الفرصة متاحة الآن أمام الملك عبدالله بن عبد العزيز لكى يصلح المملكة سلميا ودستوريا طبق المشروع الاصلاحى الذى نادى به ناصر السعيد منذ نصف قرن ..
مقدمة:
فى أواخر القرن الماضى قررت تأليف كتاب كامل عن المعارضة السنية السعودية فى القرن العشرين. يبحثها اصوليا وتاريخيا : يبدأ بالمعارضة التى قام بها الأخوان ــ أولئك الذين اسهموا مع عبد العزيز فى اقامة الدولة السعودية الثالثة ثم ثاروا عليه فأخمد ثورتهم ، ثم حركة المعارضة السلمية لناصر السعيد فى عهد الملك سعود ، وحركة جهيمان العتيبى فى عهد الملك خالد . وأخيرا الحركة المعاصرة التى قامت بها اللجنة الشرعية وانتقلت الى لندن بزعامة المسعرى والفقيه قبل انفصالهما. وهى الحركة التى انجبت اسامة بن لادن.
أنهيت هذا الكتاب مع نهاية سنة 2000 . ولا يزال مخطوطا .
خرجت منه بنتائج شتى منها ما قد يفيد الدولة السعودية اذا أرادت انقاذ نفسها بالاصلاح قبل فوات الأوان ، ومنها ما يفيد فى مواجهة التطرف فكريا و سلميا.
على أن الجائزة الكبرى التى سعدت بها هى تعرفى من خلال البحث على شخصية ناصر السعيد ابن مدينة حائل وابن اقليم شمر فى نجد ، ولهذا أبادر بنشر ما كتبته عنه الآن بعد هذه المقدمة.
قلما تعجبنى احدى الشخصيات التاريخية التى أبحثها متوغلا فى فحص ظروفها الانسانية والمكانية والزمانية. وعموما فالباحث التاريخى العادى لا بد له من التوازن باظهار الجوانب السيئة والخيّرة فى الشخصيات التى يبحثها. الا أن المؤرخ المنشغل بالاصلاح هو كالطبيب الذى يعالج المرضى فقط دون الأصحاء . لذا تراه عادة ما ينكب على بحث " السيئات" أو المثالب لأن هذا مجال عمله ، فالمثالب والعيوب فقط هى التى تتطلب الاصلاح وليست النواحى الصالحة المضيئة. والعادة أن يوجد هذا الباحث المنشغل بالاصلاح فى عصر يتحول فيه التأريخ للسابقين الى مدح وتمجيد وتركيز على المناقب فقط ، لذا يكون وجوده ضروريا ليتخصص فى بحث الجانب المظلم والمجهول كى نتعلم الحقائق المجهولة والمسكوت عنها ونستفيد منها فى حاضرنا، واكثر من ذلك كى نقيم ميزان العدل فى التأريخ بحيث تتضح للناس المناقب والمساوىء معا تأكيدا على بشرية الزعماء والأبطال.
المؤلم ان أغلب الشخصيات التاريخية المشهورة بل والمقدسة - لدى مثقفي العوام وبعض الكتاب من أنصاف المتعلمين ـ ليسوا فى الحقيقة التاريخية الا معتوهين أوأفاقين نصابين اومنحلين خلقيا وشاذين جنسيا أو لئاما وأنذالا بكل المقاييس. وفى نفس الوقت تجد شخصيات نبيلة محترمة لم تأخذ حقها من الشهرة أو من التكريم . ظلمهم المجتمع فى حياتهم ثم سكت التاريخ عن انصافهم بعد مماتهم فلم يعطهم الا الفتات فى أفضل الحالات، وفى أغلبها ردد عنهم الشائعات التى تستهلك جهدا ووقتا من الباحثين المنصفين ليزيلوا ركامها وينصفوا المظلوم النبيل البرىء منها. هذا لأن التاريخ عندنا لا يزال عاهرة ترقص فى مواكب السلطان تدعو له بالنصر . ولهذا لا يستجاب لها الدعاء !!.
كان كتابى عن المعارضة السعودية يؤرخ ويحلل لاساطين الوهابية السعودية فى الدولة وفى الدعوة، فى الحكم وفى المعارضة معا فى اتفاقهم واصطراعهم . كان يجيب على سؤال طرحته على نفسى وخصصت الكتاب للاجابة عليه. السؤال يقول: لماذا يختلف المعارضون الوهابيون مع دولتهم السعودية الوهابية وهم معا ينتمون لنفس المذهب السنى والفرقة الحنبلية والاتجاه التيمى ـ نسبة لابن تيمية ـ والدعوة الوهابية ؟
أجاب البحث على السؤال فى دراسة تاريخية اصولية تحليلية تقع فى 471 صفحة بدون الملاحق. أكد فيها أن تاريخ السعودية المعاصرفى أغلبه ليس الا تكرارا لتاريخ "نجد " الدموى والمتزمت زمت فى العصور الوسطى الظلامية الذى اعتدت تحليل ومناقشة أحداثه وتفاهاته وصغاره برغم هالات الزعامات المزيفة والأسماء الكبرى المقدسة أو التى فى طريقها الى مصانع التقديس والتزييف.
ذلك ما برعنا فيه نحن العرب المسلمين وتفوقنا فيه على العالمين حتى عبدنا ما زيفناه وصدقنا ما افتريناه ، وكررنا ما كان قوم ابراهيم يفعلونه حين كانوا يصنعون الصنم ثم يعبدونه ويذيعون الافك ثم يصدقونه ، فقال لهم ابراهيم عليه السلام :": أئفكا آلهة دون الله تريدون " وقال لهم :" أتعبدون ما تنحتون ؟ " الصافات 86 ،95"وقال لهم: " انما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون افكا ".العنكبوت 17".
أراحنى واسعدنى فى بحثى للمعارضة السعودية أن وجدت بين كل أولئك البشر رجلا رشيدا ، ذكرنى بحسرة النبى لوط عليه السلام حين قال لقومه المصابين بالشذوذ الجنسى ": أليس منكم رجل رشيد "؟" هود 78 ". لم يجد لوط عليه السلام رجلا رشيدا فى قومه ولكننى وجدت ـ بعد عناء ـ رجلا رشيدا وعظيما فى نفس الوقت . انه ابن حائل وابن شمر المناضل المسالم : ناصر السعيد.
أحببت هذه الشخصية وتعاطفت معها فى نضالها السلمى أمام خصوم لا يعرفون ولا يحترمون الا منطق القوة . القوة عندهم هى الحق. لذلك يصلون للقوة بتزييف الحق والوعى ، وما يحصلون عليه بالقوة الغاشمة يصير حقا لهم بقوة السيف . انه منطق الجاهلية الصحراوية الذى جاء خاتم النبيين محمد عليه السلام ليقضى عليه فكان أن عاد نفس المنطق الصحراوى سريعا مسلحا بأكاذيب دينية شتى ليحارب الاسلام مستخدما اسم الاسلام، ولتتحول فيه شخصية النبى محمد الذى أرسله الله تعالى رحمة للعالمين ، ليصبح فى أكاذيبهم مبعوثا بالسيف لقتل الآخرين ، وجاءت الوهابية فى عصرنا تعيد هذا التاريخ منتحلة اسم الاسلام العظيم تنشر تحت لوائه التعصب والتطرف والارهاب.
فى المواجهة وقف ناصر السعيد مسلحا بفطرة اسلامية نقية وبايمان بقيمة العدل الاسلامية التى لا تزال مغيبة ومشوهة بمتون الفقه التراثى . مع العدل انحاز الى الاصلاح السلمى دون غيره، فوقف داعية لاصلاح الدولة السعودية من الداخل بأن يقوم الحكام انفسهم باصلاح انفسهم بدلا من قيام ثورة قد لا تبقى ولا تذر. وكانت النتيجة أن تسجنه وتطارده ثم تغتاله الأسرة التى حاول اصلاحها سلميا من الداخل .
جاء ناصر السعيد ـ رحمه الله تعالى ـ بين حركتين للمعارضة السنية الوهابية ضد الدولة السعودية الوهابية ـ الاخوان من قبله وجهيمان العتيبى من بعده ـ كلتاهما سفكت الدماء وانتهكت الحرمات . ثم نحظى الآن والعالم كله معنا بالمعارضة السعوديةالوهابية الراهنة تهدد العالم كله مع مطلع هذا القرن الحادى والعشرين ، لتؤكد ان البلاء فى داخل العقيدة الوهابية ذاتها ولا بد من نفيها الى التاريخ المظلم الذى جاءت منه واصلاح الدولة السعودية من الداخل بالاسلام الذى هو صالح لكل زمان ومكان- هذا اذا اردنا اصلاحا سلميا.
هذا ما كان ابن حائل العظيم ـ ناصر السعيد ـ يدعو اليه ويعانى من أجله فلم يلتفت اليه الأغبياء الذين لا يزالون فى غيهم يعمهون ، وسيظلون هكذا الى ان تفرض عليهم سيدتهم أمريكا الاصلاح، أو الى أن تزول دولتهم وتعود الى متحف التاريخ مثل شقيقتيها السابقتين الدولة السعودية الأولى والثانية .
كنت أحترق وانا أكتب هذا الفصل من الكتاب عن ناصر السعيد . كنت اكتم اعجابى به . اذ أن المنهج العلمى التاريخى يفرض على قلمى الألتزام التام بالحياد تاركا للقارىء أن يكون رأيه بنفسه . كان الضحية المسالم يتوجع أمامى بين السطورفى مواجهة الطغيان المسلح، الا أن المنهج العلمى البارد يتطلب الحياد حتى فى الصراع غيرالمتكافىء بين الطرفين .
ألان بعد الكتابة المحايدة استطيع أن اعلن رأييى الشخصى كما اشاء فى هذه المقدمة . أقولها عن دراسة وعلم وتخصص فى تاريخ المسلمين من بدايته الى الآن : ان ناصر السعيد أعظم شخصية انجبتها الجزيرة العربية طيلة تاريخها منذ العصر الأموى حتى الآن .وانه – كمصلح مسالم - أعظم من أنجبته منطقة "نجد " الدموية طيلة تاريخها ، وانه يحق لابناء حائل وشمر أن يفخروابه ، وأن من واجبه عليهم أن يعطوه حقه من التكريم وأن يخلدوا اسمه ما استطاعوا الى ذلك سبيلا. ان تعذر عليهم اطلاق اسمه على الشوارع والميادين والمدارس والمتاجر ففى الفضاء الفسيح متسع لهم حيث لا سيطرة لآل سعود . يمكنكم أن تعطوه بعض حقه على الآنترنت ، فى مواقع تنشر مؤلفاته وتسجل كل تراثه وتاريخه الشخصى، وابحاث تناقش آراءه وتصل بها الى كل المراكز العلمية والبحثية تعرفها به وبجهاده وباسبقيته فى الدعوة للاصلاح السلمى وامكانية الاستفادة برؤاه الاصلاحية حتى الآن حين أصبح اصلاح الشرق الأوسط مهمة دولية وانسانية.
ان هناك وجهتا نظر فى تحديد العظمة.
يرى البعض العظمة فى النجاح السياسى وفق معايير السياسة القائمة على المنفعة وتأسيس السلطان أوالوصول للسلطة والانتصار على الخصوم. ينطبق هذا على سائر منشئى الدول فى التاريخ ، والمحاربين " العظماء" من تحتمس الثالث ورمسيس الثانى وقمبيز ويوليوس قيصروهرقل وأبى بكر وعمر ومعاوية وعبد الملك بن مروان وعبد الرحمن الداخل "صقر قريش"وابن طولون والاخشيد والمعز لدين الله الفاطمى وقطز وبيبرس وجنكيزخان وهولاكو وخوارزم شاه وطغرل بك و الشاه اسماعيل الصفوى وأتيلا وتيمورلنك ومحمد الفاتح العثمانى والسلطان سليم الأول ومحمد على باشا ونابليون وبسمارك وهتلر وموسولينى وتشرشل ولينين وستالين وعبد الناصر..و عبد العزيز آل سعود.
لكنها عظمة قامت على دماء ملايين الضحايا الأبرياء وصرخات ملايين الأطفال والأرامل . عظمة قامت على القتل والسلب والنهب والتدميرفى سبيل شخص واحد أو قبيلة واحدة.. ظلم ما بعده ظلم ، وليست هناك عظمة فى الظلم ولا ينبغى ان تكون.!!
ويرى البعض الاخر – وأنا منهم – أن العظمة الحقيقية هى العظمة الانسانية الأخلاقية التى تقف مع الحق والخير والسلام . رواد العظمة بهذا المفهوم هم الأنبياء صفوة البشر ، ثم أمثلة مضيئة بعطائها فى كل زمان ومكان، من عمر بن عبد العزيز الى الحسن البصرى و سعيد بن جبير وأبى حنيفة فى العصور الوسطى الى غاندى ومارتن لوثر كنج ومانديلا وناصر السعيد فى عصرنا الراهن .
ما كتبه ناصر السعيد فى اصلاح الدولة السعودية هو أساس الاصلاح لهذه الدولة، وقد ماطلت فى تنفيذه فتسببت فى مقتل مئات الألوف من البشر. تلامذة ناصر السعيد اليوم هم: متروك الفالح والدمامينى والحامد وغيرهم . هم زعماء الاصلاح الحقيقيون اليوم فى السعودية والذين حكم النظام السعودى بسجنهم لمناداتهم بالملكية الدستورية ثم قام الملك عبد الله بن عبد العزيز باطلاق سراحهم أخيرا ليعطى بارقة أمل فى توجه اصلاحى نرجو له أن يستمر.
أمام الملك عبد الله السعودى فرصة تاريخية الآن ليكفر عن خطايا أسرته وليمد فى عمر الدولة السعودية الثالثة الحالية. عليه فقط أن ينفذ المشروع الاصلاحى الذى نادى به ناصر السعيد منذ نصف قرن وعانى من أجله طيلة حياته.
معنى ذلك ان ناصر السعيد لم يمت، ولن يموت مابقى فى الناس من يقرأ ويكتب ويعى ويفهم . الذين يموتون وهم احياء هم اولئك الذين يموت ناصر السعيد وأمثاله من اجلهم ثم لا يتحركون ولا يهتزون .
تحركوا ايها الناس .. اجعلوا العالم المتحضر يعرف انكم أحياء ترغبون فى الحرية مثل الشعوب الآفريقية " الشقيقة"...
وبعد ـ فهذا هو الفصل الخاص بحركة ناصر السعيد . اقتطعته من كتابى المخطوط وأنشره كما هو تحية من مؤرخ ـ متخصص فى السيئات ـ الى ابن شمر العظيم وفخر الجزيرة العربية المناضل المفكر المسالم "ناصر السعيد ".
القسم الثاني
الفصل الاول
معارضة ناصر السعيد (1923 –1977)
في عصر الملك سعود (1953 –1964)
مقدمة :
اولا :البترول المؤثر الحقيقي في سياسة الملك سعود وفي المعارضة :
أ- تطور الانتاج البترولي في عصر سعود .
ب- البترول وترف الملك سعود .
جـ – البترول وتحديث المملكة السعودية .
نتائج تحديث المملكة :
1- تهميش دور علماء الدين .
2- اخضاع علماء الدين للدولة .
3- وجود تنافس مدني علماني لعلماء الدين .
4- اهمال الاصلاح الاجتماعي والتحديث التحتي .
د – اثر البترول في سياسة سعود الخارجية .
ثانيا : حركة ناصر السعيد :
حياته –نضاله –مطالب ناصر السعيد .
تحليل الخطاب الايدولوجي لناصر السعيد :
بين الاصولية السنية والمعاصرة والتقدمية .
الاصولية الدينية في خطاب ناصر السعيد :
في الافتتاح – في الاستشهاد –في الاجتهاد الديني .
موقفه من الثورة ومن الثروة .
المعاصرة في خطاب ناصر السعيد .
التقدمية في خطاب ناصر السعيد .
تأثير حركة ناصر السعيد :
1- ظهور حركات معارضة متنوعة :عسكرية –الامراء الاحرار – المعارضة اليسارية والقومية .
2- عزل الملك سعود وتنفيذ بعض الاصلاحات التي طالب بها ناصر السعيد.
3-التمهيد للاصولية السلفية :حركة جهيمان العتيبي .
الفصل الاول :
معارضة ناصر السعيد السنية في عهد الملك سعود (1953: 1964)
مقدمة
عبقرية المكان في مصر فرضت علي عبد العزيز جهودا مضاعفة يمهد للدعوة الوهابية فيها ،والتي تمخضت عن تشكيل حسن البنا لجماعة الاخوان ذات الايدولوجية الوهابية ، الا ان ذلك صادف ظروفا ملائمة في مصر اتاحت لجماعة حسن البنا الانتشار فيما بين (1952:1928)اذ شهدت مصر في تلك الفترة حياة ليبرالية سياسية ولكن تفتقد الي العدل الاجتماعي ،بمعني ان الحراك الاجتماعي لم تكن فيه مرونة لترحب بانتقال المتعلمين من ابناء الفلاحين والعمال (الطبقة الدنيا) الي الطبقة الوسطي ولم تكن فيه مرونة لينتقل بها ابناء الطبقة الوسطي الي الطبقة العليا . ومع وجود الليبرالية السياسية وحرية العمل السياسي والصحفي والادبي فقد اختارت الاجيال الشابة المحرومة ان تعبر عن نفسها من خلال جماعات للرفض والتمرد التي اعتنقت ايدولوجيات مختلفة ،من اقصي اليسار كالشيوعية بكل اطيافها والشوفينية مثل حزب مصر الفتاة .ومن الطبيعي ان يجد حسن البنا للاخوان المسلمين متنفسا لحزبه ليكمل الدائرة باليمين الديني المتشدد ، ووجد شباب اخرون طريقهم للجيش من خلال الكلية الحربية ،وتكون منهم تنظيم الضباط الاحرار الذين عكست اتجاهاتهم وانتماءاتهم جيل الرفض ،من الشيوعيين والاخوان ومصر الفتاة ، ومن هنا كان ترحيب الاخوان والشيوعيين ومصر الفتاة بقيام الثورة ،وظهر التحالف واضحا بين الثورة والاخوان بالذات ، ثم ما لبث ان اختلفوا سويا بحيث تآمر الاخوان علي حياة جمال عبد الناصر في حادث المنشية ، فأوقع بهم عبد الناصر ، ومن نجا منهم هرب الي السعودية موطن ايدولوجيتهم .ومن هنا تحتمت المواجهة بين مصر الناصرية والسعودية في عهد سعود .
وعبقرية المكان في مصر لم تفرض علي عبد الناصر جهدا يذكر في تصدير افكاره الثورية الي السعودية وغيرها ، بل كان من السهل عليه ان يقطع دابر الاخوان المسلمين وفكرهم الوهابي السلفي في مصر ، بل ويحاصره داخل السعودية .خلالها تقلص ذلك الفكر نسبيا امام الافكار الناصرية التي فرضت وجودها بفعل الثقل المصري في ذلك الوقت الي درجة التأثير في بعض الامراء حتي تكون منهم تنظيم الامراء الاحرار علي نسق تنظيم الضباط الاحرار في مصر .
وامتزجت عبقرية المكان مع زعامة عبد الناصر وسياسته في الخمسينات التي اتبعها في سياسة فن الممكن في زمن المستحيل او فن المستحيل في الزمن الممكن ،ففجر الثورة ،واجلي الاحتلال البريطاني ،وواجه العدوان الثلاثي وحقق الوحدة مع سوريا وكل ذلك في مواجهة القوي الكبري . الا ان انجازه الاكبر كان في تغيير المناخ المحلي والاقليمي والعالمي ،اذ نشر ايدولوجية اليسار والقومية العربية وتحالف قوي الشعب والحياد الايجابي وعدم الانحياز وذلك في مواجهة الاستعمار والسياسة الامريكية وتحالفها مع اسرائيل . وكان من الطبيعي ان يتحالف عبد الناصر مع الاتحاد السوفيتي ومعسكره الشرقي ، وان يتزعم دول العالم الثالث وشعوبه في حرب التحرير والاستعمار القديم والامبريالية الامريكية ، وبالتالي يقف ضد الدول التابعة للمعسكر الغربي ،وما كان يسمي بالنظم الرجعية ،وكانت السعودية مع ايران والاردن اهم الدول الرجعية في ذلك الوقت .
وهذا المناخ الجديد الذي صنعه عبد الناصر محليا واقليميا وعالميا دفع ثمنه الملك سعود الذي سار علي نفس طريقة والده في التمتع بالرفاهية والاستبداد والتمسك بالسلفية الوهابية الرجعية ، وكان ممكنا ان تسير حياته السياسية دون اعتراض كبير بمثل ما حدث في العشرين سنة الاخيرة في حياة والده ، الا ان المناخ الذي انشأه عبد الناصر وقف له بالمرصاد ، ومن هنا واجه سعود معارضة ناصرية ما لبثت ان قضت عليه ..اذ كان سهلا علي خصوم آل سعود ان يعتنقوا الايدولوجية الناصرية بديلا عن الايدولوجية الوهابية .وأبرز أولئك الخصوم كان ناصر السعيد.
ومن الطريف ان عبد الناصر كان يمارس في سياسته الداخلية نفس سياسة سعود ، فقد اتهم سعود بالديكتاتورية وتضييع الاموال في الاسراف والملذات . وعبد الناصر ايضا كان يحكم بالشرعية الثورية مستبدا .عطل دستور 21 وصادر الحريات التي عاشتها مصر اثناء الفترة الليبرالية من 1952:1923 وقام بالتنكيل بمعارضيه حتي من داخل الجيش وغيرهم من الشيوعيين ومن أسماهم بالرجعيين . واذا كان سعود قد اضاع ملايين في الاسراف علي متعته ورفاهيته فان عبد الناصر اضاع رصيد مصر من الذهب في مغامرة فاشلة في حرب اليمن .ثم كانت الطامة الكبري في هزيمة 1967.. والاستبداد بكل اشكاله يؤدي الي نفس النتيجة ،الا ان الدعاية المصرية التي انفردت بعبقرية المكان ادانت الملك سعود بقدر ما رفعت عبد الناصر الي عنان السماء ، وبينما اخمد عبد الناصر اصوات معارضيه فان معارضي الملك سعود ارتفعت اصواتهم حتي داخل المعسكر السعودي نفسه وارغمت سعودا علي الرحيل .
علي ان المناخ داخل السعودية كان مواتيا لازدهار المعارضة ولاستقبال الدعاية الناصرية ، والجيل الذي عايش عبد العزيز قد انتهي أو أحيل للاستيداع ،وجاء بعده جيل جديد ،جزء منه تعلم تعليما مدنيا علمانيا وله استعداد لتقبل الاراء الجديدة ،كما ان معظم هذا الجيل حتي من تعلم تعليما محافظا اصبح يستمع للاذاعات ويستعمل المخترعات ، أي اصبح اكثر تفتحا من الاخوان – اخوان عبد العزيز وجنده الأشداء المتزمتون - والعلماء في عصر عبد العزيز . وبرحيل عبد العزيز اخذ معه كاريزميته وقوة شخصيته ولم يكن بامكان ابنه سعود ان يملأ مكان والده فتعرض للانتقاد .وبهذا تفاعل الداخل مع التأثير الناصري الخارجي في بعث حركة معارضة جديدة .
للوهلة الاولي يبدو للباحث ان معارضة ناصر السعيد لا تدخل في اطار المعارضة السنيةالاصولية السنية ،وان هناك مؤثرات في المعارضة للملك سعود تتمثل في دور هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجامعات الاسلامية التي ادت الي نمو الاصولية، وان سياسة الملك سعود ادت الي تفاقم المعارضة بحيث انتهي الامر الي عزله .
ولكن البحث المتعمق يتضح منه ان معارضة ناصر السعيد .وان كان لها توجه اشتراكي وتأثر بالناصرية الا انها صدرت عن رؤية اصولية سنية وتغلفت بخطاب ديني في الاساس ..كما ان المؤثر الحقيقي في المعارضة في عصر سعود هو البترول الذي ادي الي تحديث الدولة السعودية داخليا، واثر هذا التحديث علي وضعية علماء الدين ، كما ان ظهور البترول وتوجه الدولة الي التحديث الفوقي شغلها عن اصلاح ضروري للبنية الاساسية واصلاح احوال الطبقات الفقيرة ،هذا مع اشتهار الملك سعود بالترف . وواكب هذا التأثير الداخلي تأثير خارجي تمثل في تحالف الملك سعود مع امريكا وعدائه مع عبد الناصر و المعسكر الاشتراكي …وكل ذلك ادي الي توجه المعارضة السعودية في عصر الملك سعود الي التأثر بالفكر الاشتراكي السائدمع اختلاف درجات هذا التأثر ، وكان من ابرز المعارضين هو ناصر السعيد ،ليس فقط لأنه اشهرهم واكثرهم صمودا و اعلاهم صوتا ،ولكن ايضا لأن مرجعيته كانت دينية تنحو نحو العدالة الاسلامية وتحمل ايضا في طياتها اجتهادا دينيا يؤكد علي حقيقة ان الاسلام صالح لكل زمان ومكان اذا وجد مفكرين اسلاميين يصيغون منه ما عدالة الاسلام ومقاصد الشريعة مع واقعية فى فهم عصره وظروف مجتمعه ،هذا في الوقت الذي تضاءل فيه –نوعا ما- دور علماء الدين في السعودية وغرق المعارضون الاخرون في التوجهات الاشتراكية يناسب عصرهم . و قد كان اجتهاد ناصر السعيد الاسلامي يربط بين والقومية .
وفي هذا المبحث نتتبع اثر ظهور البترول في سياسة الملك سعود داخليا (تحديث الدولة وسياسة الترف ) وفي سياسته خارجيا حيث وضع البترول المملكة علي حافة الاهتمام الدولي والتأثر والتأثير في العالم الخارجي ،واثر تحالفها مع امريكا في عدائها للمعسكر الناصري والشيوعي والاشتراكي ،وكيف اثمرت سياسة سعود الداخلية والخارجية في نمو المعارضة ،وفي توجيهها وصبغها بصبغة اشتراكية ،ثم نسير مع ناصر السعيد وحركته ومطالبه التي اثارها وتحليل خطابه في المعارضة سياسيا ودينيا وفكريا ،واثار معارضته علي الصعيد الداخلي للملكة ..
اولا: البترول المؤثر الحقيقي في سياسة الملك سعود وفي المعارضة :
أ- تطور الانتاج البترولي في عصر سعود :
شهد الملك عبد العزيز في حياته التضخم الهائل في ثروة البلاد من انتاج النفط .فقد كان 200 الف دولار قبل الحرب العالمية الاولي ،ووصل الي 10 مليون دولار قبل الحرب العالمية الثانية ، ليصل الي 60 مليون دولار في عام1948 ، ثم 160 مليون دولار في عام 1952 .ثم ارتفع سنة وفاته ليصل الي 250 مليون دولار .وكانت ايرادات الدولة 757 مليون ريال ،جاء منها 90% من عوائد النفط [1].
وبرغم اتهام الملك سعود بالاسراف ودخول المملكة في اواخر عهده في متاعب مالية اسفرت عن عزله ،الاان دخل المملكة في اخر سنة من عهد سعود وصل الي 500 مليون دولار [2] .ومن الطبيعي ان ينعكس ذلك علي سياسة سعود وعصره حتي لقد كان البترول هو المؤثر الحقيقي التي تبلورت منه حركة المعارضة .
ب- البترول وترف الملك سعود :
حتي 1959 حين ظهرت اول ميزانية للدولة السعودية عمادها البترول لم تكن هناك تفرقة واضحة بين اموال الدولة واموال الاسرة الحاكمة ،حيث كان عبد العزيز يعتبر اموال الدولة ملكا شخصيا له ينفق منها علي احوال المملكة حسبما يتراءي له وفق ما كان سائدا في تاريخ المسلمين في القرون الوسطي . ثم مع بداية التحديث انشئت وزارة المالية لضبط حسابات المملكة والتفريق بين مالية العرش ومالية الدولة ،وفي الميزانية المذكورة لسنة 58 :1959 تخصص للعرش السعودي 17% من الميزانية لانفاقها وفق رغبة الملك ،بالاضافة الي 19% من الميزانية وضعت تحت بند (نفقات اخري )لتنفق حسب الرأي الشخصي للملك ايضا .
وخلافا لوالده عبد العزيز فأن الملك سعود اشتهر بالترف و الاسراف خصوصا مع الطفرة البترولية ،وشاع الحديث عن ترف القصور الملكية في عهده ،بما يتناقض مع المحاذير الوهابية السلفية وما كانت عليه المملكة من تقشف قبل ظهور البترول [3] وقد بلغ ما انفقه الملك سعود علي (الناصرية ) (وهي مدينة تشمل عشرات القصور ومساحتها 8 كم ) 8 مليون ريال .وحين اصبحت من الطراز القديم هدمها وبني اخري حديثة مكانها بمبلغ 850 مليون ريال ،منها 43 مليون دولار للخدمات الخاصة بالبلدية ،وفيها مدارس للامراء من ابناء سعود وملاعب ودور سينما وحمامات صناعية للسباحة ،وجميع وسائل الراحة والمطاعم الامريكية ،وكانوا يحضرون له الطعام من الخارج خصيصا مقابل 350 الف دولار شهريا ،كما يشرف الامريكان علي جميع مرافقها وشئونها ،وقد اقيم من اجلها مشروع الخرج الزراعي لسد حاجتها من الحليب والزبدة والدجاج واللحوم والبطيخ ،وتكلف مشروع الخرج 27 مليون دولار ،واستوردوا له ابقارا ودجاجا من الولايات المتحدة كلفت الخزينة 20 مليون دولار [4] .هذا في الوقت الذي سرق فيه ثلثمائة بدوي في الاحساء بعيرين واكلوهما بسبب الجوع فأمر حاكم الاحساء سعود بن جلوي بقطع ايديهم جميعا وتغريمهم ستمائة ريال ثمن البعيرين [5] .
صحيح ان الملك سعود سار علي طريق ابيه في اعطاء البدو رواتب ،الا انها كانت هزيلة للافراد وجزيلة- نوعا ما- لشيوخ القبائل [6] ،ولم تتوازن مع حجم الاسراف والترف الذي احاط بالقصور الملكية ،وفي تلك الفجوة بين الترف والفقر لعبت المعارضة للملك سعود وتحددت اطروحاتها الفكرية والسياسية في الدعوة للاشتراكية والعدل الاجتماعي مع تنوع المرجعيات ..مابين ناصرالسعيد والرفاق الاشتراكيين والشيوعيين ،حيث كان العصر عصر الاشتراكية .
جـ – البترول وتحديث المملكة السعودية :
ادي ظهور البترول ونشأة الاقتصاد النفطي في المملكة السعودية الي اقامة هياكل ادارية معقدة اختلفت عن البساطة الادارية في عهد عبد العزيز ،فحتي عام 1951كانت توجد ثلاثة وزارات فقط هي الخارجية وانشئت سنة 1930 والمالية سنة 1932،والدفاع سنة 1946 ،وكانت تنظيماتها وادراتها بسيطة ،ولكن اصبحت الوزارات اكثر عددا ،واصبح عملها اكثر تعقيدا ،فقد انشئت وزرات الخارجية والتعليم والزراعة والمواصلات والتجارة والصناعة فيما بين 1951 :1954 ،ثم اضيفت ست وزارات اخري مع ثلاث وزارات دولة بدون حقائب وزارية فيما بين 1960 :1962 .وانشئت اقسام مستقلة ومكاتب في ادارات الدولة ،وانشأ مجلس الوزارات هيئات ووكالات حكومية عامة في الستينيات للسكة الحديدية والبترول والتعدين والخطوط الجوية ….ألخ .[7]
واسفرهذا التحديث للمملكة عن نتائج اربعة هامة :
(1) تهميش دور علماء الدين :
كان علماء الدين في نجد اكثر تأثيرا وتشددا واقوي نفوذا عن زملائهم في الحجاز الذي كان اكثر انفتاحا علي العالم واكثر تأثرا بالتطور السائد في عصرهم ،ومن هنا كان التعليم السلفي مسيطرا في نجد في مقابل ما يمكن تسميته بالتعليم العلماني الذي عرفه الحجاز من قبل دخوله في السيطرة السعودية ..
الا ان علماء الدين في نجد والحجاز كانوا تابعين للسلطة الادارية السعودية التي توازن بين السلطةالاصولية السنية الوهابية النجدية والتحديث ،ومن الطبيعي ان يؤثر التحديث التي سارت فيه المملكة علي السلطة المتوارثة لعلماء الدين الوهابيين خصوصا في نجد والرياض عاصمة الدولة التي اخذت تتأهب في عصر سعود لتكون عاصمة عصرية .
لقد صاحب اتساع الهياكل الادارية تزايد سلطانها علي عدد هائل من المجالات الاجتماعية بما فيها تلك التي كان يديرها علماء الدين والمؤسسات الدينية .فالمجلس البلدي مثلا كان تمثيل العلماء فيه محدودا ،واصبحت السيطرة فيه علي مجالات كانت تخص رجال الدين ،مثل ادارة الاوقاف والمدارس الدينية والتعليم . بل ان مناهج التعليم لم تقتصر علي العلوم الدينية بل اضيفت اليها العلوم الحديثة التي كان يعارضها علماء الوهابية من قبل .
بل تعدي الامر الي القضاء ،وهو اهم مجال لعلماء الدين ،اذ ان اكتشاف البترول وما تلاه من اتساع الخدمات الحكومية والقضائية وتنوع المشكلات المترتبة علي ذلك اظهر عجز المحاكم الشرعية التقليدية عن احتواء قضاياه ومشاكله وخصوصا في التعامل مع الاجانب ،وكان عبد العزيز يتولي بنفسه مثل هذه القضايا ،ولكنه مع حلول الثلاثينيات اصبح عاجزا عن التعامل معها كلها ،والمحاكم الشرعية اصبحت (خارج القضايا المحلية المدنية والجنائية )عاجزة في حل القضايا الخاصة بالصراعات الناتجة عن الاقتصاد النفطي وتعقيداته .وهكذا حول عبد العزيز تلك السلطة القضائية الي لجان ومجالس ومحاكم خاصة متميزة عن النظام القضائي العادي ،مثل هيئة المظالم ولجنة فض المنازعات التجارية واللجنة العامة لقضايا الغش ،ويتحكم فيها خبراء تلقوا تعليما مدنيا علمانيا .ثم مالبث ان ادمج عبد العزيز هذه الكيانات في النظام القضائي للدولة .وعلي سبيل المثال انشأ الملك سعود فيما بعد هيئة المظالم سنة 1955 ويقوم الملك بتدبير سياستها وتعيين رئيسها ونائبه وتخضع قراراتها لتصديق الملك ،وتتضمن سلطاتها نظر المظالم التي يرفعها المواطنون ضد هيئات و وزارات الدولة والقيام بالتحري عن المسئولين الحكوميين والتحكيم في النزاع المتعلق بالمرتبات والاجور والتعاقد والمعاش والتعامل مع الاجانب ….الخ ،ومع سلطاتها الواسعة فان تمثيل علماء الدين فيها يقتصر علي اثنين فقط يمثلون الشريعة [8].
2- اخضاع علماء الدين للدولة :
ضمن سياسة التحديث والتطوير احكمت الدولة السعودية قبضتها علي علماء الدين ،وادمجتهم في ادارة الدولة ضمن الهيئات التالية :هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ادراة البحوث الدينية والافتاء والدعوة ،مراقبة تعليم البنات ،مراقبة المساجد والاوقاف .
وعلي سبيل المثال كانت هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اقدم واهم سلطة في الدولة السعودية ،ويكفي انها بدأت سنة 1903 علي يد الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف آل الشيخ في الرياض بعد ان استردها عبد العزيز ،ثم توسعت الهيئة مع توسعات عبد العزيز في الجزيرة العربية ،الي ان وصلت بعد ضم الحجاز الي الاراضي المقدسة ،وكانت ادراتها العليا في يد واحد من ابناء الشيخ ،وهو يتلقي تعليماته من الملك ،ولم تكن مهمات المطوع في الهيئة محددة ،،وكانت سلطة المطوعين في البداية تغطي مساحات كبيرة من المملكة في الاسواق والمساجد والطرقات والملابس واللحي للتأكد من اتباع السنة طبقا للمفاهيم الوهابية ،ولكن ضم الحجاز المنفتح بطبيعته علي العالم الخارجي اوجد نوعا من التخفيف ،وادي هذا التخفيف ألي وجود نوع من المعارضة ضد عبد العزيز، مما جعله يصدر مرسوما ملكيا في 1930 يقضي بضم هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الي المراقبة العامة لقوات الشرطة ،وجرد المطوعين من سلطة القاء القبض التي كانوا يتمتعون بها من قبل ،وحصر وظائفهم في التبليغ عن ارتكاب المعاصي للشرطة ،وبذلك تحول دورهم الي عمل بيروقراطي اشرافي ،واقتصر علي حث الناس علي الصلاة .واصبحت مهامهم السابقة تؤديها وزارات الداخلية والصحة والمالية والاقتصاد الوطني والزراعة والعدل والشئون البلدية [9].ومن هنا اقترن تهميش دورهم بتحويلهم الي موظفين عاديين ذوي واجبات محددة لا يجوز تجاوزها والا تعرضوا للفصل .
وينطبق نفس الوضع علي هيئة الافتاء والدعوة والبحوث الدينية والارشاد التي اصبحت هيئة مستقلة من هيئات الدولة وتخضع للملك مباشرة ولرئيس الوزراء ،ومع قيامها بنشر المبادئ الوهابية في الخارج وتأكيدها في الداخل الا ان صوتها في معارضة آل سعود لم يكن مسموعا .وظل كذلك الي ان علا صوت الحركة السلفية المعارضة في حركة جهيمان العتيبي الذي كان اكثر سخطه موجها للعلماء المنتمين لهذه الهيئة، وكان يسمي علماءالدولة بعلماء الشهادات لأنهم في نظره يعبرون عن السلطة ولا يعبرون عن التوجهات الحقيقية الاصيلة للوهابية التي يتحرك علي اساسها من وجهة نظره .
وبالتالي فأن المنتظر ان تأتي المعارضة في عصر سعود من جهات خارج نطاق علماء الدين، خصوصا وان علماء الدين في ذلك الوقت انشغلوا بمواجهة منافسين جدد هم العلماء المدنيون او العلمانيون الذين احتاجتهم الدولة في تحديثها وتطويرها .
3- وجود تنافس مدني علماني لعلماء الدين :
شهد عصر سعود ظهور نخبة علمانية مدنية تتنافس مع النخبة الدينية في مجال التوظيف لدي الدولة واجهزتها الادارية والسياسية .واسهم في ايجاد هذه النخبة المدنية نظام التعليم المدني الذي بدأ رسميا سنة 1952 عندما انشأ عبد العزيز الادارة العامة للتعليم برغم معارضة علماء الدين ،ونتيجة اصرار عبد العزيز تحولت ادارة التعليم الي وزارة للتعليم في سنة 1953 برئاسة الامير فهد وانشئت فيها اقسام للتعليم الابتدائي والثانوي وتدريب المعلمين والتعليم الفني والبرنامج الدراسي لدراسة الطلاب السعوديين في الخارج ،وانشأ كليتين احدهما للشريعة واخري للمعلمين في مكة .
ثم بدأ التوسع في عهد سعود في انشاء المدارس ليشمل مدارس البنات وليصل الانفاق العام فيه الي 168.8 مليون ريال سنة 1960 :1961 .وبرغم معارضة العلماء السعوديين انتشرت مدارس البنات منذ سنة 1960بعد الاعتراف الرسمي بحق المرأة في التعليم سنة 1959 وتم انشاء مؤسسات جامعية للمرأة سنة 60 :1961 في جامعة الرياض ،ثم تزايد عددها بعدها .
وفي عام 1957 تأكد التعليم العام الجامعي بافتتاح جامعة الملك سعود في الرياض ،وفي الاعوام التالية افتتحت كليات البترول والمعادن وجامعة الملك عبد العزيز ،وتخرج في هذه المدارس والجامعات جيل جديد مختلف في عقليته وتفكيره عن ابائه وعن الفكر الديني التقليدي ،وهذا الجيل الجديد وجد طريقه في التوظيف في ادارات الدولة وقام بدور هام في تحديثها ،ووصل الي اعلي المناصب ،وكون ما يعرف بالنخبة العلمانية وكان لها تأثيرها في عصر الملك سعود .
وقد انعكس التأثير العلماني في زيادة عدد الوزراء العلمانيين الذين تولوا الوزارات الجديدة مع الامراء فيما بين 1954 :1958 ثم تزايد عددهم اكثر في سنة 1960 حين عين الملك سعود خمسة وزراء خارج الاسرة المالكة منهم اربعة وزراء تخرجوا في جامعة القاهرة وكانوا شبابا وقتها ،وكان خامسهم في الخامسة والثلاثين حين تولي الوزارة ،وتخرج في جامعة تكساس وتولي وزارة البترول والثروة المعدنية .وبالتالي اصبح للعلمانيين الدور الاكبر في الادارات الحكومية باستثناء الحرس الوطني والهيئات الدينية .
واصبح واضحا وجود تنافس بين العلمانينن والسلفيين في ادارة الدولة ،يريد العلمانيون الاصلاح والتطوير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ،بينما يريد السلفيون تأكيد الطابع الوهابى ،ولكن يظل الملك هو محور الارتكاز في التوازن وضبط الصراع بين الاتجاهين .بحيث يحافظ النظام السعودي علي الوهابية مع التكيف مع الظروف المتغيرة [10] الا ان سياسة سعود لم تصل بالتحديث الي اصلاح احوال الطبقات الفقيرة ،وحين انشغلت النخبة السلفية بالتنافس مع النخبة العلمانية وبالحفاظ علي مصالحها في اطار التوظيف السعودي فأن المعارضة جاءت من جانب العلمانيين المنشقين المتأثرين بالايدولوجيات الاشتراكية ،خصوصا وقد كانت اعينهم علي مثالب الواقع المحتاج الي الاصلاح.
4- اهمال الاصلاح الاجتماعي والتحديث التحتي :
لم تصل اصداء الاصلاح والتحديث الي البوادي والقري وسكانها الذين عاشوا في رتابة التقليد لولا ان بعض ابنائهم تفتحت عيونهم علي التغيرات الجديدة وطالبوا بوصولها الي بلادهم وعشائرهم .واذا كان بعضهم يحمل ثأرا قبليا ضد آل سعود، فما اسهل ان تتحول مطالبه الي معارضة ،وهذا ما حدث مع ناصر السعيد ابن مدينة حائل عاصمة اقليم شمر .
ولعبت شركة ارامكو دورا كبيرا في تحديث المجتمع السعودي باشاعة التعليم الحديث ،اذ انشأت اول مدرسة ابتدائية لتعليم الكبار سنة 1940 ونظمت لموظفها المحليين بعثات دراسية في الخارج في اوروبا وامريكا حيث تعلموا وتعرفوا علي مظاهر التقدم العلمي ،وعادوا بأفكار جديدة عن الحقوق والواجبات [11] فمالبث ان عانت منهم ارامكو …
وفي خطابه الذي القاه ناصر السعيد امام الملك سعود في مدرسة حائل في 11|12|1953 ،بدأه بقوله للملك (باسم الله الحق ،بأسم العمال المعذبين ،باسم الفلاحين الذين اصبحو فريسة للمرابين …بأسم البدو المشردين ،بأسم الشعب العظيم الذي حرم من نور العلم طويلا طويلا يا طويل العمر )أي يحدثه باسم الفقراء من العمال والفلاحين والبدو .ثم يسأل الملك الذي كان يزور حائل بمناسبة بيعته ملكا ،فيقول له (هل تجشمتم مصاعب الطرقات الوعرة…بقصد الدعاية لنفسك ام بقصد الترفيه ..اذ ليس في مئات المدن والقري والصحاري التي مررتم بها الا الفقراء الذين رأيتهم يمدون ايديهم …ضارعين من الفقروالمرض والجهل اللعين ..وكان بأمكانك ان تقطع هذه المسافة بالطائرات ولكنك قطعتها بالسيارات ..ولهذا نحاول ان نقنع انفسنا انك جئت حسب الظن بقصد الاطلاع علي ما يلاقيه شعبنا …وعرفت انت بنفسك بعد ان انكسرت العديد من سياراتك انه لا يوجد طريق واحد معبد ..كما لا يوجد علاج ولا معالج ولا ماء نظيف صحي ولا دواء ولا عمل ولا مساكن تليق بالانسان .وهذا ما جعلك تسكن في الخيام في كل مدينة تنزل بها، بما فيها حائل، لعدم وجود ما يصلح لسكناك كملك من مساكن شعبنا )أي ان تحديث المملكة لم يصل الي القواعد العريضة للشعب في المملكة في عصر سعود (53- 1964).
وارامكو التي ساهمت في التحديث عن طريق التعليم وارسال البعثات الي الخارج كانت ايضا لها مساوئها في التعامل مع العمال ،مما جعل الوعي الذي اسهمت في ايجاده ينقلب عليها ثورة عمالية في حركة ناصر السعيد ،ففي خطبته السالفة امام الملك سعود يقول ناصر السعيد عما فعلته ارامكو معه ومع العمال الثائرين(ولهذا فقد شردنا وعذبنا وسرحنا من العمل …حتي ان العمال قد سجنوا سجنا جماعيا خلف الاسوار الشائكة في وهج الشمس المحرقة وقطع عنهم الماء ومنع الطعام ،ثم سمح لهم اخيرا بالطعام ،ولكنه طعام سم يا سعود .هل تصدق ؟ لقد وضع لهم السم في طعام هذا المطعم المسمي بمطعم ابو ربع ريال ومات سبعة عشر من العمال ،وقد اسعف الباقون بغسيل بطونهم ،وادعت الشركة الاستعمارية ارامكو انه حدث لهم تسمم غير مقصود لأن قدور الطعام غير نظيفة ،ولكنه تأكد من اقوال احد الاطباء الفلسطينيين الذين يعملون في الشركة نفسها وكشفوا ضمن الاطباء علي حالة العمال المصابين ان التسمم حادث عن طريق سم حقيقي عثروا علي بقيته ،و قد ثبت هذا ،وعلي اتم الاستعداد ان اثبت لكم ما اقول )[13]
وفي الواقع فأن ارامكو كانت محور التحديث ،فمن عوائد البترول التي خرجت عن طريقها تم رسم السياسة السعودية في الداخل .وكانت تمثل في نظر عبد الناصر وناصر السعيد والاشتراكيين في الداخل والخارج مركز الاستعمار الامريكي في المنطقة كلها بعد ان وضع البترول المملكة السعودية في قلب الاهتمام العالمي، ومكن ابناءها من التأثر بما يجري في العالم ،واثر علي سياسة سعود الخارجية ،مما كان له اثره في توجيه المعارضة في الداخل وجهة اشتراكية .
(د) اثر البترول في سياسة سعود الخارجية :
وقد اعطينا فكرة سريعة عن بداية البترول السعودي [13] ..وبسبب البترول ورث الملك سعود وضعا مستقرا لسياسته الداخلية والخارجية تمثل في التحالف مع امريكا، الا ان قيام الثورة المصرية ،واعتناق عبد الناصر الفكر الاشتراكي وانضمامه الي المعسكر الشرقي في الحرب الباردة ضد امريكا ،كل ذلك عمق الخصومة بين عبد الناصر وسعود ،خصوصا مع اشتعال الخصومة بين عبد الناصر والاخوان ،وهروب معظمهم الي السعودية .وفي ظل الخلاف المعلن بين مصر والسعودية ايدت كل منهما الجبهات المعارضة للاخري ،فبينما ايدت مصر حركة ناصر السعيد وغيرها ايدت المملكة السعودية الاخوان المسلمين.
وندخل بذلك علي حركة ناصر السعيد الاصولية السنية الدينية السنية ذات التوجه الاشتراكي .
ثانيا :حركة ناصر السعيد :
حياته :
قبل ان تنشب الثورة المصرية سنة 1952 وقبل ظهور جمال عبد الناصر ظهر ناصر السعيد يعارض ال سعود مدفوعا في ذلك بعاملين : نشأته وظروف عمله .
لقد ولد ناصر السعيد بعد سقوط حائل في يد عبد العزيز بعام واحد أي سنة 1923 حيث كانت كراهية اهل حائل لابن سعود علي اشدها الي درجة انهم كانوا يطلقون علي المواليد الذين يولدون بعد سقوط حائل اولاد السقوط ،يقول ناصر انهم نظروا اليه حين مولده نظرة عدم استحسان (وكأنهم لا يريدون ان لا يولد احد بعد سقوط حائل بيد الاعداء ).
وفي هذا المناخ تربي ناصر السعيد علي كراهية ال سعود ،حيث كانت جدته حسنا السعيد تجمع النساء كل يوم خميس ،وتلقي فيهن محاضرات عن كراهية آل سعود وتدعوعليهم ، وقد ذكر ناصر السعيد اسماء بعض ضحايا اسرته في الدفاع عن حائل ومنهم عبد الله العيسي السعيد وعيسي السعيد وسليمان السعيد وفهد السعيد .
ويذكر ناصر انه دخل السجن مع جدته حين كان صبيا ، اذ رفضت جدته صدقة ارسلها اليهم والي حائل مساعد بن جلوي مع احد الخدم ،فما كان من الجدة العجوز الا ان ضربت الخادم ،فقبض عليها ،وقبل الافراج عنها بواسطة اهل حائل حرص الوالي ابن مساعد الجلوي علي شتمها ،وكان ذلك سنة 1930 ..
نضاله :
وفي هذا الجو المفعم بكراهية ال سعود نشأ ناصر السعيد .ثم حين شب عن الطوق التحق بالعمل في شركة ارامكو وجمع حوله تنظيما من العمال .
وفي 17/9/1947 قاد بهم مظاهرة فيما اسماه بيوم فلسطين ،في مدينة رحيمة ، وطالب برفض تقسيم فلسطين وقطع النفط عن امريكا وبريطانيا ،واسرع امير رأس تنورة الامير تركي بن عطشان بتهدئة المتظاهرين ،ورفض ناصر ، فأمر ابن عطشان باعتقالهم وحملهم الي سعود ابن جلوي حاكم الاحساء ،فاطلق الامير سراحهم .وفي نفس العام 1947 اصدرت ارامكو قانون تنظيم العمل والعمال في ستين مادة يضع نظام تصاريح العمل ويحظر انشاء نقابات او جمعيات عمالية لذلك قام ناصر سنة 1952 بتكوين لجنة لتمثيل العمال والمطالبة بحقوقهم فاعتقلتهم السلطات لولا الاضراب الذي قام به جميع العمال في اكتوبر 1952 احتجاجا علي سجنهم ،ولقيت الشركة خسارة فادحة ،فاضطرت السلطات الي اطلاق سراحهم ،وتم نفيه الي مسقط رأسة حائل .
ثم عاد الي العمل في الشركة سنة 1953 بضغط كبير من العمال ليقود اخطر اضراب تزعمته اللجنه التي انشأها ناصر في الظهران وكانت تمثل 6500 عامل ،وطالبوا بزيادة الخدمات الاجتماعية وزيادة الاجور والحق في تشكيل نقابة عمالية ،وقدموا طلبا بذلك لولي العهد الامير سعود فرفض طلبهم وامر باعتقال ناصر واعضاء اللجنة ،وتشكيل لجنة تحريات لتقصي اسباب مطالبة العمال بتشكيل نقابة لهم . وادي اعتقال ناصر وزملائه لاستنفار العمال لاضراب اشد اشترك فيه 13 الفا من عمال ارامكوا في كل مناطق الانتاج في الظهران وراس تنورة ،اعلنوا استعدادهم للاستشهاد في سبيل حقوقهم ،فاضطرت السلطات السعودية لارسال قوات مسلحة في المنطقة الشرقية ،وامر ولي العهد العمال بالعودة للعمل تحت التهديد بالطرد والفصل فلم يسمع له العمال، فامر باعتقال المزيد منهم . وتم تدارك الامر بالعفو عن ناصر ورفاقه المسجونين في سجن العبيد بالاحساء ،مع اخذ تعهد عليه بالاقامة الجبرية في حائل ،و ادخلت ارامكو اصلاحات اقتصادية مع دعم للغذاء والكساء ،وانشأت اول مدرسة لأطفال العمال ،وتخفيض ساعات العمل ،وتشكيل لجنة اتصال بين العمال والادارة .
اما ناصر فقد اطلق سراحه ،وفي الطريق علم بوفاة الملك عبد العزيز واستعداد الامارة لاستقبال الملك الجديد سعود ومبايعته ،وطلب منه امير حائل ان يلقي خطاب ترحيب بالملك ،فالقي امام الملك الجديد خطابا وضع فيه مطالب الشعب ،مما جعل الملك سعود يخرج غاضبا عازما علي قتله ،وارغم العمال شركة ارامكو علي عودة ناصر السعيد الي عمله في الشركة ،فظل عبئا عليهم .
وفي عام 1956 اتسعت حركة ناصر السعيد لتعبر عن الحركة الناصرية ،فقاموا باضراب شامل بمطالب سياسية ، فأمر الملك سعود باعتقال قيادات العمال ،واصدر مرسوما ملكيا في 11/6/1956يجرم الاضراب ويعاقب القائمين به بالسجن .كما امر سعود باغتيال ناصر السعيد ،فأشعره صديق له من الحرس الملكي بذلك فهرب الي بيروت .
وبعد خروجه من السعودية وخصوصا خلال الستينيات اصبح ناصر السعيد معارضا للسعودية من الخارج ينشر البيانات ويحرض ضد النظام ،وانشأ ما اسماه (اتحاد شعب الجزيرة العربية ) ذات التوجه الناصري الاسلامي .
وبعد انفصال سوريا عن مصر سنة 1961 م لوحق ناصر السعيد من قبل الانفصاليين و السعوديين، فغادر دمشق الي بيروت ومنها الي القاهرة حيث اشرف علي برنامج (صوت الامة العربية ) من برج القاهرة ،وكانت اذاعة سرية موجهة ضد السعودية وضد الانفصال في دمشق وضد حكام الخليج (الرجعيين )حسب قوله.
وفي 1962 افتتح من صوت العرب برنامج (اعداء الله ) الموجه ضد السعودية ،واشتعلت ثورة اليمن سنة 1962 فانتقل ناصر السعيد الي اليمن حيث افتتح مكتبا للمعارضة واشرف علي برنامج اذاعي تحت اسم اولياء الشيطان، كما قاد الكفاح المسلح من الحدود اليمنية .
وجاءت هزيمة 1967 لتقضي علي نشاطه السياسي ،اذ حوصر بعد مؤتمر الخرطوم وعودة العلاقات بين عبد الناصر والملك فيصل، واضطر ناصر السعيد للتنقل متخفيا بين (العراق وسوريا ومصر واليمن وليبيا )وبعد مقتل الملك فيصل واعلان الملك خالد العفو عن السجناء السياسيين في الخارج عاد الجميع الا ناصر السعيد ،حيث ظل في الخارج .
ثم حين اندلعت ثورة جهيمان العتيبي في الحرم واضطرابات المنطقة الشرقية في نوفمبر 1977غادر ناصر السعيد بيته في دمشق وذهب الي بيروت ليهاجم السعودية في وكالات الانباء والصحف ،فاختفي في يوم 7 /12 /1977 حيث يقال أن أحد أصدقائه من قادة منظمة فتح استدرجه الى فخ منصوب وسلمه للمخابرات السعودية [14].
رحمه الله تعالى رحمة واسعة..
مطالب ناصر السعيد :
والمطالب التي ناضل من اجلها ناصر السعيد ضمنها خطابه الذي القاه امام الملك سعود في مدرسة حائل في 11|12|1953 وذكرها في كتابه (تاريخ آل سعود )[15]ثم شرح هذه المطالب وفصلها في الرسالة التي بعثها الي الملك سعود من القاهرة ضمن منشورات الاحرار ،وقد اعتمدنا علي الطبعة الثانية من هذه الرسالة التي صدرت في 1|7|1958 .ومن الخطاب والرسالة تتحدد مطالب ناصر السعيد في الاتي :
1- اقامة مجلس شعبي (برلمان )حر ينتخب الشعب اعضاءه ،ويقوم بتمثيل ابناء الشعب كافة.
2- يضع مجلس الشعب بعد انتخابه دستورا مستمدا من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة وروح العدل التي دعا اليها الرسل ،ويكون الدستور عصريا يتضمن حقوق الشعب ويحدد مهام السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية .
3- يقوم مجلس الشعب باصدار قوانين تمنع تجارة الرقيق التي لا توجد (وقتها ) الا في المملكة ،وتحرم قطع الايادي والارجل وجلد المواطنين ،وتؤكد علي حرية الصحافة وحرية العقيدة وحرية المبدأ والتعبير والاجتماع ،وقوانين تفرض التعليم الاجباري علي كل ذكر وانثي ،وتفرض التجنيد الاجباري ،واصدار قوانين تمنع التعذيب في السجون ،وتمنع اسقاط الجنسية ،وقوانين تمنع اخذ الزكاة من الفقراء البدو والفلاحين ،وقوانين لاصلاح حال العمال باقامة انتخابات عمال لاتحاد عمال نزيه يدافع عن حقوق العمال ويمثلهم امام الحكومة ،ويقيم لهم نقابات ،ويكون هذا القانون بديلا عن القانون الجائر التي تستخدمه ارامكو ضد العمال ، واصدار قانون اخر بأنشاء محاكم عمالية تتولي قضايا العمال ،ويراعي قانون العمال مساواة العمال السعوديين في الحكومة بغيرهم من العمال الامريكيين و الاجانب ، وقوانين تمنع تسريح العمال وتدفع اجورهم اثناء الاجازات .وقوانين اخري لاصلاح حال الفلاحين بانشاء الاصلاح الزراعي، و قوانين بتخفيض الرسوم الجمركية وللاصلاح الاقتصادي ،وكما يقوم البرلمان بسن قوانين لمواجهة نفوذ ارامكو والنفوذ الامريكي مثل الغاء الاتفاقية الخاصة بالقاعدة الامريكية في الظهران ،وتعديل اتفاقية البترول مع ارامكو والغاء المرسوم الملكي رقم 2639 |2|223 الصادر في عام 1357 هـ والذي يطلق يد ارامكو في العسف بالعمال ،والزام ارامكو بدفع تعويضات و للعمال والضحايا .
4- ويواكب هذا الاصلاح التشريعي اصلاح اقتصادي وعمالي وتعميري ..اذ يطالب بشق وتعبيد الطرق في البلاد وتسهيل المواصلات ،وبناء مدن عماليه صحية ،وانشاء صناعة خفيفة وثقيلة ترتبط بالبحث عن معادن ،ويعمل فيها البدو الذين يمثلون 60 % من السكان ،ويلتفت للفلاحين والزراعة ،فينادي برفع مستوي الفلاح وحماية انتاجهم واراضيهم من سيطرة المرابين ،وانشاء بنوك زراعية لاقراضهم وتوجيههم واستيراد الالات والخبرة الزراعية لهم ،والعمل علي تحضير البوادي والقري ،واستصلاح اراضي البدووتسليمها للفلاحين ..ويركز اهتمامه علي اصلاح حال العمال ،فيطالب باعادة العمال المسرحين ،ورفع الغلاء عن العمال .
5- وهذا الاصلاح المادي في الصناعة والزراعة والبنية الاساسية استهدف غرضا اسمي كان يظهر بين سطور ناصر السعيد ،هو التنمية البشرية ،او رقي المواطن السعودي ،ويبدو هذا من حرصه علي تعليم المرأة ووجوب التجنيد وتحضير البدو والقري ،أي تحويل البوادي والقري الي مجتمعات حضارية متعلمة ،والحاق البدو والفلاحين بالمزارع والمصانع والجيش ،يقول مثلا عن التعليم (اصدار قانون يفرض التعليم الاجباري علي كل ذكر وانثي في كل مراحل التعليم، فهذا ما فرضه علينا النبي محمد فرضا [طلب العلم فريضة علي كل مسلم ومسلمة ]) ويقول عن التجنيد الاجباري (اصدار قانون يفرض التجنيد الاجباري علي كل فرد ،ولا اقول كل مواطن ومواطنة لأن هذا الوضع سابق لأوانه في مثل وضعنا الحالي ،ليصبح الشعب كله مسلحا ضد الاعداء ،وليس في هذا ما يخالف تعاليم النبي ،كما يفتي البعض ،وهذا ما فرضه علينا الدين ) وما قاله في خطابه كرره في رسالته حين يقول (توسيع برامج التعليم ونشره في انحاء البلاد كافة ، وتذليل العقبات التي وضعت في طريقه، وارسال البحوث العلمية بصورة واسعة للتخصص في مجالات مختلفة في البلاد المتقدمة علميا وزراعيا ،واباحة تعليم النساء وايجاد مدارس لهم اسوة بالبنين اتباعا لقوله عليه السلام ).
وحين يدعو في الرسالة الي التجنيد فانه يري في التجنيد لهم تنمية بشرية ،يقول (تدريب جيش الاخوان البدو عسكريا وضمه الي الجيش النظامي …ورفع مستوي الجيش عسكريا وثقافيا واجتماعيا وسن قانون التجنيد الاجباري ،كذلك رفع مستوي الشرطة الثقافي والاجتماعي ).
ويلتفت الي المساجين فيطالب بتحويل السجون الي اداة تعليم وتهذيب، واطلاق سراح السجناء السياسيين ،وارجاعهم الي عملهم وتعويضهم وتعويض اسر شهدائهم ،ومعني هذا اطلاق حرية النخبة المثقفة في بناء وعي المواطنين و احداث تنمية بشرية .
6- ويرتبط بالتنمية البشرية والاصلاح السياسي والتشريعي والعمراني محاربة الفساد .ومن وجهة نظره يتركز الفساد في الاستعمار الامريكي وعملائه داخل المملكة .ولم يكتف بأن يجعل للقوانين المقترحة دورا في مطاردة الفساد والمفسدين من الامريكيين واتباعهم ،وانما طالب بأجراءات اخري ،منها الغاء ما اسماه (مكاتب التجسس اللعينة ضد الجيش والشعب )و(ابعاد) مدير سكة الحديد الجاسوس الامريكي الملقب بالشيخ قلدي ..)و(الغاء اوكار التجسس الامريكية التي يشرف عليها امثال المستشرقيين العالميين )وذكر اسماءهم واماكن تواجدهم ،والحق بذلك المطالبة بابعاد الباكستانيين والعمال الاجانب وغيرهم (من خونة العرب )الذين تجلبهم ارامكو .
ومن وجهة نظره يرتبط بملاحقة الفساد (ايجاد ميزانية للمصروفات والواردات في كافة انحاء الدولة تتماشي مع حفظ ثروة الشعب وتعمير البلاد ،ووضع حد للتبذير ووسائل الترف والتصرفات الشخصية في ميزانية الدولة واموال الشعب .كبناء القصورو استيراد السيارات والكماليات ،وانواع الرقيق ،والزواج بالمئات من النساء ،وصرف الاموال في سبيل الشهوات والهبات والصداقات والعادات السنوية والرشوات ،والرحلات الملكية التي تنفق فيها الملايين بلا حساب )..
وفي موضع اخر يطالب بتطهير جهاز الدولة من جميع الدخلاء والخونة والحكام المرتزقة والجهلاء والظلمة ومحاسبة اللصوص الكبار الذين سرقوا مال الشعب مهما كانت مراكزهم وقرابتهم للبلاط الملكي ،واسترداد اموال الشعب المسروقة ليعاد استخدامها في سبيل المرافق العامة، وتأمين حاجات العجزة والمتسولين من ضحايا الظلم كمقطوعي اليد والارجل ومنكوبي السيول والحرائق .
وبالتالي فان ناصر السعيد لا يري ان اجهزة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوم بواجبها الشرعي ،لذلك نراه يطالب ليس فقط بألغائها ولكن بألغاء نفوذ آل الشيخ ،يقول (تحطيم الطغيان الديني المزيف الممثل بأفراد من آل الشيخ الذين استغلوا الدين (البرئ من دين محمد )لأغراضهم الشخصية وايذاء الشعب ،والغاء هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها بعكس اسمها تأمر بالمنكر وتنهي عن المعروف ،وتوظيف افراد هذه الجماعات في اعمال اخري نافعة للشعب ولا يضار بها الشعب ،فالشعب ليس بحاجة الي توجيه وارشاد من حكومة فاسدة ).
7- ومن الطبيعي ان تلك النظرة للسلطة الدينية المتمثلة في آل الشيخ والهيئات الدينية كانت تعبر عنها لمحات اخري سبقت يخالف فيها الاراء الدينية التقليدية ،مثل دعوته للتعليم (المدني ) وتعليم المرأة ،وعدم تطبيق الحدود، والمبادرة بتحريم الرق ،و قدر عددهم وقتها في المملكة بحوالي ستمائة الف من الذكور والاناث .وهناك مطالب اخري في هذا السياق تعتبر تحديا للموروث السلفي، مثل مطالبته بحرية الاعتقاد للشيعة ،يقول (اطلاق الحريات لأخواننا المواطنين من ابناء الشيعة لممارسة شعائرهم الدينية ومساواتهم في جميع مرافق الحياة العامة ،والغاء الطائفية الممقوتة).
ويرتبط بهذه النظرة رأيه في حرية الفكر والرأي ومطالبته باطلاق سراح السجناء السياسيين ،وحتي مع كراهيته للعاملين في هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ومطالبته بالغائها ،فانه يطالب بان يعملوا في مهن اخري مفيدة ولا يطالب بمصادرة حقهم في العمل .
8- ولم يكتف ناصر السعيد بالاصلاح الداخلي وانما التفت الي اصلاح السياسة الخارجية للمملكة ،فطالب ليس فقط بالابتعاد عن التبعية لامريكا ،بل بالتمسك بسياسة الحياد الايجابي والسير في قافلة التحرر العربي (بقيادة جمال عبد الناصر ،وتجنب مبدأ ايزنهاور اللعين ، وعدم التدخل في شئون البلاد الاخري ) (والتعامل مع البلاد الاخري اقتصاديا وسياسيا بما فيها الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية وبقية الدول الشرقية الاخري بصرف النظر عن انظمة الحكم فيها ،علي ان تضمن الحكومة سيادة البلاد واستقلالها ..)
تحليل الخطاب الايدولوجي لناصر السعيد :
في نظرة عامة لكتاب ناصر السعيد عن تاريخ ال سعود نراه يتبني وجهة نظر أحادية لا تري خيرا علي الاطلاق في تاريخ آل سعود ،وبالتالي احترسنا في النقل عنه في التأريخ للملك عبد العزيز ،الا فيما اتفق فيه مع المؤرخين الاخرين .وقد تحققنا من عدم امانته في نقل وتفسير بعض الاحداث التاريخية .هذا بالاضافة الي لغته الخطابية وعباراته التي لا تخلو من شتائم والفاظ نابية ،وعليه فانه من الافضل ان يقال عن كتابه( تاريخ آل سعود )انه منشورات للدعاية ضد آل سعود .
اما فيما يخص تأريخه لعلاقاته الشخصية مع الشخصيات التي تعامل معها ،فقد كان يحرص علي ذكر الاسماء للشخصيات المعاصرة لتاريخ الحدث ،ومن الطبيعي ان العهدة عليه فيما يرويه عن نفسه وعلاقاته بمن حوله من المعاصرين له ،وقد كتب كتابه في حياته وحياتهم ،ومع ذلك فاننا ننقل عنه وفق هذا التحفظ .ان العهدة عليه فيما يرويه ،ومن حق الاخرين تكذيب او تصديق ما يقوله عنهم في تاريخه وسيرته الذاتية .وينطبق هذا علي واقعة خطابه الذي واجه به الملك سعود في مدرسة حائل ..هذا مع ان ناصر السعيد قد دخل التاريخ فعلا في حركته الثورية ضد ارامكو واضرابات العمال المتلاحقة للافراج عنه ،واضطرار الحكومة السعودية وشركة ارامكو لتنفيذ طلبات العمال …بل لقد اصدرت هوليود فيلما سينمائيا دراميا عن حركته العمالية قام ببطولته الممثل الاصلع يول براينر في الستينيات ،أي انه فرض نفسه علي تاريخ المنطقة في الخمسينيات وبداية الستينيات كمناضل ظل يعاني في سبيل ارائه حتي موته الغامض في بيروت اثناء حركة جهيمان العتيبي .
وبغض النظر عن تحفظنا في تأريخه لسيرته التي كتبها بنفسه ،فأنه قد كان صادقا في مطالبه الاصلاحية ،ليس فقط لأنه عاني في سبيل تمسكه بهذه المطالب وارتضي السجن والتشريد والنفي والموت في سبيلها ،ولكن لأنه ايضا اكدها في خطابه وفصلها في رسالته اللاحقة ،ولم يتنازل عنها بينما سارع الاخرون من المناضلين لتلبية نداء العفو والعودة الذي اطلقه الملك خالد بعد رحيل الملك فيصل ،فعادوا وبقي ناصر السعيد مخلصا لمطالبه ومبادئه حتي نهايته .
ويمكن تحليل الخطاب الايدولولجي لناصر السعيد من خلال الاصالة والمعاصرة والتقدمية .
فالاصالة حيث استقي رؤيته الفكرية والسياسية من منابع اسلامية ،أي كان اصوليا في جذوره الفكرية ،والمعاصرة حيث اخذ من هذه المنابع الاسلامية الفكرية ما ينفع عصره، واستفادبالمناخ الثقافي السائد في عصره .اماالتقدمية فقد سبق الفكر الاصولي السنى التقليدي باجتهاد ديني ،وسبق ايضا الفكر العلماني وتقدم خطوات علي هذا وذاك ..
ونأتي الي التفصيل ..
الاصولية الدينية الاسلامية في رؤية ناصر السعيد :
تبدو هذهالاصولية السنية الاسلامية في الافتتاح وفي الاستشهاد وفي الاجتهاد
في الافتتاح : يفتتح خطابه (بأسم الله الحق )ثم يخاطب الملك قائلا (يا سعود ابن عبد العزيز دعني اناديك باسمك المجرد من الجلال والجلالة (فزخرف القول غرورا ..ولن يرضي الله تعالي عمن لا يرضي عليه شعبه ).
وهذه مقدمة فريدة في خطاب الملوك ،واذا صح انه فعلا واجه الملك بهذا الكلام علي الملأ ،فأنها شجاعة تقترب من الجنون ،واذا كان قد تخيل هذا وكتبه فهو صادق في تعبيره عن ذاته وعقيدته الاسلامية حيث يكون التحميد والاجلال لله تعالي وحده ..
الاستشهاد : ويتجلي انتماؤه الاسلامي الاصولي السنى اكثر حين يستشهد بالايات القرآنية والاحاديث المنسوبة للنبى والسيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين في تأكيده علي مطالبه السياسية وارائه الاصلاحية، ونعطي بعض الامثلة:
في دعوته لالغاء الرق في المملكة …يقول (يسن هذا البرلمان الشعبي كل القوانين والمراسيم والتشريعات التي ستلغي بموجبها جريمة بيع وشراء الانسان للانسان ،جريمة تجارة الرقيق الذي لا يوجد في أي بلد من بلدان العالم الحر كما يوجد في بلاد كان شعبها فيما مضي حرر الانسان من عبودية الاوباش في ثلاثة ارباع العالم …انها بلادنا وشعبنا يا طويل العمر )!!
ونري ناصر السعيد هنا لا يدخل في جدل فقهي حول موقف الفقه التراثي من الرقيق ،ولكن يدخل بسرعة الي اثر الاسلام في تحرير الانسان ،فكيف تنتهي تجارة الرقيق في العالم كله وتبقي في ارض النبي عليه السلام الذي حرر العالم من الرق من قبل ؟ الواضح ان الاستشهاد هنا رائع في بساطته ودلالته معا .
وفي نهاية خطابه : يحذر الملك من عواقب الظلم مقتبسا قوله تعالي (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيا عن بينة: الانفال42 )،ثم يقول في الخاتمة (كما تقول الاية :وان ليس للانسان الا ما سعي وان سعيه سوف يري ،ثم يجزيه الجزاء الاوفي )ثم يقول لسعود (السلام علي من اتبع الهدي ) أي انه يتبع الطريقةالاصولية السنية في الاستشهاد وفي الوعظ والترهيب .
وفي رسالته الي الملك سعود اكثر فيها من الاستشهادات ،حيث بدأها بالاستنكار علي سعود لاستخدامه اسم الاسلام في الحكم ،واستشهد بقصص الانبياء وتاريخ المصلحين ،حيث أوذوا باسم الدين ،والدين برئ من الظلم ،ورد علي مقولة الملك سعود في ان الاسلام يحرم حرية الرأي ،فاستشهد بالايات القرانية الدالة علي حرية الرأي في الاسلام ،واكد بالقرآن ان الحكم في الاسلام حكم جمهوري وليس ملكيا وانما يقوم علي الشوري الحقيقية ،واستشهد بالقرآن والاحاديث والسيرة وتاريخ الراشدين علي ان الاسلام ضد النظام الملكي وضد الترف والظلم والطغيان،ونعي علي سعود اعتبار مالية الدولة ملكا له ،ورد عليه بمآثر عمر بن الخطاب المشهورة في تقشفه وعدله وحرصه علي اموال المسلمين وقارن ذلك بما يحدث من سعود ،ويدخل في علاقة سعود بالامريكان مستشهدا بالايات القرآنية علي ان ذلك خيانة لله تعالي ورسوله ،ثم يختم رسالته بآيات القرآن الكريم والاحاديث التي تدعو للعدل والديمقراطية وتفرض العلم علي الرجل والمرأة ،وتندد بالظلم والفقر ،وينهي سعود عن استخدام الدين فيما اسماه بالدجل السياسي .
الاجتهاد :
ومن عجب ان يأتي الاجتهاد الديني من انسان بسيط تعلم تعليما متوسطا أعطى نموذجا رائعا لكل مفكر مدني. انه ناصر السعيد ،والاعجب ان يصل الي رؤية اجتهادية لم يصل اليها الشيوخ المحترفون، المطالبون بالاجتهادالذي يؤكد ان شريعةالاسلام صالحة لكل زمان ومكان ..
والواضح ان شيوخ السلف قنعوا بالتقليد وربطوا عقلهم وحياتهم بأجتهاد الائمة السابقين الذين اجتهدوا لعصرهم ،ولكن تغيّر العصر واحتاج الي اجتهاد يواكب هذا التغيّر فما كان من هؤلاء الشيوخ الا ان تمسكوا بالقديم وارادوا حمل عصرهم علي العيش وفق ما قاله الفقهاء السابقون. ومن هنا وقف الفقهاء التقليديون مع التفصيلات الفقهية القديمةالتي اندثرت بأندثار عصرها ،وجاء عصرنا بظروف جديده تستدعي اجتهادا جديدا ،ليس بأمكان الفقهاء التقليديين ان يقوموا به .
ومن هنا اضطرت الادارة السعوديه الى استحداث كيانات قضائيه جديده عمادها الخبراء المدنيون.وهذا دليل ناصع على تقاعس علماء الدين عن الاجتهاد لعصرهم حتى فيما يمليه عليهم واجبهم الوظيفي في المجالات التي كانوا يحتكرونها مثل القضاء والتعليم.
اما ناصر السعيد المسلم العادي الثائر سياسيا فقد تحرر من هذا الارتباط بالتراث الفقهي ونظر في النصوص والادلة الشرعية من القرآن الكريم وما يختاره من الاحاديث والسيرة وتاريخ الراشدين ،ووضع نصب عينيه المقاصد والاهداف التشريعية ،واهمها العدل ،واحتكم الي العدل واستدل عليه بالادلة الشرعية وهو يحاكم الواقع ويحتج عليه ويطالب بتغييره سلميا ليكون اقرب الي حقائق الاسلام ..وهو بذلك يجمع مع العدل –اهم مقاصد التشريع الاسلامي –مقاصد اخري اهمها المصلحة للدين والمسلمين، ويربط العدل والمصلحة بفهم الواقع والتعايش معه بعقلية مرنة لا تمانع من التدرج في التطبيق لمراعاة المناخ السائد المثقل بأوزار اربعة هي المرض والفقر والجهل والظلم .
وفي كل ما طرحه ناصر السعيد من قضايا سياسية واجتماعية مرتبطة بالواقع لم يحاول مطلقا ان يستشهد بأقوال الائمة من ابن حنبل او ابن تيمية او ابن عبد الوهاب ،بل علي العكس اعلن رفضه لمن يمثلون هذا الاتجاه ,وهم ابناء الشيخ وجماعات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ورفض طريقتهم وطريقة الحكومة في تطبيق الحدود علي الفقراء المحرومين دون كبار السارقين لأن ذلك ينافي العدل القيمة العليا في التشريع الاسلامي واهم مقاصده .
والعدل او القسط دارت حوله شريعة الاسلام وتؤكده عشرات من ايات القرآن الكريم ،ويمثله نبي الله عليه السلام في حياته وسيرته..ومن هنا اصاب ناصر السعيد في اجتهاده حين احتضن العدل الاسلامي واحتكم اليه في النصوص والتطبيقات الشرعية واكتفي به بديلا دون الدخول في المتاهات الفقهية ،ومن هنا ايضا وزن مطالبه السياسية والتشريعية بميزان العدل ،ولم يتردد من الهجوم على تطبيقات الحدود التشريعية والعقوبات وتكريس الرق طالما تنافي العدل ،وهو المقصود الاعظم من تشريع الاسلام .
واذا راجعنا مطالبه السابقة وجدناها متسقة مع قيمة العدل ،الا انه لم يكتف بذلك ،بل كان يشير الي قيمة العدل بين سطور مطالبه تأكيدا علي اهميته كمرجعية اسلامية يحتكم اليها . يقول مثلا ناصر السعيد في احدي القواعد التي على اساسها يمنح الشعب الثقة للحاكم: ايمانه( بالمثل العليا والمبادئ الانسانية العادلةالتي جاء بها الرسل والانبياء)ويقول عن الدستور المقترح (ولن يشذ هذا الدستور عما جاء به القرآن الكريم والاحاديث النبوية الصحيحة وروح العدل التي دعا بها الرسل للحرية والانسانية )فالانبياء والرسل يراهم رسلا للحرية والعدل والمثل العليا ،وتلك هي وظيفة التدين الحق ،ان يكون قائما مع العدل وبالعدل .
وفي نهاية خطابه للملك يتمني مستقبلا جديدا للبلاد (لتعيش في جنة المستقبل ،جنة المساواة ،جنة الكفاية والعدل ،جنة يتساوي فيها الناس في خيرات بلادهم ،في كل ما في الارض وما عليها وما فوقها )
ومن خلال قيمة العدل وجه نقدا للمظالم ،واعتبر الظلم احد اهم الاوزار التي تثقل كاهل البلاد ،ولذلك يقول عن قطع الايادي والارجل (…فهذه جريمة لا تطبق الا في حق العمال والفلاحين والجنود والعاطلين عن العمل من ابناء البادية المعذبين ومن لا يجدون لقمة عيشهم ،والمضحك ان الذي يطبقها هم الذين نص القرآن الكريم علي ان تطبق بحقهم ..انهم اللصوص الكبار الذين اصبحوا حكاما )ومن الواضح انه ليس ضد تطبيق الشرع ولكنه ضد سوء تطبيق الشرع .
ويقول ايضا (تلغي عقوبة جلد المواطنين .وتستبدل بالاعمال والتعليم والتهذيب مكان التعذيب ، وتحال السجون الى مدارس لا يدخلها الا من تثبت تهمته بعد مذكرة توقيف عدلية، وبعد التأكدات اللازمة والتحقيق النزيه بانه يستحق حكم القضاء )فهنا تأكيد علي مراعاة العدل في الاعتقال وفي المحاكمة وفي معاملة المسجون .ونفس الموقف حين يطالب بمنع اخذ الزكاة من اهل البوادي والقري لأنهم (يقتاتون بها وينفقونها في الوجه الذي يرونه ،لأنها في الوقت الحاضر تؤخذ من الفقير وتنفق علي الفساد والافساد بعد ان ينفق منها الجابي ما تيسر طبعا ).
وكما نظر بعين العدل الي نواحي القصور في تطبيق بعض مظاهر الشريعة نجده يراعي نظرة العدل في باقي المطالب ،حتي في التعامل مع الاجانب،حين يطلب مساواة العامل الوطني بالعامل الاجنبي داخل المملكة في نفس العمل والمهنة ..
الفهم الواقعي :
ونظرة العدل هذه ارتبطت بالفهم الواقعي ،وقد شهدنا امثلة لذلك مستمدة من الواقع التطبيقي في تنفيذ الحدود، ومن هنا كان رفضه لتطبيقها في هذه المرحلة ،وهنا تتجلي مع الواقعية رؤية عقلية تنحاز للتدرج في التطبيق ،بالرفض كما شهدنا موقفه من تطبيق الحدود ،او بالايجاب ،كما نري موقفه في حق المرأة في التجنيد وبايمانه بأن الاسلام لا يمنع ذلك، الا انه برؤية عقلية مستنيرة يرى ان الوقت لم يحن بعد لتطبيق ذلك ،يقول (اصدار قانون يفرض التجنيد الاجباري فرضا علي كل المواطنين، ولا اقول كل مواطن ومواطنة لان هذا القول سابق لأوانه في مثل وضعنا الحالي ،ليصبح الشعب كله مسلحا امام الاعداء ،وليس في هذا ما يخالف تعاليم النبي محمد بن عبد الله كما يفتي البعض ،وهذا ما فرضه علينا الدين )
علي ان أهم مظهر للواقعية في اجتهاد ناصر السعيد يتجلي في نظرته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فمع انه لم يستعمل لفظي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يستعمل اسلوب الفقهاء الا انه من السهل تقسيم مطالب ناصر السعيد الي معروف يطالب به ويأمر به الملك سعود ،ومنكر ينهي عنه ويحذر منه الملك سعود .فالمعروف يندرج تحته الاصلاحات الاقتصادية والسياسية والتشريعية ،والمنكر المنهي عنه يتمثل في تحذيره من ارامكو وامريكا وعملائها والمفسدين ،ويضاف للمنكر ما يطالب بالغائه من الترف والاسراف والظلم والرق والفساد .واجتهاده هنا هو تحويله للمفاهيم الفقهية النظرية الي كيانات حية واقعية ،منها ما يدخل تحت مفهوم المعروف ،وما يدخل تحت مفهوم المنكر ، ثم ان ذلك الاجتهاد العصري الواقعي يدور في اطار العدل الاسلامي ومصلحة المسلمين .
قضية الثروة والثورة :
ونعطي نموذجين من القضايا السياسية والفقهية التي تعامل معها ناصر السعيد باجتهاده العصري .وهما الثروة والثورة ..
هل طرح ناصر السعيد تغيير الحكم السعودي بالسلاح ؟او بمجرد الدعوة السلمية ؟ هل طرح ناصر السعيد في عهد الاشتراكيه تقسيم الثروة البتروليه بالثوره الحمراء التي كانت نمطا سائدا في عصره ؟
نبدأ برأيه في الثوره المسلحه ..
لقد فرضت هذه القضية نفسها علي ناصر السعيد تحت عنوان (البيعة ) التي جاء سعود يطلبها من الناس .وهب ناصر السعيد بعد خروجه من السجن ليتكلم باسم اهل حائل ،وهو كما ذكر يعلم ان اهل حائل –في كراهيتهم المتوارثة لال سعود – كارهون للبيعة ،ولم يبايعه الا طائفة معينة من المتزلقين كما يقول ،وفي غمرة بهجة اهل حائل بالافراج عنه انبرىليتكلم باسمها في حفل مبايعة سعود .وكانت تلك فرصته ليواجه الملك الجديد بمطالب الشعب ،والتي نتج عنها –كما يقول ناصر – غضب الملك سعود وتركه للمكان بسرعة قائلا (الحفل زين لكن خّربه ابن سعيد )
وكانت معضلة خطابه هي البيعة ،وقد جعلها ناصر السعيد ثقة مشروطة بتنفيذ مطالبه التي رفعها بأعلي صوته في حضرة الملك ،لذلك يقول انه يرجو ان يكون عهد سعود مزدهرا ولا يمكن ان يكون مزدهرا الا بأن يقر بكل حقوق الشعب ،ويتسلم الشعب ادارة بلاده بنفسه ،وبهذا يمنح الشعب الثقة في الملك وليس البيعة له ،لأن البيعة عادة لا تأتي الا عن طريق البيع والشراء ،والبيع والشراء يعني العبودية ،والمال خراب الذمم (اما الثقة فيمنحها الشعب بناءا علي :1- شهادة حسن السيرة والسلوك القويم للشخص الذي يمنحه الشعب ليكون اهلا للثقة ،2- ايمان ذلك الشخص الممنوح للثقة بالمثل العليا والمبادئ الانسانية العادلة التي جاء بها الرسل والانبياء ) وبعدها طرح ناصر السعيد مطالب الشعب (وبعد هذا نطرح فيما يلي مطالب شعبنا التي بموجبها يمنح الثقة لمن هو اهل لها ليكون الشعب وحده هو المسئول عن حكم نفسه بنفسه ).
وفي نهاية خطابه بعد ان عرض المطالب قال (وعلي مثل هذه المثل المشروعة في الشريعة العادلة ووثيقة حقوق الانسان يمنح الشعب ثقة الشعب، لا يبيعها للحاكم الذي يحافظ عليها ولا يبيعها هو ايضا )
وفي رسالته التي وجهها فيما بعد الي سعود ينتقد سياسته الداخلية والخارجية ويطالب بحكم دستوري يكون فيه ملكا دستوريا مصونا عن المساءلة، ويترك الحكم والتنفيذ لحكومة مسئولة امام مجلس الشعب الذي يكون حرا منتخبا، ويذكره بما قاله في خطابه امامه في حائل من قبل ويدعوه لتطبيق هذا الاقتراح.
وعليه فان ناصر السعيد لم يدع الي ثورة مسلحة لتغيير النظام بالقوة ،بالرغم مما عاناه في سجون المملكة وخارج السجون من نفي وتشريد وتهديد بالقتل حسبما ذكر في كتابه ..بل ظل مصمما طيلة حياته علي الدعوة السلمية لتغيير نظام الحكم السعودي ليكون اكثر ديمقراطية واكثر عدالة، لم يطالب بنزع الحكم من ال سعود ،وانما اراد تحويل النظام السعودي الحاكم الى نظام ديموقراطي عادل وبطريقة سلمية .
ومن ناحية اخرى فان ناصر السعيد لا يريد البيعة لأنها تعني التسليم غير المشروط للملك بالتحكم في شعبه ،ولكنه يريدها ثقة يمنحها الشعب لحاكمه ،او بمعني اخر يؤكد علي ان الشعب هو مصدر السلطات، وهو الذي يحكم نفسه بنفسه، وهو الذي يختار الحاكم بناء علي حسن سيرته وسلوكه وايمانه بالمثل العليا والعدل وتنفيذه لمطالب الشعب ..
وما ذكره ناصر السعيد في ان الشعب هو مصدر السلطة يؤكد علي انه اجتهد في فهم حقيقة اساسية من حقائق الاسلام ،وهي الشورى الاسلامية التي كان محمد صلي الله عليه وسلم مأمورا بها، وهو الذي ينزل عليه الوحي .والاية القرآنية التي قررت هذه الحقيقة قررت معها ان الامة مصدر السلطات ،يقول تعالي للنبي (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ،فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل علي الله :آل عمران 159 )أي بسبب رحمة من الله جعلك يا محمد لينا معهم ،ولوكنت فظا غليظ القلب لتركوك وانفضوا من حولك ،واذا انفضوا من حولك فلن تكون لك دولة او حكم او سلطان،لأنه باجتماعهم حولك صار لك الحكم والسلطان ، اذن فهم مصدر الحكم والسلطة حين اجتمعوا حولك وناصروك وعزروك ،ولولا ذلك لاستمرت قصة الاضطهاد القرشي التي كانت قبل الهجرة ..ولأنهم مصدر السلطات فلذلك فاعفو عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر ،فاذا عزمت علي التنفيذ فتوكل علي الله تعالي …أي ان الايه تؤكد علي ان النبي عليه سلام الله تعالى - وهو الذي يتلقي الوحي من الله تعالي- لم يكن يستمد سلطته السياسية من الله وانما من الناس ،ولذلك امتن الله تعالي عليه انه الف بين قلوب الناس المحيطين حوله ،و لو انفق ما في الارض جميعا ما الف بين قلوبهم (الانفال : 63)
ونعود الي ناصر السعيد لنقرر انه باجتهاده الديني في موضوع الشوري الاسلامية ونظام الحكم قد اصاب كبد الحقيقة حين غفل عنها الكثير من علماء المسلمين ،ولذلك اكثرمن الاستدلال بأدلة اسلامية في رسالته الي الملك سعود لكي يؤكد ان الاسلام ضد النظام الملكي ومع النظام الجمهوري الذي يختار الشعب فيه الحاكم ويملك مساءلته وعزله .ويكون بذلك متفقا ايضا مع قيمة العدل الاسلامية التي تؤكد علي المساواة بين البشر في الحقوق والواجبات وما يترتب علي ذلك من عدل في الحساب يوم الحساب، والتي تستنكر ان يحتكر شخص او اسرة او طائفة.. السلطة.. والثروة.. دون بقية الامة ..
والخلاصة ان ناصر السعيد لم يدع الي القوة المسلحة .وانما دعا الي ثورة بيضاء يقوم بها الملك سعود نفسه وليس غيره ،ليقضي علي ماكانت عليه البلاد من فقر وظلم وجهل ومرض ،يقول للملك في خطابه( انه لا طريق للقضاء علي هذه الامراض اللعينة ومسببها الا السيف …أي الثورة علي هذه الادواء …وادعوك يا سعود ان شئت ان تقوم بهذه الثورة انت ..)
وكان تحقيق مطالبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو مضمون تلك الثورة البيضاء..وهذا هو موقف ناصر السعيد من الثورة .
فماذا كان موقفه من الثروة ؟
لقد نظر ناصر السعيد اليها بنفس النظرة التي نظر بها الي الثورة ..رآها ملكا للشعب ،ومن هنا كان احتكامه للعدل في الاستفادة منها ،لذلك تمني في خطابه (ان تعيش الدولة في جنة المستقبل …جنة المساواة ..جنة الكفاية والعدل ،،جنة يتساوي فيها الناس في خيرات بلادهم ..في كل ما في بطن الارض وما فوقها وما عليها ..) وفي رسالته اكثر من الاستشهاد علي ان الاسلام ضد الترف وضد الظلم وضد ان يعتبر الحاكم ثروة البلاد من جيبه الخاص وان الشعب والارض من املاكه الخاصة ،وكما احتج بذلك علي سعود فأنه طالبه بتطهير جهاز الدولة من اللصوص الكبار (الذين سرقوا اموال الشعب) واسترداد الاموال المسروقة في خدمة ابناء الشعب، خصوصا المحرومين والمظلومين، واستنكر اسراف سعود في ميزانية الدولة (واموال الشعب ) ومن هنا كانت كراهيته المطلقة لارامكو التي استغلت بترول الشعب وثروته، واضطهدت العمال من ابناء الشعب العاملين في استخراجه ..ومن هنا ايصا كانت دعوته لوقف تطبيق الحدود الشرعية علي الفقراء الذين لا يجدون القوت لأن من حقهم ان ينالوا نصيبامن ثروة بلادهم ..وهو بذلك يتفق مع القرآن الذي يجعل حقا معلوما من الثروة للسائل والمحروم والفقراء والمساكين وابناء السبيل (المعارج 24،25 الذاريات 19 ،الروم 38،الاسراء 26 ،الانعام 141 )ويتفق مع القرآن الكريم الذي يجعل ثروة المجتمع حقا للأمة،عليها ان تحسن القيام عليها بحيث تحجر علي السفية طالما يبدد ثروته التي ورثها ،وحينئذ لا يكون له من ثروته الا ما يكفي نفقته الخاصة ،يقول تعالي (ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم :النساء :5)
وهكذا يبدو لنا ناصر السعيد اصوليا مستنيرا يجمع مابين الاصالة الاسلامية ومعيشة العصر ،او المعاصرة .الا ان المعاصرة القت عليه بثقافتها وظلالها فتلون بها خطابه السياسي والديني الاصولي السنى .
المعاصرة في خطاب ناصر السعيد :
كان عصر سعود يموج بالتيارات الوطنية والقومية والاشتراكية ،وتجمع اغلبها في الفكر الناصري الذي ازدهر فيما بين 1955 :1967 وتجاوب ناصر السعيد برؤيته الاسلامية مع هذه التيارات بحيث غطت سطحيا علي اجتهاده الديني الاصولي السنى ..مع عدم وجود تناقض بين رؤيته الاشتراكية واصوليته الدينية ..
ان انحيازه للفقراء من العمال والفلاحين والبدو في مقابل الظلم والترف والاسراف كان متفقا مع شريعة الاسلام ومع الهدف الاشتراكي ،والعدل هو الاساس.
إلا ان ناصر السعيد مزج هذه الرؤي العقلية والفقهية احيانا باسلوب وجداني عبر فيه عن مشاعره الوطنية للشعب والارض .،يقول في خطابه عن العمال معبرا عن حبه وتقديره لهم وتعاطفه معهم بعد حادث التسمم الذي رواه في خطابه امام سعود (فهذا جزء مما يلاقيه عصب الحياة واشرف خلق الله ..العمال الذين هم الشعب كله …العمال الذين اخرجوا هذا البترول وما يتبع هذا النعيم لينعم به غيرهم ،اما هم فلهم السم الزعاف )ولذلك كان نضاله في سبيل العمال ضد ارامكو حتي دخل السجن، وفصلوه عشرات المرات، وكان ايضا اضراب العمال من اجله واتحادهم معه ،وقد حاولت ارامكو ان تشتريه بأن تجعله من المقاولين المتعاملين معها ،فرفض، كما رفض ان يأخذ من امير حائل ثمنا لخطبته امام الملك سعود قبل ان يخطبها ،يقول (ولقد عجبت عندما نودي علي اول امس لقصر الامارة ليدفع لي مبلغ 500 ريال سعودي ،ويدفع للخطباء الاخرين 200 ريال سعودي ،ولما سألت عن السبب في دفع هذه المبالغ قيل لي انها ثمن الخطب ،اما انا فرفضت بالطبع ..وقلت :ان كلام الشعب لا يباع ولا يشتري وانما ينفذ بالقول والعمل ،ولو اردنا الدراهم لعشنا كما يعيش اصحاب الملايين كما عرض علينا من مقاولات شركة ارامكو ،لكننا كنا ننفق مرتباتنا كلها علي الحركة ولمصلحة العمال ،وكنا نبقي بلا طعام الا ما يتفضل به اخواننا العمال علينا ليطعمونا مما يأكلون )
بل ان ناصر السعيد بدأ خطابه قائلا ( باسم الله الحق ..باسم العمال المعذبين باسم الفلاحين الذين اصبحوا فريسة للمرابين ،باسم الجنود الظافرين ..باسم البدو المشردين …باسم الشعب العظيم، الشعب الذي حرم من نور العلم طويلا يا طويل العمر..)وسبق عرض مطالبه لتحسين اوضاع الفلاحين والفقراء والبدو .
وتبدو وطنيتة ايضا في حب المكان بعد الانسان ..اذ يتردد فخره ببلاده التي شهدت بزوغ الاسلام الذي حرر العالم من عبادة الاوباش (انها بلادنا وشعبنا يا طويل العمر )الي ان يقول فخورا باسم بلده حائل مخاطبا الملك (واخيرا مرحبا بك في بلد الكرم المضياف،حائل الجميلة العظيمة ،حائل بلد الشجعان ،حائل الجزء الذي يلاقي ما يلاقيه غيره من اجزاء الوطن من مظالم وفقر وجهل ومرض عم انحاء الجزيرة العربية بأكملها …)
وبسبب شدة انتمائه لوطنه في الجزيرة العربية فانه يتحاشي في كتابه وفي خطابه امام سعود وفي رسالته الي سعود ان يصفها بالسعودية ،ويكتفي بترديد (شعب الجزيرة) ،(بلادنا) (شعبنا) (في كذا) ، وهو هنا يعبر عن رؤيته في ان الشعب هو مصدر السلطة ،ويستنكف ان يحمل الشعب او الارض اسم اسرة معينة بعينها ،كما يستنكف انفراد هذه الاسرة بالثروة والسلطة او ان يكون من حقها سلب الجنسية من احد المواطنين .بل انه يتحاشي ان يصف شخصا ماخارج الاسرة السعودية بأنه سعودي، ويحرص علي وصفه بالمواطن ..ووصف المواطن يحمل في داخلة الانتماء للارض والشعب ..كما يحمل ايضا المساواة بين الجميع في المواطنة، ولذلك نراه يقول عن الشيعة مثلا (اطلاق الحريات لاخواننا المواطنين من ابناء الشيعة لممارسة شعائرهم الدينية ومساواتهم في جميع مرافق الحياة ،والغاء الطائفية الممقوتة ) .
أي انه سبق غيره في الجزيرة العربية في الدعوة لثقافة المواطنة التي تعلو فوق الانتماءات القبلية العرقية والدينية والمذهبية .
وربما نفهم سبب حرصه علي دعوته السلمية من خلال ثقافة المواطنة .
فمع كراهيته الشديدة التي عبر عنهالآل سعود الا انهم في نهاية الامر من ابناء الوطن ،وهو لا يريد ان يدخل ابناء الوطن في صراع عسكري او ثورة دموية لذلك يدعو الملك سعود نفسه الي ان يقوم بثورة بيضاء ينفذ فيها الاصلاحات ليقطع الطريق علي ثورة قادمة ،وكان عصر ناصر السعيد هو عصر الثورات الملتهبة التي تحيط بالمملكة ،وكانت الثورات ترفع لواء التحرر من الاستعمار والامبريالية والرجعية،وهناك قواعد امريكية يتحدث عنها ناصر السعيد ومصالح امريكية في المملكة، والظروف مهيأة مع علو المد الثوري الناصري لتفجير ثورة حمراء ،وناصر السعيد باخلاصه لوطنه يريد اصلاحا داخليا يجنب الوطن سفك الدماء ،وحين رفض سعود مطالبه الاولى ورد عليها بمحاولات الاغتيال لناصر السعيد فان الاخير لم يتنازل عن دعوته ومطالبه السلمية فكرر نفس الدعوة لسعود من خلال رسالته التي بعث بها من القاهرة.
ولأن وطنه هو مهد الاسلام والعروبة فقد ارتبطت اصوليته الاسلامية مع قوميته العربية متفقا بذلك مع عبد الناصر ،بل انه سبق عبد الناصر والثورة المصريه في تضامنه مع العرب في فلسطين اثناء النكبة ،وقد وجد في وصف العربي بديلا مناسبا لكلمة السعودي التي يتحاشاها ،فانشأ اتحاد شعب الجزيرة العربية ،واعتاد ان يقول (شعبنا العربي في كذا ) وكان من الطبيعي بعد نجاح الثورة المصرية ان يسارع في تأييد توجهها العربي وان يحمل خطابها القومي ،خصوصا وصف اعدائها بالرجعية ،ومن الطريف ان ناصر السعيد حين مدح جدته الحاقدة علي أل سعود .. قال عنها (انها لم تهادن الرجعية ولو مرة،ولم تقبل من الرجعية أي عون )ويري ان موقفها (اشرف من مواقف جامعة الدول العربية في محاربة الرجعية والاستعمار )[16] .
ومن خلال نظرته القومية العربية الناصرية كانت كراهيته لعملاء ارامكو من الباكستانيين وغيرهم، وكانت دعوته لخصومة امريكا و التعامل مع المعسكر الشرقي والاتحاد السوفيتي ..وهو هنا لم يبتعد عن خطابه الديني الاصولي السنى ،الذي يتبني الموالاة ،موالاة الاصدقاء ضد الاعداء .وكانت دعوته للملك سعود في اصلاح سياسته الخارجية نابعة من هذه الموالاة ..
التقدمية في خطاب ناصر السعيد :
المقصود بالتقدمية هنا ان ناصر السعيد سبق تفكير عصره وتقدم عليه ..
سبق تفكير علماء الدين ،برغم انه ليس منهم ،وقدم اجتهادا اسلاميا فكريا يحتاج الي البناء عليه والنقاش حوله.
سبق غيره من ابناء الجزيرة العربية والاقطار العربية في الترويج لثقافة المواطنة التي تعلو فوق الانتماءات الطائفية والقبلية ،ولا يزال العرب والمسلمون يعانون من مشكلات الاقليات الطائفية الاثنية والعرقية والدينية والمذهبية والثقافية.
بل انه سبق عبد الناصر في الدعوة العملية للانتماء العربي القومي ومواجهة الاحتكارات الامريكية،وسبق الجميع في ثقافة اخري قدر لها ان تسود بعد موت ناصر السعيد بعقدين من الزمان،وهي ثقافة حقوق الانسان .
لقد اشرنا لدعوته لالغاء الرق في المملكة والغاء العقوبات الشرعية بالقطع والجلد،ودعوته الى اصلاح حال السجون واطلاق سراح المساجين السياسيين ،وتحويل السجون الي مدارس اصلاحية،ومراعاة الالتزام بالعدل والقانون في القبض علي المتهم ،ومنع كل وسال التعذيب .ورأينا كيف كان يدعو الي حرية الفكر والاعتقاد وعقد الاجتماعات ،وحرية الكلمة وحريةالصحافة وحرية الشيعة في اقامة شعائرهم .
وهنا نؤكد علي عدة حقائق في سبقه في المطالبة بحقوق الانسان :
1- انه سبق المناخ السائد في المملكة بهذه الدعوة ،يكفي انه كان لايزال هناك ستمائة الف من الرقيق فيها من الذكور والاناث بينما يدعو ناصر السعيد الي ثقافة غاية في التقدمية بمقياس المناخ الثقافي لعصره وبلده .
2- انه سبق الجميع في الربط بين ثقافة حقوق الانسان وحقائق الاسلام ،واعلن بجرأة ان تطبيق الحدود يجب وقفه لسوء التطبيق .ومشكلة تطبيق الحدود لاتزال ازمة راهنة بين سلطات المملكة وجمعيات حقوق الانسان .. ويتجلي هذا السبق لناصر السعيد حين نقارن بين اجتهاده الاسلامي المستنير واجتهاد المسعري المعارض السني السعودي في عصرنا الراهن بعد موت ناصر السعيد بعشرين عاما . فالمسعري ورفاقه يتشبثون في خصومتهم للنظام السعودي بحقوق الانسان ،مع انهم ينكرون علي الشيعة مثلا خصوصياتهم الدينية والمذهبية والثقافية أي يأخذون من حقوق الانسان ما يساعدهم وينكرون منها ما لا يتماشي مع منهجهم التراثي .
3- ويركز المثقفون العرب علي حقوق الا نسان (المثقف ) أي حرية الفكر والاعتقاد والمشاركة السياسية –هذا اذ كانوا من مثقفي اليمين.ويركز مثقفو اليسار علي حقوق الانسان في تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية .بينما يركز فريق اخر علي حقوق الاقليات او حقوق المرأة .ويحدث هذا في مطلع القرن الحادي والعشرين،بينما نجد ناصر السعيد يسبق كل منظمات حقوق الانسان العربية التي تتنافس في الحصول علي التمويل الاجنبي، يسبقها ليس في الحصول علي التمويل ،إذ لم يكن يجني في وقته الا المعاناة والتشرد ،ولكن يسبقها في وضع منظومة متكاملة وموجزة لحقوق الانسان ، تشمل الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية،ويقرن كل ذلك بثقافة المواطنة واجتهاد اسلامي مستنير .
تأثير دعوة ناصر السعيد :
بدايته المبكرة والضوضاء التي اثارها حوله بالاضرابات في ارامكو واستمراره في النضال داخل وخارج المملكة وتحالفه مع عبد الناصر ،كل ذلك جعل ناصر السعيد يحرك المياه الراكدة،لتتبلورعنها عدة نتائج،اهمها :
1- ظهور حركات معارضة متنوعة :
اولا :معارضة عسكرية :
كان عبد الرحمن الشمراني علي صلة تنظيمية بناصر السعيد فقد تعرف عليه في 7/11/1957، وهو الذي أخبر ناصر السعيد ان الملك سعود أمر بأغتياله،فهرب ناصر السعيد الى بيروت،وقد اعترف عبد الرحمن الشمراني ضابط الحرس السعودي لناصر السعيد ان هناك اعوام غيرت حياته وحولته من ضابط عادي الي ضابط ثائر ،هي هزيمة فلسطين ،وسوء احوال الشعب في المملكة ،ولقاؤه بقيادة ثورة 1952 في مصر وعلاقته بعبد الناصر حيث كان ضابط الاتصال السعودي بعبد الناصرحين جاء للملكة لأول مرة ،ثم استمرت اتصالاته به حين جاءالشمراني الي مصر ،ويذكر الشمراني انه ظل يشكو لعبد الناصر من سوء الاحوال فقال له عبد الناصر :كفي بكاءا المسألة عايزة تنظيم وعمل .فانتقل الي الدعوة الثورية وتنظيم اخوانه فكان في ذلك نهايته.
وبعدها تم اعتقال عدد من الضباط وطياري القوات الجوية بشبهة الاشتراك فى مؤامرة اغتيال الملك سعود في اعقاب الثورة العراقية 17يولية 1958 .
وفي عام 1962 تم اعتقال ستة ضباط لاتصالهم بزمرة الامراء الاحرار في القاهرة ،وفي عام 1969 اكتشفت محاولة انقلابية اخري ،واعتقل فيها مائة شخصية عسكرية ،وآثر هذا المناخ علي بعض الامراء السعوديين فاصبحوا (الامراء الاحرار).
ثانيا الامراء الاحرار :
يذكر ناصر السعيد انه بعد ان خطب خطبته المشهورة امام الملك سعود في حائل أحدث خطابه تأثيرا في الامراء ،ومنهم الامير محمد بن عبد العزيز الذي أعلن تأييده لناصر لكل من قابله من اهالي حائل ،مما شجع ناصر علي زيارة الامير محمد في قصره ،حيث كان هناك عدد من الامراء،وقد طالب منه الامير ان يكتب له تقريرا عن كل ما يريده الشعب ،وقدم له الامير محمد الورقة والقلم فكتب ناصر السعيد مطالب الجيش والشعب،وقدمها له واحتفظ بصورة منها ،وقرأها عليه قبل ان يسلمها اليه ،فقال له الامير انه سيسافر الي الملك وسيقدمها اليه وسيقف الي جانب هذه المطالب، ويقول ناصر انه اكتشف ان ذلك كله كان مجرد دعاية .
واعتبر ناصر السعيد الامراء الاحرار تجار كلام يتظاهرون بالعطف علي الوطنيين.وحكي ناصر ايضا انه ذهب لمقابلة الامير عبد الله الفيصل- المشهور بالامير المحروم- حين كان وزيرا للداخلية ،وقد استنكر الامير عبد الله الفيصل الظلم الذي يلاقيه العمال ،وطلب من ناصر السعيد والعمال ان يحنوا رؤوسهم للعاصفة الي ان يأتي ابوه فيصل الي الحكم ،بل طلب منهم اغتيال الملك سعود ،واعطاه كتاب فيلبي وطلب منه ان يكتب عنه تقريراً ،وذكر ناصر السعيد ان الامير عبد الله الفيصل قال له :انا اعرف انكم تعملون للثورة ،وان الثورة قادمة لا محالة ،مهما اخذنا احتياطاتنا ضدها ،ولكن المؤسف لن يميزوا بين سعود و بين الوطني المخلص عبد الله الفيصل ووالده فيصل ،وهذه مشكلة الثوار .
وذكر ناصر السعيد ايضا انه قابل الامير سلطان وزير الدفاع وعرض عليه مطالب العمال ،وذكر ان الامير سلطان اركبه معه سيارته ،وانه لفت نظر ناصر السعيد الي الفوارق الهائلة بين قصور الامراء واكواخ الفقراء ،وان ذلك ليس من الاسلام في شئ ،وان من يطالب بالعدل يتهمه الملك سعود بالشيوعية ، أي انه بادر بتأييد ناصر ودعوته ،ولما طالبه ناصر بان يعمل علي تحقيق ما يقول قال له الامير سلطان (انني مثلك ليس بيدي تحقيق شئ مما قلت )ولما رد عليه ناصر بانه ليس اميرا ولكن مجرد شخص عادي لا حصانة له و نفوذ ومع ذلك يواجه ارامكو واجهزة الحكم، وحينها قال الامير سلطان :( هل تعلم انني اتهمت بالشيوعية وانهم يقولون عني الامير الاحمر وانني موضوع في القائمة السوداء ) واعتبر ناصر السعيد اقوال الامراء الاحرار مجرد تهريج .
واذا كان لنا ان نصدق ناصر السعيد في حواراته التي ينقلها عن اولئك الامراء فالمعني واضح ،وهو ان الدعاية الناصرية اخذت تؤثر علي العرش السعودي وتثير الجميع عليه مما اوقع اولئك الامراء في خوف من المستقبل، فارادوا الاحتياط مقدما بالكلام المعسول بمن اشتهر امره او اسمه بانه من الثوار ،وهو مجرد كلام لا يسفر عن شئ .
والملاحظ ان ناصر السعيد لم يذكر انه قابل او تحدث مع الامير طلال بن عبد العزيز اشهر الامراء الاحراروقتها،او الامير عبد المحسن اخيه،بينما ذكر حديثه مع الامير مشعل الذي كان خصما للثورة والمعارضة والذي قال لناصر السعيد (ان احسن شئ للوطن هو تقطيع رؤوسكم )وحين ذكر الامراء الاحرار قال عنهم (وكان هناك دعاية وهمية يرددها السذج انذاك عن طيبة وديمقراطية هؤلاء الامراء امثال الامير محمد وسلطان وفيصل واولاده وطلال ومشتقاته ،لأن هؤلاء الامراء التجار اعتبروا الكلام بضاعة لا يصدقها الا الشعب المستهلك الوحيد لبضاعتهم الفاسدة بأظهار عطفهم الزائف علي الوطن والوطنيين ).
وطبقا لمنهجه في تجريد ال سعود من أي ايجابيات فان ناصر السعيد تجاهل في كتابه حركة الامراء الاحرار التي ترأسها الامير طلال وضمت اربع امراء ،وهم الذين تقدموا بطلب اقامة دستور وتشكيل مجلس تشريعي في عام 1962،وقد رفض رئيس الوزراء الامير فيصل هذا الطلب ،ثم استقال فيصل ،وعين الملك سعود مجلسا اخر للوزارة قام برئاسته واسند منصبي وزير المالية والاقتصاد للامير طلال ،كما اسند وزارة البترول والثروة المعدنية لعبد الله التريكي احد القوميين العرب ،وقصد من ذلك استغلال الامراء الاحرار ،الا انهم عندما طلبوا اقامة مجلس وطني منتخب لاعداد الدستور زادت حدة التوتر بينهم وبين سعود ،وبدأ الامير طلال ينتقد حكم سعود علنا ،فعزله سعود من مجلس الوزراء ،فاستقال معه الامير عبد المحسن،وتنازل طلال عن لقبه الملكي سنة 1969 ولجأالي القاهرة حيث كان يعيش ناصر السعيد . وكون الامير طلال في القاهرة لجنة لتحرير السعودية ،ولم تكن مصدر تهديد حقيقي للنظام السعودي ،ولم تكن لها شعبية او ايدولوجية ،وبعد انتهاء نفوذ الناصرية بعد كارثة 1967 عاد طلال الي السعودية واستعاد لقبه الملكي .
ثالثا :المعارضة اليسارية والقومية( الشيوعية والبعثية ):
لا يمكن تجاهل اثر ناصر السعيد في نشأة المعارضة اليسارية ،وان تأثر بعضها بالحركات الثورية اليسارية والقومية في الشام والعراق واليمن ،الا ان ناصر السعيد هو الذي قام بتجهيز التربة منذ اواخر الاربعينيات ،واطلق صوت المعارضة عاليا في الخمسينيات ،فبدأ اليسار والقوميون ينسجون علي منواله .
الاحزاب البعثية :حين سيطر البعثيون علي العراق وسوريا حاولوا مد نفوذهم الي الجزيرة العربية ،وفي عام 1958 نشأ الفرع السعودي لحزب البعث ،واصبح في عام 1963 اكبر جماعة معارضة ،وفي اعقاب الانفصال بين البعث السوري والبعث العراقي في منتصف الستينيات استقال معظم الاعضاء السعوديون،وانقسم الاخرون الي بعث عراقي واخر سوري .
فالحزب الذي يوالي البعث العراقي عاش انصاره في العراق ،واصدروا مجلة صوت الطليعة سنة1978 واصبح اكثر تأثيرا خصوصا بين الطلبة الدارسين في امريكا والخارج ونشروا كتيبات ودراسات تنتقد ال سعود دون ان تكون لهم ايدولوجية واضحة.
اما حزب البعث الموالي لبعث دمشق فقد اصدر من دمشق مجلة باسم صوت الجزيرة العربية لتنطق باسم رابطة ابناء الجزيرة العربية ،ووسعت من دائرته لتضم بعض القوميين الاخرين .
الحزب الديمقراطي الشعبي :انشئ سنة 1970 ويضم في عضويته ماركسيين وقوميين بايدولوجية ماركسية وتوجه نحو النضال المسلح لتحرير الجزيرة العربية والوطن العربي كله،وكان اقرب الي فكر ماو تسي تونج ،واتخذ من اليمن الجنوبي مركزا لنشاطه،واصدر مجلة الجزيرة الجديدة وكان يتمكن من تهريبها الي داخل المملكة العربية السعودية .
وبرغم راديكاليته الشديدة فقد تفكك وانفصلت عنه جبهة النضال الشعبي سنة 1971 واصدرت مجلتها النضال، واقتصرت مجهودات الجبهة علي اصدار المنشورات.ثم ظهر حزب اخر صغير ليرث الحزب الديمقراطي الشعبي كما ظهر حزب اخر جديد ليتحدث بالايدولوجية اللينية الستالينية .
وفي غمرة التشكيلات المختلفة للمعارضة اليسارية ظهر المجلس السعودي للسلم والتضامن الذي اصدر بيانا في 26/9/1977 في جريدة (طريق الشعب ) يقول : ان الملك فهد لم ينجز ما وعد به بعد اغتيال الملك فيصل سنة 1975 من اقامة مجلس شورى وحكومة ديمقراطية ذات سياسة ليبرالية ،والافراج عن بعض السجناء ،بل استمرت حملة الاعتقالات وبدأت تصفية المعارضة سنة 1977،وطالب المجلس باعلان دستور وتكوين احزاب سياسية ونقابات عمالية ومنظمات اجتماعية وثقافية و تأميم النفط السعودي .
جبهة التحرير الوطني :في عام 1956 شكل بعض الشيوعيين والعمال جبهة الاصلاح الوطني ، ثم انسحب منها الشيوعيون وكونوا جبهة التحرير الوطني ،وكان من اهدافها التغيير الشامل لكل ملامح الحياة في السعودية واقامة نظام دولة يعبر عن مصالح الشعب من دستور ديمقراطي يكفل كافة الحقوق السياسية والعمالية ،والنضال ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية ،والغاء القواعد الاجنبية والمعاهدات العسكرية ،ومراجعة عقود الامتيازات الاجنبية وتوثيق العلاقة مع الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية ، وفي نهاية 1975 تغير اسم الجبهة الي الحزب الشيوعي السعودي العربي واصبح محدود الفاعلية .
تدهورالمعارضة اليسارية :
باعلان الملك خالد العفو العام بعد اغتيال فيصل ،حيث وعد ولي العهد الامير فهد –وقتها – ترحيبه بالمنفيين السياسيين من الشيوعيين والقوميين وغيرهم .فتسابق اغلبيتهم للعودة واعلان الولاء للنظام. وعمل بعضهم بعد رجوعه للوطن في الاستثمارات واصبحوا ضمن الطبقة الطفيلية المستغلة،حتي ان بعضهم تنكر لتاريخه وألحق العسف بالعمال مما اضطر السلطات السعودية للتدخل لمنعه .
ويفسر البعض ترحيبهم بالعودة والنكوص عن استمرار الجهاد بسوء الاحوال المعيشية في الخارج،حيث لم تكن مرتباتهم تكفيهم كلاجئين سياسيين في وقت ارتفعت فيه الاحوال المعيشية في الداخل، هذا مع الوقت الذي انحسرت فيه ايدولوجية اليسار وفقد مصداقيته ليحتل اليمين الساحة مكانه .
والواقع انها ضريبة الترف،اذ تعود اولئك علي رغد العيش ،ومارسوا معارضة الفنادق والغرف المكيفة في وقت الرواج لايدولوجية اليسار،فلما انحسرت تلك الايدولوجية وتبدلت الاوضاع السياسية في المنطقة بعد سقوط الناصرية وهزيمة عبد الناصر وعلو النفوذ السعودي ادي ذلك كله الي انكماش التأييد للمعارضين اللاجئين في الدول العربية،واصبح الافضل لهم استغلال فرصة العفو العام فسارعوا الي وطنهم يعلنون التوبة[17] .
هذا يشير الي مفارقة طريفة بين معارضة الاخوان في العشرينيات ،ومعارضة اليساريين والقوميين فيما بين الخمسينيات والسبعينيات ،باستثناء ناصر السعيد باعتباره حالة خاصة .فالاخوان بسبب الضنك الذي اعتادوه كانوا يقذفون بانفسهم في الموت أملا في الجنة وهي افضل .وحين عارضوا عبد العزيز تطورت معارضتهم من القول الي الفعل الي حمل السلاح ،اذ ليس لديهم في الحياة ما يستحق الخوف عليه.أما هذا الجيل الذي ارهقه الترف فقد سارع بترك موطنه في اقرب فرصة ليضع نفسه في خدمة انظمة استبدادية اخري ،وسمح بان تستغله هذه الانظمة في سياساتها وحساباتها مع الحكم السعودي، وبالتالي تعرض للكثير من العنت ،ومن هنا سارع الي العودة للمملكة حين واتته الفرصة .
الوحيد الذي عاش مخلصا لمبدئه وعاني من اجله داخل المملكة وخارجها هو ناصر السعيد ،الذي رفض العودة وفضل استمرار النضال،ولم يكن ذلك الامتياز الوحيد الذي تحلي به تاريخه، اذ انه مع جرأته وشجاعته الذي شابه فيها الاخوان فانه يتميز عن الجميع بايدولوجية في المعارضة السلمية تمزج بين العدل الاسلامي وثقافة العصر في صيغة مبتكرة .
2-النتيجه الثانيه لحركة ناصر السعيد:عزل سعود وتنفيذ بعض الاصلاحات التي طالب بها ناصر السعيد:
في محاولة لتجنب ثورة شعبية تم نقل وظائف الملك سعود التنفيذية الي الملك فيصل سنة 1958 ولكنه استعادها سنة 1960 مع استمرارالامير فيصل ولي العهد في نفوذه الي ان تم خلع سعود وتعيين فيصل ملكا سنة 1964.
كان فيصل قد اعلن في سنة 1962 برنامجه الاصلاحي المتأثر في نقاطه العشر بمطالب ناصر السعيد ،ويقول البرنامج في بدايته (الاصلاح بهدف تحقيق نظام موحد قائم علي مبادئ الشريعة ،فالقانون الاساسي (أي الدستور) سيتم نشره ومستمد من القرآن والسنة النبوية واجتهاد الخلفاء الراشدين واهل السنة من السلف الصالح ،وسيتم اعلان المبادئ الاساسية للحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكومين )أي ارجأ اعلان الدستور والمبادئ الاساسية لوقت لاحق ،ثم اعلن النقاط العشر وهي :اعادة تأكيد التزام الدولة بالقانون الاسلامي والوعد بأصدار دستور واقامة مجلس شوري ،تنفيذ النظم التي علي اساسها يتم تشكيل حكومات اقليمية في كافة مناطق المملكة،اعلان استقلال النظام القضائي ويعد باقامة مجلس اعلي للقضاء ووزارة العدل ،اعلان تشكيل مجالس القضاء ،من عشرين عضوا يختارون من بين القضاة علمانيي التعليم وعلماء الدين ،فرض تطبيق الاعلام الاسلامي والدعوة ،اعلان اصلاح لجنة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ،تبني الحكومة لتنمية اجتماعية وتحقيق رفاهية للمواطنين والسيطرة علي الاسعار وتخصيص دعم حكومي لطلاب المدارس ،وتقديم نظم رعاية وامن اجتماعي ،وسن قانون لحماية العمال من اصحاب العمل،والاستعداد لاعادة تنشئة وتدريب وتشغيل العاطلين ، اعلان تقديم تشريعات ملائمة لتنظيم الانشطة الاقتصادية وتشجيع الاستثمار المالي ،التعهد بدعم جهود تطوير البلاد والبنية التحتية الاساسية ،واخيرا الغاء العبودية والرق في المملكة.
وبالطبع لم يتم تنفيذ الاصلاحات السياسية الديمقراطية ولكن قامت الدولة السعودية باصلاح البنية الاساسية في الطرق والمواصلات والمساكن والكهرباء والرعاية الصحية [18] وساعدها تطور انتاج البترول علي تحقيق رفاهية المواطنين ، وتحقيق احد مطالب ناصر السعيد .
لقد عاش ناصر السعيد حتي رأي تحقيق بعض مطالبه ،ومع ان التآمر علي حياته لم ينقطع الا ان ناصر السعيد عاش حتي رأي عزل الملك سعود وعاش حتي رأي لجوء سعود الي القاهرة ،ورأي موت سعود في القاهرة سنة 1969 ،وعاش ليشهد اغتيال الملك فيصل سنة 1975 وظل حيا يتفادي محاولات اغتياله حتي سمع باقتحام الاخوان للحرم المكي سنة 1979 ،فخرج ناصر السعيد من مخبئه ليدلي برأيه في بيروت في الحادث ،فكان في ذلك نهايته الغامضة.
3النتيجه الاخيره لحركة ناصر السعيد:
قبل نهايته اوجد الظروف التي اشعلت حركة جهيمان العتيبي،فقد اضطهدت السلطات السعودية حركات المعارضة اليسارية خصوصا الشيوعية منها ، واستعانت عليها بالتيار السلفي ،فضاع ذلك التوازن بين التيارين السلفي والعلماني ،خصوصا مع تحالف السادات وفيصل وعلو شأن التيار الاخواني في المنطقة ، وحين تعاظم النفوذ السلفي ظهرت منه حركات المعارضة المسلحة والارهابية من جهيمان الي المسعري والفقيه واسامة بن لادن .
وتلك هي النتيجة الاخيرة في تأثير حركة ناصر السعيد ..ونتأهب بعدها للدخول في المعارضة السلفية من جهيمان الي المسعري الى ابن لادن.
الهوامش
1-الياسيني :الدين والدولة في السعودية: 93،94.
2-فؤاد الابراهيمي :مجلة الجزيرة العربية :العدد 16 مايو 1992 ص 28
3-الياسيني :المرجع السابق : 94 : 95 .
4-ناصر السعيد :رسالة الي الملك سعود.
5-ناصر السعيد :تاريخ ال سعود :547 .
6-الجزيرة الجديدة :الدولة السعودية : ص 26 :بدون تاريخ وبدون عنوان وهي جريدة كان يصدرها الحزب الديمقراطي الشعبي سنة 1970 من اليمن الجنوبي .
7-الياسيني :المرجع السابق: 92 ،93 ،101 ،102 .
8-الياسيني :المرجع السابق: 117 :119 ،120 ،121 .
9-الياسيني :نفس المرجع :104: :109 .
10-الياسيني :نفس المرجع : 123 ،124 ،167 :169 ،170 ،171 ،153 ،164 :165 .
فؤاد الابراهيمي :مجلة جزيرة العرب :المرجع السابق 29 .
11-فؤاد الابراهيمي :المرجع السابق: 29.
12-ناصر السعيد :تاريخ آل سعود :110 :121 .
13-رفعت سيد احمد :قديس الصحراء: 19 :23 .
14-عن حياة ناصر السعيد وكفاحه :ناصر السعيد :تاريخ ال سعود: 97 ،98 ،104 ،105 ،99،716 ،719 ،720 .
رفعت سيد احمد :قديس الصحراء: 48 :88 .
الياسيني :الدين والدولة في السعودية: 178 ،179 ،180 ،190 .
15-ناصر السعيد :تاريخ ال سعود: 110 :121 .
16-ناصر السعيد :تاريخ ال سعود:14 -،19 -،101 -،108 .
17-عن حركات المعارضة الاخري :ناصر السعيد :تاريخ ال سعود: 544 :547،649 ،122 :123 ،682 :685
د.رفعت سيد احمد :قديس الصحراء :95 ،49:41،58،61
الياسيني :المرجع السابق 144 :188 ،132 ،189 :192 .
18-الياسيني :المرجع السابق: 96 ،165 :167 ،174 -.