1ـ
يحتاج الباحث والقارئ في صحيح البخاري إلى جهد كبير ليصل إلى ما يريد ،فلكتاب البخاري خاصية محددة تميزه عن الكتب الأخرى في علم الحديث ، وهى بعثرة الحديث الواحد بين مئات الأبواب وعشرات الكتب ـ أو الفصول ـ مع رواية الحديث الواحد فى صور مختلفة وبأسانيد مختلفة وبعناوين مختلفة . ومع أن الخط العام لصحيح البخارى هو تقسيم الأحاديث تقسيماً فقهياً إلا أن التداخل بين الموضوعات والأحاديث وتكرارها يجعل من ذلك التقسيم عديم الفائدة .
ويفتقر صحيح البخارى إلى التنظيم إلى درجة يظن معها الباحث للوهلة الأولى أن البخارى ليس على المستوى اللائق به كاتباً ، خصوصاً إذا قارنه بكتب أخرى في الحديث والتاريخ في نفس العصر الذى عاشه البخارى مثل طبقات ابن سعد و"صحيح مسلم" وهى أكثر ترتيباً وتنظيماً وتبويباً. ولكن بالتمعن والفحص يستطيع الباحث أن يتعرف على دهاء البخارى من خلال تلك الفوضى المقصودة في كتابه .. والتى من خلالها تتوزع أحاديث معينة بطريقة خاصة وتتبعثر خلال أكوام من الأحاديث الأخرى التى يبدوا ظاهرها حسناً .. وبطبيعة الحال فتلك الأحاديث التى يبعثرها البخارى وسط الآلاف الأخرى إنما تعبر عن عقيدته الخاصة ورؤيته للإسلام ، والتى بها حاول أن يشوه صورة نبى الإسلام عليه السلام . وكان يتحين كل فرصة ليعرضها تحت عناوين مستقاة من نفس موضوعها ، وكان يتعسف تلك العناوين اعتسافاً مما يدل على قصده من تكرار عرضه لها .
2 ـ
إذا أردت اغتيال خصم لك بالسم فليس من المعقول أن تأتيه بكوب من السم الخالص وتقول له : لو سمحت اشرب هذا السم من أجلى . ولكن المعقول أن تضع له القليل من السم المركز الزعاف في كوب كبير من العسل وتقدمه له على أنه شراب طهور فيه شفاء للناس .
وهذا ما فعله البخارى بالضبط ، وضع سمومه المركزة وسط آلاف من الأحاديث المحايدة التى يقول بعضها شيئا حسناً وبعضها الآخر لا يقول شيئاً ، واهتم بذكر بعض المدائح للنبى ، مع التركيز على أحاديث ابى هريرة التى تحض على طاعة السلطان ـ أى سلطان ـ وبذلك ضمن البخارى أن يتمتع كتابه في كل عهد برعاية السلطة الحاكمة ، كيف لا والبخارى فى أحاديثه يحذر من الفتنة وعصيان الأمير وشق الطاعة وتفريق الجماعة .. الخ .
3 ـ
وهذه " الفوضى المنظمة "في صحيح البخارى كان لها منهج خاص نتعرف عليه من خلال عرضنا لحديث واحد بعثره البخارى في ثنايا كتابه ..
فحديث أم حرام ـ التى افترى البخارى أن النبى كان يدخل عليها وينام عندها ـ بعثره البخارى في مواضع شتى في كتابه ورواه بصور شتى ، بحيث يبدو واضحاً أنه كان ينتهز أى فرصة ليرويه ويضعه تحت أى عنوان ... ونقتصر على بعض أمثلة لإيراد هذا الحديث..
* تحت باب "الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء " يرويه البخارى كالآتى " كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله (ص) فأطعمته وجعلت تفلى رأسه فنام رسول الله (ص) ثم استيقظ وهو يضحك قالت : قلت وما يضحكك يا رسول الله ؟ ناس من أمتى عرضوا علىَّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسِّرة ، أو مثل الملوك على الأسرة ، شك إسحق ، قالت : فقلت : يا رسول الله أدع الله أن يجعلنى منهم ، فدعا لها رسول الله ، ثم وضع رأسه ، ثم استيقظ وهو يضحك ، فقلت : وما يضحكك يا رسول الله ؟ قال: ناس من أمتى عرضوا على غزاة في سبيل الله كما قال في الأول ، قالت : فقلت يا رسول الله أدع الله أن يجعلنى منهم ، قال: أنت من الأولين ، فركبت البحر في زمان معاوية بن أبى سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت .
والمضحك أن الراوية للحديث هى بطلته أم حرام نفسها ، وتقول الرواية أنها هلكت ، ومعناه أنها ربما روته بعد أن هلكت .
* وبعد صفحتين يروى البخارى نفس الحديث مع تغيير طفيف تحت عنوان جديد "باب فضل من يصرع في سبيل الله فمات فهو منهم " يروى عن أم حرام قولها " نام النبى يوماً قريباً منى ثم استيقظ يبتسم فقلت : ما أضحكك؟ قال: أناس من أمتى عرضوا علىَّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسِّرة قالت :فادعوا الله أن يجعلنى منهم ، فدعا لها ثم نام الثانية ففعل مثلها ، فقالت مثل قولها فأجابها مثلها فقالت أدع الله أن يجعلنى منهم . فقال : أنتِ من الأولين فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشام قفرت إليها دابتها لتركبها فصرعتها فماتت" .
* ثم تحت عنوان جديد هو "باب غزو المرأة في البحر " يقول البخارى " دخل رسول الله على ابنة ملحان فاتكأ عندها ثم ضحك فقالت لم تضحك يا رسول الله فقال : ناس من أمتى يركبون البحر الأخضر .. الخ "
وتحت عنوان "باب ما قيل في قتال الروم" يروى البخارى القصة بصورة جديدة وهى أن أحدهم أتى عبادة بن الصامت في حمص وهو في بناء له ومعه أم حرام التى روت الحديث" أول جيش من أمتى يغزون البحر قد أوجبوا قالت أم حرام قلت يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال :أنتِ فيهم .. الخ "
ثم تحت عنوان " باب من زار قوماً فقال ـ أى نام القيلولة ـ عندهم يذكر البخارى الحديث بالصيغة الأولى الكاملة .
وبغض النظر عن الاختلافات الشكلية في روايات الحديث فإن القارئ يترسب فى عقله الباطن الأيمان بفحوى الحديث وخطوطه العامة ، ويؤمن بما يريده له البخارى أن يؤمن به وهو أن النبى كان يدخل على أم حرام فينام عندها في بيتها وتطعمه وتسقيه وتفلى رأسه ، وباقى التفصيلات الأخرى ليست إلا رتوشاً لتسند الموضوع الأساسى وتساعد القارئ على ابتلاعه وهضمه .
4ـ
وللبخارى منهج خاص في تأليف تلك الروايات.
* فهو يحرص على إتمام الحبكة الدرامية للرواية. ولعل مهارته تبدو أروع ما تكون في تأليفه لقصة اتهام عائشة في حديث الإفك المزعوم ، وهذه القصة تشهد له بالبراعة في التأليف الدرامى ، حيث تتوزع الأدوار البطولية والهامشية والمساعدة ، والأدوار الشريرة وأدوار الأبطال الممثلين للخير مع الدموع ، والآهات ،والزوجة المظلومة ، والأب الحائر ، والأم الملتاعة والزوج المطعون بالإشاعات التى تنال من حبيبته، والعاجز عن تصديقها ، وتأتى النهاية فتريح الجميع .. ويستريح القارئ ..
* ومن دهاء البخارى أن منهجه في تأليف كل رواية يتشكل تبعاً لظروف كل رواية . لأن له هدفاً من تأليفه لهذه الرواية . وتأتى الحكاية لتخدم ذلك الهدف . ونتعرف على مهارة البخارى في هذه الرواية التى أسندها إلى أنس : (أن أم سليم كانت تبسط للنبى نطعا فيقيل عندها ـ أى ينام القيلولة ـ فإذا نام النبى أخذت من عرقه وشعره جعلته في قاروة ثم جمعته في سُك فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى أن يجعل في حنوطه من ذلك السُك فجعل في حنوطه ..)"
فالبخارى أتى بالمقصود في بداية الرواية وهى أن النبى كان ينام عند أم سليم وأن أم سليم كانت تأخذ شعره وعرقه وهو نائم ـ ويترك للقارئ أن يتخيل كيف يحدث ذلك ـ ثم تأتى بقية الحكاية بموضوع مختلف جئ به خصيصاً ليخدم الغرض الأساسى من تأليف تلك الرواية .
* ونفس المنهج اتبعه البخارى فى موضوع أم حرام .. فقد بدأ بالهدف وهودخول النبى على بيت ام حرام فى غيبة زوجها ونومه عندها
ثم اتبع ذلك بقصة طويلة عن المنام والجهاد وركوب البحر ثم موت أم حرام ويستغرق القارئ في تلك التفصيلات والمنامات والتنبؤات بالغيب ، وما حدث لأم حرام وبيتلع منذ البداية ما أراده له البخارى أن يبتلع وتصبح القضية والمناقشة محصورة فيما حدث من تفصيلات لأم حرام ، وليس ما تعنيه القصة المزعومة من اتهام فظيع للنبى .
* ومن دهاء البخارى أنه يجعل تلك الحبكة القصصية مرتبطة بالموضوع الأصلى وقائمة على أساسه أذ لابد أن ينام النبى عند أم حرام حتى يرى المنام ويخبرها بما سيحدث في المستقبل .. ولابد أن ينام عند أم سليم حتى تجمع عرقه وشعره ليكون ذخيرة لأنس يتبرك بها عند الموت، أو ما كان يمكن لأنس أن يجمع هذا العرق وذلك الشعر أثناء خدمته للرسول عشر سنين ؟ ولا يحتاج لأم سليم وعنائها ؟ . ولكن إذا حدث ذلك فكيف يتحقق هدف البخارى في تشويه صورة النبى ؟
5ـ
وللبخارى منهج في اختياره للكلمات الموحية لما يريد .
ويتجلى ذلك في نوعية كتابته للهدف الأساسى من الرواية واختياره لألفاظها ، ذلك الاختيار المقصود المتعمد .
وقد عرفنا أن هدفه الأساسى من رواية أم حرام قد جاءت في المقدمة ، حين يقول " كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله (ص) فأطعمته وجعلت تفلى رأسه فنام رسول الله (ص) ثم استيقظ وهو يضحك .. " إلى هنا انتهى الهدف ودخلت القصة في استطراد يخدم الهدف ويغطى عليه ..
ولنحاول أن نتعرف على منهج البخارى في اختياره للكلمات التى تعبر عن دهاء شديد في تحقيق هدفه في طعن شخصية النبى ..
يقول "كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان " أى تعود الدخول على هذه السيدة التى ليست زوجة أو محرماً له.. ويقول وكان .. يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه " وهو هنا ينزل بالنبى إلى درك التشبيه ( بمن) يدخل على أهل بيت ليطعموه ويسقوه ،أو درك التشبيه (بما ) يدخل على أهل بيت فيطعموه و يسقوه. ولا يسمح لنا شعورنا المسلم بالتصريح بما يريد البخارى الايحاء به من طريقة صياغته تلك. .
ثم يقول " وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت " وهنا تتجلى سوء النية لدى البخارى .. فهو يريد لنا أن نفهم بصراحة أن تلك السيدة التى كان يدخل عليها النبى كانت متزوجة من أحد الصحابة . وربما لو كان حسن النية لقال مثلاً " كان النبى يدخل بيت عبادة بن الصامت .."فلا يكن هناك مجال للتعريض والغمز واللمز ، ولكن ذلك مالا يريده البخارى ، إنه يذكر عامداً أن أم حرام التى كان النبى يدخل عليها كانت زوجة لعبادة بن الصامت . وتلك الإشارة الموحية أساسية في تحقيق هدف البخارى الذى بدأ به الرواية والتى جعل بقية القصة مجرد ديكور لزخرفتها .
ويلفت النظر أن البخارى لم يذكر في هذه الرواية إسم عبادة بن الصامت إلا في هذا الموضوع لكى يكرس كل كلمة أو استطراد أو جملة اعتراضية لخدمة هدفه الأساسى.
ثم يكرر البخارى دخول النبى على تلك المرأة ، والتكرار عامل مهم في تأكيد الإيحاء وتقوية الإحسلس النفسى به ، يقول "فدخل عليها رسول الله فأطعمته .." وقد قال قبلها " كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه "
ثم يقول " فأطعمته وجعلت تفلى رأسه" وهو لا يضع هذه الجملة عبثاً ،خصوصاً وقد أعلمنا أن أم حرام هذه كانت زوجة وقتها لعبادة بن الصامت الذى لم يكن موجوداً بالبيت طبعاً . ويتركنا البخارى بعد هذه الإيحاءات المكشوفة نتخيل ما معنى أن يخلو رجل بامرأة متزوجة فى بيتها وفى غيبة زوجها ، وأنها تطعمه وتفلى له رأسه ، أى أن الكلفة قد زالت بينهما تماماً ، وأنها تعامله كما تعامل زوجها ،" وتفلى له رأسه " وهنا أسئلة عن القمل والقذارة، وتقصير أمهات المؤمنين في النبى .. الخ ..
ثم يقول" وجعلت تفلى له رأسه فنام رسول الله ثم استيقظ .. "ولابد أن القارئ سيسأل ببراءة .. وأين نام النبى ، وكيف نام وتلك المرأة تفلى له رأسه ، وآلاف الأسئلة تدور حول هدف واحد هو ما قصده البخارى بالضبط ..
6ـ
وكانت للبخارى هواية عجيبة في اختياره للإشارات الجنسية الموحية حتى ولو لم يكن السياق يحتملها، يقول في حديث عن عائشة "عاتبنى أبو بكر وجعل يطعننى بيده فى خاصرتى فلا يمنعنى من التحرك إلا مكان رسول الله ورأسه علي فخذى." وهذا كل ما هنالك . ولم يذكر لنا البخارى سبب العتاب ، لأن المهم عنده أن يثبت لنا أن الرسول كان ينام ورأسه على فخذ عائشة .. نفس الإصرار على تعرية الأنبياء أمام عقولنا ، واقتحام حرمة بيت النبى ، ولذلك وضع البخارى هذا الحديث وحده تحت عنوان استقاده من موضوع الحديث لكى يورد فقط تلك الإشارة الجنسية .
بل إن غرام البخارى بتلك الإشارات الجنسية الموحية جعلته يحول روايات موت النبى واحتضاره إلى مسلسل من روايات حيكت كلها خصيصاً لكى تقول كيف ينام النبى عند موته بالنسبة لجسد عائشة .. وهل هناك أفظع من اختيار هذه المناسبة لملئها بمثل هذه الألفاظ والإيحاءات الخارجة ؟
وقد أسند البخارى هذه الروايات بالطبع لعائشة ونقتطف منها ما يلى " .. فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشى عليه "" دخل عبد الرحمن بن أبى بكر على النبى وأنا مسندته إلى صدرى " " .. وكانت تقول : مات بين حاقنتى وذاقنتى " والحاقنة هى المعدة أو أسفل البطن ، والذاقن أعلى البطن إلى الذقن . " إن من نعم الله علىَّ أن رسول الله توفى في بيتى وفى يومى وبين سحرى ونحرى " .. وكرر البخارى في تلك الأحاديث مراراً وهو يطارد النبى بهذا الأسلوب حتى على فراش الموت يعانى سكرات الاحتضار.
7ـ
وفي أحاديث التشريع وضع البخارى أسلوب التناقض ، وحرص فيه على أن تكون الأحاديث المتناقضة فى مكان واحد ما أمكنه ذلك حتى يستثير القارئ لعقد المقارنة ويحمله على اتهام النبى بالقول المتناقض ، أو يجعل القارىء يتشكك فى الشرع وفى الدين ـ طالما أنه يعتبر تلك الأحاديث وحيا ،أو يتشكك فى العبادات خصوصاً وأن موضوعات التناقض عند البخارى كانت تضم الصلاة والطهارة ..
وفى نفس الوقت لم يغفل البخارى هوايته ى وضع الألفاظ الموحية في أحاديث التشريع . إذ يروى البخارى " أن النبى صلى بهم البطحاء ـ وبين يديه عنزه ـ الظهر ركعتين والعصر ركعتين يمر بين يديه المرأة والحمار" ومراد البخارى أن يشكك في عدد ركعات الصلاة .. وحتى لا يقول قائل أن النبى كان يقصُر الظهر والعصرفيصليهما ركعتين ركعتين ، نرى البخارى وقد وضع في الرواية عنزة بين يدى النبى وهو يصلى ، ثم يجعل الحمار والمرأة فى حالة مرور أمامه فى الصلاة والهدف أن يجعل مسرح الحادثة أمامه هادئاً أى ليس هناك سفر أو خوف ، خصوصاً وقد حدد المكان وأنه البطحاء في المدينة ، وأن الأحوال على ما يرام والأمن مستتب والماعز تمرح والحمير تسير في هدوء أمام المصلين والنسوة في أمان يتنزهن أمام النبى و من يصلى معه !!..
وهكذا يأتى البخارى بالألفاظ الموحية في دهاء شديد لتخدم هدفه من الرواية في طعن نبى الإسلام . ومع ذلك يظهر البراءة التى خدعت الجميع لمدة زادت على ألف عام ..
وبهذه البراءة و تلك الحرفية فى الافتراء اختلق البخارى شخصية مزورة للنبى محمد عليه السلام بعد موته عليه السلام بقرنين من الزمان .
8 ـ
الغريب فى شخصية البخارى نفسه هو البخارى نفسه ..فمع شهرته فهو مجهول فى الحقيقة.
كل ما نعرفه من أصله الفارسى أنه ابن برزويه ، وكالعادة اكتسب ولاءا عربيا واسما عربيا طبق المعتاد وقتها فى العصر العباسى. وليس فى ترجمته معلومات عن نشأته وأسرته و حياته الاجتماعية. كل ما هنالك هو أسماء من سمع منهم الحديث وأسماء من سمعوا منه الحديث ومؤلفاته ، وهى معلومات قليلة لا تناسب شهرته العريضة الطاغية ، ولا تتناسب مع المعلومات الكثيرة التى تملأ صفحات عن علماء أقل منه شهرة وعاشوا قبله وبعده، بل عاشوا قبل التدوين ومع ذلك قامت الروايات بتفصيل حياتهم لأنها كانت مشهورة ومعروفة وتحت أعين الناس. أطلب من أى باحث منصف أن يقارن ترجمة الحسن البصرى فى العصر الأموى قبل شيوع التدوين والتى إزدحمت صفحاتها بالتأريخ عنه ـ بترجمة البخارى ، أوليقارن ترجمة سعيد بن المسيب المطولة ببضع صفحات يسيرة فى ترجمة البخارى . وطبعا أقصد الترجمات الأولى لشخصية البخارى ،أى التى كتبها من أدركه أو أدرك عصره . لأن اللاحقين ممن يعبد البخارى وعاش بعده بقرون كتب فى (مناقب البخارى ) مفتريات يعجب منها ابليس نفسه .
من العجب أن يوجد البخارى فى أكثر العصور نشاطا فى التدوين والكتابة ثم لا يحظ بترجمة تناسب عصره أو تناسب شهرته التى طغت و استفاضت فيما بعد .
السبب أن البخارى ـ ابن برزويه ـ ظهر فجأة يحمل ولاءا عربيا واسما عربيا ليكيد للاسلام بهذا الكتاب ( صحيح البخارى ) ..ولينتصر به فكريا وعقيديا على الاسلام بعد أن عجز قومه الفرس عن هزيمة المسلمين فى العصر العباسى .
الفرس هم الذين أتعبوا الدولة الأموية فى ثورات متعاقبة صريحة أو تحت شعارات آل البيت ، ثم نجح الفرس أخيرا فى اسقاط الدولة الأموية ، فكان أبو مسلم الخراسانى هو المؤسس الحقيقى للدولة العباسية وصاحب أكبر نفوذ فيها ، مما أخاف الخليفة المنصور فقتله . ثار أتباعه فى خراسان تحت قيادة فاطمة بنت أبى مسلم الخراسانى فهزمهم العباسيون ، وتعددت ثورات الفرس وقضى العباسيون على كل ثوراتهم المسلحة.
شنّ الفرس حربا جديدة على العرب هى الحرب الثقافية التى عرفت باسم الشعوبية . كان أشهر قادة هذه الحرب هو الهيثم بن عدى المتوفى سنة 207 هجرية ، والشعوبية هى كراهية العرب والتعصب للقومية الفارسية.
الهيثم بن عدى تخصص فى اختلاق الأخبار التى يطعن فيها فى العرب وقبائلهم واستخدم معرفته بالأخبار والقصص والأشعار فى التشنيع على العرب والتأليف فى مثالبهم , وكانت أخطر أساليبه استخدام الشعر والنوادر والأمثال والقصص , وهى الأوسع انتشاراً ..ولكن كان أغلبية أصحاب الحديث قد اتفقوا على اتهام الهيثم بن عدى بالكذب ، ورد عليهم تلامذة الهيثم بن عدى المتعصبين للشعوبية بأن تركوا الشعر العربى و أنساب العرب وتخصصوا فى تأليف الأحاديث والقصص عن النبى محمد وزوجاته ، ونشروا هذه الأكاذيب المخالفة للقرآن ضمن ما أسموه بالسنة و السيرة النبوية. ولذا تجد من الغريب أن يظهر فى وقت واحد معظم أئمة الحديث والسنة، وكلهم من الفرس الشعوبيين ، وكانوا أكثر حذقا ومهارة من الهيثم بن عدى لأنهم تخصصوا مباشرة فى تزييف الاسلام بتأليف الأحاديث ونسبتها للنبى محمد عليه السلام .
أى أن الشعوبية قادت ضد العرب حربا أدبية بدأها حماد الراوية ثم انتهت بالهيثم بن عدى فى العصر العباسى الأول ، وبعد انفضاح تلك الحرب فان الشعوبية قادت فى العصر العباسى الثانى حربا جديدة ليس ضد العرب ولكن ضد الاسلام نفسه ردا على إخماد حركاتهم الثورية المسلحة فى خراسان .
ونجحت الشعوبية فى افساد الاسلام بأحاديث ومرويات كاذبة نشرها تلامذة الهيثم بن عدى. واذا كان الهيثم بن عدى قد مات سنة 207 حسيرا مجهولا فان تلميذا شعوبيا مجوسيا له نجح وأصبح الاها متمتعا بالقداسة لدى رعاع المسلمين حتى الآن ، مع انه مات سنة 256 هجرية. انه ابن برزويه. المشهور عندنا بلقب ( البخارى ) نسبة الى اقليم بخارى فى خراسان وكان أشد مناطق فارس تعصبا ضد العروبة والاسلام.
أى إن ما فشل فى تحقيقه عسكريا ابو مسلم الخراسانى وما فشل فى تحقيقه ثقافيا وتاريخيا الهيثم ابن عدى نجح فى تحقيقه ابن برزويه الخراسانى ..المشهور عندنا بالبخارى.
بهذا استطاع البخارى أن ينتقم شر الانتقام لقومه وشعوبيته من الإسلام ونبى الإسلام ، ولا يزال انتقامه سائداً ومتحكماً بدليل ما يمثله البخارى وكتابه من قيمة دينية في قلوب ملايين المسلمين الذين يرفعون كتابه فوق القرآن ، وقد نشأنا على هذا الإعتقاد صغاراً ، وأقسمنا بصحيح البخارى في كل كبيرة وصغيرة، وصار على لسان الناس أن يقول أحدهم مستنكراً " وهل غلطت في البخارى؟ " ويعنى هل وقع في الكفر . لأن البخارى أكثر الكتب تقديساً . ولا يجرؤ أحد على أن "يغلط في البخارى"
وحدث أن أحد مشاهير القراء في الإذاعة أخطأ في القرآن أثناء التسجيل ، ولما نبهه أحدهم إلى خطئه ثار وقال " وهل غلطت في البخارى .." .
9ـ
يا ترى .. هل غلطت أنا أيضاً في البخارى ؟؟ .
لا اعتقد .. قمت فقط بقراءة ما كتبه البخارى بعيون مفتوحة فى وقت أغمض فيه المسلمون عقولهم وعيونهم لمدة قصيرة لا تتعدى 12 قرنا من الزمان .
ملاحظة .
هذا البحث كان الجزء الأخير من الفصل الخاص بالبخارى فى كتاب ( القرآن وكفى ) وقد رفض وقتها صاحب المطبعة طباعته .. وضاع بين أوراقى ، ثم عثرت عليه ـ فيما بعد مخطوطا ـ كما كان.. فوجد طريقه للنشر بعد 19 عاما ..