كانت فترة الحكم العماني لزنجبار ومدن الساحل الأفريقي والتي زادت على الألف عام من أهم الفترات التي شهدت فيها هذه السواحل الأفريقية نهضة وتطورا عاما، ولا سيما مجال العلوم حيث سخر العمانيون الموارد في سبيل رعايتها وتطويرها.
ومن هنا كان منطلق الباحث في جامعة السلطان قابوس الدكتور سليمان بن سعيد الكيومي في دراسة الحركة العلمية في زنجبار وساحل شرق أفريقيا خلال النصف الثاني من القرن الـ19 كجزء من رسالته لنيل درجة الدكتوراه.
ويقول الباحث في التاريخ العماني عن أهمية هذه الدراسة -التي نشرها في كتابه الذي تم توقيعه بمعرض مسقط الدولي للكتاب كأحد إصدارات الجمعية العمانية للكتاب والأدباء- إن أهميتها تعود إلى تعريف القارئ بإنجازات العرب الحضارية والثقافية في منطقة شرق أفريقيا، وكذلك الدور الذي قام به العلماء العرب من عمان وحضرموت في نشر الإسلام وإثراء الحياة العلمية في زنجبار وشرق أفريقيا.
عوامل ازدهار
وعن عوامل ازدهار الحركة العلمية في الساحل الأفريقي ومظاهرها، يقول الكيومي للجزيرة نت إنه رغم اضطراب الأوضاع السياسية في منطقة ساحل شرق أفريقيا خلال النصف الثاني من القرن الـ19 فإن الحياة العلمية كانت مزدهرة لعدة عوامل، منها وجود نخبة من العلماء، حيث استقطبت منطقة ساحل شرق أفريقيا عموما وزنجبار -خصوصا خلال القرن الـ19- مجموعة كبيرة من العلماء والمفكرين، نظرا لما كانت تتميز به من أمن واستقرار، بالإضافة إلى تشجيع سلاطين زنجبار للعلم والعلماء.
كذلك كان لتشجيع سلاطين زنجبار للعلم والعلماء دور مهم، فقد وجد العلماء في زنجبار وشرق أفريقيا الكثير من العناية والتشجيع من قبل سلاطين زنجبار الذين تعاقبوا على حكم زنجبار، وأحاطوهم بشتى أنواع الدعم المادي والمعنوي، فكانوا يسندون إليهم بعض الوظائف العليا في الدولة ويستشيرونهم في الكثير من الأمور.
المطبعة السلطانية والصحافة العمانية
ويردف الباحث أن من بين عوامل ازدهار الحركة العلمية في الساحل الأفريقي ومظاهرها هو تأسيس المطبعة السلطانية في عام 1297هـ/ 1880م، وسميت كذلك نسبة إلى مؤسسها السلطان برغش بن سعيد، وتعد من أقدم المطابع في شرق أفريقيا، وساهمت بشكل كبير في النهضة العلمية والثقافية في شرق أفريقيا، إذ عملت هذه المطبعة على نشر العشرات من الكتب العمانية، خاصة الدينية منها، وقد مهد هذا الإنجاز الكبير في مجال الطباعة والنشر السبيل لظهور الصحافة العمانية لأول مرة في تاريخ شرق أفريقيا، ومن خلال إنشاء مطبعة في زنجبار هدف السلطان برغش إلى توفير وسائل إدارة الحكم المتطور وتوظيف وسيلة عصرية لنشر الثقافة العربية الإسلامية في كل أرجاء مملكته.
التسامح الديني
ويبين الكاتب في مؤلفه الجديد إسهام سياسة التسامح الديني والمذهبي التي انتهجها معظم سلاطين زنجبار في توطيد الصلات الطيبة والوثيقة بين العلماء في شرق أفريقيا على اختلاف مذاهبهم، وبرزت هذه السياسة في أوساط العلماء والفقهاء والقضاة، وذلك في ظهورهم على قدم المساواة في مجالس السلاطين، وفي تعيينهم بمناصب الدولة، واتخاذهم مستشارين للسيد سعيد وأبنائه من بعده، وهذا ما يؤكده المغيري في كتابه "جهينة الأخبار " بقوله "ومن جميل أخلاق سلاطين زنجبار عدم التعصب في الجنسية والأديان".
وردا على سؤال الجزيرة نت عن العلاقة بين النخب الثقافية في ساحل شرق أفريقيا وزنجبار في القرن الـ19 وبين أقرانهم في العالم العربي ومراكزه الثقافية في الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر والمغرب، يقول الكاتب "كان علماء زنجبار وشرق أفريقيا في تواصل دائم مع علماء العالمين العربي والإسلامي"، خاصة في الحجاز وعمان وحضرموت، وبمرور الأيام كونوا لأنفسهم مركزا مرموقا ومستقلا يضاهي المراكز الإسلامية في العالم الإسلامي.
ومع بداية النصف الثاني من القرن الـ19 بدأت الكتب العربية المطبوعة ترد إلى زنجبار التي تحولت إلى مركز ثقافي مهم في شرق أفريقيا، ووفد إليها طلاب العلم والعلماء من جميع أنحاء شرق أفريقيا ومن المناطق المجاورة لها، ومن جاوة والهند وحضرموت وعمان، وفي هذه الحقبة أنتجت مدن شرق أفريقيا كوكبة من خيرة علمائها، ويصنف هؤلاء العلماء في مستوى كبار علماء العالم الإسلامي في تلك الفترة.
العربية والسواحلية
وعن مدى مساهمة هذا النشاط العلمي، يقول الكاتب كان للعلماء والتجار العرب دور كبير ومهم في انتشار اللغة العربية في شرق أفريقيا من خلال التعاملات اليومية مع السكان الأصليين، واختلاطهم المستمر بقبائل البانتو الأفريقية، الأمر الذي نتج عنه انتشار الإسلام وانتشار المدارس التي أصبحت تدرس الدين الإسلامي واللغة العربية في وقت واحد، وبدأت اللغات الأفريقية تدخل عالم التدوين من خلال الكتابة بالحروف العربية، بدليل وجود مخطوطات مكتوبة بخط عربي عثر عليها البرتغاليون في كلوة عام 1505.
وبعد توطيد الحكم العماني في شرق أفريقيا زمن السيد سعيد بن سلطان (1804-1856) أصبحت اللغة العربية لغة الطبقة الحاكمة ولغة العلماء الذين هاجروا من شبه الجزيرة العربية إلى شرق أفريقيا.
وتشير السيدة سالمة بنت سعيد في كتابها "مذكرات أميرة عربية " إلى المكانة التي تبوأتها اللغة العربية في زنجبار خلال القرن الـ19 الميلادي بقولها "وكنا نحن الأطفال نستمتع كثيرا بفوضى اللهجات واللغات، فالقاعدة أن اللغة العربية هي لغة التخاطب الوحيدة، وكانت هذه القاعدة تطبق بشدة عند حضور السلطان".
ونتيجة لهذا التأثير العربي على اللغات المحلية في شرق أفريقيا فقد ظهرت لغة جديدة سميت اللغة السواحلية التي هي مزيج من اللغات المحلية واللغة العربية، وقد انتشرت هذه اللغة بعد ذلك في معظم أجزاء شرق أفريقيا، سواء في المناطق الساحلية أو الداخلية، وبالتالي أصبحت هناك لغة تفاهم واحدة يتكلم بها معظم سكان تلك المنطقة، وتلك ميزة لم تكن موجودة في سائر مناطق أفريقيا.
ويرى البعض أن اللغة السواحلية المتداولة في أفريقيا علامة بارزة للتلاقح اللغوي بين اللغة العربية واللغات واللهجات الأفريقية، حيث ترجع نشأة هذه اللغة إلى القرن الثاني الميلادي نتيجة للهجرات العربية من شبه الجزيرة العربية إلى شرق أفريقيا.
وقد تطورت اللغة السواحلية منذ بداية الدعوة الإسلامية والوجود الإسلامي في أفريقيا تطورا كبيرا، حيث احتضنت هذه اللغة مفردات هائلة من العربية، وقد وصف علماء اللغات اللغة السواحلية بأنها "لغة عربية تأفرقت أو لغة أفريقية تعربت"، وكانت اللغة السواحلية مرافقة لانتشار الإسلام، فأينما انتشر الإسلام انتشرت معه السواحلية وكذلك العربية.
المدارس القرآنية والتعليم الديني
ارتبطت مراحل التعليم الأولى في المجتمع السواحلي بالإسلام، ولذلك نجد أن التعليم قد اتبع نهجا إسلاميا واضحا في طريقته ومضمونه، وكانت مواضيع الدراسة تتمحور حول دراسة القرآن الكريم والتفسير والفقه ومبادئ اللغة العربية، وهي دراسة تهدف إلى غرس القيم الإسلامية وتعليم السلوك القويم.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن بدايات التعليم في شرق أفريقيا تمثلت في المدارس القرآنية (الكتاتيب) والحلقات الدراسية في المدارس والمساجد وفي بيوت العلماء، والتي كانت تشكل في مجملها القاعدة الأساسية للتعليم الإسلامي التقليدي في زنجبار والمراكز الإسلامية الأخرى في شرق أفريقيا مثل بمبا "الجزيرة الخضراء" ولامو وممباسة ومالندي وكلوة، فقد كانت هذه هي المؤسسات التربوية التي ارتكز عليها التعليم على امتداد المجتمع السواحلي في شرق أفريقيا والتي ما زالت تؤثر تأثيرا واضحا في صياغة الإنسان الأفريقي المسلم وعلى تكوين الثقافة السواحلية.
ولم تكن تلك المؤسسات التعليمية حصرا على فئة معينة أو مذهب معين وإنما كانت مفتوحة لجميع الطلاب على اختلاف مذاهبهم بعيدا عن التعصب والمذهبية، وهذا يؤكد روح التسامح الديني التي كانت سائدة في مجتمع شرق أفريقيا، وكانت الدراسة تشمل الجنسين، ففي زنجبار على سبيل المثال كان يوجد عدد من المعلمات يعلمن النساء القرآن الكريم ومبادئ الدين الإسلامي في منازلهن، ومن الأمثلة على ذلك المعلمتان فاطمة فيفوم وموانا عيد.
وأوجز الباحث في دراسته ثلاث نتائج أساسية يتصدرها توفر العوامل التي أدت إلى ازدهار الحياة العلمية في زنجبار وساحل شرق أفريقيا خلال النصف الثاني من القرن الـ19 الميلادي، مثل تشجيع سلاطين زنجبار للعلماء، وإنشاء المطبعة السلطانية، ووجود نخبة من العلماء والمفكرين، مما أدى إلى ظهور مؤلفات كثيرة وعلماء حملوا راية العلم في القرن العشرين الميلادي.
وكان ثاني العوامل دور المطبعة السلطانية التي أنشأها السلطان برغش بن سعيد (1870-1888) في دعم الحركة العلمية بمنطقة ساحل شرق أفريقيا، حيث طبعت الكثير من المؤلفات العلمية، مما أدى إلى انتشارها وأصبحت في متناول طلاب العلم، وقد ساهم ذلك في ازدهار الحياة العلمية في زنجبار وساحل شرق أفريقيا خلال فترة النصف الثاني من القرن الـ19 الميلادي.
ومهد تأسيس المطبعة السلطانية لقيام الصحافة في زنجبار في مطلع القرن العشرين، ويعتبر ظهور الصحافة في زنجبار حدثا ثقافيا مهما، حيث ساهم في وصول الأخبار والمعلومات إلى شريحة كبيرة من سكان زنجبار والمناطق المجاورة لها.
ومن النتائج أيضا لهذه الدراسة تحول زنجبار مع نهاية القرن الـ19 إلى مركز ثقافي مهم في شرق أفريقيا، وكان الطلاب يأتون إليها من مناطق عدة من شرق أفريقيا وغرب الهند وحضرموت وعمان، مما أدى إلى ظهور نهضة علمية في زنجبار وامتدت آثارها إلى أغلب مناطق ساحل شرق أفريقيا.