أولا :
جاء اليوم (الثلاثاء 17 فبراير 2009 ) فى الخبر الرئيس فى جريدة الأهرام المصرية أن الرئيس مبارك قد عقد (قمة مصرية ـ بحرينية) وقد دارت المباحثات مع ملك البحرين حول التوصل الى تهدئة وتثبيت وقف إطلاق النار في قطاع غزة . وجاء فى الأهرام : (وقال الرئيس مبارك ـ في تصريحات لتليفزيون البحرين في ختام زيارة قصيرة قام بها للبحرين أمس ـ إن الجهود المصرية لتحقيق المصالحة الفلسطينية مستمرة ، مؤكدا أن مؤتمر المصالحة سيعقد في القاهرة يوم22 فبراير بحضور كل الفصائل.)
من ناحية أخرى ألمح رئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود أولمرت فى نفس اليوم الثلاثاء إلى أن صفقة الإفراج عن الجندي الإسرائيلي الأسير في قطاع غزة جلعاد شاليط مقابل أسرى فلسطينيين، قد لا تنجز خلال فترة رئاسته للحكومة التي تنتهي بمجرد تشكيل حكومة جديدة.
أى إن استرجاع الجندى الاسرائيلى جلعاد شاليط هو أساس الأزمة الحالية والتى يسعى الرئيس مبارك الى حلها بكل ما لديه من (حيوية ونشاط ).!!.
ثانيا : هنا نتساءل :
1 : ما الذى يجبر الرئيس مبارك على هذا التحرك والسفر الى البحرين وغيرها وعقد الاجتماعات التى تتركز حول حل مشكلة الجندى الاسرائيلى الأسير شاليط ؟
إن النظام المصرى فى حالة انهيار ، من الاضرابات ( إضراب الصيادلة المستمر حتى اليوم ) والاعتصامات والمواجهات بين الشرطة والشعب ، والمواجهات بين المسلمين والمسيحيين (آخرها حدث اليوم ونشرته العربية : جرح 6 مسلمين حالة أحدهم خطيرة ـ اشتباك بين مسلمين ومسيحيين مصريين بالعصي والأسلحة البيضاء) ، وانهيار الأمن مع توحش الدولة البوليسية وتفشى التعذيب ، والارتفاع الهائل المستمر فى الأسعار،والصراعات بين مراكز القوى وعجز النظام وفشله فى كل شىء إلاّ فى قهر المصريين ، مع بروز ظواهر جديدة مثل أطفال الشوارع وبيع الفقراء لأعضائهم ، وارتفاع نسبة الانتحار بينهم لتصل عشرات الآلاف عجزا عن تحمل تكلفة المعيشة. وفى خضم كل هذه المشاكل يجد الرئيس مبارك وقتا للسفر وعقد مؤتمرات (قمة ) مع هذا وذاك ، كل ذلك من أجل الجندى الاسرائيلى شاليط .
شاليط مجرد فرد اسرائيلى ولكن خاضت اسرائيل حروبا من أجل الافراج عنه بينما يقتل مبارك ويعذب و يقهر سبعين مليون فرد مصري.. ولا يهتم بأمرهم بدليل أنه يتركهم فى العراء والجوع و التعذيب و القهر ليجد حلاّ لمشكلة الأخ شاليط .
هذا يوضح الفارق بين دولة اسرائيل التى تقدّس الفرد الاسرائيلى وبين المستبد العربى الذى يعتبر الشعب دابة يركبها و يمتطيها ويورثها لأبنائه .
وعلى كل فليس هذا موضوعنا . موضوعنا هو مبارك وشاليط .
2 ـ فهل الى هذه الدرجة وقع مبارك فى حب الجندى شاليط ؟ وهل الى هذه الدرجة يبلغ غرام مبارك بشاب اسرائيلى لم يره ولم يعرفه ؟
مبارك فى أرذل العمر ، يتحرك بمنشطات ويتكلم بالمقويات ، وينام بالمنومات ويصحو على المهدئات ، ويعيش متوكئا على احدث ما فى الطب من مبتكرات ، ومع ذلك يتحامل على نفسه و يتحرك يعقد لقاءات (قمة ) مع هذا وذاك من أجل شاليط ..
فهل هذا معقول ؟ وما هى الحكاية بالضبط ؟
الموضوع أن الرئيس مبارك لا يهمه شاليط ولا إسرائيل ولا الشعب المصرى ..
كل ما يهمه هو تأمين مستقبله ومستقبل أسرته ، فالأعاصير فى الداخل تحيط بسفينته الغارقة ، وهو عاجز عن اتخاذ قرار صريح بالتوريث أو تعيين نائب يضمن انتقالا سلسلا للسلطة بعده ، وفى الخارج وصلت فى أمريكا إدراة جديدة بفكر جديد تحظى بالأغلبية وتنشد التغيير ، وهذا التغيير سيكون على حساب المستبدين العرب ، وفى مقدمتهم مبارك .
3 ـ خلال المائة يوم المعطاة للرئيس الأمريكى للجديد لكى يكتشف ويزن الأمور داخليا وخارجيا نلاحظ أن أوباما بادر بخطاب مباشر للعالم الاسلامى مبشرا بسياسة جديدة . أى أن أوباما لم ينتظر مدة المائة يوم بل بادر بالتعامل المباشر مع المشكلة مع العالم الاسلامى ،أى إن لديه خطة بالفعل ، ولا يحتاج الى اكتشاف . أوباما يختلف عن سلفه بوش فى كل شىء ، وفى أهم شىء، وهو أنه لا يعطى تصريحا إلا إذا كان قادرا على تنفيذه ، بوش أعطى عشرات التصريحات حتى فى الشهور الأخيرة من مدته ولم يف بشىء منها لأنه كان أعجز عن الوفاء بما يقول .أما أوباما فقد بدأ من الأسبوع الأول يطبق وعوده الانتخابية، فراجع تفصيلات الميزانية وطلب ميزانية للتحفيز، ووضع سقفا أعلى لمرتبات المدراء فى الشركات هو نصف مليون دور سنويا ، وعليه فهو إذا وعد العالم الاسلامى بشىء فهو قادر على الوفاء ، ومعه كل التأييد فى الداخل وفى الخارج أيضا، هذا بينما المستبد العربى معزول فى الخارج ومكروه فى الداخل ومحاصر بين الداخل والخارج ، ولا يجد له سندا سوى أمريكا.
وأمريكا أوباما الآن مختلفة .
4 ـ مبارك تولى الحكم منذ 1981 وقد عاصر الرؤساء الأمريكيين من ريجان الى بوش الأب الى كلينتون الى بوش الابن ، وفيها كانت السياسة الأمريكية تقليدية ، وهى الآن على عتبة تغيير كبير حتمى ويفرضه الزمن ؛ فحتى لو لم ينجح أوباما فان الملل من وجود مبارك كان سيدفع أمريكا للتخلى عنه لأنه أصبح عبئا عليها ،وهى لا تريد تكرار تجربة الشاه فى ايران . السبب الوحيد الذى كان يجعلهم يترددون هو الفزاعة التى يخيف بها مبارك الأمريكيين التقليديين وهى الاخوان المسلمين . وواضح أن هذه الفزاعة فقدت مفعولها فقد بدا واضحا أن الاستبداد هو سبب التطرف والارهاب ، وأن الاصلاح هو السبيل الوحيد لانهاء مشكلة التطرف والارهاب سلميا.
لهذا نادى بوش ـ نفسه ـ بالاصلاح السياسى فأرعب المستبدين العرب ، ولكن تورط بوش فى العراق جعله ينشد مساعدة أولئك المستبدين ، ويتغاضى عن مساندته للاصلاح الديمقراطى . والآن جاء رئيس جديد يعلن التغيير شعارا له ، ويلتزم به ، ومعه تأييد الجميع سوى حفنة من أفراد يمثلون الاستبداد شاخوا فى موقع السلطة ، وآن الأوان ليشملهم التغيير .
وهنا أصبحت قنبلة الاخوان ـ التى يهدد مبارك بها أمريكا ـ بدون فتيل. وتعين عليه أن يستجيب للاصلاح فى مصر ، وهو مطلب أمريكى يتركز فى كلمة واحدة هى (حكم القانون ) أى إنهاء قانون الطوارىء والقوانين الاستثنائية و المحاكم الاستثنائية (أمن الدولة والعسكرية )، واطلاق سراح كل المعتقلين بناء على تلك القوانين ،أى تفكيك معالم الدولة البوليسية فى مصر.
ولأن مبارك يعلم إنه لا يستطيع أن يبقى يوما واحدا على قيد الحياة بدون تلك الدولة البوليسية فانه يجاهد بكل ما تبقى لديه من أنفاس ليرضى أمريكا فى مجالات أخرى خارجية ،أهمها الصراع الفلسطينى الاسرائيلى ، والتطرف فى معاداة ايران وحزب الله وحماس . هو كان يفعل ذلك دائما ، ولكنه هذه المرة يبذل جهدا غير عادى لا يتناسب مع صحته ومع عمره ومع الأزمات التى يعيشها نظامه فى الداخل .
5 ـ فى إطار هذه الصورة الكلية توجد بعض بالونات الاختبار ، يتحسس فيها كل طرف ما لدى الطرف الآخر . مبارك يدرك أن ليس معه أوراق يضغط بها على أمريكا ، لذا يلجأ لطريقة فريدة وخسيسة ، وهى أن يساوم أمريكا باعتقال وسجن واضطهاد المصلحين من أفراد شعبه ليتخذهم رهائن. ولذلك يرفض الافراج عن أيمن نور ، وقدمت النيابة العامة في الآونة الأخيرة اتهامات بالخيانة في محكمة أمن الدولة ضد د. سعد الدين إبراهيم، واعتقل بلا مبرر الكثيرين من المدونين ونشطاء حقوق الانسان ، وكان منهم الاستاذ رضا عبد الرحمن من أهل القرآن ، ويواصل الضغط على عائلات القرآنيين وارهابهم .
يتسلح مبارك بهذه (الأوسمة و النياشين ) ترقبا للمفاوضات مع أمريكا ، كما لو أن أمريكا هى المسئولة عن حماية أولئك الأفراد المصريين وليس هو.
من جانبها ردت الادارة الجديدة على التحية بأحسن منها ، فتقدم نائب فى الكونجرس بطلب تحويل المعونة الأمريكية الى مصر من عسكرية الى اقتصادية .
ولقد حصلت مصر على نحو 100 بليون دولار معونة سنوية من أمريكا ، معظمها معونات عسكرية ، والمستفيد منها هم الوسطاء من أهل الحكم ، وليس لمجلس الشعب مناقشة ميزانية الجيش والتسليح ورئاسة الجمهورية . وبالتالى فان تحويل المساعدة الأمريكية الى مساعدات اقتصادية يعنى وصول المساعدات الى الشعب المحروم ،وهو مكسب كبير يعادل الخسارة الكبيرة لمن اعتاد التجارة بالسلاح وقبض العمولات بعيدا عن أى رقابة.
لم يتوقف الأمر عند التهديد بقطع مورد رزق سنوى قادم بل التهديد الصريح بمصادرة أرصدة أسرة الرئيس مبارك فى الخارج ، إذ يقال أن معظمها من المعونة الأمريكية ، وإذا كانت إدارة أوباما قد أخذت على عاتقها مراجعة تفصيلية لكل المصروفات والاعتمادات المالية داخل أمريكا لتحقيق النزاهة وقطع دابر الفساد وتوفير فائض لمواجهة الأزمة المالية الحالية ، فإن المناسب وضع المعونات الأمريكية لمصر تحت مجهرالتحقيق فهى أموال دافع الضرائب الأمريكى ،ومن حقه أن يعرف مصيرها . هذا التصريح عن مصادرة الأموال المصرية المهربة للخارج سمعته بنفسى فى ندوة بمبنى الكونجرس تكلم فيها د. سعد الدين ابراهيم ، وقالها صديقه د. لارى دايموند . لارى دايموند أستاذ للمستشارين الشباب الجدد فى ادراة أوباما ، ولقد عملت معه أشهرا عام 2002 فى الوقفية الأمريكية للديمقراطية ، ويحظى باحترام بالغ على المستويين السياسى والأكاديمى.
كلمة لارى دايموند كانت رسالة موجهة لمن يهمه المر فى مصر ، سمعها بنفسه مندوب السفارة المصرية ، ونشرنا ذلك فى حينه ضن أخبار موقعنا (اهل القرآن ).
6 ـ مبارك بكل ما يحمله من 80 عاما من إدمان العناد ـ يصعب عليه الافراج عن أيمن نور والعفو عن سعد الدين ابراهيم ، كما إن تطبيق حكم القانون والتخلى عن شريعة الغاب قد تكلفه حياته .
لذا رأى أن من الممكن أن يستدر عطف الادارة الأمريكية ببذل ما تبقى له من حيوية وأنفاس فى خدمة أمريكا فى ميادين خارجية ، أبرزها قطاع غزة والافراج عن الجندى الاسرائيلى شاليط ، ليس حبا فى شاليط ، ولكن ليتعطف عليه اوباما ويتغاضى كما كان يتغاضى الرؤساء الأمريكيون السابقون .
فهل أوباما مثل بوش ؟
أخيرا
1 ـ أوباما بالتاكيد ليس مثل بوش ، ولكن للسياسة الأمريكية ثوابتها التى يجب على المعارضة المصرية العلمانية فهمها . لا يمكن لأى إدراة أمريكية أن تقف مع عدو لها إذا كان فى المعارضة، ولهذا فهى تقف ضد معارضة الاخوان المسلمين وترضى بمبارك وتتغاضى عن استبداده .
هذه رسالة للمعارضة العلمانية الحقوقية ، لا بد لها أن تكون طرفا فاعلا فى الصورة القائمة الان فى مصر بديلا عن الاخوان المسلمين ، فلا نريد استبدال الاستبداد العسكرى بالاستبداد الدينى . مطلوب أيضا من هذه المعارضة ألا تكون خصما لأمريكا ، كيف تكون خصما لها وتطلب عونها ؟ كيف تكون خصما لها وتريد أن تحتل موقع مبارك عندها بديلا له ؟ الحصافة السياسية تتطلب من المعارضة المصرية أن تمنح ادارة أوباما فرصة لاصلاح السياسة الخارجية الأمريكية.
2 ـ ثم تشارك تلك المعارضة بكل فاعلية فى كل وسائل الاحتجاج السلمى الحضارى ، بالمظاهرات والاضرابات والاعتصامات والتقاضى ، وتكوين الجمعيات والمنظمات المدنية و الحقوقية.
3 ـ ولحماية هذه الحركة الاحتجاجية السلمية لا بد من قيام حملة حازمة تقف بقوة ضد مجرمى التعذيب ، يشترك فيها الضباط الوطنيون من الشرطة والقوات المسلحة، تجمع كل المعلومات عن مجرمى التعذيب فى أمن الدولة وأقسام الشرطة من أصغر مخبر الى ( الثعبان الأصلع ) . وتنشر على الانترنت قوائم سوداء بهم تحوى أسماء عائلاتهم وأعوانهم وعناوينهم وثرواتهم وكل ما يتصل بهم ومن يتصل بهم ،وتظل هذه القوائم مفتوحة لتضم كل معلومة يتقدم بها أى مواطن مصرى شريف .
كل ذلك تمهيدا ليوم الحساب القادم قريبا بعونه جل وعلا ، وحتى يعلم كل مجرم باغ يقوم بالتعذيب أن يومه قادم ، وأنه لن يفلت من يد العدالة فى الدنيا قبل الآخرة .