوط على طهران، سيكون بمقدور دونالد ترامب وضع الأزمة السورية على سكة الحل، فيدخل الانتخابات وفي رصيده نصر تاريخي عظيم.