الجزء الثاني :
أولا : سرد المشاهد الدرامية
توقفنا في الجزء الأول عند دخول يوسف السجن . ونبدأ هنا في التسجيل الدرامى للمرحلة الثانية من حياته من السجن إلى التمكين في الأرض .
المشهد الرابع عشر : يوسف في السجن:
( ليل داخلى ) ( فى مدخل السجن ، وفى زنزانة داخل السجن )
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ )( يوسف 36 : 41 )
يضم هذا المشهد لقطتين :
الأولى ليوسف وهو يدخل السجن ومعه اثنان من الشباب في مثل سنه ُ، أحدهما يبدو من مظهره أنه كان ساقيا ، والأخر تبدو عليه سيماء الخباز، وينظران بإعجاب ليوسف
والثانية داخل زنزانة فى السجن لصاحبي يوسف وهما يحكيان ليوسف عن منامهما في رجاء وإعجاب ..
والملاحظ أن يوسف قبل أن يفسر لهما أحلامهما يبدأ بتقديم نفسه لهما وما أعطاه الله تعالى من معجزات ، ويعرض عليهما عقيدته ، ثم أخذ يدعوهما للإيمان بالله الواحد الأحد ، وبعدها يفسر رؤيا صاحبيه. ثم يقول يوسف للساقي : " اذكرني عند ربك " أي الملك حين تخرج إليه وتعمل عنده .
ويلاحظ أيضا أن التركيز إنصب على الدعوة حتى فى ظلمات السجن ، فقد انتهز يوسف رغبة صاحبيه فى الاستماع اليه واستغل انبهارهما به فبدأ الاجابة على سؤالهما بشرح لعقيدة (لا اله الاالله )، بقوله (مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ) فهذا هو التعريف الصحيح للعقيدة الصحيحة (لا اله إلا الله ) حيث يبدأ بالنفى ولا يكتفى بالاثبات ، أى لا يقول بالوهية الله تعالى وحسب ـ بل ينفى وجود آلهة مع الله ، يأتى الشرح فى ايجاز(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) ليبرز ملامح العقيدة الباطلة من تقديس للأسماء وتوارث هذا التقديس من الآباء والأسلاف الى الذرية والأحفاد لتصبح تلك الخرافات من (ثوابت ) الدين الأرضى.
إذن نحن أمام مشهد حوارى ، الحركة فيه ساكنة ،حيث الجوارح تنصت لسماع كلمة الحق . ولذا فإن الايجاز الدرامى وسرعة الانتقال لا توجد هنا ،بل يوجد تركيز على الدعوة و الحوار للتاكيد على أن يوسف بدأ مهمته الرسالية كنبى وهو فى داخل السجن ، وللتأكيد أيضا على العبرة و العظة هى الهدف الأعلى للقصص القرآنى مهما اختلفت وسائله ؛ درامية أو عادية.
ويمكن للسيناريست هنا ان يجعل عدة مشاهد بدلا من مشهد واحد مستفيدا من الاشارات الموحية فى السياق ، وذلك بهدف توضيح شخصية رفيقى يوسف فى السجن ، وتفسر طلبهما منه تأويل المنام . فدخولهم معا السجن يكون مشهدا مستقلا ، تتلوه مشاهد متتابعة فى الزنزانة التى تجمعهم ، لتوضح الفوارق بين شخصيتى الخباز والساقى ، وتطور العلاقات بينهما الى ان تصل الى اعجابهما معا بشخصية يوسف ، ورؤياهما فى المنام ، ثم طلبهما معا منه تفسير رؤياهما.
مثلا يمكن تصوير الساقى بالطيبة مقابل القسوة فى الخباز لتعليل نهاية الخباز بالصلب ونهاية الساقى بالافراج عنه ، ويأتى هذا فى ضوء تعامل كل منهما مع يوسف . ولنفترض مشهدا فى الزنزانة المشتركة وهم يأكلون ، فيهجم الخباز على الساقى ويغتصب الطعام منه ، فيقوم يوسف بالتنازل عن طعامه للساقى ، ويتحرش الخباز بيوسف فيرد عليه يوسف بابتسامة مانعا الساقى من التدخل ، ووقوع الخباز فى أزمة صحية مفاجئة ليلا فيهب يوسف لمساعدته فى نبل ، ويظل الى جانبه يرعاه بينما يقوم الساقى بالاستغاثة بالأولياء وطلب المدد منهم ، ويحل الود بين الخباز والساقى ، ويرقبان معا يوسف وهو يصلى ويتعبد ، وبعدها يأتى الحلم لكليهما فيحكيه ليوسف فيراها يوسف فرصة للدعوة الى لا اله الا الله ، وينتهز فرصة إصغائهما له فيوضح لهما ملامح الشرك وتقديس الأسماء ويعظهما باخلاص عقيدتهما لله جل وعلا ، ثم بعدها يؤول لهما الحلمين .
المشهد الخامس عشر(أو مجموعة مشاهد ) : البقاء فى السجن بضع سنين
(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ) ( يوسف 42 )
المعنى هنا أن يوسف بعد أن بشر الساقى بالفرج واطلاق سراحه وأن سيكون ساقيا للملك ، أوصاه بان ينتهز فرصة قربه من الملك ليذكر للملك قصة يوسف السجين ظلما ، ولكن الساقى نسى صديقه يوسف المسجون ظلما فقد ألهاه الشيطان بالوضع الجديد عن محنة يوسف، ووجاءت هذه الآية كمدخل للانتقال الهائل من السجن الى قصر الملك حيث سيرى الملك حلما ويحكيه فيتذكر الساقى رفيقه يوسف المسجون ظلما، ويبدأ التحول فى مجرى الأحداث.
نقول هذا لنؤكد أن الذى (أنساه الشيطان ذكر ربه ) ليس يوسف وانما هو الساقى .
ونعود الى الآية الكريمة لنتوقف مع أحد ملامحها اللغوية .
فهناك فرق بين اللغة العربية القرآنية (التى كانت تعبر بصدق عن اللغة العربية المنطوقة فى عصر النبوة )وبين تلك اللغة العربية التى صنعها العصر العباسى و الى لا تزال سائدة و سارية حتى الان تحت اسم العربية الفصحى .
فى العصر العباسى ،وعلى يد الخليل بن أحمد الفراهيدى ثم تلميذه سيبويه ثم ثعلب والكسائى والأخفش تم جمع مفردات هذه اللغة العربية الفصحى ـ المعروفة الآن ـ وتم صنع تراكيبها ووضع تفصيلاتها بالقياس اللغوى والاستقراء ووضع قواعدها (فى النحو و الصرف والبلاغة )، ونتج عن ذلك اختلاف بين اللغة العربية القرآنية و اللغة العربية السائدة (الفصحى الحالية والمتوارثة )..على نحو ما سيأتى تفصيله فى أبحاث قادمة.
ولكن نعطى مثالا لهذا الاختلاف فى الاية الكريمة المشار اليها .
فى الآية (42 ) من سورة يوسف يقول تعالى (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ) والتعبير بالعطف هنا جاء بالفاء . ( قال .. فَأَنسَاهُ . فَلَبِثَ ).
هنا يقع الاختلاف بين اللغة العربية القرآنية واللغة العربية ( العباسية) . فقد جعلوا (فاء العطف ) فى تلك اللغة المصنوعة تفيد التتابع السريع ، عكس (ثم ) التى تفيد التتابع مع التراخى ، فحين تقول (جاء محمد فأحمد فحسن ) فهذا يفيد قدوم محمد وبعده مباشرة أحمد وبعده مباشرة حسن . أما حين تقول (جاء محمد ثم أحمد ثم حسن ) فان (أحمد) قد جاء بعد (محمد بفترة) ، وبعده بفترة جاء (على ).
القول بان (الفاء) هنا تفيد التتابع السريع لا يتفق مع المعنى الواضح فى الاية الكريمة التى احتوت على مشاهد متعددة بلغت مساحتها الزمنية بضع سنين كما جاء صريحا فى الآية الكريمة نفسها. بل إننا حين نتذكر أن يوسف مكث فى السجن بضع سنين فان المناسب هو العطف ( بثم ) التى تفيد التتابع الزمنى مع التراخى و ليس بالفاء التى تفيد التتابع السريع . لأن فهم الاية يأتى خاطئا حسب القواعد النحوية التى وضعها علماء اللغة والنحو فى العصر العباسى، إذ يقتضى أن الأمر حدث سريعا متواليا فى جزء يسير من الزمن ؛أى أن يوسف أوصى الساقى فنسى الساقى فتذكر الساقى فلبث يوسف فى السجن بضع ( دقائق ) !!؟؟
ولكن بالتدبر فى الآيةالكريمة نلاحظ أن الفاء لا تاتى دائما بالتتابع الزمى السريع ، ولكن تأتى أحيانا بالتتابع الزمنى البطىء و المتراخى ، ليس فى الاية الكريمة السابقة فحسب ـ بل أيضا فى قوله تعالى عن السيدة مريم رضى الله تعالى عنها (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ) ( مريم 22 : 27)
ففى الايات الكريمة السابقة جاءت عدة أفعال معطوفة على بعضها بالفاء ولكن خلال زمن استغرق مدة طويلة من الحمل الى العزلة عن القوم الى المخاض الى الولادة الى الشفاء من محنة الولادة وهى وحيدة الى أن أتت به قومها تحمله ..ليس هنا تتابع سريع الوقع كما يقول النحو (العباسى ) ولكنه تتابع بطىء اخذ وقته المعتاد ، ولم يأت العطف فيه بحرف(ثم ) كما يرى النحويون.
اضطررنا الى التوقف مع هذه المسالة فى معرض منهج القصص الدرامى فى الآية الكريمة لأنها قد تكثف فيها ـ فى ايجاز وإعجاز ـ أربعة مشاهد ، ولا نقول أربع لقطات ،جاء بعضها صريحا وجاء الآخر متضمنا مفهوما من السياق ، فبعد طلب يوسف من الساقى أن يذكره عند الملك تتابع لقطات أو مشاهد ثلاثة ،هى :الحكم بإعدام الخباز ثم صلبه ، والإفراج عن الساقي ، وبقاء يوسف وحيدا ً في السجن حيث انشغل عنه الساقي ونسي موضوعه وذكرياته معه ، وكل تلك المعاني مركزه في قوله تعالى " فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين "
المشهد السادس عشر (أو عدة مشاهد ): رؤيا الملك
(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ
قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) يوسف ( 43 : 45 )
وفيه عدة لقطات أو مشاهد حسب رؤية المخرج :
ـ الملك يرى حلما مزعجا بالتفصيلات المذكورة فى الآية .
ـ يستيقظ منه مرعوبا .(ليل داخلى ـ حجرة نوم الملك )
ـ الملك يستدعي كبار الحاشية ( نهار داخلى ) ( ديوان الملك )
ـ يدخلون ويعرض عليهم الحلم المزعج ويطلب منهم تفسيره ، والساقي يدور عليهم بالشراب ، والحاشية تعجز عن تفسير المنام وتصفه بأنه أضغاث أحلام
ـ والساقي يتذكر يوسف زميله القديم في السجن وعلمه بتفسير المنام ، فيعلن للملك والحاشية أنه يستطيع الإتيان بتفسيره إذا أرسلوه إلى يوسف في السجن .
المشهد السابع عشر : ( نهار داخلى ـ زنزانة يوسف فى السجن )
(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) يوسف ( 46 : 49 )
وفيه يتم الانتقال مباشرة إلى سجن يوسف والساقي أمامه يعرض عليه رؤيا الملك ويوسف يفسرها له .
المشهد الثامن عشر : ( نهار داخلى ـ ديوان الملك )
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) يوسف ( 50 )
ويتكثف هذا المشهد في قوله تعالى " وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ " وفيه يتم الانتقال مباشرة من السجن الى عرش الملك ، والساقى يقف خاشعا بينما الملك يأمر باحضار يوسف اليه.
وهنا يسكت القرآن عن أحداث مفهومة و متضمنة فى السياق ، فالساقي رجع من عند يوسف ودخل على الملك وقص عليه التفسير الذي سمعه من يوسف ولأنه منام أصبح خطيرا ً يتناول المستقبل ، ولأن تفسير يوسف له يحمل خطة متكاملة للنجاة من مجاعة قادمة ، فإن الملك أراد أن يجتمع بيوسف .
المشهد التاسع عشر : ( ليل داخلى ـ زنزانة يوسف )
(فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّلاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) يوسف (50 )
المشهد هنا يتضمن عودة الساقي إلى يوسف في السجن يخبره أن الملك أمر بالإفراج عنه ويريد رؤيته والاجتماع به، ويندهش الساقي حين يرى يوسف لا يفرح بالبشرى والفرج وإنما يطلب أن يتحقق الملك من براءته أولا .
يلاحظ هنا أن الآية رقم 50 قد تضمنت مشهدين ، وبينهما أحداث متروكة لأنها مفهومة من السياق ، كما يلاحظ التدفق السريع فى الأحداث وعدم الوقوع فى التفصيلات التافهة ،والتركيز على الأحداث المحورية ، وتلك من ابداعات القرآن الكريم فى فن الدراما .
المشهد العشرون ( نهار داخلى ـ ديوان الملك )
( قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) يوسف ( 51 : 54 )
المكان هنا ديوان أو عرش الملك ، وفيه النسوة واقفات أمام الملك ليحقق معهن ،وفيهن امرأة العزيز، ويسألهن " مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ "
أي أن الملك منذ البداية مقتنع ببراءة يوسف ومقتنع باتهامهن ، وترد النسوة بتبرئة يوسف " قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ " . وتتقدم امرأة العزيز تعلن براءة يوسف وتعترف بذنبها وتبدي توبتها " قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ " . ويقتنع الملك ببراءة يوسف أكثر ، ويرى في ذلك ترضية ليوسف وتبرئة له على الملأ ، فيأمر بإحضاره إليه " وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ".
الملاحظ هنا ترك أحداث مفهومة من السياق ، وهى الأمر الملكى باحضار النسوة بما فيهن إمرأة العزيز ، وتنفيذ ذلك الأمر ، بما يستلزمه من جزع النسوة وقلقهن.
المشهد الحادي والعشرون : (ليل داخلى ـ ديوان الملك )
(فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ) يوسف ( 54 : 56 )
المشهد هنا في عرش أو بلاط الملك ويوسف في مظهر مناسب وفي حفل تكريم ويدور بينه وبين الملك حديث صامت ، وملامح الاعجاب تظهر بالتدريج على وجه الملك بما يدل على انه يقتنع أكثر وأكثر بسمو شخصية يوسف ومواهبه مما يبرر قرار الملك بأن يعطيه درجة عليا في ديوانه، ولكن يوسف يطلب من الملك أن يجعله قائما ومشرف على خزائن مصر وثروتها الاقتصادية .
ويلاحظ الانتقال السريع بين قول الملك في جلسة التحقيق مع النسوة " ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي " وبين ما بعدها مباشرة وهو قوله تعالى " فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ " وما بين هذا وذاك تركه القرآن لأن ذكره ثرثرة يسمو عنها أسلوب القرآن الحكيم ، والمعنى بين الكلمتين أنهم ذهبوا ليوسف في السجن وأخبروه أن الملك حقق مع النسوة واقتنع ببراءته وأن النسوة اعترفن ببراءة يوسف وأن امرأة العزيز اعترفت بأنها التي راودته وتابت ودافعت عن طهارته وهو غائب ، وعند ذلك رضي يوسف بالخروج من السجن ، وجئ به إلى بلاط الملك ليكون في خاصة الملك ومستشاريه ، وكل تلك المعاني والأحداث مفهومة من الربط بين قوله تعالى " ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ " .
وحتى قوله تعالى " فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ " يفهم منه أن حوارا ً طويلا ً جرى بين يوسف والملك، وقد أمتد ذلك الحوار إلى شتى الشئون الاقتصادية والسياسية ومعاني الحلم الذي رآه الملك وكيفية مواجهته ، وأثمر ذلك الحوار عن إعجاب الملك بشخصية يوسف ..
وبذلك تتكثف المعاني في الكلمة القرآنية إلى أقصى حد ..
وهنا أيضا دور الراوى ، إذ يأتى صوته يعلّق ناطقا بالعبرة والعظة .
وقلنا أن العظة هى الهدف الأعلى من القصص القرآنى سواء ما كان منه دراميا أو كان قصصا عاديا.
ثانيا
ـ ونتوقف مع موضوع العبرة وتوظيفها ووضعها المحكم بين سياق الأحداث.
1 ـ
هنا يأتي موضوع العظة في قوله تعالى " وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ " فقد خرج يوسف من السجن إلى منصب الحكم والعزة في مصر تماما مثلما خرج من الجب والرق إلى بيت الرجل الذي اشتراه من مصر ، وفي الحالتين تعرض للمحنة وصبر على الظلم وكوفئ بأحسن الجزاء . وفي الحالة الأخيرة تأتي العظة تمهيدا ً للدخول في مرحلة جديدة من القصة حين يأتي أخوة يوسف إليه يطلبون الطعام منه بصفته عزيز مصر وهم لا يعرفونه ..
فالعبرة هنا مزدوجة ، في موقعها بين الأحداث السابقة و الأحداث اللاحقة ، وتشير إلى الوضع الجديد الذي صار فيه يوسف بعد ما حدث له من أخوته وبعد ما حدث له أيضا من دخول السجن ، وتبدأ المرحلة الأخيرة من حياته وقد انتهى بالنسبة له عصر المحن فقد أصبح عزيز مصر ، وأصبح هدفه بعدها أن يجازي أخوته على السيئة بالحسنى وأن يجمع شمل أسرته في مصر ليتمتعوا معه بوضعه الجديد ، وليتحقق بالتالي حلمه الذي رآه وهو صبي وقصه على أبيه .
في المرحلة الأولى التي قاسى فيها يوسف من الجب والأسر والرق وانتهت بحياة كريمة في بيت الرجل المصري قال تعالى في ختامها " وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ: يوسف 21 "
ثم جاء التمهيد للمرحلة التالية في قوله تعالى " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ " ، وتأتي المشاكل التي لا ذنب ليوسف فيها ويدخل السجن ظلما ، ويخرج منه بعد مدة ليصبح في موضع التمكين في الأرض ، ويقول تعالى في ختامها أيضا " وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ " ويكون ذلك الختام تمهيدا لمرحلة تالية تقول " وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)( يوسف 58 ). "
وذلك يعني أن أسلوب القص في سورة يوسف يسير على مراحل متتابعة متدفقة ، ولكن تلك السرعة في الإيقاع لا تمنع من التوقف لإعطاء جرعة مكثفة من العظة والاعتبار وهما الهدف من القصص القرآني ، والله تعالى يقول في ختام سورة يوسف يؤكد على ذلك " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( يوسف 111 )"
بل وقبل سورة يوسف يقول تعالى في الآيات الأخيرة من سورة "هود" ( وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ): هود 120 "
وذلك التأكيد على العظة والعبرة مطلوب هنا لأن روعة القصص في سورة يوسف وتتابع السرد أو سرعة الإيقاع قد تأخذ القارئ والسامع بعيدا ً عن الهدف وهو العظة وقد تجعله جاذبية القصة يستغرق في أحداثها وصراعاتها فيأتي موضع العبرة ينبه القارئ ويجعله يصحو على أن تلك القصة الرائعة ليست للتسلية وإنما للعظة والتعلم ..
2 ـ:
راينا أن موضع العبرة يأتي في السياق في حينه مؤثرا ً وموحيا ً ومقسما ً القصة إلى مراحل ، واستخدام العبرة فى التعليق على ما فات والتمهيد لما سيأتي .. مما يجعله مؤثرا ً ويلعب دورا ً في تقسيم حياة يوسف إلى مراحل ..
وهو مع ذلك يوحي بالتشابه في حياة يوسف في محنته مع أخوته ومع نساء مصر ورجالها ، فقد عانى بلا ذنب هنا وهناك : ، إخوته ألقوا به في الجب .. بغضا فيه ..
والمصريون ألقوا به في السجن ليس بغضا فيه وإنما بسبب حب النساء فيه ..
وكان الحلم الأول الذي رآه يوسف مقدمة لما سيحدث من متاعب من أخوته ..
وكانت الأحلام التي رآها الساقي والخباز والملك هي المقدمة لخلاصه من المتاعب.
3 ـ.
أم يوسف ( راحيل ) ليس لها دور ظاهر في سورة يوسف ، والقلق على يوسف يأتي من أبيه وليس من أمه ، ويتحول قلق أبيه إلى حزن طاغ في المرحلة الأخيرة ، دون أن نحس بدور لأم يوسف ، أي أن يوسف ربما لم يأخذ كفايته من حنانها ، وربما انشغلت عنه بأخيه الأصغر الشقيق بنيامين .
وفي بيت المصري ربما أراد يوسف أن يستعيض بامرأة الرجل الذي رباه عن أمه الغائبة لتكون له أما بديلة ، خصوصا وأن الرجل أمرها بأن تكرم مثواه عسى أن ينفعهما أو يتخذاه ولدا ً ، ولكن المرأة رأته يتفتح شبابا بعد ذلك في وسامة وجمال فرأت فيه الرجل ولم تر فيه الابن ، وبدأت المشاكل . وتحول الرجل من مشاعر الأبوة المفتعلة إلى خصومة جعلته يلقي بيوسف في السجن وهو يعلم أنه مظلوم وذلك كي ينقذ سمعته ، ثم ينساه في السجن.
وتلك المشاعر الإنسانية المتباينة والمتغيرة وتلك الصراعات تجعل قصة يوسف تقبل لأن تتكرر أحداثها في كل زمان ومكان ، وكل مظلوم دخل السجن يرى نفسه فيها، وكل مظلوم تجرع الاضطهاد من أقاربه وأخوته يرى في قصة يوسف العبرة، وكل منهم يأمل في أن ينتهي هذه النهاية السعيدة التي جاءت ليوسف حين خرج من الجب إلى القصر ، أوحين خرج من السجن إلى أبهة الملك ..
ومن هنا كان لابد من التوقف لإعطاء الجرعة المركزة من العظة حتى لا تتحول قصة يوسف إلى مجرد سرد روائي قصصي درامي بالغ الروعة .