الخديوى إسماعيل حاكم عظيم ظلمه المؤرخون وخلدته إنجازاته

كاميل حليم في الجمعة ١٣ - فبراير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

الخديوى إسماعيل حاكم عظيم ظلمه المؤرخون وخلدته إنجازاته

السبت، 14 فبراير 2009 - 01:38

إسماعيل باشا .. مؤسس مصر الحديثة إسماعيل باشا .. مؤسس مصر الحديثة

اجتاحنى شعور الفخر الممزوج بالخجل، عندما قادتنى هوايتى فى اقتناء ساعات الجيب النادرة إلى أحد مزادات جنيف، الذى يعرض ساعة جيب للخديوى إسماعيل. وبعدما قرأت كتالوج المزاد أدركت أن أغلب معلوماتى عن الخديوى إسماعيل كا&ae;ل كانت مغلوطة بل وخاطئة، مما دفعنى لأن أدقق فى تاريخ الرجل، وسرعان ما أدركت أن إسماعيل باشا كان حاكماً عبقرياً تمكن من خداع العالم كله لصالح مصر.

فالرجل لم يكن سارقاً أو منحرفاً، لكنه قام ببناء مصر بمستوى غير مسبوق، حتى صارت القاهرة فى عهده تضاهى لندن وباريس جمالاً وروعة، واكتشفت أن إسماعيل باشا لم يكن الوحيد على مدى التاريخ الذى انتهج هذا الأسلوب، بل إن حكاماً ديمقراطيين أذكياء آخرين انتهجوا نفس الأسلوب لبناء بلدانهم. وفى الفقرات التالية، سوف أقوم بمقارنة وقت إسماعيل باشا بفترتين فى تاريخ الولايات المتحدة، وهى فترة العشرينيات الواعدة وفترة الرهن العقارى القليل الكفاءة (أواخر 1990 وأوائل 2000).

أولاً سوف نستعرض فترة حكم إسماعيل باشا وإنجازاته التى لا حصر لها، فقد حكم إسماعيل باشا مصر 15 عاماً، من 1863 وحتى 1879. وأدت الحرب الأهلية الأمريكية فى عام 1863 إلى عجز شديد فى توافر القطن "الذى أدى إلى ارتفاع شديد فى أسعار القطن المصرى". وإلى جانب تهويل الأرباح المتوقعة من قناة السويس عندما يتم الانتهاء من إنشائها، جعل حجم الأرباح التى تتوقعها مصر مبالغاً فيها. وفى غضون هذه النشوة، كان حلم إسماعيل باشا بتغيير مصر وتحويلها إلى بلد أوروبى، وبناء إمبراطورية قوية تمتد جذورها إلى عمق أفريقيا.

فترة حكم إسماعيل باشا لمصر تتشابه كثيراً، بل تكاد تتطابق بفترتين فى تاريخ الولايات المتحدة، الأولى كانت فى العشرينيات، والثانية فترة الرهن العقارى القليل الكفاءة (أواخر 1990 وأوائل 2000).

اقترض إسماعيل باشا كثيراً، وبدأ حركة البناء التى أخذت مصر من التخلف، وحولتها إلى مكان ينافس بلدان أوروبا جمالا ورونقا، حيث قال الخديوى إسماعيل فى 1879 "إن بلدى لم تعد فى أفريقيا، نحن الآن أصبحنا جزءاً من أوروبا"، وهذا ما أدى إلى تسمية الخديوى بـ"إسماعيل الرائع" (Ismail The Magnificent).

إنجازات إسماعيل باشا خلال مدة حكمه أكثر من أن تسرد فى مقال، وما أسرده ما هو إلا سوى إلا القليل من إنجازاته:
فى مجال الخدمات العامة وتحسين البنية التحتية: تم حفر 112 ترعة بطول 13440 كيلومتراً؛ وتم بناء 400 كوبرى ومد 480 كيلو متراً من خطوط السكك الحديدية، ونصبت 8000 كيلو متر لخدمة التلغراف. وتحولت مصر من دولة ليس بها أى خطوط سكك حديدية إلى أكبر دولة فى العالم بها نسبة كيلو متر سكة حديد. وبدأ أيضاً فى تحسين مياه الشرب وإنارة الشوارع وإمداد الغاز وأنشأ صناعة السكر فى مصر، كما أنشأ مصلحة البريد وأجرى توسيع وإعادة تنظيم التعليم العام.

واستمر الخديوى فى تجفيف المستنقعات وتحويلها إلى أراض زراعية، حتى أنه أكثر من 506000 فدان من الأراضى تم إعمارها، وتم إنشاء وإصلاح كورنيش النيل وأنشأ مجرى السيل حتى لا تتعرض القاهرة للفيضان سنوياً.

شيد الكثير من القصور والحدائق والنافورات والمراكز الثقافية، وأهمها المتحف المصرى ودار الأوبرا، ولا يزال المتحف المصرى يشكل مصدراً كبيراً للدخل السياحى، والذى يضم نحو 16 ألف قطعة أثرية، ويعد أفضل طريقة لعرض الآثار المصرية فى العالم. وبسبب استثمارات إسماعيل باشا، بدأت صناعة السياحة فى مصر تزدهر، فإسماعيل باشا هو من أنشأ الحدائق والنافورات فى مناطق عديدة، مثل مصطفى كامل وعماد الدين والأزبكية وحدائق القناطر الخيرية "التى لا يزال مفتوحاً منها 150 فداناً للجمهور حتى اليوم". وأنشأ أيضاً حديقة الحيوان "التى تعرف الآن بحديقة حيوان بالجيزة"، كما شيد الثكنات العسكرية فى قصر النيل، والتى أصبحت حاليا المبانى الرئيسية للجامعة الأمريكية بالقاهرة.

إسماعيل باشا كان ذا رؤية عصرية متقدمة فى شئون حقوق الإنسان قبيل تكوين الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، ففى نفس الوقت الذى حرر فيه إبراهام لينكولن العبيد فى أمريكا حظر إسماعيل باشا العبودية وتجارة الرقيق فى مصر، حتى أنه عندما فتح أماكن كثيرة فى أفريقيا منع تجارة الرقيق بها.

آمن إسماعيل باشا بممارسة الحريات الدينية، وحث أصدقاءه الأغنياء على التبرع لكل المؤسسات الخيرية لجميع الأديان والمنظمات الدينية، وعين القساوسة الأقباط فى عمليات تعليم وتثقيف أفراد الجيش.

وضع إسماعيل باشا أولوية عالية لحالة ومعنويات مواطنيه، حتى أنه أجرى صفقته، والتى لا أعتبرها صفقة سيئة، حيث قام بدفع ما يساوى نصف رأس المال الأصلى للشركة مقابل إنهاء الشركة لأسلوب الاستعباد للشعب المصرى، وخاصة لمنع جمع الشباب المصرى من القرى وإرغامهم على العمل فى حفر القناة بالقوة وبدون أجر (سخرة).

أدخل إسماعيل باشا الديمقراطية إلى مصر فى 26 نوفمبر 1866، ولأول مرة تم تكوين مجالس القرى المحلية، حتى وصل بها الأمر إلى أن يكون لهذه المجالس تأثير هام على الشئون الحكومية، لاسيما فى مجالات ملكية الأراضى والامتيازات الضريبية والإصلاح القضائى.

قام بتحسينات كبيرة فى القوات المسلحة المصرية، حيث قلل بشكل كبير من الجنود الأميين ووفر التعليم، ليس فقط للجنود ولكن أيضاً لأبنائهم. كما عين خبراء أجانب لتدريب وتثقيف ضباطه على فنون الحرب الحديثة فى ذلك الوقت، وأسس جيشاً قوياً، لدرجة أنه نجح فى ضم دارفور عام 1874 إلى إمبراطورية مصر والسودان، وحاول ضم جنوب أفريقيا.

فتح الباب أمام الأرستقراطيين فى مصر لإرسال أبنائهم إلى التعلم فى أوروبا، وعندما عادوا إلى بلادهم جلبوا معهم الحضارة، وزرعوا البذور التى أثمرت عن ثورة 1919 وإنهاء الاحتلال البريطانى، "والتى لم تستغرق سوى فترة قصيرة 31 سنة من 1888 وحتى 1919".

ورغم أن إسماعيل باشا تمكن من إتمام هذه الإنجازات عن طريق اقتراض أموال من البنوك والشركات المصرفية الأوروبية بأسعار فائدة مركبة وعالية، الأمر الذى أدى إلى ازدياد التدخل الأوروبى فى الشئون المالية لمصر، بالرغم من قيام مصر بدفع الديون وفوائدها فى مواعيدها "كما يدعى المؤرخون". ولا نعرف إذا كان الخديوى على علم بأن مصر لا تستطيع سداد هذه القروض أم لا؟. ولا أعتقد أن تلك الديون كانت السبب الرئيسى للاحتلال البريطانى والوصاية البريطانية – الفرنسية على مصر (كما يدعى بعض المؤرخين).

فالمعروف فى ذلك الوقت، أن الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية كان هدفها السيطرة على كل الشرق الأوسط، فبريطانيا كانت ستحتل مصر سواء كانت عليها ديون أو لا، ولم تكن الديون إلا مبرراً شكلياً للاحتلال.

إنجازات إسماعيل باشا عاشت طويلا، وقدمت فوائد كبيرة لجميع المصريين، وأعتقد أن الخديوى إسماعيل كان يعلم مسبقاً بالتدخل والاحتلال الأوروبى، وأنه شر قادم لا مفر منه، فأخذ على عاتقه بناء مصر، وهو لا يزال فى السلطة وعلى حساب أوروبا.

حب إسماعيل باشا لمصر كان عظيماً، لدرجة أنه لم يتأثر عندما فقد تاج الحكم فى عام 1879، وبعد أن تم نفيه إلى روما، استمر فى إقامة الحفلات لنخبة المجتمع احتفالا بنجاحاته وحتى وفاته فى 2 مارس 1895 فى قصره على البوسفور فى أمرجهام.

وبالرغم من أن مصر كرمت إسماعيل باشا ببناء تمثال له (والذى لا يزال فى الإسكندرية)، فلماذا نميل إلى نسيانه ونكران إنجازاته وعبقريته المبكرة فى مجالات الاقتصاد وحقوق الإنسان والعسكرية وغيرها؟!

ما فعله الخديوى إسماعيل مشابه لفترة العشرينيات فى أمريكا، حيث استدان الأمريكيون كثيراً وقاموا بالتشييد والبناء بأحجام هائلة. وكانت فترة اتسمت بالصرف المبذر والقروض السهلة مما أدى لطفرة كبيرة فى الأبحاث العلمية والصناعات المختلفة، كصناعة السيارات والسينما والراديو وصناعة الكيماويات وإنشاء الفنادق الحديثة ومحطات البنزين، كما مهدوا الطرق ووسائل النقل الخاصة بالأتوبيس والقطارات ومترو الأنفاق. كما شيدوا المنازل الخاصة للأسرة الواحدة، وبدأت البيوت تعمر بالأجهزة الكهربائية كالثلاجات والغسالات والمكانس الكهربائية، كل هذه الإنجازات تمت بأموال مقترضة.

وتمت أيضاً إنجازات معمارية فى كل المدن الأمريكية وتطور فى صناعة الصلب والخرسانة المسلحة ومضخات المياه واختراع المصعد الكهربائى، مما جعل حلم ناطحات السحاب ممكناً، ففى نيويورك نرى مبنى كرايسلر ومبنى امباير ستيت ومبنى وللورث، ونجد فى شيكاغو مبنى تريبيون تاور ومبنى ريجلى وجميعها تم تشيدها فى تلك الفترة.

ما زال الأمريكيون يحظون بنتائج العشرينيات، وبطبيعة الحال عندما عجز المقترضون عن تسديد الديون بدأ الكساد الكبير (The Great Depression) ودخلت أمريكا فى أسوء موقف اقتصادى فى تاريخها.

ولعل الأزمة الاقتصادية الراهنة التى وضعت النظام المالى العالمى بأسره فى مأزق، مماثلة لما حدث فى العشرينيات، وأيضا لفترة حكم إسماعيل باشا، فالبنوك الكبيرة وشركات التأمين العملاقة معرضة لإشهار إفلاسها وأسواق الأسهم تنهار. فالأميركيون ظنوا أنهم أكثر ثراء مما هم عليه فى الواقع، وبدأوا مرحلة الاقتراض والإنفاق المفرط تماماً مثلما فعل إسماعيل باشا فى 1860.

وجرى تشجيع المستهلكين من قبل الحكومة على الاقتراض والبناء والإنفاق، وتم تمرير قوانين جديدة وأنشئت وكالات تشجع كل أمريكى على تحقيق حلم امتلاك بيته الخاص، حتى لو لم يكن بإمكانه دفع تكاليف قرضه، وبدأت أسعار العقارات تتضاعف، وقامت البنوك بخلق أساليب جديدة لتسهيل القروض، وتم تصميمها وبيعها كأوراق مالية فى البورصة.

وكلما زادت الأرباح، بدأ المستثمرون الأجانب فى الاستثمار فى السوق الأمريكية، وكان لدى الجميع فرصة لكسب المال، وتدفقت أموال النفط العربى، ووضع الصينيون أموالهم التى كسبوها من السوق الأمريكية مرة أخرى، وكذلك الأوروبيون اشتركوا فى هذه المنافسة بعملاتهم ذات القيمة المرتفعة.

وكما حدث لإسماعيل باشا، وأيضاً فى نهاية فترة العشرينيات الواعدة، لم يستطع الأمريكيون فى السنة الماضية دفع كل هذه القروض، وأصبح العالم كله يعانى من المشكلة الراهنة.

بعد كل فترة انفتاح ما بعد الطفرة، تترك كل بلد بتحسينات لا يمكن الاستغناء عنها، وفى كل هذه الأمثلة، اتخذت من الاستثمارات الأجنبية وسيلة من أجل تحفيز التنمية.

فإسماعيل باشا استخدم الأموال الأوروبية؛ أما الولايات المتحدة فقد كانت الأموال العربية والصينية. وفى كل الأحوال كان المقترض غير قادر على تسديد الديون، ويحاول المقرض إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن فى النهاية يصير المقترض هو الفائز حقا، فحيثما تذهب الأموال تترك التطوير وتبنى البلدان.

بعد حفر قناة السويس، إذا لم تردم ستظل مصدراً للدخل القومى المصرى، والشىء نفسه ينطبق على الجسور فى مصر والحدائق الجميلة، وناطحات السحاب والشقق والضواحى فى الولايات المتحدة. وينطبق الشىء نفسه على الكهرباء والطرق والمتاحف وغيرها من البنى التحتية والاستثمارات الثقافية.

كثير من هذه الرموز لا تزال تشكل مصدراً للدخل، وباباً مفتوحاً للعمالة حتى يومنا هذا، بل وستظل، هذه الحقيقة تجعل من كل هذه الإنجازات تستحق هذه التكاليف لاحقاً، فمن الواضح أن الفوائد تفوق السلبيات، ولا يجب نسيان إنجازات إسماعيل باشا والذين اتبعوا نموذجه، فهذه الاستثمارات أتموها لشعوبهم وبلدانهم وثقافتهم وهى حقاً لا تقدر بثمن.

أما عن ساعة إسماعيل باشا التى كانت معروضة للبيع فى المزاد العلنى، التى أعتقد أنها لا تتجاوز قيمتها 5000 دولار، بيعت بمبلغ 168 ألف دولار لمجرد أن اسمه محفور عليها. صحيح أننى كنت حزينًا لأننى لم أستطع الحصول على الساعة، لكننى كنت فخوراً برؤية هذا العدد الكبير من جميع أنحاء العالم يرغبون فى دفع هذا الثمن الباهظ، دعونا نعطى هذا الرجل حقه ونخلد ذكراه ونذكر إنجازاته التى ما زالت وستظل مصدر خير وعطاء للشعب المصرى.

اجمالي القراءات 86146